,
بينما كانت ترتب أغراض أبيها الراحل ، حتى تسلم مفاتيح الشقة لمؤجريها ، وجدت مظروفًا صغيرًا كان مغلقًا بإحكام ، كُتب عليه اسمها من الخلف ، ثمّ في سرعة و عدم اهتمام فتحت المظروف فضولًا لمعرفة ما فيه ، رغم أن الأمر لم يعد له معنًى منذ أمد بعيد بالنسبة لها ، إلا أن الظرف كان ينبئ بعكس ذلك فيما يتعلق به ، و ما هي إلا دقائق حتى تعلقت عينيها قارئة محتواه المكتُوب و الذي كان :
بسم الله الرحمن الرحيم ، الحي الذي لا يموت ، و مَن خلقُه كلهم زائلون .
إلى : صغيرتي كندا ، أبقاها الله حبيبتي دائمًا .
أما بعد ..
فإني كلما تغشّى في ذاكرتي اسمُك أهرعٌ للكتابة لكِ دون توقف عسى شيئا من ذا ، يُستباح لنفسك قراءته ، فتفعلين !
ذاكرتي يا صغيرتي ، أمست تهترئ ، تعاود الإيجاب لحظة ثم النكران لحظات ، و من شدة ذلك لا أستطيع أن أدرك هل كانت رسائلي القديمة تصلك ؟ أم أنها لم تبرح مكتبي أصلًا لتغادرني .
و لأني كنت يومًا شابا يافعًا مثلك ، أضحك من أشياء كثيرة لا تستهويني ، و منها عجز الكِبَر و شماتة المرض ، وجدت أن الله قد أحياني حتى هذا الحين لأدرك كم كنت
مستهترًا معتادٍ للكِبْر ، لأعلم الآن أنه على كل شيء قدير .
و لذلك ، فإن أجزاء كبيرة من ذاكرتي لم تعد موجودة ، كما لو أنها محيت ، و عندما أصل إلى حقيقة أنني سأعيش يوما بلا ذاكرة ، سوى من أحداث وقتية
سرعان ما تزول ، و أنين صاخب من الآلام سيطول ، تصيبني الرجفة فلا أقوى على إمساك شيء .. وَ تومضين أنتِ بين عيني !
أشتاقكِ يا صغيرتي !
لرؤيتك ، لضحكتك ، لبكائك .. و لاندفاعك الصاخب لأستحصال حضن مني .
لكنني بعد ذلك كله ، لا أملك سوى مشاهدة صور لكِ بين الحين و الآخر يرسلها زوجكِ ترفقًا بي و بشوقي ، لجاري الصغير الذي يسكن بجانبي ، لأراها فترتوي روحي و لا تهدأ .
أتعلمين يا صغيرتي ؟ كل يوم أردد اسمك ناكرًا احتمالية نسيانه ، و كم تهلكني الفكرة حينما تتغلغل في عقلي ، فأشعر و كأنّ سكينًا تطعن قلبي ألف مرة .
و لأنني أدري بأن هذه قد تكون آخر رسالة أكتبها ، و قد ُترمى أو تُنسى كما فُعل بمثيلاتها من قبل إلا أنني أدعو الله الحقّ تعاظمت أسماؤه أن لا يردها خائبة .
فيا حبيبتي ..
أريدك أن تعلمي !
أنْ ... أن تثقي و تدركي بل و تؤمني ، أنني أحبكِ !
كنت و لا أزال أحبكِ ، و ما كانت عتاباتي المستمرة لكِ و جفاف تعاملاتي معكِ إلا لحبكِ .
فلا تبخلي علي إن مررت بخاطركِ يومًا ، أن تسردي لي من دعاء صادق يُطيَب مقام قبري و إن كنت أتمنى رؤيتك أنتِ يا حبيبتي .
أبيكِ دائمًا :
عاصم .
و لأن الرسالة قد غرزت أحشائها ، تداعت بعض الدموع منهمرةً دون توقف لتسيُّل خط الحبر المرصوص على الورقة ، ثم بعد ذلك .. شهيق البكاء غدا أكثر ارتفاعًا .
إدراكًا .. بأن بعض الأشياء تضيع دون رجعة للأبد ، و ألمًا بأن تلك السنوات التي قضاها في معاناة مع المرض كانت هي من تمنّت مروره فيها ، لأسباب آمنت الآن بأنها لا تُذكر .
تمّت .
- بقلمي
المفضلات