- شكرًا لكَ يا أبي.
احتضنَ الأبُ ابنتَهُ الصغيرة بعدَ سماعِ عباراتِ الشكرِ منها، و اكتفى بابتسامةٍ عريضةٍ شقّت ملامحَ الكِبَرِ و التجاعيدً التي تعلو وجهه .
غار الأخ الصغير والتفَّ حول والده ليضحكَ ضحكةً أحيَت ما بالبيتِ جميعًا .
ضحكَةُ غمرتِ المكان .
" هيّا إلى العشاءِ يا أولاد ، دعوا والدكم وشأنه "
كانت جملةً نَطَقَت بها الزوّجةُ وهي تضَعُ آخرَ طبَقٍ على المائدة .
-أبي ! أريدُ حلوى غدًا مثل التي تملكها سعاد.
-وأنا أريدُ درّاجة كدرّاجةِ ابنِ جارنا يا أبي.
-حسنًا حسنًا ، غدًا بإذنِ الله أحضرُ لكلِّ نفسٍ ما تشتهيه.
-لا تكثروا الطلبات على والدكم ، إنّهُ متعبُ من عملهِ.
-سأكبر لأصبحَ كوالدي مُسعِفًا ينقذُ النّاس.
-قل إن شاء الله يا ولدي ، المُسعِفُ شخصُ قويُّ جأشُهُ ، صابر محتَسِب ، جلمودُ في المواقف لا يضعف.
-أعلمُ ، فأنتَ قوي جدًا ، أليسَ كذلك؟
أومأ لهُ والدهُ بسعادة وابتسمَ قائلًا بينما يمسحُ على شعرِه:
إذًا إسألِ اللهَ أن يعينك ، فهذه الوظيفة ليست بالسهلة .
أُغلِقتِ الأنوار لينام أهلُ البيتِ بسلام .
بالتأكيدِ توقّعوا شيئًا سيحدُثُ غدًا لكن لا يدرون ما هوَ بالضبط، فغدًا قد يبتاعُ الأبُ الحلوى، و يحضرُ درّاجةً أفضل من درّاجةِ ابنِ الجار ،
ربّما سيسمعونَ خبرًا ما ، سيزورهم أحد ، سيخرجون في نزهة مفاجئة ، و لعلّ لا شيء سيحدث، وسيبقون في منزلهم ، فعلمُ الغيبِ تدبيرُ إلهي ،
ليسَ من شأنِ البشر ، والأقدارُ التي يكتُبُها الله للناسِ كُلّها خير ، حتى الشّرُّ ظاهرُ شرّ و باطنِه خيراتُ كُثُر.
*
" يا الله ! "
صوتُ كدويِ الرّعدِ أيقَضَ أهل المنزلِ ،
فخرَجَ كُلُّ من فيه مرتعبًا مذعورًا إلى أقربِ
حضنٍ أمامَهُ ، حضنُ أمّي أم أبي ...
لا يهم ..
أريدُ أن أحسَّ بالأمانِ فقط ..
يشدُّ الابنُ على أمّه خائفًا و تبادلُه الخوفَ نفسه، تدَّعي الشجاعة ..
تدّعي أنها قويّةُ أمامَ صغارها..
فهيَ تعرفُ كما زوجُها أنّ ذلكَ الرَعد ليسَ رعدًا ربّانيًا تتبَعهُ قطراتُ ماءٍ مباركةٍ من السّماء ..
إنّما هي " صواريخُ " أضاءت بقوّة انفجارها الليلَ المعتِم ، فانقلَبَ ليلُهم نهارًا .
تتابع دويُ الصّواريخِ حتى ظنّوهُ كابوسًا سينتهي خلال دقيقة ، سيستيقظون منه سريعًا.
صاروخٰ يتلوه آخر ، فصرَخاتُ و صيحات ثمّ هزّة يرونها خفيفةً قليلًا لولا سقوطَ بيتِ جارهم على مَن فيهِ ،
الشيءُ الذي أثبتَ أنَها لن تكونَ خفيفة أبدًا.
- هيا يا أولاد لنحتمي في السرداب .
- أليسَ رعدًا يا أمّي؟
- عاودَ الصهاينةُ الهجومَ يا ابنتي ، إنّها صواريخ.
أغلقَ الأبُ الستارةَ مذعورًا ، وهو يرى البيوتَ تُهدَمُ شيئًا فشيئًا قرب بيتهِ، فأخذَ بيدِ طفليهِ و زوجِه مغادرًا بابَ البيتِ.
" لن يكون بيتُنا مكانًا صالحًا للبقاء ، لنحتمي في بيت من بيوتِ الله "
- [ غزّة ] مليئة بالمساجدِ ، لكن مسجد الشيخ هوَ الأقربُ والأكبرُ هنا .
يهرولون ناحيةَ المسجدِ بينما تتخطّفهمْ صواريخُ الصهاينة ، فليسوا وحدهم من قرر أن يحتمي في المسجد ، بل كل من كان قريبًا منهم.
كُلُّ يجرُّ أهلَهُ معه.
" هل هو يومُ القيامةِ يا أمّي ؟! "
كان سؤال الطفلةِ التي اصفرََ وجهها خوفًا.. مثيرًا لعاطفةِ والدتها التي لم تكبح دمعها ..
خاصّةً بعد أن سمعت صرخَة امرأةٍ تعرفُها على فلذّةِ كبدها الذي استُشهدَ تحتَ الأنقاض.
" يومَ القيامةِ يا ابنتي لن تجدي والديكِ يأخذونَ بيديكِ هكذا .. "
صوت سيّاراتِ الإسعافِ انتشرَ .
أوصلَ الأبُ أسرَتَهُ لبابِ المسجدِ وتأكّدَ دخولَهم، ثمَّ ذهبَ يعاونَ المسعفينَ صحبَه.
ودبَّ العدوانُ في غزّة و توالت اعتداءاتُ الصهاينة على بيوتِ النّاس و بيوتِ الله ، حتى من لم يجد ملجأً واحتمى في الكنائسِ لم يعشْ.
وكلَّ ذلكَ تحتَ شعار " إماطة الأذى و الإرهاب ".
أتساءلٌ ؟
ما ذنبُ العجائزِ و كبار السنِّ و الأطفالِ والرّضعِ، و من هم في أرحامِ أمّهاتهم ؟
هل كُلُّ أولئك مصنَّفُ تحت بند ( الإرهاب ) المزعوم؟
مرّ شهرُ على العدوان الصهيوني الذي لم يتوقَّف، وليس في نيّتهِ أن يتوقّفَ .
ولم يعد الأب لمنزله ، لا يدري هل أسرته ضمن الأحياء أم الأموات ؟
يودُّ لو يعرف عنهم شيئًا قليلًا ، فهو لا يملكُ وقتًا حتى لطعامهِ فكيفَ يغادر ويزور أهله ؟!
صار بين روائح الجثث يتنَقّل و يحمل المصابين ركضًا نحوَ الأطبّاء .
لقد اعتاد على الصراخ الذي يمزّق القلوب ويُدمِعُ العيون ، و يُهلكُ الرّوحَ قبلَ الجسد.
اعتاد على مناظرِ الدّمِ الذي يغرقُ أجسادَ إخوتِهِ المقاومينَ والمدنيين َ والأطفال وكلُّ نفسٍ
على أرضِ [ غزة ] ..
جلسَ بتعبٍ والدّموع تنتظرُ الإذنَ بالنزول ، يجب أن يحتملَ أكثرَ.
راح بصرُهُ يجولُ في الأنحاءِ ، تلكَ أمُّ أمسكها الأطبّاء يهدِّؤونها ..
ستُجَنُّ قريبًا وهي تنظرُ لأبناءها الستّة قد استشهدوا و هم ممدّدين على الأرضِ ، لا ألومها .
وذلكَ طفل يبكي بكاءً مُرًّا فقد فقدَ كّلَّ عائلته ، لا أحد معه الآن.
و آخرُ تمنّى الأطبّاء لو أنَّ الموتَ يأخذه فيرتاحُ من هذه الإصابة التي مزّقته .
هناكَ من فقدَ بصره .. سمعه ..
هناكَ من فقدَ جزءًا من جسدهِ ..
قدماهُ .. يداهُ ..
تساءلَ في نفسِهِ : " أعادت هيروشيما للحياةِ لتتسبّبَ بكل هذه التشوّهات ! "
كلّ ثانية يدخل مُصاب ، وكلّ لحظة يُفقَدُ واحد، فبينَ ناجٍ و شهيدْ .
يأتي الرّجل فيلقّن أخيه فيستشهدُ بعدهُ، ويأتي الآخر يدفنُ أخيهُ فيُدفَنُ بعده ،
شهيدُ يتلوهُ شهيد ، و موت يسبقُ آخر، سباقُ موتٍ و شهادة .
سارَ بجسدِهِ المتهالِكِ نحوَ سيّارةِ الإسعافِ ، لينقلَ مصابًا أو شهيدًا لا يدري ، طفلًأ كان أو امرأةً لا يعلم.
صرخَ من معه : إنّهُ طفل قد استُشهِدَ قبلَ قليل، أدخلوهُ ثلاجةَ الموتى .
حمَلَهُ بكل ألم هو و رفيقهُ ، و لم يعد لهم رغبة في رؤية المزيد من الموتى من الأطفال ، لسانهم ما فتر عن تكبير الله مع دخول
كلّ مصاب و جريح .
انزاحَ الغطاءُ عن وجهِ هذا الطفل لتعلو شهقات الأب ، لقد حَمَلَ كلَّ أبناء غزّة و ها هوَ يحملُ ابنَهُ الذي من صلبِه .
لم يكن لديهِ صبر ، تذكّرَ وعدَهُ لهُ بدرّاجة كدرّاجةِ جارِه، ويبدو أنّهُ سيحصلُ عليها في الجنّة وأكثَر.
تهاوى جسدُهُ واحتضَنَ وجهَ طفلِهِ وهو يقبّلهُ ويجهشٌ بالبكاءِ ويسأله : رحلتَ سريعًا يا بني ..
إنّا لله و إنّا إليهِ راجعون ..
أخبرني أ أمّكَ بخير ؟ ماذا عن أختكَ ؟ هل هيَ بخير أيضًا ؟
يجب أن تكونَ بخير ، نعم .. فقد وعدتها بحلوىً لها ،
سأحضرها بحولِ اللهِ .. سأحضرها ..
أمازالوا في المسجدِ الذي تركتكم فيه ؟ أم هدمتهُ براثنُ الصهاينة؟
"حسبنا الله ونعمَ الوكيل "
وبينَ دموعهِ المنهمرة ، و حسراتِ قلبهِ المتقطَعة، سَمِعَ صوت بكاء أطفالٍ قد وُلِدوا للتوِّ و الطّبيبُ
يهتفُ بفرحٍ: البشارة ... البشارة .. رُزقنا بتوأمينْ.
وها هي غزّة البركة ..
يموتُ منها مئةُ فارس ليولَدَ ألف غيره !
ما فتئت أرحامُ نسائها ولن ييأسَ أبناؤها أبدًا، وستظلُّ المقاومةُ موجودةً ما دامت الاعتداءات.
و ستظلُّ هي موطن المرابطة وأهلها أهل الرباطِ .
وسيأتي النصرُ..
قادمًا لا محالة ، فلا يتأخرُ إلا بسبب، ولا يأتي إلا لسبب ، و حتى يميزَ الخبيثُ من الطّيب، و ينفضحُ أشخاص وتسقطُ أقنعة ،
و يظهَرَ العدُّوٌّ من الصديق وتتكاتفَ الأيدِ ...
حتى ذلك ..
ستنتصرُ [ غزّة ] ..
و فجرُ النصرِ سيولدُ من جديد ، فلابٌدّ للشمسِ من شروق.
تمّت
المفضلات