ذِكر رحمة ربّك عبدهُ زكريا , رحمة هي إحدى الرحمات التي رحم الله فيها عبدا من عباده المصطفين .
ورحم بمثلها كثيرا من خلقه أجمعين.
ورحمني بمثلها وعسى ألا يحرمنا رحماته سبحانه التي وسعت كل شيء ,
حتى النطفة إن تمت في خلقها بعد ليالٍ وسنين من الرجاء والانتظار.
لتُشبع أجَلّ الغرائز التي أودعت في بني آدم , لتُحقّق لذة من لذتَي الدُنيا العظيمتين .
إذ نادى ربه نداءً خفيا ,
استفرد بنفسه , وفر من هم الدنيا , اختار خلوة الذي هو أرحم بالمخلوق من أمّه.
حبس نداءَه في نفسه وأخلص الرجاء , ذهَب وحيدًا للأحد الصمد , ليَرفَعه بدعوةٍ
كان دويّها يطرح الأصداء بين ثنايا الفؤاد .
فيستيقظ لها الكيان ويُسقى , ويصحى بها الضمير ويَرقى ,
فينتعش ذاك الإيمان القابع في تلك المُضغة العظيمة (♥)
وقال العلماء : "هذا دعاء الله في مكان خلي بصوت خفي وقلب نقي"
و "إن الله يعلم القلب النقي ويسمع الصوت الخفي"
وفوق ذلك استفتحه بالاستضعاف وهو ضعيف , وَصف التردي الذي آل إليه جسده وونت فيه عظامه
ذكّر الله بالشيب الذي استعلاه , فاختلط رأسُه بين البياض والسواد .
وهذا من أحب الدعاء لله حين يتبرأ العبد من كل حول وقوة إلا حول الله وقوته .
وكُل ذلك وفوق ذلك يُثني على ربه بأدبِ العبدِ الذي استحق أن يُصطَفى
فأقرّ أن لم يرُدَ له الدعاءُ أي شقاءْ , ودومًا ماكان دُعاؤه لله عطاءًا في عطاء .
قال صلى الله عليه وسلم: ( الدعاء هو العبادة ) ، والله جل وعلا ندب عباده أجمعين لدعائه
قال تعالى: (وقال ربكم ادعوني أستجب لكم إن الذين يستكبرون عن عبادتي سيدخلون جهنم داخرين)
والله يسرد ماكان قد نطقه زكريا في غيبِ الخلقِ أجمعين يومًا فقال :
(قال رب إني وهن العظم مني واشتعل الرأس شيبا ولم أكن بدعائك رب شقيا
وإني خفت الموالي من ورائي وكانت امرأتي عاقرا فهب لي من لدنك وليا
يرثني ويرث من آل يعقوب واجعله رب رضيا)
يُريد رحمةً من لدن الرحيم , يُقرّ بعُقمِ امرأتِه مُسلّمًا للقضاء غيرَ منقطعِ الرجاء.
يُريد وليًا أيُّ وليٍّ , ولدًا يؤويه ويُربّيه فينفعه إذا نسوه الخلائق , يدعوا له ,
ليبقى تلميذًا معلمًا توَلاّه من هو من آل يعقوب , آل الكِرام .
فيرث تعليم الناس لمبادئ عقيدتهم والنبوة فيكون في الناس من هُو ضابط للأمر من بعده
فيقل الخِلاف والاختلاف.
*حَمِل زكريَا همّ الناسِ من بعده أكثَر من همّه في نفسه .
وكُلٌ يُريد في البنين والبنات لذّة وجودهم وإيوائِهم
وشرف تنشِئتهم بطينة الفطرة على نهج صراط الله المستقيم .
فتتعدد دوافع تلك الزينة الغالية ؛ ويهب الله لمن يشاء إناثًا ويهب لمن يشاء الذكور
أو يزوّجهم ذكرانا وإناثا ويجعل من يشاء عقيما إنه عليم قدير .
يعلم أين الخير لك يكون ويقدّر أحسن تقدير وهو أحكم الحاكمين .
,
نِداء , بُشرى . استجاب الله وأعطى . سبحانه :
(يازكريا إنا نبشرك بغلام اسمه يحيى لم نجعل له من قبل سميا
قال ربي أنى يكون لي غلام وكانت امرأتي عاقرا وقد بلغت من الكبر عتيا
قال كذلك قال ربك هو علي هين وقد خلقتك من قبل ولم تك شيئا)
لم يهبه الولد وفقط بل سماه له الله سبحانه !
فأي شرف مثل هذا يازكريا إذ كَنّاك ويايحيى إذ سمّاك .
باسم لم يُسمّى به غيرك من قبل . فيحيى من الحياة في سعادتها واستقامتها وعيشها
كما يجب أن يُحيَى و يَحيى العبد بها . ويُحيي الأمل والهبة في قلبي والديه.
* يُسمّيه المسيحيون يوحنّا كما بالعبرية.
(قال ربي اجعل لي آية) , (قال آيتك ألا تكلم الناس ثلاث ليال سويا)
(فخرج على قومه من المحراب فأوحى إليهم أن سبحوا بكرة وعشيا)
لم يُنكِر ولكن تعجب إذ كبِر وعتَى وامرأتُه يئِسَت بعد عُقم قد مضى
فكيف والفرحة والعجب اختلطا وخُفقا في قلبه , كيف !
أدرك أن الله قال كُن فكان .
فطلب آية , دليل للوعد فيطمئن قلبه وتستقر نفسه .
فكان الصمت لثلاث ليال سويًا سليمًا من غير عِلة ولا سَقَم , يُسبّح فيها ويذكر الله شاكرا قانتًا.
,
فمن أين خَرج ؟
من مكان تعبّده , من تلك البقعة الشاهدة على الحُسنى .
وخرج يحيى للدنيا فكان غلامًا عالمًا وذو حِكمة في صباه وشبابه , عابدًا خلوقًا
حنون القلب , مطيعًا باراً بوالدَيْه المُسنين .
(يايحيى خذ الكتاب بقوة وآتيناه الحكم صبيا , وحنانا من لدنا وزكاة وكان تقيا)
خذ الكتاب بقوة , هذا الوحي وهذه النبوة , ووحي الله ورفعته لا تكون إلا للعبد القويّ
حتى لو فتلت العضلات وصح البدن وحمِلت من هُم مثلك أويزيد.
فإن القوة قوة العزم والعقل والدين , قوة النفس في حِلمها وعِلمها
فتُسجّل أعلى درجات الثقافة والتقوى والكياسة .
هذا وهو صبيّ باركه الله ؛ قيل: "إن الصبيان اجتمعوا عليه ذات يوم فقالوا له: يا يحيى!
هيا بنا نلعب، فقال: ما للعب خُلقنا ؛ خُلقنا لعبادة الله."
فاستحق بذلك أن يأخذ الكتابة ويستلم الوحي بقوة , وهي قوة أخرى متمثلة في حفظه لألفاظه
وإدراكه وفقهه لمعانيه والعمل بأوامره وترك نواهيه
ليرث النبوة مع والده وابن خالته (عيسى ابن مريم ) كلهم في زمن واحد .
(وبرا بوالديه ولم يكن جبارا عصيا)
برًا بوالديه
ثناءٌ من الله على البار
ثناءٌ من الله على من علِم المعروف , فرَدّهُ.
ثناءٌ من الله على من تَرك التجبّر والعصيان .
كيْف لا يكون يحيى بارا بعد كل ذلك ! ...
(وسلام عليه يوم ولد ويوم يموت ويوم يبعث حيا)
,
المفضلات