الصفحة رقم 25 من 27 البدايةالبداية ... 152324252627 الأخيرةالأخيرة
مشاهدة النتائج 481 الى 500 من 536
  1. #481
    لستِ بحاجة لتثبيت حضور هذا ليس فصلاً دراسياً laugh
    خذي الوقت الذي تريدين انا وروايتي موجودين دائماً e105
    attachment


  2. ...

  3. #482


    attachment


    في تلك اللحظة كرهَ نفسه وأرادَ أن ينتحِبَ وحيداً ، شعر بالشفقة على روحه وتفكر في حاله .. أي حريةٍ هي التي يطلبها ؟ من أي قيدٍ يودّ أن تُفَكّ رقبته ؟ أحسّ كما لو أن كل أحلام العالم هينة وحقيرة تجاه حلمه في أن يفهمه والده .. تلك الجملة هي مطلبه الأول والأخير .. سأل نفسه ذات مرة ( هل أنا أتنمر على أوامر والدي من أجل أن أكتب مستقبلي بنفسي أم لأجل أن ينظر إليّ أبي ؟ ) ما الدافع الحقيقي من الجري خلف العصيان الذي اقترحه دانيال .. لقد كان يتجنب النظر في هذه المسألة منذ فترة طويلة ولكن كلما أراد الإتصال بوالده تأتيه هذه الأفكار مندفعه ( افتح ملفاتنا المنسية بدماغك . انظر في شأننا نحن . فكّر بمشاعرك الحقيقية ولا تتجاهل ما يحصل أكثر من ذلك ) . حسناً ها هو يعترف الآن بشيء أكيد ، هو لا يحب طرح هذه الأسئلة ، لأنه من المؤلم أن ينظر إلى نفسه كصبي مهمل وُضِع من أجل ضمان سلامة ثروة عائلة ماكسويل ! هو يعرف ذلك .. في قرارة نفسه يشعر أن هذا الهدف الوحيد من إنجاب والدته له .. يا ترى بمَ فكّرت وهي تنجبه ؟ أن ثروة زوجها ستكون آمنة ؟

    نفض هذه الأفكار من رأسه .. لكل مقال مقام ، ومقام هذه الأفكار التي تتحدث عن شعوره تجاه والدته ليس هنا والآن .. بل هو غاضب بشأن تحويل مكالمته ـ التي من المفترض أن تذهب إلى والده ـ إلى سكرتيره ( كارلوس جوسيب ) ، وهذا ما يحصل الآن بالفعل !
    " كارلوس هل بإمكانك إرجاع مكالمتي لمكتب والدي ؟ "
    يشعر ليونارد في هذه اللحظة أنه يتسول الحوار الذي يدور بينه وبين والده ، لماذا هذا الذّل فقط في صوته ؟ إنه لا يود أن يُحسس كارلوس أنه المسيطر على العلاقة ـ الهاتفية ـ بينه وبين والده .. المصيبة أنه كذلك بالفعل ، وهذا النزق لا يكف عن اغاظته !
    " السيد ماكسويل في اجتماع مع أعضاء شركته ، طلب محادثتك قد يكون عسيراً بعض الشيء "

    لقد تملّص المعني مجدداً ، الأمر يغضبه كثيراً ويثير غثيانه .. كان بإمكانه البحث عن عذر آخر ، لقد أمضى الشهر الفائت يتصل بوالده طوال الوقت وكل ماكان كارلوس يقولوه هو أن رولاند في إجتماع !
    " بربّك كارلوس ، هل والدي كان في غرفة الإجتماع منذ شهر ؟ هل يأكل وينام هناك ؟؟ ما القضية السياسية التي يتطلب حلّها كل هذا الوقت ؟؟ أتعرف كم عدد الساعات القصوى التي يكون فيها الإجتماع ؟؟؟ أتعرف كم ساعة في الشهر !! "
    انفجر ليونارد في وجهه ، إن كان عليه أن يجد عذراً مقبولاً لغياب والده أو عدم رغبته في الحديث معه إذن عليه أن يفعل ذلك بشكل لائق ! نظر إليه دانيال وأشار إليه بأن يسيطر على أعصابه .. حاول المعني أن يهدأ فأخذ شهيقين اثنين وزفرهما في مرة واحدة ..

    " يمكنك اخباري أن والدي ليس متفرغاً لمحادثتي ، لكنك على أية حال ستغير رأيك بهذا الشأن أو والدي هو من يفعل ذلك .. سأقوم بدعوة أولير آندريج لحضور مأدبة ضيافة له من أجل صفقتي الأولى معه ، وقد يكون في قاعة عائلة ماكسويل الرئيسية ، أخبر والدي بهذا الآن .. أودّ سماع ردّه فوراً "
    دخل ليونارد في الموضوع بشكلٍ هجوميّ ، بعد أن أنهى جملته عض على شفته السّفلى بندم . هو لم يمهد لهذا الطلب حتّى .. لِمَ يجب عليه أن يغضب في اللحظة التي سيطلب من والده شيئاً بطريقة غير مباشرة ؟!
    " سيدي قد يكون هذا غباءً منّي ولكن أحتاجُ توضيحاً جيداً من أجل مناقشة هذا الموضوع مع السيد ماكسويل ، كما أنني لا أعتقد أنه سيرغب في التفكير في هذه المسألة بطريقة مستعجلة إن كان من أجلك "
    توقفت دقات قلبه من هول المفاجئة .. لقد خال أنه بقي من دون قلب يضخّ لمدة ثوانٍ طويلة .. ما الذي توقعه على أية حال ؟ .. أن يقول أعطوني سُلطاتكم لكن لا تتدخلوا في شئوني ويوافقون بسعادة ؟ بهذه البساطة ؟!
    توتّر ليونارد وازدرد لعابه مفكّراً لدقائق مركزاً وجهه على ملامح خادمه التي كانت تنتظر مترقبة ومدققه فيه كذلك .. أي العبارات ستكون أهون من سابقتها ؟ عليه أن ينتقي كلماته بكل تركيز ليوصل المعلومة وإلا انتهى به المطاف بأن يخبرهم ـ بشكل مباشر ـ أنه سيستعمل اسم رولاند ماكسويل من أجل فتح صفقة شخصية !

    " سأقوم الآن بتوقيعِ عقدٍ مع شركة الإستثمارات البشرية في كندا .. إنها الخاصة بالسيد آندريج ولأن علاقتنا جيدة معهم ـ مجرد صداقة ودّية ـ على العموم ، رغبت أن تقام مأدبة لنجاح العمل في القاعة الرئيسية لعائلة ماكسويل "
    " لكنك تملك مكاناً خاصّاً بالفعل "
    إنه يشتهي صفع كارلوس ! فكّرَ ليونارد بهذه الأحاسيس فحاول للحظة أن يستعين بالصبر ويقرأ بعض التهويدات التي تساعده لأن لا ينفجر شاتماً سكرتير والده في هذا الوقت الحرج .. فليعينه الله على قول الجملة التالية من دون أن يحصل سوء تفاهم رهيب :
    " لا يمكنني التصرف مادامَ والدي قد سبقني بالإتصال بهم قبل سنواتٍ عديدة .. كما أنه يقوم بحجز حدود إسبانيا وكندا .. أنا في طريقي إلى مدير الشركة ، اطلب من والدي أن يفتح السّبل الممكنة لي وسأرد هذه الخدمة بعد فترة ! "

    نطق جملته الأخيرة بشيء من العصبية ، إن لم يفهم هذا المغفل ما يعنيه فسينتهي به الأمر بتحويل طائرته إلى اسبانيا فقط لقتل كارلوس .. حينها صمت جوسيب لوهلة ، ثم تحدث بشكل رسمي مجدداً :
    " سأخبر السيد رولاند ماكسويل بهذا الأمر ، أرجو منك أن تبقى على الخط لأُعلمك بالنتائج "
    نبضاتُ قلبه كانت تتزاد كطبول حرب اغريقية .. كلما أحس بالقلق كلما زاد الوقت عليه وشعر أن الدهر يمهّل عقارب الساعة من أجل أن يزداد صاحبنا شحوباً ! ما الذي سيجعل والده يقبل مساعدته ؟ لا شيء .. لا شيءَ أبداً ، ليونارد لم يفعل شيئاً جيداً لحدّ الآن بالنسبة لعمله ، تشاجَر مع رولاند على وظيفة مستقبله ، رفض تكملة مشاريع العائلة التي كان الجميع يأمل أن ينخرط فيها ، قام ببناء مبنى منفصل عن والده ، تحداهُ أيضاً بشأن الحصول على الفُرص الذهبية التي تحدد من سيتعاون معه .. والآن في نهاية المطاف يحتاج مساعدته من أجل قبول الشركة الكندية أن تتعاقد معه !

    " هذا سيء "

    همس لدانيال الذي بانت بوادر القلق في وجهه هو الآخر .. حرّك رأسه بأن يخبره ما ردّ والده عليه لكن ليونارد أشار إليه بالصمت والتريث .. بعد فترة خالها المعني دهراً ردّ عليه لوكاس بهدوء :
    " السيد رولاند ماكسويل موافق على استضافة شُركائك ، سيكون اللقاءُ في العشرين من هذا الشهر ( تنهد وريثُ عائلة ماكسويل براحة لكن السكرتير أضاف بسرعة ) وقد أوصاني أن أبلغك هذه الجملة بالتحديد : قل لليونارد إن سمعت مجدداً أنه سافر بطائرة حكومية فعليه نسيان أمر المبنى الذي يعمل بجدّ في إكمال بناءه "
    تجمد المعني في مكانه شاحبَ الوجه ، نظر إلى دانيال بخوف وأردف بسرعة :
    " لقد فهمت ، بلّغ تحياتي لوالدي "

    لم يستطع قول جملة أخرى غير هذه فأغلق الخط وابتسم لمساعده بتفاؤل :
    " لقد وافق على استقبالهم ، يعني أنه وافق بفتح الحدود ، يمكننا أن نمضي براحةٍ الآن ! "
    " هل هذا هو الشيء الوحيد الذي أخبرك به كارلوس ؟ "
    علق عليه دانيال بشك ، فأومأ إليه بإبتسامة مصطنعة ، دقق الأخير في وجهه بتركيز فتقطّبت حواجب ليونارد بعصبية ، رغم ذلك أكمل دانيال تحديقه بإستمرار .. وفي النهاية تأكد أن سيده يكذب !
    " هل يعقل أنه هددك بشيء ما ؟ "
    أجفل المعني شاحب الوجه وقال بشيء من الحدّة :
    " لم يقم بتهديدي ، من يظن نفسه ليفعل ؟! "
    " لا أعني كارلوس بل والدك .. رولاند ماكسويل "
    حسناً .. لقد تأكد دانيال أن كارلوس هدد ليونارد بجملة من السيد رولاند ! الإنكار العصبي هو نصف الحقيقة ، لكن عن ماذا تم تهديده ؟ بالأحرى .. أي مصيبة وضعها السيد نَصبَ عينيه وأراد من ليونارد عدم تكرارها ؟
    " هل من المعقول أنه اكتشف .. "

    أرادَ الخادِمُ أن يقيسَ النّبض ، ويضرب الوتر الحساس من أجل تضييق حدود ظنونه أكثر وهذا ما حصل بالفعل .. فردّة فعل الأخير كانت مضحكة لدرجة جعلته يتيقن شيئاً !
    فرّ لون وجه سيده وأصبح أكثر الناس شبهاً بالأموت .. ففكر دانيال حينها أن رولاند اكتشف شيئاً لم يرد ليونارد أن يعلمه .. ردود الفعل هذه أكبر دليل على ذلك ، وعدم فضح ليونارد لهذا الأمر يعني أن الأسباب قد تكون كالآتي : أولها هو احتمالٌ كبير أنه كان يقوم بتحذيره دائِماً حول هذا الأمر .. والأخير لم يكن يطيعه فوقع في شر أفعاله .. ثاني الأسباب تُرجّح أن ما يخفيه قد يكون شخصياً لدرجة تمنع ليونارد من أن يخبره به ، لكن سيده لا يخفي الكثير عنه .. او لنقل أنه يكاد يعلم كل تفاصيل حياتَه لأنه يعيش معه ويكون بقربه دائماً !

    هكذا تأكد دانيال وهو يحدق في عشبية ليونارد المضطربة ، ففتح فمه وقال بهدوء وهو ينظر عبر نافذة السيارة التي كانت تسير بسرعة لتصل إلى موقع الفندق الفاخر الذي سيتناولون غذائَهم في مطعمه :
    " إذن يجب عليّ اخبار ( بِين ) بشأن إرسال طائرة خاصة من أجلنا ، فنحن لن نستطيع قطع تذاكر طيارة بمقاعد رجال الأعمال بعد اليوم للأسف "
    كان لهذه الكلمات وقعها الخاص على مشاعر ليونارد التي أظهرت عبوساً أكثر و أكثر فلا انخراط مع العامة في الطيارات بعد الآن .. سيفكر أن يسجل في نادٍ ثقافي في المستقبل لكنه خائف أن يعلم السيد ليلاند هارليس هذه الأخبار ويجبره على الذهاب لمؤتمراته التافهة ، التي تمدح فيها الكتب التي يفكر ليونارد بحرقها بالذات !



    اخر تعديل كان بواسطة » أُنسٌ زَهَر في يوم » 03-02-2017 عند الساعة » 18:08

  4. #483



    نزل كلاهما من السيارة ناظرين إلى فندق متوهج باللون اللؤلؤي ، مُرتفعةٌ أعمدةُ بوابته الأمامية التي تحمِلٌ أحرُفاً فضّية رفيعة .. ضَخمةٌ جدرانه شاهقُ التفاصيل رغم دقّتها اللامتناهية تعمّد مديره هندسته بطريقة قصر قديم ، بهو الفندق كان مخملياً يوحي بالفخامة بلونيه الماروني والنحاسي .. بريق الأضواء انعكس على عينيّ دانيال الفيروزيتان .. شعر بأجواء الفندق الفاخرة وانتبه إلى رجل وحيد يتقدم منهما ليحييهما ويقودهما إلى المكان الذي يتواجد فيه أولير آندريج مع باقي طاقم عمله .

    كانوا خمسة أشخاصٍ جالسين بين مجموعة من نباتاتٍ جميلة متشابكة ، بدى الأمر وكأنهم لوحة فنية لم تختلف عن اللوحات المعلقة في ردهة الفندق .. بالأخص العتبات المبلّطة التي كانت تحمل ركناً رخامياً ذو أشكال هندسية وزخرفية جميلة ، وُضعت فوقها طاولة بيضاوية طويلة جلس فيها المدير ورفاقه .. تقدم ليونارد إليهم مبتسماً بلطف ، وقف السيد آندريح تتابَعَ معه وقوف باقي الرجال .
    كان آندريج يمتلك شعراً رمادياً يتخلله الكثير من خصلات الشيب البيضاء ، يمتلك شارباً كثياً وعينان داكنتان ضيقتنان .. رغم ذلك لم تختفِ ابتسامته الودودة المُرحّبة ، لم يبدو أن له وجهاً متكبراً أو بارداً قد يخرج بين الحين والآخر .. فكّر ليونارد أن هذا الرجل يعطي كاريزما تُهدّئ أي شخص سيتحدث معه عن العمل ومقابل ذلك سيعطي أفضل ما لديه .. لأن صاحب الأمر ، المديرُ الرئيسي والمباشر رغم نفوذه إلا أنه يبتسم بكل لطف وترحاب ! فقد مدّ يده ليبادل ليونارد ماكسويل المصافحة وهو يقول مستبشراً :

    " وريث عائلة ماكسويل ، مرّت السّنواتُ سريعاً ، وكأنه بالأمس عندما زرتُ قصر رولاند لزيارته وكنت أنتَ هناك تلعب بجانب والدك ! "
    " لقد كنتُ في الخامسة ، ليتني أتذكر هذه اللحظات لأُشاركك فرحتك لرؤيتي الآن "
    ضحك آندريج وهو يصافح دانيال :
    " بالطبع بالطبع ، لقد كنتَ طفلاً ظريفاً خجولاً يريد دائماً البقاء مع والده ويلاحقه في كل مكان .. هل أنت مساعده دانيال ؟ سمعتً الكثير عنك ! "

    كان غريباً على شخص مشهور كآندريج ورفيعٍ في المستوى أن يصافح مساعداً بسيطاً لا يُذكر .. وما أثار اهتمام الجميع أنه قال جملة ( سمعت الكثير عنك ) رغم أنهم لا يعرفون من هو دانيال ولم يروه من قبل أو يسمعوا أي شيء عنه !
    في تلك الأثناء لم يرى أيّ من الحاضرين ابتسامة ليونارد الفخورة وهو يختلس النظر لوجه دانيال الذي صُبغت خدوده بحمرة خفيفة غير مُلاحَظة على هذا الإطراء .. أشارَ أولير لشاب يبدو في نهاية الثلاثين يمتلك نظارة بيضاء ووجهاً دائرياً أبيض محمرّ .. شعره الأشقر الفاتح مسرح بطريقة أنيقة ، أكثر ما لفت نظره هو ربطة العنق ذات اللون الأصفر ببدلة داكنة ، مشيراً لذوق غريب يقبع خلف أفكاره :

    " هذا مُساعدي الأول ويدعى يوجين سوفار ، يعمل في قسم الإدارة ، في الحقيقة القسم لا يستطيع الإستغناء عنه ولا عن أفكاره ، أنا أتسائل ماذا سأفعل بعد أن يكبر في السن ويتعاقد أو يموت على سريره "

    كان أولير آندريج هو الشخص الوحيد الذي ضحك على هذه الدعابة .. ربّت على كتف يوجين الذي صافح يَدَ ليونارد ببرود وقد فرّ لونه المحمرّ ليحل شحوباً مخيفاً .. تبسم وريث ماكسويل بإرتباك لكنه سرعانما نظر للرجل الثاني الذي يشير إليه المدير وقد كان فضولياً حول التعليق الذي سيُخرجه عنه هذه المرة :
    " أقدم لك سكرتيري المفضل .. لوسيان دوفاج ، هذا الشخص يتمتع بشجاعة كبيرة ليخبرك بها أن لك تسريحة شعرٍ مُضحكة أو تحتاجُ لعدم دس أنفك ـ الكبير لو كان كذلك ـ في شئون الآخرين ، لقد أخبر أماندا أكسيل قبل اسبوعين هذه العبارة عبر الهاتف ، كان هذا سبباً لإلغاء الموعد الذي من المفترض أن نناقش فيه إحدى قضايا شركاتها .. لكنني أراه صريحاً بشكل مُضحِكٍ وجميل إن سألتني عن رأيي ! "

    ابتسم لوسيان بخطورة إلى ليونارد الذي كان دوره بأن يفرّ لونه إلى قارة أخرى .. ما الذي جعل أولير يجلب شخصاً لو لسان فاضح لمقابلته ؟ هل هناك شيء ما يود هذا الرجل إرسالهُ إليه عن طريق ملاحظات لوسيان المُباشرة ؟
    كان رجلاً كبيراً قد يكون في عمر آندريج نفسه .. يمتلك شعراً كثيفاً ذو لون رمادي فاتح لكن من دون شارب أو لحية أو أي شعر آخر في وجهه ماعدى الحاجبين الكثيفين اللافتين للنظر .. تحاشى أن ينظر لونارد إليه لكن ليوسان قال بصوت عميق مشدداً على كف الأخير التي كانت لاتزال مقيدةً به :
    " لقد كنتُ أتطلّعُ للحديث معك ليونارد ماكسويل ، أتمنى أن ينتهي لقائنا بطريقة طيبة "
    وافقه المعني يهزّة مؤكدة من رأسه وهو يرد عليه بصوت هادئ يخفي فضولاً وخوفاً كبيرين :
    " سأكون حريصاً على ذلك سيد لوسيان ديفاج "

    في تلك اللحظة علِمَ أنّ السكيرتير هو الشخص الوحيد الذي نظر إلى دانيال بفضول ، لكن هذه التحديقات لم تدم طويلاً ، بينما أولير يشيرُ إلى الشخص الثالث بإبتسامة لاحظها ليونارد كم هي تحمل معاني الإبتذال والإصطناع ، ترتّبت على شفتيه لثوانٍ ثم تبدلت عندما تحدث بشكل رزين ومن دون إضافات لا داعي لها عكس الإثنان اللذان قبله :
    " ثالثُ عضوٍ في المجموعة يدعى توم سيزار ، انه ابن شخص مهم في جيلنا الحالي ، أتمنى أن تتعرف عليه من خلال وجهه "
    أضاف الجملة الأخيرة همساً .. تصرف توم وكأن لم يلاحظ تصرّف أولير فأسرع ليونارد بقوله وهو يصافحه وعيناه تومض بحماس :
    " كورماك سيزار بالطبع ، أعرفه جيداً فهو ورث ملامح والده كلّها "
    ابتسم كلاهما مستثقلاً وجود الآخر في الإجتماع ، حيث يبدو أن توم بكل بساطة لا يحبذ حضور مكان به شخص له صلة بعائلة ماسكويل ، لكن والذي لا يعرفه ليونارد أن توم أتى إلى هنا بأمرٍ من والده .. من الطبيعي أن يتفاعل كورماك مع وجود ابن رولاند بِأن يوصيهِ قائِلاً : اذهب وانظر كيف هو ، ماذا يريد وكيف سيصل إلى مبتغاه .
    أسرع ليونارد يصافح آخر شخص عرّف به آندريج ، يَحمِلُ اسم جورج واين ، جلسوا جميعهم في انتظار أوامر المدير .. لكنه وقبل أن يتحدث عن الصفقة حدق بدانيال ووجّه دفّة الحديث إليه ليقول بصوتٍ بشوش ذو رغبة عارمة بفحص وتحليل أي ردّة فعل مثيرة للإهتمام :

    " عالَمُ بعض رجال الأعمال والتّجار الكِبار يضج بصخب عنك أيها الفتى ، بالأخص السيد إليارد الذي دائماً ما ينقل حديث زوجته ( بغض النظر عن ابتسامته المتعجرفة التي ظهرت مع ذكر السيدة فلامينجو .. إلا انه أكمل بسرعة ) لطالما سألت رولاند ماسكويل عنك متسائلاً عن المكان الذي جلبك منه "
    تغيرت ألوان دانيال ولاحظ ليونارد ذلك ، ففتح فمه متدراكاً لكارثة يظن أنها قريبة جداً منهما ، لم يكن ليتوقع أن آندريج قد يجلب موضوعاً لن يستطيع دانيال الإجابة عنه .. موضوعاً حساساً بشكل فظيع لطالما واجهه هو وخادمه معاً لكنهما لم يصلا لأي نتيجة ، وبالطبع هذه الأمور لها مواقفها الخاصة ، وكم كانت مفاجئة غير سارّة أن يتحدث أولير عن هذا الآن !
    " يبدو للحظة أنك سمعت بعض الأشياء التي أسرّت خاطرك عن مساعدي "

    " بالتأكيد ، عندما أخبرني إدوين بيل ذات مرة عن قضيتك وأنت تساعد ليلاني رينات رجل الأعمال السويسري اعترتني رغبة عارمة بمقابلتكما بشدّة ( نظر إلى طاقمه الذي بقي صامتاً بدليل على أنهم لا يعرفون أي شيء عما يتحدث به مديرهم ) بالتأكيد لم يسمع أي أحد منكم عن هذا الموضوع ، هذا الشاب الذي أمامكم انخرط لعالم التجارة وكذلك الصناعة لكن من دون مقر رئيسي ، لقد كان يساعد بهدف المساعدة وحسب ! أن يعطي العون للأشخاص الذي يعرفهم من دون مقابل ! وهذا ما أظهر اسم ليونارد للجمهور فجأة "
    قابل عينا الشّاب العشبيتان اللتان تنظران إليه بدهشة وأكمل بحماس :
    " أتعرف ما الذي يسميك به باول أدولف ؟ يقول أنك تشبه الفارس الأبيض الذي يساعد أي شخص يكون في ورطة ، نصيحتي لك أن تبقى على هذا الطريق ، ستصبح غنياً وستستطيع إعطاء قروض لنا وللدولة أيضاً إن استغليت هذا الأمر ! "

    " لم تذكر ما قالته أغاستينا سليلسو .. "

    تدخل توم بشكل نزق وهو ينظر إلى دانيال بإحتقارٍ من دون سبب يُذكر ، انقضّت حدقتاه على ملامح الخادِم بشيء من التجاوز غير المحبب وهو يركز على كلماته بصوته من دون أن يكترث على دخوله المفاجئ وإهانته الضيف المُقرر الإتفاق معه اليوم :
    " قالت أنه يبدو كنجارٍ مُتجول ، يقومُ بِتَصليح أثاثِ المُغفلين الذينَ دَمّروا منازلهم بأنفُسِهِم "
    ضاقت عينا دانيال بحدة وهو يشاهد ابن كورماك يهين سيده وكذلك الأشخاص القديرين الذين تمت مساعدتهم عن طريقه ، لم يهتم بطريقة كلام مُحدّثه المغرورة ولا النظرات الحادّة التي تعمد إيصالها إليه ، لكن أن يتم التحدث عن سيده بهذه الطريقة كان أمراً لا يغتفر ، ففتح فمه وأخرج كلماته بسرعة فائِقة أدرجت بصمةُ عِزّةِ نفسٍ بالنسبة لأولير الذي كان يراقب كل هذا بصدمة يعتريها الإندهاش المبهور :
    " لا وجود لأي مشكلة بعمل صفقات هادفة تساعد أي شخص يقع في مأزق ، لو كنت تعتقد أن جبالك الذهبية لن تنتهي بسبب طمعك وجشعك وكذلك رفاهيتك المسرفة فأنت مخطئ ، ستكون في يوم ما بحاجة لمن يساندك على ديونك التي ستغرق فيها حتّى أذنيك ، وفي هذا الوقت نحنُ ستكون أقوى شركة ستتجه إليها.. وإن كنّا نبدو كالنجارِ المتجول فأنت ستبدو كالشخص المتسول "

    تجمد توم سيزار في مكانه فاتحاً فمه بصدمة متعصّبة .. كاد أن يصرخ في وجه دانيال الذي رفع رأسه بكل ثقة أمامه لولا مقاطعة أولير آندريج لهذه الأجواء المشحونة بمناداة النادل الذي كان واقفاً ينتظر إشارة من المدير للقدوم فوراً من أجل أخذ طلبات الطعام :
    " دعونا لا نضيع وقتنا في تذكر أسباب شهرة وريث عائلة ماكسويل الآن ، وليطلب كل واحد منكم أي شيء يشتهيه من هذه القائمة الرائعة وفي أثناء صنع الطعام سننقاش عملنا الذي قدمنا من أجله "
    لم يكن ابن سيزار راغباً بعقد الصفقة والانتهاء من الاجتماع بنتائج إيجابية كما يبدو بعكس المدير ، كان هذا مؤشراً جيداً بالنسبة إلى دانيال وليونارد .. فهم يعرفون تماماً أن كورماك كانت مصالحه تتضارب مع مصالح رولاند ماكسويل ، لطالما سمعوا ان هناك خلافات عقيمة لايمكن حلها حتى لو لم تختلف النتائج بتفرقهما .. وهنا تسائل دانيال إن كان كلاهما لا يطيق الآخر شخصياً ، قد بكون السبب هو عدم حب واستلطاف والده لهذا المدعو كورماك .. المصالح ليست سوى أسباب ثانوية إضافية لكُره بعضهما ، لكن هل ينوي توم أن يدع هذا يؤثر على موقفهم ؟

    توزعت الأوراق على خمسة الأشخاص الذين نظروا إلى داخلها بفضول ، لكن المدير سرعانما تركها بإهمال على الطاولة وعدل من جلسته بينما نظراته تركز على ليونارد وتسأله بمباغته :
    " إذن ليونارد ، هلا أخبرتني كيف ستعطينا كل ما كتبته في هذه الصفحة ؟ "
    تجمد الحضور محدقين في آندريج ، لم تُعطَى فرصة لتفسير هذا السؤال خصوصاً عندما أجاب ليونارد بشيء من السّرعة من أجل أن لا ينقطع حبلُ أفكاره :
    " لا تنقصني الأموال سيد أولير ، وليس هذا ما أريد أن أعطيه فحسب .. ثمانية عشرة مليون ليست سوى البداية ، إنها الدفعة الأولى لتمويل ومساعدة شركتك ، ما يهمني هو تطويرُ استثماراتك الإنسانية في عدة مجالات "
    ضيق لوسيان عينيه وقال بعدما شعر أن الوقت الذي سيلعب فيه لعبته المسلية بإحتراف قد حان :
    " الجميع يعرف أن رولاند ماكسويل يتمسك بالحدود الإسبانية من الجانب الكندي ، وبما أنك قد انسحبت من العمل معهم والدليل على ذلك أنك هنا بناءً على عمل شخصي وليس من طرف الفرع الرئيسي لشركة والدك .. أوليس عملك مهدداً بالخطر من قبل عائلتك ؟ "




  5. #484


    كان يبدو على لوسيان أنه يود أن يحبط ليونارد ، وقبل أن يرد عليه تحدث توم الذي بدت عليه رغبة عارمة بتحطيمِ دفاعات ابن ماكسويل بإسلوبه الكريهِ المُعتاد :
    " هذا يعني أنه لا يمكننا أن نثق بما ستعطينا إياه ولو كانت مجرد ـ دفعة أولى ـ ( قالها مقلداً طريقة ليونارد ، وأكمل بسرعة ) بإمكان والدك .. أعني السيد رولاند ماكوسيل أن يسحب كل الخدمات التي تتمتع بها والتي تكاد أن تقوم بتوزيعها علينا ! "
    همهم بعضهم بإنزعاج عندما انتهى توم من حديثه .. كان جورج واين الذي يجلس آخرهم قد قال مُدافعاً عن الضيوفِ بكل هدوء :

    " لا أعتقد أن الإعتماد على النفس في العمل أمر سيء ، لا تحولوا الأمر لنقمة بغيضة بينما بداية الأعمال العظيمة يكونُ من مستوى صغير "
    تحدث توم مجدداً وهو يرمي الورقة على الطاولة وكأنها مرضٌ مُعدي :
    " نحن هنا لا نعمل من أجل دعم هؤلاء الذين يريدون الهرب من آبائهم بسبب مشاكل عائلية ، ليذهبوا لإستشاري تربوي ، فشركتنا لا تريد أن تتورط مع مجموعة من الوعود التي قد لا تحصل عليها .. كما أن ليونارد ماكسويل لم يبدأ بشيء بسيط .. لو لم تكن تلاحظ يا جورج ، هو سيهبنا ثمانية عشرة مليوناً ! "

    " شُكراً لتذكيرنا بذلك يا توم "

    قال آندريج منهياً هذه المشاورات التي لم يكن لها أي داعٍ أن تقال بهذه الطريقة بإعتقاد دانيال .. واتته رغبة بخنق ابن كورماك سيزار بربطة العنق ذات اللون الشنيع الذي يرتديها .. انتبه لحديث المدير وهو يقول بلطف مجدداً وكأن ثرثرة أعضاء فريقه لم تكن إلا خيالاً وسراباً شاهد عرضَهُ الجميع :
    " أخشى أن علي سؤالك عن أمرٍ ما عزيزي ليونارد .. هل تدبرت أمرك بشأن الحدود وعلاقتك مع والدك ؟ "
    كان سيده بعشبية عينيه هادئاً تماماً يراقب هرج إداريين شركة اولير بشيء من السخرية في نفسه ، أعطاهم المجال لمهاجمته فقط لمعرفة أي الأفكار سيعتمدون عليها من أجل محاربته ، لكنه تأكد تماماً أن كل ما كان يدور في عقولهم والمحاولات التي تبناها توم مجرد أوهام ستتبدد مع أول كلمة سينطقها ، وذلك بالضبط ما حدث ، فعندما سأل آندريج سؤاله رد عليه ليونارد بإبتسامة بسيطة :
    " سيد أولير أنا أُؤكد لك أنك لست بحاجة للقلق ، والدي على علم تماماً أنني سأكون بحاجة لفتح الحدود الإسبانية ، وأنا اتفقتُ معه على موعد حفل استقبالكم في قاعة عائلة ماكسويل الرئيسية في مدريد ، كنت أخطط لقول هذه المعلومة في الختام من أجل مفاجئتكم وجعلكم مسرورين لمقابلة جدتي شخصياً ، لكن يبدو أنه لاثِقة كما أرى بيننا لهذا طاقمك كان على مقربة بسيطة من الهلع والرّفض القاطع "

    لم يهتم ليونارد بما حوله بعد ذلك فقد أشار لدانيال في تلك الفترة بأن يقوم بتوزيع ورقة ثانية من الملف ، ولهذا بالذات لم يشاهد النظرة التي رماها أولير على توم سيزار ، والتي جعلت الأخير يغلق فمه مجبراً ..
    " لقد كان ذلك مجرد حديث وقائي على أي انتهاكات للإتفاقية التي سنقوم بتوقيعها قريباً .. أتمنى أن تعذر وقاحة طاقم عملي "
    رد عليه الأخير بلهجة غير مبالية وهو يشبك أصابعه وشعور السعادة يخالجه متخيلاً نفسهُ في محكمةٍ وكلامه فيها أهم من القاضي بنفسه :
    " كل شيء على ما يرام سيدي ، أعلم تماما أنه من الضروري أن تتأكد قبل أن توقع ، كما أنني سأعمل معك قريباً ـ لو أنك وافقت ـ لذا لا أريد حمل أي ضغينة تجاه أحد وأعلَمُ أيضاً .. أخذ نفسناً ليكمل ببطء ) أنّ أفراد طاقمك الأربعة يفكرون بذات الطريقة "
    في اللحظة التي توجهت بها العيون لما قام دانيال بتوزيعه إلتمعت أين توم بإمبهار مقهور وهو يمسك صفحة إنجاز ليونارد الثاني من أجلهم بعد توزيع أموالٍ طائلة :
    " ليونادر ماكسويل يعِدُنا أن بإستطاعته فتح فرع للشركة في مدية ( لاوس ) ؟! "
    وقبل أن يستطيع عقله استيعاب المكتوب ضحك مستنكراً وهو ينظر إلى ليونارد بإستخفاف :

    " رباه ، أحلامك تعدت المعيار العالمي حتى قبل أن تفتح شركتك ! "
    " شركتنا نحن ؟ "
    كان هذا لوسيان الذي تمتم بصدمة ، نظر آندريج بتركيز إلى الكلمات المطبوعة في الورقة ثم سمع همس مساعده الأول يوجين الذي تحدث لأول مرة في الإجتماع :
    " هذه المدينة التي تمتلك أصولاً صينية وهندية لم تقبل قط أن تتعاون معنا ، لو كان ما يقوله ابن ماكسويل صحيحاً حيثُ أنّه سيكون وسيطاً بيننا وبينهم فستُحلّ الكثير من المشاكل بشكل رائع ! "
    " لم يسبق لي أن شاهدت طموحاً من هذا المستوى العجيب في شباب هذا الجيل "
    تحدث أولير بنفس وتيرة يوجين ، لكننه ترك الورقة وللمرة الثانية على الطاولة وقال بتشكيك لم يستطع مقاومته ، لقد كانت مشاعره غير مألوفة لدى الجميع فهو لطالما أراد من شخص ما أن يشطح بخياله بعيداً من أجل تحقيق ما عجز الآخرون عن فعله ، وشعاره الأبدي كان : كُن مجنوناً لتُحدث التغيير الذي تَحلُمُ به في هذا العالم ، وإلا لن يتجاوز ما تريدهُ عتبة باب منزلك .. لكنه الآن بدأ حرباً نفسية خصوصاً مع ما سيقدمه له ليونارد قريباً :

    " طموح الشباب يعجبني ، لكن من المستحيل أن يضمن شخص مثلك مكاناً في مدينة لاوس .. خصوصاً أن نفوذك ضعيفة فأنت في بداية عملك ، أنت لم تفتح مقراً لك بعد .. كيف ستستطيعُ أن تبني لشركتي فرعاً فيها ؟ "

    وكأن انتقاد المدير قد خوّل أحدهم لأن يخرج أول أصوات التأييد ، ولم يصعب عليهم توقع يد من كانت مرفوعة .. فوجه توم سيزار المستبشر بالإنتصار كان قريباً جداً منهم ، نكز جورج واين الجالس بقربه قائلاً :
    " ابن عائلة ماكسويل يظن أن بإمكانه أخذ مدينة تم قطع كل صلاتها مع كندا .. وكل هذا قبل أن يبدأ عمله ، ألم تقل أن الأعمال العظيمة تبدأ وهي صغيرة أو شيء من هذا القبيل ؟ إذن ماذا لو كانت الأعمال تبدأ بشكل كبير فجأة .. ستتحطم سريعاً أوليس كذلك ؟ ( أكمل وهو ينظر للمدير ) سيدي فلتخرج من هنا قبل أن يعطيك ورقة أخرى مكتوب فيها أنه سيقرر أن يغزو العالم بإسم شركتنا "
    كان دانيال يقاوم رغبته بحشر القلم الذي لديه في أنف هذا المتعجرف ، وقبل أن يبتسم ليونارد بثقة مجدداً ويرد على توم بإسلوب دوبُلماسي يشبه العصور الفكتورية ، فتح حقيبته ووضع صافعاً الصورتين المُخرجتين والرسالة اليتيمة على الطاولة أمام توم الذي انتفض مفزوعاً للحظة !

    " لقد اتفق مع شاندار ديباك قبل ثلاث سنوات بأن يعطيه أي شيء يريده في مدينة لاوس يا هذا ! ( وجه كلامه للمدير قائلاً والإنفعال بادْ على وجهه ) هيَ ليست مجرد طموح قد تحصل أو لا تحصل ، نحن دبرنا بالفعل أرضاً كبيرة في تلك المدينة وأي إشارة من السيد ليونارد ماكسويل ستقوم من خلالها حكومة لاوس بإعطائه التصريح اللازم لإستعارة العُمال للبناء .. نحن سنعطيكم فرصة للتقرب من البلد التي كانت من ـ أحلامكم أنتم ـ وليست من أحلامنا ! "
    رفع توم إحدى الصور ، كانت تحمل موقفاً لليونارد الذي يصافح رجلاً أبيض ذو ملامح هندية ناعمة ، الصورة الأخرى كانت لموقع الأرض فقد بدت واسعة بجانب شركات اتضح أنها مهمة للجميع ، رفع آندريج الرسالة الصغيرة بعدما التقطها .. كانت رسميةً بخط حاسوب ذو حبر أخضر داكن ، هو لم يقم بقرائتها لكنه يعلم تماماً أي ختم هذا الذي يتوهج بالون الأحمر ..
    " حسناً سأكون أحمق لو انني استهنتُ بك بعد هذا الدفاع الغريزي من مساعدك دانيال ( أضاف ضاحكاً ) قد يأكُلنا لو أننا أخرجنا صوتاً ساخراً أو متشككاً بعد الآن أوليس كذلك يا توم ؟ "

    ابتسم جورج واين يتفاؤل وهو يمرر الصورتان متجاهلاَ تشنجات ابن سيزار العصبية .. لقد حاول والده مراراً أن يمتلك موقعاً في لاوس ، لكن يبدو أن هذه المدينة الخيالية تنجذب لأُسرة ماكسويل البغيضة !
    " علينا أن نَعترف ، هذه مبادرة غير مسبوقة ، فإتساع نفوذنا للمناطق الشمالية الشرقية القصوى يعدّ إنـ.."
    قاطعه توم وهو يتحدث بعصبية لليونارد الذي مازال صامتاً ولو اتساع ابتسامته الواثقة سيقتل صوت ابن سيزار الشبيه بالضفادع :
    " لكن ما الذي تريده من كل هذا ! بالتأكيد الاستغناء عن فرصة ذهبية للإستقرار في لاوس يعني مقابلاً ثميناً قد لا نستطيع انجازه ( قام بتوجيه كلامه للمدير مجدداً ونظرات الجميع تداهمه بدهشه ) علينا أن نحذر من قرارات هذا الفتى ومتطلباته ، ليس هناك شخص عاقل سيطلب مقابلاً زهيداً في وضع كهذا ، يوجين ضع في قائمة أعمالك التحقق من تحركات ابن ماكسويل ، ليوسان أرسل باستيل للتأكد من خلفية أعمال دانيال هذا المساعد المشكوك في أمره أنت أيضاً ! وأنت يا جورج أقترح أن تكـ.."
    " يبدو أن عليّ تذكرك أنني المدير هنا وأنا الشخص الذي يصدر الأوامر يا بني "
    تحدث آندريج بنفاذ صبر وهو يزجر ابن عالة سيزار بحدة .. فصمت واعياً أنه تجاوز الحد في حديثه ، لكن أولير لازال يتمسك بإحرام ذاته ولباقة كلامه ، وهذا ما جعله يبتسم سريعاً في محاولة لتلطيف الجو بعد أن انتبه لعربات الطعام القادمة في الطريق :

    " يبدو أن الجوع قد سيطر على أعصاب طاقم عملي ، اقبل اعتذاراتي الشخصية يا ليونارد ، وكذلك أنت دانيال .. لقد كنت سعيد لسماع صوتك مرتين ! ، لم لا نرفه عن انفسنا قليلاً وندردش بشكل سلمي ( قال هذه العبارة متمنياً ان ينتبه إلى مغزاها توم ) ضعو أوراقكم جانباً رجاءً "
    اتبع الجميع وصية آندريج .. نظر دانيال إلى طبقه بكل حماس ، كانت السلطة اليونانية تبدو لذيذة جداً على غير عادتها مع طاسة التقديم الحليبية ، أدار رأسه لعصيره الذي كانت طبقتاه البيضاء في الأعلى والسماوية المتوهجة في الأسفل تبرقان في كأسٍ طويل .. ألقى نظرة فاحصة على عصير ليونارد القاتم ، البنفسجيّ جميل ولكن يبدو للحظة أنه يتوهج بالخطر خصوصاً مع قاعدته القرمزية الداكنة ، طبق دانيال الرئيسي كان لحماً مشوياً على الطريقة الصينية .. أمسك شوكته سريعاً وتذوق القليل منه ، انبهر بسعادة مرضية ولسانه يستشعر البهارات القوية مع طعم لاذع وحامض ، لم يبدو انه انتبه لطبق سيده المليئ بالصلصة الحمراء ، كادت اللقمة التي وضعها في فمه أن تنحشر بداخل حلقه لتقتله من بعد سماع سؤال أولير العفوي :
    " إذن دانيال ، هل بإمكانك إخباري من أي مدينة اسبانية أنت ؟ "
    رغبة أولير الملحة بالتعرف على دانيال كانت صادمة لليونارد ماكسويل ، وبالنسبة للخادم نفسه كاد أن يقف ويفر هارباً من المكان بأقصى سرعة .. لماذا يريد المدير الخاص بأفضل شركة استثمارات بالتعرف على مساعد بسيط كدانيال ؟! رفع المعني رأسه ونظر نظرة شاحبة باللون الفيروزي إلى آندريج .. كان يود لو أنه يكذب ، لكنه لم يعرف لماذا امتنع عن ذلك مرتعباً من فكرة الكذب على أولير .. لذا بكل بساطة قال مجاهداً أن يبدو صوته هادئاَ :

    " لقد وُلدت وترعرعت في الريف ، في إقليم نافار بالتحديد "

    كان دانيال يمسك شوكته التي جاهد أن لا تسقط ، شعر أنه فقد شهيته بالطعام أمامه مع خوفه وقلقه من أن يسأل الآخر شيئاً شخصياً مجدداً ، أراد أن يغلق فمه هذا ويجبره على أكل قطعة كبير من السمكة التي أمامه لكي يُخرسه ، وفي الثواني التالية تسلل الحقد بداخله على أولير آندريج رغم أنه تحلى باللطف ! أولم يقل هو قبل دقائق قليلة أنهم سيبدئون في الحديث بشكل سلمي ؟ إذن لماذا هو الآن يسأل عن أصوله كلما سنحت له الفرصة ؟
    " في الريف إذن .. كيف لشخص ريفي أن يعيش بعيداَ عن مرسية أن يعمل مساعداً أول لوريث عائلة ماكسويل ؟ "
    سأل توم بقلة إهمام .. ولو أنه يكاد يموت فضولاً في داخِلِه .. في هذه اللحظة بالذات أقسم دانيال أنه لولا صفقة آندريج مهمة لعمل ليونارد لقلب هذه الطاولة الضخمة على رأس هذا الحثالة الذي يجلس أمامه ، انقلب خوفه إلى بغض شديد واحتدت نظراته المواجهه لإبن عائلة سيزار وببؤبؤ عينيه تتماوجان بين الأخضر الناري الغاضب والفيروزي :
    " لقد قام بتوظيفي السيد رولاند ماسكويل شخصياً بناءً على معايير محددة صعبة الإرضاء "
    " في أي سنة قام بذلك ؟ "

    كاد ذلك المدير مجدداً وهو يتمتم من بعد مضغ حبار صغير كان على طرف وجبته البحرية ، كاد أن يجيب عليه دانيال ومشاعر الرعب تهجم عليه مجدداً ، إلا أن لوسيان تحدث قائلاً من بين تساؤلات الجميع :
    " لم جميعكم تهتمون بذلك الفتى الصغير ؟ فلنوجه أسئلتنا إلى صاحب الصفقة ! "





  6. #485


    بدا لوسيان متضايقاً لإعطاء الشاب صاحب العيون الشبيهة بكرات الفيروز قدراً من الإهتمام غير اللازم ، لكن دانيال على كل حال لم يكن سعيداً بهذا الأمر ، فما دام الحديث لا يتمحور حول ماضيه فكل شيء على ما يرام ، إنه حقاً يكره كل شخص يسأل عنه .. اختلس النظر نحو سيده الذي كان صامتاً منذ مدة ، وقد فاجئه منظر ليونارد الذي كانت عيونه الحادة مركزة على طبقه الذي لم يُمسّ بعد ، لكن سرعانما عاد كل شيء للوضع الطبيعي من بعد كلام لوسيان ـ أو هذا ما يبدو عليه على الأقل ـ ، سُئِل بضعة أسئلة وأجاب عليها بإبتسامة فاترة لم يلاحظها إلا دانيال .. الخادم كان يعرف تماماً ان سيده متضايق من أمر قد حصل ، ولم يجرؤ أن يثير ملاحظة الآخرين بعد ذلك لهذا السبب فيكفيه أن انتباههم قُد صُرف بعيداً عن حياته الشخصية .. ليونارد لم يكن منزعجاً بشأن الإهتمام الذي حصل عليه مساعده ، بل العكس .. عندما يقوم دانيال بعمل يثير إعجاب الجميع يكون ليونارد أول شخص يمسك طرف ثوب السعادة ويعانقها مسروراً ..

    بينما الأمر الذي كان ولايزال يؤرق ليونارد هو ماضيه وكيفية عثور والده على شخص مثله ، لطالما تسائل السيد عن هذا الأمر ، هذا الصبي الصغير الذي يمتلك شعراً أسود وعيوناً مُتبدّلة بالذات .. لماذا من بين كل الأشخاص يجلب له طفلاً ، طفلاً غريباً من نوعه يحتفظ بمبدأ مختلف عن كل الخدم ، ارتجف داينال .. لا ببرودة العصير المنعش ولا من الجو الذي هو جالس فيه ، لقد كان خائفاً دائماً من هذا الموضوع .. ولطالما أغلقه في وجه ليونارد غير راغب في الحديث عنه ، إلى أن أصبحت هذه المسألة حساسة لكليهما ، لقد تجاهل دانيال مشاعر الأخوّة في داخله وأغلق عليها بكل احكام متمسّكاً بالوعد الذي قطعه لوالدته .. وليونارد ابتلع فضوله وغضبه .. ابتلع آلامه وحيرته .. لذا كلاهما متعادلين ، وكلاهما لن يجرئا على فتح هذا الصندوق المغلق إلا لو كان الأمر طارئاً .. وقد حدثت أمور طارئة كثيرة سابقاً لكنهما لم يستطيعا أن يفتحا فمهما بكلمة واحدة ، فالخادم لم يفسر والسيد لم يسأل . يكفي أن يكون موضوعاً حساساً وتنقلب معدة دانيال من الضيق بينما تسودّ الدنيا بعينيّ ليونارد العشبيتين .
    طوال فترة الغذاء لم يفتح دانيال فمه ولا بكلمة واحدة ، لا لليونارد المنشغل بالدردشة مع أفراد طاقم عمل آندريج ولا لتوم الذي كان يغيظه بنظراته ـ ولو أنه لم يحسب كلامه مع نفسه تجاه الدعاوي التي يلقيها على توم بأن يختنق بعصيره ـ فقد كان ذلك كافياً لصرف اهتمام يوجين ولوسيان وجورج ، ما كان يدعوه هو أن تهدأ ثرثرتهم ويعودوا للعمل مجدداً .. وهذا ماحدث بالفعل ، فقد تحدث أولير من بعد أن تم إخلاء الطاولة من الصحون الفارغة وهو يشير إلى يوجين الذي كان متحمساً على خلاف مشاعره في بداية اللقاء :

    " نحنُ بكل بساطة سنخبرك بما تستيطيع شركتنا فعله "
    صفّى المعني حلقه وأردف قائلاً من بعد أن تأكد من أن الجميع يسمع ما يقول :
    " الأعمال الأساسية لشركتنا هي تمويل الأموال اللازمة لدعم مؤسسة التنمية الدولية وأنت تعرف كم هي مؤسسة ضخمة صحيح ؟ "
    " نحن رائعون أوليس كذلك ؟ لقد اقترضت هذه المؤسسة مع وكالة ضمان الإستثمارات متعددة الأطراف العديد من الملايين منا "
    قالها أولير متفاخراً وهو يراقب دهشة ليونارد ، هذا الرجل ثمانية عشر مليوناً لا شيء أمام ثروته السنوية الضخمة ! أكمل يوجين قائلاً :
    " نحن نقوم بتأسيس إدارة الأنشطة ذات الهدف الذي يحقق الخدمة الإجتماعية "
    " أي أننا لا نقوم بتدريسهم بأنفسنا مباشرة ، بل نبني المكان الملائم لذلك .. لا تقلق من الناحية التعليمية ، فلدينا ما يكفي من الخُبراء لدعم هذه المواهب الرائعة "
    شرح أولير مجدداً وهو يراقب نظرات دانيال التي كانت تستمتع بإهتمام شديد ، ما إن تقابلت أعينهما حتى أشاح الشاب بوجهه بسرعة ، فحث المدير مساعده الخاص بأن يُكمِلَ ماكانَ سَيَقوله :
    " نحن نهتمّ بالتخطيط والتوجيه ، فلدينا ما يقارب ثلاثين مركزاً في خمسة عشرة منطقة ، وسنزيد عدد البنايات والموظفين فيها .. كما أننا تشاركنا مع خمسة بلدان أوروبية وثلاثة بلدان آسيوية ، وتم بناء خمسةً وعشرين مركزاً في مناطقهم ( أشار إلى ليوناراد بهدوء ) اطلب ما تشاء من الأموال أو مراكز التطوير فنحن لدينا الكثير بالفعل "

    أومأ إليه ليونارد بشيء من التحفظ ، ونظر إلى أولير بإمتنان وهو يقول بلطف :
    " شكراً جزيلاً سيد آندريج "
    " لا تشكرني يا بني ( ابتسم ببرود خطر وهو يسترخي على كرسيه ) فهذا ليس معروفاً بَل مُقابلاً .. الآن حان وقت اخباري بما تود الحصول عليه "
    في الحقيقة لم يكن ليونارد يخطط لإخفاء رغبته من البداية ، ولكن معَ سياق الحديث والذي كان يتقافز من موضوعٍ إلى آخر جعله يفصح عن ما يريد في نهاية المقابلة ، نظر إلى المدير مطولاً قم انتقل إلى وجوه أعضاء فريقه الذين كانوا يترقبون بشدّة ..وفي النهاية فاجئهم بضحكة قد انفلتت من شفتيه :
    " سيد أولير أرجوك لا تسئ فهمي ، أنا لا أريد أموالك أو مراكِزَك ، كل ما في الأمر أنني أود العثور على بضعةِ أشخاص مناسبين لشركتي "
    تجمدت ابتسلامة أولير في وجهه ومع كل ثانية تمر كانت ابتسامته تختفي ليحل محلها تقطيبة فظيعة ، فتح فمه ليتحدث لكن توم ـ وكالعادة ـ عندما تمر أزمة شديدة هو أول شخص يحتج ويزعق صارخاً في أرجاء المطعم ، بالطبع هذه المرة كان يصرخ متشنجاً وهو يشير إلى ليونارد :

    " أي هؤلاء الأشخاص الذين تود الحصول عليهم يستحق أن تضحي بمدينة لاوس من أجله ؟!! "
    " لا أعرف "

    أجاب ليونارد ببساطة وهو يتابع تحديقه بالمدير ، ففتح الأخير فمه وقال بصوت مصدوم :
    " لماذا أعطيتنا كل هاذا من أجل أشخاص مجهولين لا تعرف امكانياتهم في أي شيء ؟ "
    " هل تريدنا أن نكون مديينين لك ؟ "
    سأل لوسيان هذا السؤال وهو يحدق في ابن رولاند ماكسويل بعينيه فقال المعني بصدق وعشبيته الغنية بالدفئ والقوة تزرع بذور السكينة في أرواحهم :
    " لقد كنت أفكر لذلك منذ البداية ، لكنني لأكون صادقاً لم أُجد قط استفزاز أحد واستغلال نقطة ضعفه ، أنا أعمل على مبدأ شركتي منذ البداية ، أنا أسدي لكم خدمة ، ولست مهتماً لردكم هذه الخدمة أم لا .. ( أكمل بسرعة كي لا يقاطعه أحد ويكذّب أقواله ) الشيء الذي قصدت اعطائكم إياه كان الأموال فحسب ، لكن بعد بحثي بالأمس ، رأيت كم ان مشروعكم سيزداد ازدهاره في منطقة لاوس .. سيد آندريج لقد أعطيتك هذه الفرصة كخدمة مجانية من اجل عقد صداقة معي .. لا مع والدي ، بل معي أنا ، اعتبرني مخزناً جيداً من أجل البحوث الجغرافية عن بقعة مناسبة ( ختم عبارته أخيراً بأول شيء معتاد كان يفعله .. ألا وهو الإبتسام والتأكيد سلامة نيته ) والمساعدات لا تأتي بالمجان كما قلت ، إذن اعتبر مُقابلي هو استِخدامُ المنطقة بحكمة ، هذا فقط "

    وقفت عقارب الساعة على الثالثة والنصف .. وليونارد ماكسويل في تلك الفترة كان ينظر إلى السيارة التي سيقودها دانيال والتي أعطاها إياه أوليلر .. بيضاء لامعة وكبيرة .. جلس الخادم في مقعد السائق ونظر إلى سيده الذي استقر بجانبه تماماً .. دوى صوت المحرك ثم ابتعد عن الفندق في هدوء .. تنهد ليونارد من أجل لفت الإنتباه ، لكن الأخير تجاهله ناظراَ إلى جهاز تحديد المواقع ومركزاً على الطريق .. مرت فترة وجيزة تنهد ليونارد من بعدها ، واستمر دانيال في تجاهله مديراً السيارة إلى جهة اليمين .. فتنهد السيد للمرة الثالثة حينها تذمر مرافقه وفيروزيته لازالتا مركزتين على الجهاز والطريق :
    " توقف عن التلميح لجعلي أتحدث ، إن كان لديك أي شيء ترغب في قوله فانطق به من دون مقدمات "

    " لقد كان ذلك متعباً للأعصاب فحسب ، بالكاد أقنعتهم بعد محاوراتٍ طويلة وشائكة أنني لا أريد إلا عدة أشخاص للعمل معي ، لقد أتوا وكأنهم مستعدّين للحرب لا للإتفاق ! "
    نطق ليونارد هذه العبارة بضيق ثم أكمل مراقباً الطريق :
    " لقد قام بتوقيع الإتفاقية مبدئياً .. حدد أنه سيؤكد على تعاوننا في حفلة الإستقبال بنهاية الشهر .. ما رأيك بما فعله أنت ؟ "
    " إنه فقط خائف من عدم حضور رئيس مدينة لاوس ، إذا قابلا بعضهما البعض سيكون السيد آندريج متأكداً من امكانياتنا "
    أضاف بشيءٍ من الحدّة وهو يضغط على أسنانه وكأنه يريدُ تمزيق شيء ما :
    " الشيء الوحيد الذي كاد أن يُخرّب علينا اتفاقنا من أعلاه لأسفله هو وجود توم سيزار "

    " أنت تعلم أنني لا أحب الحديث عن الناس في أوقات غيابهم ( قالها ليونارد ببرود شارد ) لكنه وغدٌ حقّاَ كوالده !! انظر إليه كم كان يود الإيقاع بنا ، ما مُشكلته ؟! إن لم يكن يريدُ الإرتباط بنا فليقل ذلك منذُ البداية .. أشُكّ أن أولير لم يلاحظ ذلك .. الطقام بأكمله كان يتذمر من مداخلات توم "
    صرخ السّيد بعدها بغيظ .. مرّت الأشجارُ في الطرقاتِ العامّة من أمامهم بسرعة ، ودانيال كان يفكّر مع كلّ كلمة قالها ليونارد ، لقد أرادَ أن يعترف بشيء ما فتحدث بسرعة من دون تردد :
    " لقد كان حذراً ، يظن أننا سنخدعه أو شيء من هذا القبيل ، أتوقع أن والده حذّره منّا .. أنت تعرف رجالُ الأعمال عندما يكره أحدهم الآخر كل ما يفعلونه هو تشويه السّمعة أولاً "
    " سمعةُ والدي في الحَضيضِ منذ البداية "

    انفلتت هذه العبارة من شفتيّ ليونارد ، تغيرت ألوان وجهه وهو يلاحظ نظرات دانيال الشديدة عليه .. ماقاله لم يكن عادلاً أبداً تجاه عمل رولاند ماكسويل ، بالتأكيد أخلاقه الشخصية تظهر سريعاً والجميع يعلم بذلك .. لكنها لا تؤثر كثيراً على جودة عمله .. فالجميع يحاول أن يرتبط به بأي طريقة كانت لا من أجل الأموال فحسب بل من أجل العَمل الجيد الذي يقوم به !
    " على أية حال .. أتمنى أن يعنّفه أولير آندريج إلى أن يُخرِسه في إجتماعنا التالي "
    أشار وشمس النهار تعكس أضوائها على زجاج السيارة التي تمشي بإعتدال :

    " الآن لننسى ما جرى ولنذهب لنستمتع قليلاً "


    148611416948771


    اخر تعديل كان بواسطة » أُنسٌ زَهَر في يوم » 03-02-2017 عند الساعة » 09:32

  7. #486


    متى كانت آخر مرة وثق فيها ذلك الشابُ بشخصٍ ما ؟ قبل سنواتٍ طويلة .. طويلةٍ جداً جعلته ينسى الموقف الذي أدّى به إلى قول جملة ( أنا أثق بك ، بإمكانك أن تفعل ما تشاء لأنني في النهاية أعلم أنك ستقوم بالشيء الصحيح ) كانت هذه المرة الأخيرة التي يقول فيها مثل هذه الكلمات ، لأنه وفي آخر المطاف اقتنع أنه كان مخطئاً .. لدرجة أن حياته انقلبت رأساً على عقب ، واختفت كل الآمال العظيمة التي حملها فوق ظهره ، اختفت بعد أن كسرت قلبه وكُل أعضائه لدرجةٍ جعلته لا يتستطيعَ أن يتقدّم في طريقه .. ومنذ تلك اللحظة توقف عن الوثوق بأي شخص آخر ، بعيداً عن كونه موقفاً واحداً هو الذي حصل إليه ، فكايدين دومينيك مصابٌ بمرض الشك ، وفي جميع الأحوال بالنسبة إليه هذا الأمر مريحٌ جداً رغم الإضطرابات التي يواجهها .. مبتعداً عن كل التجمعات من حوله ، يكره جاره ، لا يستطيعُ التواصل مع أحد لأنه لا يثق به ويشك به دوماً ، لا يجد الراحة إلا عندما يبقى وحيداً في شقته ، صوت ساعة الحائط يكسر السكون المريض ، يؤنسه بالثواني التي تزوره ، ومجموعة الدقائق تشرب كأساً من الشاي الأحمر ، والساعات تتحدث إليه ليبقى كما هو .. كما هو فقط من دون حراك أو رغبة في عمل شيءٍ جديد ، فلا يخرج من المنزل إلا للعمل ـ الذي يفشل فيه دائماً ـ ثم هكذا دواليك إلى اللانهاية .

    متى سيتغير هذا الروتين الكئيب ؟ هو يتسائل دائماً بهذا الشأن ، يشعر في مرات كثيرة أنه سيختنق يوماً ما في شقته من دون أن يعرف أحد لكن لا يمكنه أن يفعل شيئاً بهذا الخصوص .. والدته تشاجر معها ، ووالده ابتعد عنه عندما تخرج من المدرسة من دون كلمة وداع تُذكر ولم يرغب أصلاً برؤيته مجدداً ، هو وحيد فلا إخوة لديه ـ على حسب علمه لحد الآن ، على كل حال هو ليس مهتماً بعائلته ، حتى لو ماتا أو قُتلا أو غرقا في النهر ! لا شيء سيغير نظرته وطباعهما .. إذن لماذا هو قلق ؟ لماذا دائماً يندب حظه العاثر في كل شيء ؟ لماذا حياته تزداد سوءً عن ذي قبل ؟ متى سيتحول من شخص مريض إلى شخص عادي ؟ متى ستأذن له نفسه التافهة بأن يطرق باب جاره ويسأل عن أحواله ؟ أو أن يبحث عن صديق في الخارج ؟ أو الإعتذار لسيده في العمل ؟ لكن لا .. إنه يعرف أن كل شيء بدأ منذ أن كان صغيراً ، تحديداً في طفولته المُمِلّة ..
    بالطبع لا يريد أن يتذكر ، فأحداث ماضيه وأخطائه الصغيرة المتراكمة تثير غثيانه ، لكن لا بد أن يعيد النظر لصفحات سيرة حياته السابقة ، معرفة مكان الخطأ هو أول الأعمال التي تجعلك تتطرّق نحو التصحيح والتغيير ، إن أردت تعديل حياتك المثيرة للإشمئزاز إذن أنت مجبر على الإعتراف بما أنكرته سابقاً .. أنت مجبرٌ عى النظر لما أشحت عينيك عنه .. أنت مجبر على مواجهة ما هربت منه ، وغير ذلك ليس سوى قرارات واهية .. فالتغيير معناه الألم ، التخلي ، وإمساك ألسنة اللهب إلى أن تتحل قذاراتك وتختفي .. هذا بالضبط ما يخشاه كايدين ، إلا أنه وكما قلنا هو مجبر على تذكر الماضي ، إذن حينما يسأل هو نفسه .. لا لأجل شيء بل لأنه يريد فقط أن يعرف نقطة البداية .. عندما كان في السابق ، كايدين الذي يبلغ من العمر عشر سنوات تقريباً ، أي المواقف سيرى وأي الأحداث سيشاهد في عقله الباطن ؟

    كانت تلك عائلة صغيرة بسيطة الدخل تعيش في ضواحي ( سانت جونز ) تلك المدينة الفوضوية ذات الشوارع المكتظّة بالمحلات والأسواق العديدة ، لكنها لم تكن غنية فالأحياء الخارجية ذات طوبٍ قديم ، والأحياء الداخلية أكثرُ قِدماً وقذارة .. إلا أنه في كل تلك الأحوال وفي خضم الصراخ والعويل لكلابٍ جائعة أو لأزواج ثملين ، كانت السيدة ( روزي دومينيك ) والسيد ( روبرت دومينيك ) سعيدين ـ أو هذا ما ظنّاه ـ فعلى كل حال انهما يمتلكان طفلاً كثير الشغب والحركة .. متحمس لكل شيء وفضولي تجاه كل شيء ، حساسٌ بالفطرة ويذعر بالحذر مع كل لمسة خاطئة فيتعلم منها أخطائه ، رغم معاناتهما مع الطفل كثير السؤال كان الحال من الممكن أن يكون أسوأ كما هما يظننان ويتوقعان .. كايدين الطفل الصغير يتشاجر دائماً مع أطفال الجيران وأكثر من مرّة قدمت الجارة تشتكي إيذاء دومينيك الصغير لطفها الذي يتماثل معه في العمر ، بالتأكيد تم سؤال المعني عن السبب وحينها يكون رده بكل بساطة أنه صادق شخصاً آخر غيره ، الأمور المعتادة التي يقولها الأطفال الصغار ، وذلك الشخص هو أكثر طفل يكرهه كايدين في حياته القصيرة تلك الفترة .. فبالنسبة إليه العمل الذي قام به ابن جارهم شيء مشين يدعى الخيانة .. الخطأ الأول الذي ارتكبته روزي هو عدم افهام طفلها الصغير أن مفهوم الصداقة لا يعني امتلاكك لشخص ما كما تمتلك قطعة صغيرة من كعكة شوكولا العيد ! لذا هو ليس سيده ليقرر عنه هل يصادق فلاناً أم لا .. كل ماقالته هو أنها تتفهم سبب غضب طفلها الصغير .. والوضع بإمكانه ان يكون أسوأ من ذلك لكن ولله الحمد لم يحدث أي شيء خطيرٍ أبداً !

    لأن والدته كما ذُكِرَ لم تتلطف عليه وتخبره بتلك النصائح البديهيّة الصغيرة ، فَهِم كايدين أن الأصدقاء هم مِلكٌ له وحده ، يأمرهم بما يشاء ويطبقونه ، وما إن يُخالف أي شخصٍ منهم تعليماته يُحملهم مسؤولية الخيانة كما يزعم ، ويبدأ بالشجار معهم والتّنمُرِ عليهم .. يصل الأمر به للتجسس على هؤلاء المساكين حتى يفتعل المشاكل المتواصلة التي لا تنقطع من أيامه .. ومع الوقت يحسّ أن لا أحد يقوم بعمل المطلوب كما هو مقرر ، وأن كلّ شيء يجب أن يكون مشوهاً فلطالما ضرب أحدهم أو عنّف الآخر .. فتدخلت الكآبة اللامتناهية واضعةً عقله في وسطها ثم دارت به بشكل سريع .. شيئاً فشيئاً بدأ الأولاد ينفرون منه ، بالطبع فلا أحد يتحمل أن يكون مع شخص كرئيس عمل ، وعلاقة الصداقة ليست أن تأمر وأنا أطيع ، كايدين أحبّ الأشخاص ضعيفي الشخصية ، فهم يخافون منه ولهذا يتّبعون ما يقوله ، لذلك استلزم أن يضع لنفسه صديقاً عزيزاً عليه لا يتخلى عنه مهما حدث ، وهو ذلك الذي يتبعه مثل ظلّه ، لكنها كانت مسألة وقت حتى ابتعد عنه هو الآخر .. ثمّ بدأ شيئاً فشيئاً يكره الذهاب للمدرسة لأنها تكون موضع شك كبير بالنسبة له ..

    فأقل همسة يسمعُها يشك أنها تقصده ، وأبسط نظرة تغيظه وتثيرُ حفيظته ، ناهيك عن كرهِهِ لأيّ شخص يرفع إصبعَهُ يُشير إليه .. الجدير بالذكر هنا أنه كلما تفاقم هذا الأمر كلما كان سهلاً لإدارة المدرسة أن تلاحظه ، حتّى أتت ذات مرةٍ إلى منزلهم إحدى المعلمات شاكية حالة كايدين النفسية ، قائلة أنها متخوفة بشأنه ، وفإِزدِياد انطوائيته وشكّه بالأشخاص فقط لأنهم يصادقون أولاداً آخرين قد يوصله لمرض خطير .. إلا أن روبرت قد أنكر قلقها قائلاً أنه كان هكذا طوال الوقت ، منذ زمن بعيد كان يحب أن يكون له صديق عزيز مُخلص له ، الأمر طبيعي فهو يحب انتقاء الناس وليس مصادقة الجميع ، وأن يكون الشخص اجتماعياً مع كل الناس هو المشكلة بحد ذاتها فهو سيتعرض لمشاكل عديدة قد تجعله يلجأ إلى ما يستعمله المراهقين في غياب أولياء أمورهم ، لذا أن يكون ولده إنتقائياً أمراً محببٌ جداً .
    بالطبع لم ينتبِهَ الأبوين لأي إشارة استغاثة توصلها روح طفلها إلى أن طَمسا برعُم النّفس السليمة لتنبِت بعدها بذرة فاسدة لا فائدة منها ، ومدحُ تصرفات كايدين كان له سبباً آخر بتعزيز تصرفاته ( أنا أفعل الشيء الصحيح ) هذا ماكان يفكر به دائماً ( هم السيئون وأنا الجيد ، لهذا أنا لا أستطيع اللعب والكلام معهم ) كل هذه الجمل كانت تدور حول دماغ ذلك الطفل الذكي ، وفي النهاية كان من الطبيعي أن يظن كلاهما أن كايدين يمتلك هذه الصفات من فترة طويلة ، فاختتمت روزي كلام زوجِها قائلة :

    " هناك مجرمين في عمر الثالثة عشرة وابني كما ترين ليس منهم ، كل شيء على ما يرام ، فكايدين كان من الممكن أن يكون أسوأ لكنه ليس كذلك أبداً ! "

    عندما يعتاد المرء سلوكاً معيناً أو أي طبعٍ آخر ظناً أن هذا التصرف أمر طبيعي لديه سيكون من الصعب حينها أن يقوم بتغييره .. خصوصاً مع اسلوب روبرت النزق والذي يظن أن تغيير الشخصية شيءٌ سهل كتغيير فراشِ سريرك الخاص ! وهذا أمر خاطئ تماماً ، لكن لا أحد ـ مجدداً ـ كان يعرف ذلك .. فبعد أن وصل كايدين لسن الرابعة عشرة ، تلك السنوات التي قضاها في التلذذ بظنّ السوء والشكوك العقيمة تجاه الآخرين ، قد استغرقت في شخصيته وأصبحت طبعاً أساسياً من تصرفاته .. لم يكن روبرت وروزي يعرفان كيف يتصرفا في طفلولة كايدين وهذا كان سبباً في اضطراب حالته ، ومع تقدم الأخير في السن ودخوله مرحلة التمرد واكتشاف ذاته ، قرر أنه ليس محتاجاً للنبش عن شخصيته الضائعة كما يفعل أغلب المراهقين ، فهو يعلم تماماً من هو وكيف طيشه قد كان واضحاً ، من جهة أخرى ظن أبواه أنه سيتغير ، حيث الدلال الزائد في التحدث مع الآخرين والنفور من الجميع قد ينقلب فجأة مادامت هذه مرحلة المراهقة فالجميع يتغير فيها .. لكنهما كانا غاضبين لأن طفلهما انقلب شخصاً عنيداً .. لا يدري متى بدأ ذلك ولكنه يتذكر أن في مرحلة مفاجئة صرخ روبرت في وجه ابنه مسمعاً الجيران صوت خطبته :

    "لقد كسرت ذراع بن كورميل لسببٍ تافهٍ كوجهكَ هذا ! "

    لم تكن تلك الجملة الوحيدة التي قالها روبرت لولده ، لكنها كانت الأولى التي دخلت إلى عقل كايدين الصغير ، وأصبح يناقش نفسه بها بينما والده يصرخ بقوة بكلام لم يستطع الصبي استيعابه .
    ( سببٌ تافه ؟ ) متى كانت أسبابه يطلق عليها أنها تافهة ؟ لقد وشى به لمجموعة تكرهه وكاد أن يقع في مصيدةٍ تجعل أكثر من عشرة صبية يتكاتفون للنيل منه ، كان يجب أن يقطع لسانه بالسكين التي يحملها هذا الصبي ، لو كانت أسبابه تافهة لما صمت عليها أهله طوال السنوات السابقة .. ثم لماذا على الجميع أن يكون متمرداً عليه بطريقة توضح حماقتهم ؟ ثم لماذا يصرخ الآن ؟ هو لم يفعل شيئاً خاطئاً .. ذلك الشخص هو السبب ، هو من وشى به ، ماقام به كان أسوأ من أن يجازى بكسر ذراع سيتم وضع جبيرة عليها ويعود كل شيء لسابق عهده !

    " لماذا تفعل هذا بنا ؟! ماذا تريد منا لدرجة تجعلك تتنمر على الآخرين بهذه الطريقة ؟ ألم نشتري لك ما تريدة بالفعل ؟ هل يجب عليك أن تكسر عظام كل أولاد الحي لتثبت أنك القوي الذي لا يستطيع أحد الوقوف في وجهه ؟! "
    ارتفع صوت أبيه وهو يقوم بتأنيبه ولكنه كان في عالم آخر تماماَ ، ينظر إلى الفراغ ويقوم بشحن نفسه بسلبية .. إلى أن أكمل روبرت بعصبية وهو يتقدم إلينه لينكزه في وسطه ويُنبهه إلى ما يقول :
    " فلتسمعني جيداً أيها المتشرد ، ستذهب للإعتذار إلى كل من أسأت إليهم ولن أقبل أي أعذار سخيفة يقولها لسانُك ، أنت أصبحت قذراً في تعاملك مع الآخرين ولن أجعلك تُدمر حياتنا بتصرفاتك هذه ! "
    " لن أفعل ذلك ! "
    أبعد كايدين يد والده بفظاظه .. لقد احترقت أفكاره من اسلوب والده المستفز غير المحبب في الحديث ، إنه يأمر لا يطلب النقاش معه ، لقد نسي لماذا صرخ عليه أبوه بهذا الشأن وكل ماكان مهتماً به هو طريقة كلامه معه ، أيا كان ما يريدُ إيصاله فهو لن يستطيع ذلك بصراخه في وجهه !
    " وأنا لا أسمح لك أن تتحدث معي بهذه الطريقة ، من تظن نفسك ؟! "

    " أنا والدك !! "
    قالها روبرت مدهوشاً ، كان هذا موقفاً متوقعاً في كل المنازل التي يسكن فيها مُراهِقاً ، يتشاجر الوالدين مع ولدهم لمعرفة من المخطئ .. وكل فردٍ في هذا الموقف يظن أنه المحق ، ويجب على الطرفِ الآخر أن يتقبل ما يقوله ، قد يكون هناك عصياناً حاداً ولكنه ينتهي مع الوقت ، رغم تفاقم بعض الحالات .. إلا أن منزل دومينيك قد ابتعد عن حالة الاستقرار ولو بعد فترة طويلة .. كايدين لم ينسى أبداَ اتهام أبيه له ، من إحدى طباعه هو عدم تقبل أوامر الآخرين لا بل انتقادهم خصوصاً في طريقة تعامله مع من حوله ، أو أن يتجاهل تلميحاته بشأن شخصيته المعقدة .. في الحقيقة هو لا يرغب أبداً أن يعترف أن عدم النسيان أمرٌ يضايقه كثيراً .. هو لا يريد لذاكرته أن تُظهر حديث والده فوق رأسه كلما شاهد صورته أو تحدث معه على مائدة الإفطار أو عند عودته من المدرسة ، لقد كان عدم النسيان سبباً في جعله يتحدث إلى من شاجره بإسلوب فظ دائماً .. رغم تعبه من كل هذا انهار أمام الجميع في مدرسته في عمر السابعة عشرة .. حيث أنه ظل طوال السنوات يحمل غضباً وحنقاً على من حوله ..




  8. #487


    كل فردٍ كان يجمع عليه جملاً بغيضة قد قالها له من قبل ، ولهذا انفجر بقوة على آخر سنوات الدراسة الثانوية .. الشك وعدم الثقة لم يكونا الوحيدين الذين ميّزا كايدين عن غيره ، بل عدم النسيان التصق به بقوة ورفض الإبتعاد عنه إلى أن أرهقه ثقل الكُره على المجتمع والحياة بأكملها .
    أمضى ابن روبرت سنوات في اضطرابات ومشاكل اجتماعية كثيرة جعلته ينزوي عن كل من حوله ، لقد قتلته الوحدة ورمته في خوف دائم من أن يؤذيه شخص ما منهم .. لقد كان يظن للحظة أن أبويه هما الوحيدان اللذان من المستحيل أن يبتعدا عنه ، فهما يبغيان أن يكونا عائلة سعيدة ولو كانا مع طفل كثير المشاكل مثله ، وحيث أن كل البالغين لديهم القدرة الكافية لإصلاح مشاكلهم ، حتى ولو كان لا يحب والده كثيراً ويتشاجر معه دائماً .. هذا لا يمنعه من أن يستيقظ سعيداً ولوجود عائلته معه كل صباح في تلك الشقة الكئيبة .. على الأقل كان يملك دافعاً للراحة ، فأبوه يغضب كثيراً منه لكنه لا يترك المنزل ، ووالدته مبتسمة على الدّوام وتقول أن كل شيء على ما يرام لحد الآن ..
    لكن اتضح أن هناك أيام تسأم منها المرأة وتود أن يتغير روتينها .. تتمنى فيها لو أنها لم تكن في الزاوية التي هي فيها الآن ، تشعر ان جدران منزلها نبذتها وحقدت عليها .. حيث أن دورها ليس قوياً لدرجة أنها تسيطر على أي تمايل خَطِر قد يحدث ، ويبدو أن روزي لم تكن تملك الطاقة المناسية لأن تواصل الحياة التي كوّنَتها بإطمئنان ، فسمحت لنفسها في ذلك اليوم ، ذلك الوقت ، تلك الدقائق الهادئة بأن تنجرف تحت تيار رغبتها الشخصية ، و هذه الرغبة كانت السبب الرئيسي بشجار ضج بقوة في الخامس من اغسطس .. عندما كان كايدين في غرفته حابِساً نفسه كالعادة من أجل أن لا تؤذيه المخلوقات في الخارج ، رآى نفسه في خضم صراع مهول بين والديه انتهى بإنفصالهما ..

    لم يظن أنه في حياته كلها سيواجه موقفاً يكون فيه شاهداً على تحطيك أثاث منزل عائِلةس ظن أنها سيعيد في يومٍ من الأيام ، حيث أن لأبيه هذه القدرة الكبيرة بأخذ الأغراض وتكسيرها ، كذلك والدته الغاضبة التي ل تمنع نفسها أبداً بأن تقول كلمات قاسية موجهه إليه في حين أنها تتمنى ولأول مرة أن ولدها لم يولد قط :
    " كل هذا بسببك أنت ، ليتني لم أنجبك أيها الفاسد اللعين كل ماحدث كان بسبب أفعالك السوداء ! "
    جثمت مشاعر الصدمة على ملامح وجهه وهو يرى والدته تعنّفه وتتهمه بإفساد حياتها التي كانت تقول عنها دائماً أنها ليست بذلك السوء .. والأوضاع لم تتفاقم للحد غير الطبيعي بعد ، لكن كان متأكداً أن لكل شيء في هذه الحياة حداً معيناً وبعد أن يتجاوز الحد المسموح له بالصبر والتحمل ينفجر أمام الجميع كما حدث له قبل سنة من الآن .. من الواضح في تلك الفترة أن والدته قد خانت أسرتها السعيدة .. حينها وبعد أن فقد كايدين أمه التي كان واثقاً أنها لن تبتعد وتَهدِم الإعتماد الذي أعطاه إياها بنفسه .. شَكّ في والده أنه لن يفعل ذات الأمر .. وعلى أية حال لم تكن علاقتهما طيبة من الأساس .. لهذا بعد أن اختفى من المنزل فرد أساسي .. قرر كايدين أن يغادر هو الآخر بعد أن أنهى دراسته الثانوية بصعوبة بالغة ..لم يدفعه روبرت للبقاء ولم يجادله بشأن ذلك .. فقط كلمات وداعٍ باردة في إحدى الليالي غير المذكورة في عقله .. لم يُدِر رأسه لرؤية ملامح أبيه ، ولم يعرف ما الذي يشعر به أيضاً .. هل كان حزيناً ؟ أم أن كل شيء لم يثر اهتمامه وهو يملك خُططاً في عقله لبدء حياة جديدة على أية حال ؟
    لكن مثلما كان روبرت غير مبالٍ فكايدين أيضاً لم يعر أدنى اهتمام بوداعِهِ لبيته ولعائلته المُفككة .. أعطى نفسه وعداً أن حياته ستكون جيدة من بعد انتهاء مشاكله العائلية ، لكنه لم يلاحظ تلك الظلال السوداء التي تتتمايل مع كل حركة يقوم بها بقصد التقدم للأمام .. تُحاصره أيما محاصرة وترفض التخلي عن هدف عرقلته .. هو لم يكن يلاحظها أبداً وذك بسبب غروره أنه على صواب دائماً .. هو على صواب بإبعادِ الناس من حوله ، رمي أي شخص يخطئ ولا يعطيه فرصةً ثانية ، لا يتحلّى بالغفران والمسامحة إلى أن انتهى به المطاف بأن يكون وحيداَ .. هو على حق بأن يشك في كل حركة ، هو ليس مريضاً أبداً ، إنه مُعافى من أي شيء عقلي يتّهمه به هؤلاء ، البَشَرُ هم المرضى وإن لم يعالجهم بفضح نواياهم السيئة فسوف تتوسع دائرة الأخطاء .. هو كان مملوئاً بهذه العبارات إلى أن نفى أصل سُلوكِ البشر من أمام عينيه .. من الطبيعي أن يُخطئ الناس وخطأهم ليس شرطاً لأن يكونوا مذنبين تماماً ، وليس الجميع سواسية أبداً .. ليس الجميع مجرمين يمتلكون ماضٍ سيء وتربصون به هو فحسب ، هذه الأفكار التي تدحَضُ معتقادته المسمومة لم يفكر فيها من قبل إلى أن تشبعت عيناه بالشك في كل شيء وكل شخص وكل مخلوق ..
    فكّر في بؤس أنه كان واثقاً من ذاته ، اتضح أن وحدته كانت سبباُ في زرع المزيد والمزيد من الآثام على قلبه وروحه .. لا يوجد أحد يعارض ويَنكُرُ له تلك المسائل والنظريات التي تنفي حماقاته .. لا وجود لمن ينصحه أو يتحدث معه على الأقل بما في صدره .. في النهاية اقتنع أنه ليس بحاجة إلى أحد ، لكن بقايا ذاته النقية القديمة كانت تستنجد .. هو بالتأكيد يحتاج رفيقاً ، وصديقاً ، يحتاج أباً ويريد معانقة والدته أيضاً لتهوّن عليه ما يجري ، لكن كل هذا صعب المنال في بيئته ، ما الذي يجب على الأشخاص أن يفعلوه إذا وقفوا في منتصف الطريق شاعرين بالحيرة ؟

    هناك مَرّة تخطر على باله فكرة الإبتعاد بقدر المستطاع عن هذه الحيطان المُرعبة التي تُصدر همهمات وأصوات تجلب الرعب في داخله .. الغرفة بدت كسجنٍ عليه أن يحضره يومياً .. وفي النهاية تحولت أيامه إلى روتين لا يُحتمل ، روتين قاتل لكل الأفكار والإبتكارات التي أي انسان يستطيع القيام بها .. جرب أن يصرخ بأعلى صوته طالباً المساعدة .. لكن صوتاً عالياً لم يخرج من حنجرته ، كلما استطاع فعله هو تنهيدة محترقة .. متعبة وواهنة لا تُثبت إلا ضَعف قوته الذاتية .. لقد انتهى ، أين يريد أن يطمس شخصية ( كايدين دومينيك ) التي لا يعرف ما السبب بعد في دخولها لهذه المأساة .. يا ترى ما سبب كل هذه المصائب ؟ والدته ؟ ام والدته غير المهتم ؟ المحيطُ الأخرق الذي يعيشُ فيه ؟

    " أنت كُلّ سبب هذه الإخفاقات ! "

    صرخ المدير في وجهه وعيناه تقدحان شرراً عظيماً يرغب بتمزيق ذلك العامل الذي يقف أمامه .. لم يستطع أن يجلِسَ على كُرسيّه الجلدي فوقف وصرخ مجدداً :
    " ألا تستطيع التمييز ؟! هل أنت أحمق ومغفل لهذه الدرجة ؟ ثلاثةُ ملايين دولار كان بإمكاننا الحصول عليها !! "
    تنفس الصعداء ونعق كالغراب وهو يدور حول مكتبه :
    " لماذا تفعل هذا بي ؟ هل هذا جزائي لتوظيف شخصٍ مثلك ؟ ألا تستطيع عمل شيءٍ واحدٍ فقط ؟! "
    فكّر كايدين أنّ ذلك بسبب وجودِهِ في المكان الخطأ دائماً ، لكنه لم يستطيع الردّ على اعصار مديره الذي يكادُ أن يُفتّتَ كيانه .. ولازال المدير يدور بعصبية وهو يرغي ويزبد :
    " أجل أنا السبب .. ماكان علي توظيـ .. لا ، ماكان عليّ الوثوق بشخص مثلك أبداً ! ماذا تستطيع أن تفعل غير تخريب أعمال الآخرين ؟ قل لي ؟! "

    فتح كاديدين فمه ليجيب ، لكنه لم يَجد أي إجابةٍ مقنعة وجيدة .. إنه لا يجيد فعل أي شيء غير الشجار ، وإغصاب الناس العصبيين كمديره .. والبقاء وحيداً فقط ، وقف المعني أمام وجهه :
    " لا تملك أي جواب ؟ بالطبع لا تملك لأنك نكرة حتى مُنظّف ملاعب كثيرٌ عليك ! أنت لا تملك أي شيء ، أي موهبة أو ذرّة كرامة تستطيع بها اثبات قدرتك على العمل ! "
    أدار جسده وبقي ملتصقاً في زاوية الغرفة يندب حظة :
    " ثلاثةُ ملايين لم تستطع الظفر بها ، أتعرف كيف كان بإمكاننا الإستفادة منها بزيادة رواتب الموظفين وزيادة العُمّال ؟ ( همهم كشخص مصاب بالمسّ ) لكنني كنت مخطئاً بإرسالك .. كنتُ اعتقد أن شخصاً مصاب بالبَرانويا قد يعرف كيف يتصرف في التساوم على المعلومات "
    انهار على كرسيّه أمام دومينيك الذي وقف بتقطيبة منزعجة ، هو ليس مصاباً بجنون الإرتياب ! ما الذي يُخرّف به مديره الآن ؟! كان يتأمل حالة مديره العقلية التي تتدهور من سيءٍ على أسوأ والتي تنذر أنه سيصاب بنوبة هيستيرية قريباً ، قطع حبل أفكاره جملةً قيلت في الهواء بكل هدوء مُنذرةً بالخطر :
    " اغرب عن وجهي كايدين ، لا تُريني نفسك إلا بعد أن أطلبك ، اعتبر أنك في إجازة طويلة من الشركة .. اخرج من هنا قبل أن أرتكب فيك جريمة وألوّث يديّ بدمائك "

    وقبل ان يُدرك الوقت ذلك بدقّاته المُنظمة كان كايديدن ـ بسرعة خاطفة ـ خارج المكتب ينظر إلى وجوه الموظفين .. التي كانت مختلطة ما بين اللامبالات والإنزعاج ، رفع همّتَهُ بأن يبتعد من هنا بأسرع وقت ممكن ، لم يتوقف من أجل تأمل وجوه العاملين هنا ، وليس من أجل توديعِ أحدٍ بالطبع .. فهو في نهاية المطاف شخص متفرّد بنفسه فقط ، ومن بقي هنا في هذا الطّابق لم يهتم قط بمن يكون كايدين دوميمينك .. للحظة ذكّره هذا الموقف بمغادرته لمنزله ، هذا المكان قد لا يعود إليه بعد اليوم رغم ذلك لم ينظر إليه شخص ما نظرةً أخيرة .. الأمر كما حدث تماماً مع أبيه ، والده لم يحدق فيه أو يودعه .. لم يهتم قط ، هو متأكد من ذلك بشكل جيد ..
    تعلقت دموع صغيرة في عينية .. رفع كأس النبيذ وشرب ملئ فمه وهو يصرخ باكياً وجه النادل الذي أمامه ، حيث أنه كان غير مبالٍ كما العادة :
    " أنا لم أزعج نفسي قط بالشعور بالحزن على هؤلاء الحمقى .. إذن لماذا الآن ؟! "

    لم يعد يفهم نفسه القديمة ، ولم يعد يعلم لماذا أصبحت حسّاسةً لهذه الدرجة البغيضة ، الأمر يؤرقه ويجعله غير متوازن في داخله ، لقد كان مرتاحاً عندما يتجاهل كل شخص يمر عليه ، لقد كان يَفرَحُ عندما يجد عذراً مناسباً لشكّه فيه وسبَبٌ مؤكد لأخطاء الغَير التي تجعله ينفر منهم .. أما الآن فهو لا يعلم أي كارثة حلّت بعقله .. إنه لا يريد نبش ماضي البشرية بعد الآن .. لا يريد معرفة أخطائهم .. داعماً قراره أنه يريد البقاء معهم لأطول فترة ممكنة فقد تعب من سماع صوت أبواق السيارات وصراخ العالم في الخارج وهو في صومعته !
    " أنا وحيد .. لكنني لا أريد أن أكون كذلك ، رغم خوفي بأن يأتي شخص ويقوم بتخريب هذه المشاعر كالمدير المتخلف ! "
    شرب الكأس الخامس ووجه تتغيّر ألوانه بخطورة ، رفع يده أمام النادل وقال له بعصبية :
    " لماذا انت واقف كالتمثال ؟ صُبّ لي المزيد ! "
    في تلك الدقائق البطيئة بالذات فُتِحَ بابٌ من جانب الطاولة التي يشرب عليها كايدين ، وما إن تلاقت أعينه مع أحداق صاحب الحانة الفارغة هذه حتى صرخ الرجل مقهوراً :

    " أنت مجدداً ؟!! ألم أخبرك أن لا تعود إلى هنا إلا بعد أن تدفع ما عليك من ديون للمحل ؟!! "

    لم يهتم له كايدين وطالت مدة طلبه للكأس السادس ، بصراحة لم يعرف النادل أيصب له المزيد أم يتجاهله ـ لأنه موظف جديد هنا ـ ، لو كان قديماً لعلِمَ بتردد الزبون المستمر لهذه الحانة وكيف أنه معظم الأوقات يأتي ليشرب بجيبٍ خالٍ من النقود ، ولهذا لن يعطيه قطرة واحدة من خمر هذا المكان ، لكن لأنه شخص قد تم توظيفه للتو كما أسلفنا ، وقد مد القارورة الزجاجية الداكنة وكاد أن يملأ كأس كايدين حتى النهاية لولا صراخ المدير عليه :
    " لم تصب له أنت الآخر ، إنه لن دفع لن يدفع ! "
    دفع الرجل النادل بكل ما أوتي من قوة فسقط الشاب المسكين مذعوراً ، بينما ساد الضجيج المكان من نداءات الشّاب الثّمل :
    " إملأ كأسي وصب لي ! "
    مد يده اليمنى التي لم تستطع الثبات في مكانها ، وعندما طفح الكيل من صاحب المكان أمسكه من ياقته ورماه في الشارع أمام بقية الخلق وهو يتحدث بصوته العالي المزعج :
    " لا تأتي إلى هنا مجدداً ، ابحث لك عن حانة أخرى تفرغ خمرها مجاناً !! "

    لقد كان كايدين مقتنع تماماً أن يومه لا يمكن أن يكون أسوأ من ذلك ، ولأنه لم يكن يكن واعياً أبداً لما حوله فترنح واقفاً عندما فقط أراد أن يتقدم اتضح أن صاحب المحل قد رماه في وسط الشارع .. وهذا كان سبباً رئيسياَ لأن تأتي تلك السيارة البيضاء وتضربه .. لم تكن الضربة قوية لتلك الدرجة لكنها كانت كافية لأن يسقط على الأرض مستلقياً وشهقات الناس من حوله تعلو ، شيئاً فشيئاً بدأ الظلام يزحف إلى عينيه الخضراوتين ، وشعرهُ تُحرّكه رياحُ الصيف الحارّة قد استأنس أخيراً بإستلقاء سيّده وهدوءه التام .. ولو كان ذلك في منتصف الشّارع بعد تصنيف هذه اللحظات من ضمن حادِثة مروريّة سببُها شخصٌ غير واعٍ من النّبيذ الأحمر .


    148611416948771


    اخر تعديل كان بواسطة » أُنسٌ زَهَر في يوم » 03-02-2017 عند الساعة » 09:31

  9. #488


    " ماذا يعني هذا دانيال ؟ "
    بصوتٍ مرتجف من الدهشة تحدث ليونارد الذي جلس معتدلاً بسرعة ، بينما دانيال ينظر بحيرة إلى الشارع المقابل لهما .. كانا يخططان للذهاب في أول يوم لهما إلى شارع جورج سانت جون المليء بالمحلات الراقية ذات الأسعار النّارية طبعاَ من أجل شراء الهدايا للأشخاص الذين يعرفهم سيّدُه .. رغم أنها رحلة عمل إلا أن دانيال وليونارد أرادا الكثير من المرح ـ بالأحرى ليونارد من رغِب بالإستئناس فحسب ـ لكن دانيال قال أنه لا ضَرَرَ من التسكع هنا وهناك بِما أنهما وحيدين ولا أحد معهما فاعتمدا جهاز تحديد المواقع ، لكن المصيبة بعد أن مشيا ساعتين بالسيارة ضلّا الطريق !
    " لابُد أنك أخطأت في كتابة العنوان ! "
    اعترض خادمه وهو يريه شاشة الجهاز :
    " لم أُخطئ في شيء ، لابد أن الشارع تغير "
    " كيف تغير أحد أهم شوارع كندا ! هل نقلوا محلّاتهم إلى مكانٍ آخر ؟ هذا معلمٌ سياحيّ وليس مبنى حكومي .. حتّى المباني لا تتغير منذ يومٍ وليلة ! "

    لم يرد عليه دانيال .. نظر إلى الشارع أمامهم ، لقد كان مكتظّاً بالسيارات والعمارات السكينة من حوله .. شُقق صغيرة ومنازل ملوّنة .. لم يبدو أنهم في حيّ غنيّ ولا فقير كذلك ، لكن ما يعرفونه هو أنهم ضلّوا الطريق فقط .. كانت الشمس مشعّةً بحيوية ، السّماء ساكنة فوقهم تثير رغبة الإستمتاع .. قال ليونارد فجأة وهو ينظر من حوله :
    " إما هذا أو أن شركة أولير أعطتنا جهازاً معطّلاً من دون قصد "
    " لا يمكن لشركة كبيرة كالتي يمتلكها أولير أن تمنح عُملائها جهازاً معطلاً ! "
    احتجّ عليه سيده وهو ينظر إليه مباشرة :
    " سببان لِضَياعنا لا ثالِثَ لهما .. إمّا أنك أخطأت المُنعَطَف أو ان الجهاز معطل ! "
    " او تغير الشارع "
    " لا يمكن لهم أن غيروا أهم مكانٍ سياحي !! "
    تشنج ليونارد بعصبية وهو يسحب الجهاز من النافذة الأمامية ، لم تكن السيارة البيضاء متطورة لدرجة تجعل خِدمَةَ تحديدِ المواقِع في داخلها مباشرة لهذا لم إعطاؤهم صفيحة مُستطيلة الشّكل ذات برمجة جيدة ، إلا أن هذا لم يساعدهم أبداً كما يبدو ..

    " إلتف حول المكان لنجد الشارع الرئيسيّ .. لا أريد أن أقضي كل النهار في البحث عن جورج سانت جون ( أكمل بنبرة متذمرة وهو يحول عينيه للأعلى ) لو أننا جلبنا معنا مُرشداً من الشركة "
    " لا أنا ولا أنت نحبّ ذلك ، تعرف تماماً أننا لن نرتاح بوجود طرف ثالث يستمع إلى ما نقوله "
    سكت ليونارد لعدّة دقائق ، أمسك هاتفه وأخذ يعلّق فيه رادّاً على عدّة رسائل قد وصلته من أقربائه أو أصدقائه ، بينما دانيال ينظر إلى الشّوارع بتركيز .. كل طريق كان يوصلهم إلى شارع فرعي وليس عام ، العديد من المحلات الكبيرة والصغيرة والكثير من الناس حولهم يتمشّون في نُزهةٍ قصيرة أو إلى أعمالهم .. شَرَد السّيد مُراقباً الطريق والقلق بادٍ على وجهه ، هناك شيء آخر يؤرّقه ويضيق سكينته .. اختلس النظر إلى خادمه الذي يسوقُ بهدوء .. أراد أن يتحدث لكنه كان خائفاً من تخريب مزاج مرافقه ، إلا أن ما بداخله أولى بالنسبة إليه .. ففتح فمه وبدأ حديثه :
    " أولير آندريج كان يحاول بإستماتة أن يعرف من أين أتيت "
    تجهّمت ملامح الخادم وازدادت قبضته صلابة على مقود السيارة .. لم يحرك عينيه أو ينظر إلى وجه سيّده .. كل ما فعله هو إكمال المسير ، ولأن لم يُرد أن يتشاجر من دون داعٍ أو يُظهر غضباً حادّاً فجأة لأن ذلك سيبدو غريب أطوارٍ إلى حد بعيد ووقِحاً بشدّة .. استجمع شتات نفسه التي تناثرت من الجملة التي سمعها للتو وقال بصوت جاهد أن يكون غير مبالٍ بالموضوع :

    " وقد كان له ما يريد .. فقد أخبرته أنني من نافار "
    شعر ليونارد أن رسالة دانيال التي كانت تقول ( أنا لا أهتم ) قد وصلت إليه بوضوح .. لكن لا .. هو لن ينهي الأمر عند هذه الجملة ، في الحقيقة عندما فكّر ليونارد مستقبلاً في الموقف الذي يحصل الآن اتضح لديه أنه كان بإمكانه أن يتنازل عن ما يريد قوله حينما رآى برود دانيال وعدم مبالاته برغبة أولير المُلّحة في معرفة ماضيه .. لكنه لا يريد أن يتجاهل الأمر ، هناك شيء في عقله يرغمه على المواصلة ، أدرك أن حديثهما سينتهي بشجارٍ آخر ، لكن لا بأس .. سيُفرغ استيائه من والده الذي لا يتحدث عن الأمر أبداً في وجه دانيال الذي له يدٌ في الموضوع ولن يندم على ذلك !
    " ألا ترى في الأمر غرابة أن يسألك المدير شخصياً ؟ "
    " حسنا الأمر محير .. عندما نعلم أن المسؤولين الكبار يثير اهتمامهم مكان ولادة عُملائهم "
    احتَدّت نبرة ليونارد من بعد سماع ردّ دانيال عليه .. إنه يود أن يغير الأمر من ( ماضي خادمه ) إلى ( ماذا يثير اهتمام رجال الأعمال ) وقد أغضبه ذلك بشدّة فجعله هذا يردّ بعنف :

    " لا شيء يجلب الحيرة هنا ، هو لم يسأل عنّي أنا ، بل سأل عنك أنت ! الخادم الذي جلبه رولاند ماكسويل بعمر الثامنة ... "

    قاطعه خادمه بنفاذ صبر وهو يهوّن الأمر من أجل إسكات سيّده :
    " لا تُكبّر الموضوع .. أولير لا يعرف أنني كنتُ موجوداً منذ الثّامنة ، أشُكّ أنه يعرف أنني خادِمٌ أصلاً ! "
    " لا تَخدع نفسك دانيال فهو بالتأكيد يعرف ، لقد قال أن إيفا إليارد تتحدث عنك كثيراً ( أضاف بحدّة ) لقد سأل والدي عن مكان إقامتك في السّابق ! "
    تنفّس الصّعداء طالباً التّحمل .. إن سيّده يتعمد أن يقوده للجنون ، إنه يكره الموضوع لهذا السبب تماماً .. سيده لن يصمت ، بل سيظل يسأل إلى أن يصرخ دانيل في وجهه ، هنا سيكفّ ليونارد ويتعلم الصمت .. تحرر اللون الأخضر المُحترق نتيجةً لغضب دانيال .. فسأل بسرعة وعيناه المتّسعتان تحملقان في وجه سيّده :
    " وماذا في ذلك ؟ فليسأل ! .. الرجل يريد أن يعرف كيف تم توظيفي ، أوليس هذا طبيعياً ؟! "

    " ليس طبيعياً إذا لم يُجب والدي على هذا السؤال ! ومن الواضح أنه لم يفعل لهذا أتى ليسألك أنت ..أتريد أن تُهوّن الأمر وأنت الذي تُخفي شيئاً ولاتريد أن تُفصح عنه ؟! "
    شعر دانيال وكأن دمه يغلي من القهر .. لم يُفكر في أمرٍ آخر سوى أنه جحد ليونارد بنظرة غاضبة تقدح شرراً .. وكأنه أراد أن يُمزّق سيده تمزيقاً فقال من بين أسنانه بحدّة :
    " ستتشاجر الآن ؟! أأنت مُتأكدٌ أنكَ تريدُ أن تفعلَ ذلك في هذه اللحظة ليونارد ؟ "
    " لم أكن لأفعل لولا تصرفك اليوم .. "
    قاطعه المعني صارخاً في وجهه :
    " أي تصرف ؟! أن أجيب على أولير بكل صدق عن مكان نشأتي ؟! "
    " هو لم يرد أن يعرف أين ولِدت ، هو أرادَ أن يَعرِفَ كيفَ استطاعَ والدي جَلبك ، سؤال توم سيزار كان في محلّه تماماً ! "
    " ماذا تريدُ ان تقول ، أخبرني بما يجول في عقلك من دون أن تتفوّه بتلميحاتٍ لعينة "

    لقد كره أن يُلمّح ليونارد لما يفكّرُ به ويريدُ إيصاله ، خصوصاً إذا كان هو غاضباً ويودّ أن يحطم رأس سيده لتدخله في هذه الأمور بكل إلحاح !
    " أريد أن تكف عن إخفاء الأمور ! أنا مغتاظ لأن أولير سألك عن شيء أنا كنت أحومُ حوله لسنوات ! "
    " أنت تعرف مكان ولادتي ، أنا لم أقل شيئاً جديداً عليك ولن أفعل أبداً "
    " هذا ليس المقصد من السؤال .. "

    توقفت السيارة فجأة وقطعت بها حبل أفكار ليونارد وعصبية دانيال .. شحب وجه السيد وهو يراقب جسد الشاب في الخارج يترنح ساقطاً على الأرض مُمَدّداً من دون حراك بعد أن ضربت السيارة جَسَدَه .. كذلك تجمّدت الدماء في عروق دانيال الذي كان يسوق بغضب :
    " دانيال ما الذي فعلتَه ؟ "
    " ليس أنا ، هو رمى بجسمه على السيارة ! "
    دافع عن نفسه وخرج بسرعة ليتفقد الغريبَ الذي كان وجهه مواجههاً للسماء فاقِداً للوعي ، ولأن السائق كان متعكر المزاج زجر الرجل بفظاظه ناظراً إليه :
    " هي أنت .. إن أردت الإنتحار ففعل ذلك فوق إحدى البنايات ولا ترمي بنفسك أمام سيارتي ! "
    " هل تأذّى ؟ "
    سأل ليونارد قلقاً وهو يقف بجانب خادِمِه .. تنهد دانيال بحدّة واقترب من وجه الشّاب .. لاحظ فوراً رائحة الكُحُول المنبعثة منه ومن ملابسه .. لم يبدو أنه أشفق عليه عندما رُمي أمامه وضربته سيارته خطأً .. وبَعد معرفة رائحة الخمر تسللت مشاعر البرود إلى كيانه .. فانقلبت ملامحه من الغاضبة إلى غير المهتمة بسرعة :
    " هذا الفاشل مخمور .. "

    " لنذهب به إلى المشفى "
    اقترح السيد فاحتج مرافقه بضيق :
    " إنه ثمل ! "
    " أجل ولكننا صدمناه .. أنت لم تفعل ذلك بقوة أوليس كذلك ؟ "
    ردّ عليه دانيال بهدوء وهو يراقب الناس تنظر إليهم بفضولٍ وخوف :
    " لا .. لقد توقفت في الوقت المناسب "
    " إذن ضعه بداخل السيارة ولنذهب لأقرب مركزٍ صحّي "
    عبس دانيال بشدّة وهو يتلقى الأمر بصوت ( شيءٍ لا يمكنك رفضُه ) ، توجّه إلى الشاب فاقد الوعي وأمسكه من كتفيه رافعاً إياه بعدما أحاط نفسه بذراع الأخير .. تمتم متذمراً في أذن المعني بقهر :
    " تقيأ في السيارة وسوف تموت "
    وكأن الحادثة أتت في وقتٍ مناسب تماماً .. في حين أن الإثنان كادا أن يتصادما من العَصبِيّة كان هذا الشاب الثمل يواجه صعوبة في الوقوف بإستقامةٍ بعد أن تم رميه من الحانة بحجة عدم الدفع والإزعاج في وسَطِ النهار .. هدأت مشاعرهما وتناسيا الموضوع الذي كانا يتناقشان فيه .. وفي لحظةِ سكونٍ لم تدم إلا دقائقَ قليلة قال ليونارد بضيق :

    " أيّ حظٍ شيء هذا الذي صادفنا اليوم ، صعوبة الإتفاق مع فريق أولير ، ضياعنا في هذه الشوارع ثم اصطدامُنا برجُلٍ ثمل ( تسائل وهو يختلس النظر للشاب الممد على مقاعد السيارة الخلفية ) هل ضَرَبَنا النحس يا تُرى ؟ "
    " أعتقد أنه ليس من العدل أن تضع طاقم عمل أولير في قائمة الحظ السيء الذي واجهنا اليوم ، فعندما ننتهي بالنجاح سنتذكر ماحدث سابقاً على أنه دُعابة ولو كانت من النوع الثقيل .. كل شيء يَهون إذا انتهى بك المطاف بالوصول إلى ما تريدُ ( أضاف وهو يبتسم ببساطة ) أجمل ذكرياتٍ هي اللحظات المريرة التي تنتهي بالسعادة .. كلما كان الطريق صعباً كلما تلذذتَ بفرحة الإنتصار "
    " لا أُصدق أنك تعطي فلسفة تجاه أمورٍ كنتَ تتذمر بِشأنِها سابقاً ! أتود أن تُبيّن للعالم أنني الشخص السيءُ هنا ؟ كما أنني لا أتحدث عن الصعاب أيها المُفكر المثقف ، أنا أُلمّح عن الحظ السيء ! "
    " أنا لا أُؤمن بالحظ .. بل بالقدر "
    انفجر ليونارد ضاحكاً وهو يننظر إلى دانيال الذي اختتم كلامهما بوجه شبيه بالفلاسفة الممتعظة وجوههم من فَرط الهم والحكمة .. قال من بين ضحكةٍ قطعتها سعلة هاربة وهو يمسح دمعتين فرّتا من عينيه :
    " يا ربّي .. أصبحت شبيهاً بدنيس ديدرو "

    تجاهل دانيال سخرية سيده وأوقف السيارة بجانب باب المشفى .. قال وهو يستعد للخروج بينما يلقي نظرة أخيرة على ليونارد الذي كان مبتسماً بخمول :
    " سآخذ هذا الشاب للمركز ، أضَعُ السيّارة بين يديك إتفقنا ؟ "



  10. #489


    أومأ إليه الأخير موافقاً وانتظره إلى أن دخل مع الرجل إلى الباب الذي فُتح تلقائياً .. انتقل بعدها لمقعد السائق وأدار السيارة بكل هدوء ليضعها بجانب الأخريات في المكان المُخصّص لها .. وقف في السّاحة يتأمل المكان ثم نظر إلى ساعته .. كانت تشير للسادسة والنصف .. بقي القليل على غروب الشمس في كندا ، وها قد ضاع نهارٌ بلا فائدة فقط في البحث عن شارع مغفل والبقاء في مركز ليس من المفترض عليهم زيارته .. لماذا انتهى اليوم تقريباً بطريقة الأفلام المكسيكيّة ؟!

    " ألن يكون درامياً لو صدمنا فتاة حسناء ثريّة ؟ "

    فكّر بإستخفاف وهو يدور حول المكان ناظراً لِبُقع الأشجار الخضراء والحشائش الطويلة التي تُزيّن أطرافَ سورِ المشفى .. فكّر أنه سيكون من الظريف أن يشتري شيئاَ يشربه ، فتقدم لأحد المحلات التي لم تكن بعيدة عن المبنى ، محلّ متواضِعٌ هو الذي كان يحتوي على عدّة آلات ، واحدة للمثلجات والأخرى لحلوى تقليدية .. بعض الفواكه المصفوفة على الطاولة بعيداً عن نافذة الإستقبال .. كان مكاناً بسيطاً يَحمِلُ شعار دبٍ أبيض ظريق ، عُلّقت على جدرانه الكثير من الإعلانات أكبرها كانت ورقة طويلة تصل إلى مترٍ واحد ذات لون وردي تحتوي على قائمة المشروبات وما يقدّمه البائع .. فكّر ليونارد أنه سيكون من اللطيف شراءُ شيئ ما من هنا ، ففتح محفظته وبدأ بقرائة الخيارات وتقليبها في عقله .
    كان دانيال في تلك الفترة مستنداً على جدا المُستَشفى في الطابق الأول .. ينظر لحديقةٍ داخليّة منتظراً قُدومَ سيّده .. وبعد نصفِ ساعة كان هناك اتّصال من ليونارد سأل فيه عن مكان خادِمِه .. سيطر عليه السكون مجدداً شاعراً بالإستقرار وحده .. لكن هذه الخَلوة البسيطة قُطِعت عندما قَدِمَ ليونارد بكوبين متوسطين الحجم يحملان في جعبتهما عصيراً ما ..

    " ماهذا ؟ "
    سأل دانيال وهو يتناول كأساً قدّمه ليونارد .. فرد عليه الأخير ببساطة :
    " عصيرُ شمام بارد مع مُثلّجات الفانيلّا "
    كان السيد متحمساً وهو يضع القشّة في الغلاف العلويّ ويشرب مستمتعاً بطعمٍ سلس ولطيف بارد مع تلك النكهة المُضافة ، ضحك دانيال على وجه ليونارد الذي يصلح أن يكون في لوحة إعلانات .. وشرب القليل منه شاكّاً أن لا يعجبه ، لكن سرعانما أشرق وجهه .. عليه أن يعترف فكل شيء يختاره ليونارد يكون لذيذاً ، إن لديه ذوق فريدٌ في اختيار الأطعمة الجيدة !
    " ولكن من أين جلبت هذا ؟ "
    سأل بفضول وهو يراقب وَجه سيّده .. ردّ عليه ليونارد بسرعة :
    " بجانب المشفى يوجد محلّ لبيع العصائر والحلوايات المحليّة ( صمت للحظة مغييراً تعابير وجهه وهو يراقب دانيال الذي استحسن طعم عصيره ) هذه رشوة "
    علّق عليه بسخرية وهو يرفع حاجبه مستنكراً هذه النية غير المألوفة :
    " ومنذ متى كنت تُقدّم لي رشوة لأقوم بعمل ما من أجلك ؟ "

    أخفض ليونارد عينيه واستند على الجدار بجانب خادمه ، لم يُرد أن يكون درامياً لكنه في الوقت ذاته لا يريد لمشاعره أن تتلبد تجاه خطأ قد اقترفه في السيارة بلحظة غضب :
    " أردتك أن تُسامحني .. أنا لم أقصد أن أتشاجر معك ( علق بمضد مُصححاً ) ليس تماما على الأقل ، لكنني كنتُ مُستاءً مما حدث "
    كان المعني يستمع وفي حاجبيه تقطيبةٌ تدل على ضيقٍ في نفسه .. بعد أن أنهى ليونارد ما قاله معتذراً بشكل غير مباشر ردّ عليه هو بهدوء :
    " المهم أن لا يتُكرر الأمر ( أكمل بنفس الوتيرة وهو يشرب من كوبه ) فأنت تعرف مقدار كُرهي لهذه الأسئلة "
    خيم الصمت عليهما بعد الانتهاء من هذه المحادثة القصيرة ، لم يكن يُسمع في تلك الدقائق الجامدة سوى سير الأطبّاء وحديث المرضى الذين من حولهم .. دانيال استطاع الشّرود في عوالِمِه الخاصة بكل سرعة ومن دون أي جُهد ، فقد كان عقله مزدحماً بالكثير .. بينما الشخص غير المرتاح كان ليونارد ، الذي راقب طفلا يجري لوالدته التي كانت تقف بجانب غرفة الأطباء تنتظر دورها .. ثم إلتفت لطبيبٍ شائب الرأس يتحدث مع أحد الممرضين .. نظر إلى الزجاج الفاصل ما بين الممر الواسع الذي يقف فيه وتلك الحديقة الداخلية التي تحمل شجرة جذعها متموّج أسفلها حشائِشٌ خضراءَ فاتِحةُ اللون .. حَدّقَ إلى خادم بعدها سائلاً إياه :
    " ما الذي قاله الطبيب بشأن الرجل ؟ "

    " لقد فقد الوعي من الكحول ، وضربة السيارة سببت له كدمةً بسيطة في جنبه الأيمن لا أكثر ، ثم طلب مني أن أنتظر إلى أن يستعيد هذا الشخص وعيه ( أضاف بعد شُرب القليل من عصيره ) فلنُعطه بعض النقود ولينتهي الأمر "
    " لكن لماذا تقترِحُ التسوية المادية ؟! "
    علّق ليونارد سائلاً بضيق وهو يحدق بالباب الذي من المفترض أن يكون فيه ذلك الرجل الثمل فأجابه دانيال :
    " أتعتقد أن هؤلاء الأشخاص الذين يثملون في النهار غير آبهين بأعمالهم سوف يهتمون إذا اعتذرت لهم وطلبت الصفح منهم ؟ إذا كانت هناك فرصة لسحب أموالك فسيعملون على ذلك من دون مراعات لمشاعرك الشخصية ( أكمل بغموض وهو يتحدث بصوت شبه هامس ) أنت كنت في موقف مشابه لهذا في الماضي ، لماذا لا تأخُذُ العبرة من مشاكِلكَ السّابقة ؟ "
    دافع ليونارد عن أفكاره الشخصية من دون أن يرفع صوته لأنلّا يلفت ننتباه المارّين من أمامهم :
    " لكن هذا مُختلف ، كما أنها مجرد كدمة ، لم لا نُجرب حظّنا ونعتذر بأدبٍ من دون اعطائه نقوداً ؟ "
    " لا يُمكنك اعتماد الحظ في موقف مثل هذا ، الأشخاص الآخرين الذين ستتعامل معهم وتحادثَهم يكونون من اختيارك أنت ، عبر سِماتٍ أنت تحددها في عقلك من دون وعيٍ منك ، لهذا النظرة الأولى مهمّة .. إنها تحدد ما إن كنت ستعود للتواصل مع الفرد أم لا ، أتتوقع أنك ستحسن الإختيار في كل مرة تجرب فيها حظّك ؟ هل هذه لعبةُ نرد ؟ "
    لم يبدو لليونارد أن دانيال فهم قصده جيداً .. حاول التوضيح وهو يعتدل في وقفته ويرمي كوب عصيره الفارغ في الحاوية في ركنٍ قريبٍ منهم :

    " لا تخلط المواضيع ، حتى النظرة الأولى لا تحكُم على الأشخاص ، عليك بالحديث معهم لتعرِف هل ستتأقلم شخصيتك وترتاح في مقابلتهم مستقبلاً أم لا ، أنت تحكم كثيراً قبل أن تتحرك وهذا أمر خاطئ ! "
    " وهل ما تفعله حظرتك هو الصحيح ؟ على الأقل أنا آخُذُ بالأسباب ... "
    قاطعه ليونارد بثقة :
    " وأنا أظن ظنّاً حَسَناً ( فكّر بعد تقليب نظرية خادمه في عقله لفترة وجيزة ) ومن يدري ، قد يكون دمجهما هو الخيار الأمثل ، عليّ تقييم الشخص مبدئياً وأخذ الحيطة والحذر كما تفعل .. لكن في المقابل عليك أن تتعلم أن ليس كل شخص تبدو عليه الخُشونة هو قاسي القلب ، وليس كل من يمتلك ملامحاً ودوة يكونُ لطيفاً ! ( أكمل مبتسماً ببساطة ) لندمج الطريقتين وسنحصل على نتائج طيبة .. ثم من يعلم ، هذا الشخص الذي تصادفت مواقفنا معه قد يكون شخصاً جيداً .. وهنا لن نعتمد على الحظ في تفسير لقائنا .. "
    أكمل دانيال وهو يغمزُ إليه :
    " بل على القَدَر ! "

    خرجت إحدى الممرضات في تلك الفترة وأشارت إليهما بإمكانية الدخول .. بقيا ينظران إلى بعضهما البعض ، كان ليونارد يريد أن يقوم بتجهيز كلماتٍ مناسبة ولطيفة لكن دانيال دفعه للداخل وهو يهمس إليه :
    " اولم تكن مُتحمّساً قبل قليل ؟ ادخل الآن وأنهي هذا الموضوع "
    دخلا غُرفة مُلئَت مساحتها بأربعةِ أسرّة كلها كانت فارغة سوى فراشٍ بجانب الباب والذي استيقظ الشاب السابق وظل جالساً عليه ينظر بلاهة إلى المكان الذي هو فيه ، كان من الواضح أن الممرضة ما إن لاحظته يستفيق حتى ابتعدت رامية مسؤولية الشرح عليهما .. نظر إليهما الشاب بعيونه الخضراء وشعره الأسود في حالةِ فوضى .. وقف بجانبه ليونارد متأملاً وضعه ثم قال بهدوء :
    " مساءُ الخير .. أرى أنك استيقظت تماماً ( أومأ لنفسه ) هذا جيد ، بما تشعر ؟ "
    لم يُجبه المعني ، ظل ينظر إليه بشك رهيب وبعد ملاحظة ملابس ليونارد كانَ قد تراجع بخوف سائِلاً بحدّة :
    " من أنت ؟! "
    تجمد ليونارد مكانه .. أجل بالطبع سيسأله عن هويته ، يستيقظ في المشفى ويأتي شخص لا يعرفه لا يرتدي زيّ الأطباء ولا العاملين هنا ثم يسأله عن أحواله بكل استرخاء .. هذا مريب حقاً أوليس كذلك ؟
    " على الأرجح هو لا يتذكر شيئاً "

    همس دانيال والذي كان واقفاً تماماً خلف سيّده .. في الحقيقة حتى لو كان يتذكر أن سيارةً قد ضَربته فهو لن يعرف من كان فيها !
    " ما هو آخر شيء فعلته ؟ "
    سأله ليونارد مجدداً ، لابد أن النبيذ الذي كان يشربه هذا الشاب قد أفقده إدراكه منذ الكأس الثالث .. أراد أن يتأكد من ذلك فسأله هذا السؤال الذي ردّ عليه المعني بعد تفكير وجيز ..
    " لقد كنتُ في الحانة أشرب .. "
    تمتم بعد أن جَثمت الريبة عليه بقوة وانتقلت عيناه الخضراوتان من ليونارد إلى دانيال ليعود إلى ليونارد مجدداً ينظر إليه بوجهٍ يشعر بالرّهبة .. ستكون مصيبة لو أنه فعل شيئاً جعله مديناً لهذين الإثنين .. ركز على وجه الشّاب الفيروزي الجامد حيثُ أنّه حدّق فيه لدرجة أحس أن نظراته المُدقّقة تخترق جسده كالسّكاكين .. أشاح بوجهه بسرعة وتسمرت عيناه على ليونارد التي كانت ملامحه ألطف وأكثر سهولة للحديث معها !

    " هل .. بشكل ما .. حدث شيء لي أو لكم ؟ "
    " لقد رميت بنفسك أمام السيارة التي كنا نقودها فضربناك "
    انتفض الشاب مفزوعاً وهو يشهق بهلع ، تفحص نفسه بخوف وضربات قلبه في تسارُعٍ شديد .. هذا لم يكن متوقعاً البتّة !
    " حسناً بعد التفكير بالأمر لم يبدو عليه أنه يود الإنتحار "
    همس دانيال وهوي راقب الشاب في أثناء نوبته الهيستيرية .. فردّ عليه ليونارد بذات النبرة مديراً وجهه إليه :
    " هل لأنه يَشعُرُ بالخوفِ الآن ؟ "
    " بالتأكيد لم أُرِد قتلَ نفسي ! "



  11. #490


    صرخ الشاب في وجه دانيال ، لقد كان مُركّزا معهما في أثناء فحصِ جِسمه ، إنه يشعر بالألم في جنبه الأيمن فقط ، غير ذلك كل أعضائِهِ سليمة .. أكمل وهو يتحاشى التحديق في الخادم مجدداً وتسمّرت عيناه على ملامح السيد الذي ركّز في كلامه بكل اهتمام نابع من جوارحه :
    " لقد كنتُ أشعر بالأسى على نفسي لهذا شرِبتُ نهاراً .. "
    نظر ليونارد ودانيال إلى لبعضهما البعض .. عُشبية السيد المراعية أحاطت بشفقتها تعاطُفاً ملحوظاً على شِكاية الشاب .. بينما الخادم التي كانت حدقتاه هادئتان تماماً تسمّرت على المكان الذي أُصيب فيه المعني .. هو فقط لم يكن ذو حظ جيد ، استهزئ سريعاً من نفسه وهو يرمي بفعلٍ خاطئ كان قد اقترفه على الحظ العاثر ، لقد ساقَ السّيارة بعصبية .. هذا سبب كافي لإثبات أن دانيال كان المُلامَ تماماً ..

    " سأُقدّم لك يد المساعدة تعبيراً عن أسفي تِجاه ما قد أصابك "
    قال هذه الجملة ليونارد لكن تبعتها سريعاً كلمات دانيال التي تشعر بتأنيب الضمير :
    " جزء من المسؤولية يقع علي .. لا تنسى أنني كنتُ السّائق "
    " لا بأس لابأس "
    قالها ببرود متجاهلاً نبرة دانيال التي تشير لرغبة على تحمّل الذنب .. لسبب ما لم يستطع ليونارد أن يؤنّب خدامه ، كان ينتتظر الوقت المناسب للخروج من الغرفة ومحادثَته بعيداً عن أعين المُصاب .. والذي ينظر إليهم الآنَ بصدمة رادّاً على عرضهم بإستنكار :
    " أنا لا أحتاجُ المُساعدة "
    قال هذه العبارة وهو يحدّق لليونارد وكأنه كائِنٌ فضائي قادمٌ من زُحل ، كان مستغرباً من أمر ما وضعه قيد الكتمان .. شردَ في أفكاره لكن ردّ دانيال الذي شرحَ أمر ما أثار تفكيره بِسرعة فشعر أنه لا يريدُ إبقائه في داخله :
    " الأشخاص الذين يميلون للشرب في الّنهار يعني أنهم يواجهون مصاعباً في أعمالهم .. كما أنك شخص صغير ، قد تستفيد من الخِدمة التي نود أن نعطيكَ إياه في للسّنوات القادمة "

    الكلمات التي قالها دانيال لم تُحمّس المعني أبداً ، بل جعلته يُخرج ملامحاً مُنفرة أكثر من السّابقة ! استغرب ليونارد ودانيال .. لكن الشخص الذي كان يشعر بعدم الراحة والغرابة المطلقة كان الشّابُ نفسه ، لماذا يريدان مساعدته ؟ إنه يفهم أنهم يشعرون بتأنيب الضمر تجاهه وهذا شيء غير عادي تماماَ أيضاً ! فقد كان الكثير يُخطئ في حقّه لكنهم لم يعتذروا له أبداً .. لكن أن يحاولا أن يعطياه شيئاً فهذا فوق احتماله !
    " أتريدان أن تجعلاني عبداً لكما ؟ لأنكما ساعدتُماني ؟! "
    قال هذه العبارة بنبرة هجومية ، أجل بالضبط ، هذا الإستنتاجُ الوحيد الذي استطاع التفكير به ، نفى ليونارد هذه العبارة بسرعة وهو يقول مفزوعاً :
    " هذا غير صحيح ! لماذا تريدُ أن ترانا كأشخاص سيئين ؟ "
    ( كل شخص يرتدي هذه الملابس هو بالفعل رجلٌ سيء ) كادت هذه الإجابة أن تخرج في العلن لولا جملة دانيال المُفاجئة :
    " هل ترغب بتعويض ماليّ إذن ؟ "

    " دانيال ! "

    احتدت عينا ليونارد وهو يدير رأسه لِخادمه ، أراد أن يُعنّفه لذكر موضوع التسوية المادية لكن الشاب طريح الفراش أشار لهما وكأنه يضبطهما متلبسين بالجُرمِ المشهود :
    " أرأيت ؟ لقد ذكر صديقُك ذلك ، أنتما تريدان اعطائي أموالاً ثُمّ مطالبتي بها لاحقاً أو ابتزازي بخطأ قُمت به في الشركة ! "
    سأل ليونارد في تلك اللحظة ببلاهه :
    " أيُّ شركة ؟ "
    لكن الشاب لم يكن يستمع له ، لقد كان يقوم بالتّحليلِ بصوتٍ عالٍ بشكلٍ متأكد .. حيثُ أنّ سير الأحداث التي رُبطت في عقله كانت معقولةً وسليمة لتجعلهُ يَشُكّ بهذه الطريقة ، ولأن أحداً لم يصفعه على وجه لأنه تمادى في الظّن ـ حيثُ كان السّبب تحلّي دانيال وليونارد ببعض الأدب خصوصاَ لأنهما هما المُخطئين في بداية المطاف ـ جعل الرّجل يشعر براحةٍ تامّة في تحليله :
    " أنتما إما تكونان من طَرف المدير أو أشخاصٍ آخرين ، إنهم يريدون أموالاً ولكن لماذا ؟ فأنا لا أملك قرشاً سِوى مُدّخراتي للأيام القادمة وهاهو نورمان قد أبعدني عن مكتبي اليوم "
    " ما الذي تُخرّف به ؟ نحنُ اصطدمنا بك خطأً فحسب ! "
    في المرّة الأولى التي تحدث فيها دانيال بشأن الأموال لم يكن يقصد بها شيئاً مُحدداً .. هو فقط ظنّ أن الخدمة الي ودّ ليونارد أن يعطيها لهذا المريض غير مقبولة ، وأن الخيار الثاني المناسب هو إعطاؤه مبلغاً مالياً .. لكن 1ذا سَبّبَ سوء تفاهم بحت ، ورغبته بأن يصلح الوضع بأن يقول معيداً أن سيارتهم بالمصادفة قد ضربته كان سبباً بأن يتجمد المعني ويقول مُهمهماً بدهشة :

    " السّيارة .. أجل لقد تعرّصت لحادث ( نظر إليهما ورفع إصبعه وهو يشير إلى ليونارد ) لهذا استطعتما إيجاد حجة لجعلي أتورط .. هذه لم تكن مُصادفة ، أنتما تعمدتما ضربي ! "
    أدار ليونارد رأسه لدانيال مجدداً وهو يقول بحدّة :
    " لا تتحدث نهائياً فأنت تزيد الوضع سوءً ! ( حدّق في المريض وهو غير مصدق لهذا الهراء الذي يقوله من أمامه ) اسمعني يا سيد .. "
    اختفى صوته وهو يراقب الشاب ينهض ملسوعاً من السرير صارخاً في أرجاء الغرفة :
    " ألا يعرف الشخص الذي تعمل عنده أن لا أموال لدي ؟! فليتفقد حساب كايدين دومينيك في البنك .. لن يجد إلا الشحيح منها ! "
    تقدم من ليونارد ونظرات الإتهام لازالت تتدفق من حدقيته الحادتين ، لقد كان يتوعدهما قائلاً أنه سيراقب حراكتهما جيداً .. وقبل أن يشرح ليونارد شيئاً فَرّ المعني من أمامه هارباً وهو يتأوّه من فترةٍ إلى أخرى لألم كَدمته .. ثُمّ ساد الهدوء ، وكأن ضجيجاً كان في الغرفة خلّفه عشرات الأشخاص قد اختفى و لم يكن موجوداً قط .. أشار السيّد ناحية الباب ناظراً على دانيال ووجهه يقول ( أيّ شيء هذا الذي لا يمكن وصفه قد حصل للتو ؟! ) فأجابه خادمه ببرودٍ شديد :
    " من أجل ان لا تُفكر مجدداً بالحديث مع أمثال هؤلاء "
    " لا أنت مُخطئ .. إن هذا الرجل لا يبدو طبيعياً أبداً ! "

    فكرا وهما يخرجان من الباب نازلين من درج المشفى ، مرّت الناس من حولهما غير مهتمين بما يجري .. قال ليونارد محتجاً والبوابة الرئيسية للمركز تقترب منهما :
    " أكان عليك أن تذكر أنك كنتَ السّائق ؟ "
    " ماقلته قد كان صحيحاً ويجب أن يتم ذكره أمام المريض ، ما المشكلة في ذلك الآن ؟! "
    " أنا أتحمل كل المسؤولية ، لو لم أكن أتحدث عن ذلك الموضوع الحساس وسببت الشجار وأنت تقود لما حدث ما حدث "
    اعترف مشيراً إلى موقع السيارة البيضاء .. تنهد دانيال فاهماً قصد سيده .. حسناً من الجيد أنهم ضربوا شخصاً ثملاً ، وإلا سيكون الموضوع جدياً بشكل كبير .. فاللّوم ظاهرياً يقع على المدعو كايدين دومينيك لكونه شارِباً للنبيذ وواقفاً في منتصف الشارع ، لكن لو كانت هناك كاميرات مراقبة في ذلك المكان لتم اثبات سُرعة دانيال في القيادة .. فكر للحظة وهو يجلس خلف المقود ، أوليس هذا يعني أن اصطدامهم بذلك الشاب لم يكن مصادفة أو حظاً بل كان قَدراً محتوماً ؟
    اختلس النظر إلى سيده الذي كان جالساً بجانبه تبدو عليه التعاسة ، أراد أن يفتح فمه بشيء ما ليقوله لكن جملة ليونارد سبقته بصوت مُحبَط :
    " أنت محق .. النظرة الاولى تُقرر إن كنتَ تريدُ مقابلة الشخص مجدداً ام لا "

    " لا أريد رفع معنوياتك .. لكن لربما هناك سبب وجيز لكون ذلك الرجل شَكّاكٌ لهذه الدرجة .. كما تعلم عندما نظرت إليك للمرة الأولى فكرت كم كنتَ وغداً صغيراً "
    قال الأخير مُنتقماً بنبرة صوتٍ قاطِعة :
    " وأنت كنتَ صبياً وقحاً في نظري ! "
    جادله دانيال بسرعة وهو يقودُ للفندق من أجل طعام العشاء بينما الشمس تلفُظُ أنفاسها الأخيرة في السماء مغطية نفسها بفراشٍ يدمج الأسود والأزرق والبنفسجي :
    " لا زلتُ أراك وغداً "
    " وانا لا زلتُ أراكَ وقحاً ! "


    148611416948771


    اخر تعديل كان بواسطة » أُنسٌ زَهَر في يوم » 04-02-2017 عند الساعة » 07:56

  12. #491


    كانت أجزاءُ الشّمس البراقة مُستقرّة على حافّة نافذة السّيارة التي تسير بسرعة كبيرة ، تلمس كل شيءٍ بسعادةٍ بالغة واهبة الدفء من دون مُقابلة .. عيونٌ تُراقبها وهي تهمس في أذن الأزهار على الطريق وعلى أشجارِ القرية سرورُ كبير منها .. شيئاً فشيئاً ودّعت الأشعة طوبُ نافارِ البُنّي ورحبت بالشوارع التالية .. لازالت تلك العيون الزرقاء المُضطربة الممسكة بنفسها والمحتفظة بحزنها تشاهد كما يشاهد الغريب أوطاناً لم يرها من قبل .. كيفَ تُصافح خيوط النّهار الكثير والكثير من أجزاء الطبيعة المعتادة على رؤيتها والحديثَ معها .. لكن المُراقب الصّامت كان لازال يشعر بالرهبة والضياع .. دانيال بعمر الثّامنة يجلس وحيداً في السيارة مع أربعةِ مرافقين لم يتلطف واحد منهم بأن يقولَ كلمةً مُطمئنة واحدة ..
    لكن لا بأس ، فمع الضغط الذي يشعر به عليه أن يتحمل من أجل والدته التي لم تودّعه ، رغم خيبة أمله إلا أنه لازال يكنّ لها الكثير من المشاعر ـ ولو كانت مُختلطة ـ ، فمن أجلها لن ينهار لمجرد أنه جالس في السيارة وحيداً مع بالغين يضرب السواد ملابسهم وكأنه مخطوفٌ من قرية ريفية !

    أكمل تأمله مُخبّئاً اضطرابات كثيرة في نفسه ... ومع كل شارع يُقطع كان اقترابه وشيكاً من أخيه الذي لم يقابله من قبل .. المباني تغيرت كثيراً مع كلّ ساعةٍ تمر ، وجسده تَصَلّب في مكانه شاعِراً أنه يتحول لتمثال ، لا يدري هل جسده سيطاوعه بالتحرك والنزول إذا وصل .. فكّر مجدداً معيداً مخاوفه إلى ملامحه التي لم تستطع الإحتفاظ بسكينتها المعهودة ( إذا وصل .. ) ماذا سيحصل بالضبط ؟ هل سيقابل والده ؟ هل سيصرخ في وجهه ؟ لكن لماذا يفعل ذلك ؟ هو إلى الآن لم يبدأ خدمته ! ( إذا وصل .. ) هل سيتم رميه في المطبخ وممرات القصر الذي يعيش فيه ويتم معاملته كعبدٍ ذليلٍ لا يملك أي حقوق ؟ هل هذا معقول أصلاً ؟ هل سيخبرهم أنهم خطئين في وضعه في هذا المكان وأنه خادم ليونارد الشخصي لذا عليه ملازمة أخيه فحسب ؟ ( إذا وصل .. ) إنه خائف من أن يزل لسانه هناك في أي لحظة وينادي ليونارد بدل سيّدي بأخي .. ويلاه ! حينها كيف سيشرح أن لسانه قد زَلّ ، وأنه ليس أخ ليونارد بل مجرد خادم من الرّيف ؟ اعتصر دانيال نفسه .. إنه مرعوب ويشعر بالضياع ، لا يريد أن يغادر منزله الدافئ ، فليخبرهم أنه ليس مستعداً بعد من أجل العمل .. هو لا يريد أن يَخدُم .. ليس الآن ، ليس الآن !

    ارتجفت عيناه بحزن شديد واختلس نظرةً متّسعة بحدقتاه الزرقاوتان على وجوه مرافقيه الجامدة ، أحدهم كان يقود بصمت ، وبجانبه رجل يجلس في المقعد الأمامي مُمسكاً بهاتف يكتب فيه بسرعة وبإستعجال .. بينما المقاعد الخلفية ممتلئة بالباقي منهم ودانيال جالِسُ بجانب النافذة .. جميعهم مُغلقي أفواههم ويبدو الضّيق على أحدهم أيضاً بتقطيبة مُنزعجة وقد شبك ذراعيه مسندهما على صدره ينظُرُ للأمام بعصبية ، لم يتجرّأ دانيال بأن يكسر الصمت ، وإن أراد أن يفعل فماذا سيقول ؟ فكّر للحظة أن عليه أن يتحدث لمعرفة الزمن الذي سيستغرقه الذهاب إلى قصر أخيه أو أياَ كان المكان الذي سيمر عليه .. ليس لديه أدنى فكرة عن ماذا سيكون بعد المشي لمدّة بداخل هذه السيارة ..
    " المعذرة "
    بصوتٍ مبوح تحدث ، أراد أن يُشبع نبرته بكل تلميحاتِ القوّة والجرئة ، لكن هذه الأخيرة ظهرت غريبةً جداً عليه .. انتبهوا جميعهم إليه ، شحب وجهه وهو يحدق في عيومهم المُرَكّزة على طفل ضئيل الحجم مثله ، فتح السائق فمه ليسأل بهدوء وبطئ بالغ :

    " أتريد أن تعرف متى سنصل ؟ "
    أومأ إليه دانيال بسرعة .. ألا تباً لفضوله الفاسد ، لم يُرد أن يلفِتَ الأنظار جمميعها إليه لكنه لا يريد الجلوس بجمود وترَقّبٍ هكذا ، سيقتله ذلك .. ردّ عليه من بجوار السائق وهو لازال يعبث في هاتفه بسرعة :
    " ليس قريباً .. المسافة طويلة بين نافار ومرسية ، لكن بعد ساعتين سننتقل للباخرة التي توصلنا مباشرةً إلى المدينة "
    لم يشعر دانيال أن الرجُلَ قد أعطاه إجابة واضحة تقريباً عن موعد وصولهم .. لكنه على أية حال اتّهم عقله الصغير بعدم الفهم فهو ليس بوعيه أبداً بسبب الخوف .. ولأنه كان يترقب بشكلٍ حسّاس ويريدُ الوقت أن يمضي بسرعة فلو كان مذعوراً من مصيبةٍ ما فهو يُفضّل أن يقع فيها بأسرع وقت ممكن .. كان هذا سبباً رئيسياً لأن تسير الدقائق على مهل من دون أن تُراعيه .. وهذا يجعلَه مُرَكّزاً ـ ولو لم يُحِب ذلك ـ في كل الشوارع التي مرّوا عليها .. هو يتذكر تماماً أن لا مخلوق بشريّ مرّ على قدميه فيها لأنها كانت طُرقاً رئيسية للسفر جانبيها مليءُ بالأراضي المزروعة بأشجارٍ عالية أو كان ممراً ضيقاً مليئاً بالطّوب القديم التي تُخرِجُ الكثير من الشجيرات من بين ثناياها الضّيقة ، ومرّات كانوا يمرّون بمناطق زراعية شاسعة .. إلا أنه في كل الأحوال كان يتجنب السّائِقَ الذهاب للقرى أو المدن . وهذا قد عزّز شعوراً دراميّاً لدى دانيال بشكلٍ كبير .. لم يُرِح هذا الأمر طفلنا الوحيد الذي رحل مُغادراً عالماً صغيراً كان جزءً مهمّاً منه .. أراد أن يرى بشراً في الخارج ، يُعزّيه أن يلاحظ من يعيش حياته سعيداً بلا عواصف ، خالياً يمضي في طريقه من دون هموم أو متاعب .. أن ترى السعادة على وجوه الآخرين يعني وجودَ أملٍ أن تنتقل السعادة منهم إليك ، يعني أن هناك نصيباً بَعدُ مَخفيّاً عليك .. يعني أنك ستكون يوماً ما سعيداً وفَرِحاً مثلهم .. هو حقاً يعزيه أن يشعر بالإنفراد لكن تحديقه في بني جنسه يُدخل عليه الكثير من الطمأنينه .. إن بقائه مع مُعذّبيه أكثر ألماً من الجلوس على قارعة الطريق ومراقبة المارّة الذين لا جزء بسيط من حياتهم يستطيع التدخل فيه والتدثر في دِفءِ حكاياهم لِدَقيقة .. لكنه حُرم من ذلك ، وفي الوقت الذي كانَ أحوج فيه من أيّ شيءٍ آخر للبشر والناس ..

    لكنه عَلِم فوراً أن وضعه السابق كان أفضل من ما سيكون عليه الآن ، فنظراته المرتاعة إلى الباخرة الصغيرة ستحمله هو وباقي الرّجال الأربع على ظهرها .. لمدة ثلاثة ساعات سيفتقد اللون الأخضر ويكون على موعد غذاءٍ في عرض المياه الحلوة .. ركب بعد أن تم أمره بذلك ، حدّق للخلف مستنجداً بالحدائق واللونين الأخضر والبُنّي .. لكن لم يجبه شيء عندما عجّله أحدُ الأشخاص الذين معه ..
    " مابِكَ تنظر للخلف ؟ هيّا تحرك أمامنا طريقٌ طويلة ! "
    ارتجف دانيال مذعوراً .. ركب على عجلٍ متخبط بالعتبات المضطربة من فعل رياح الربيع الهادئة .. لم يلاحظ حديث أحدهم خلفه ، حيث قال الشخص الذي كان سائِق السّيارة بضيقٍ إلى زُملائه الثلاثة :
    " هلا تمهلتم عليه وحادثتموه بلطفٍ قليلاً ؟ ألا تلاحظون أنه خائفٌ من الأجواء المُتوتّرة هنا ، إنه ما يزالُ طفلاً ! "
    شخر أحدهم مستهزئاً وتجاهل كلام زميله ، صمت الثاني بينما قال ثالثهم ببرودٍ شديد :
    " نحنُ نُنَفّذُ الأوامر ، طلب منا معامته بخشونة على أية حال "
    " لو تحليتَ بالرحمة فلن تُكمل عملك هنا ، لا تتواصل مع الطفل وتتقرّب منه .. نفّذ ما أُمرت به فحسب "

    كانت تلك الردودُ سبباً لأن يغلق المعني فمه ويركب من بعدهم في صمت ، دققت عيناه من خلف نظارته السوداء على دانيال الذي جلس على طاولةٍ موضوعة في منتصف الباخرة .. انتفض المُحرّك مستيقظاً وسرعانما كانت مركبتهم تسيرُ بسلاسة لتعبر المجرى النهري العريض .. إلى أن انتصفت شمسُ الظّهيرة حيثُ كان الجميع على حالهم ، طفلاً مرتبكاً يجلس محميّاً بنفسه ينظر إلى الأمام بجمود محدقاً في الأمواج الملوّنة بالأزرق وبعض اللمعان الأصفر والأبيض كالكرستالات الجملة .. قدم أحدهم إليه طعام الغذاء في صينيةٍ واسعة وهو يهمس مستهزئاً :
    " لأننا لا نُريدُك أن تموت جوعاً "
    صحيح أن دانيال لم يأكل فطوره ، إلا أن المشاعر والأحاسيس التي جَثمت عليه بقوة كانت تمنعه من الرغبة في تناول أي شيء ، حتى ولو لم يأكل صباحاً إلا أنه لا يطيق هذه المأكولات التي وُضعت أمامه بسبب ضيقِ صدره القويّ ، فضَلّ الطفل يتأمل أسفل الطاولة مقطباً بعبوس .. انتبه إليه الرجالُ الأربعة فقال أحدهم :
    " ألا ينوي أن يلمس الأطباق ؟ "
    " لنتركه فحسب "

    لكن ألطفهم لم يستطع ترك دانيال ، ربما هو بحاجةٍ إلى شيء ما ، أو هو ليس معتاداً على الأكل في باخرة تهتز قليلاً من الأمواج ، فتقدم رغم تذمر الثلاثة من خلفه ناظراً إلى عينيّ الصبي المشابهه للون المياه أسفلهم :
    " لم لا تأكل ؟ "
    " لستُ جائِعاً "
    ظهر صوته واضحاً قوياً هذه المرة بإندفاع ، تحمس الرجل لتجواب من أمامه فأمال جسده أكثر ملاطفاً إياه :
    " أنت لم تأكل في منزلك أوليس كذلك ؟ أمامنا طريقٌ طويل للوصول إلى قصر وريث عائلة ماسكويل ، عليك أن تأكل شيئاً من أجل ان لا تتعب "
    تجاهله دانيال بشيء من الإنزعاج ، هو ليس محتاجاً لشفقةِ غريب ، لو كان أحدٌ عليه أن يشعر بالعطف فمن المفترض أن يكون والده ، ويجب عليه أن يلغي هذه القرارات الحمقاء التي يقوم بها على والدته ، هذا لو كان لديه ذرة من الحياء والرّحمة .. لكنه للأسف وُلد في عائلة مُفككةٍ غريبة من نوعها .. لذا لن يحدث أي شيء مما يرتجيه .. توقف اندفاع أفكاره عندما قدّم إليه الرجل الغريب كأس ماءٍ بارد :

    : اشرب هذا على الأقل من أجل أن لا تشعر بالعطش "

    أمسك دانيال الكأس بيديه الإثنتين ونظر للرجل الذي تراجع ووقف بجانب زملائه .. أعاد عينيه للكأس وشربه ، فكم أدهشه انه كان يشعر بالظّمأ الشّديد لكنه لم يُحِسّ بذلك قط ، فرغ من ما بين يديه النحيلتين ، لكنه لم يلمس أطباق الطعام قط .. مرّت الساعات ببطئ شديد كان معظم ثوانيها يُرَحّلُ عقل دانيال للشرود الفارغ ولم يهتم أحد بذلك مادام الطفل الذي يسوقونه ليكون خادماً لم يعطّلهم بإبداء حركات أوأقوال مزعجة .. ودانيال على أية حال لم ينفي تَعبَ الرّحلة ، فقد كانوا يتنقلون من مكان إلى آخر في السيارة بعد الوصول لمرسية إلى أن مرّوا بقرية بعيدة متمسّكة بمبانيها القريبة ببعضها البعض وبأشجارها التي تَخرجُ لترى النور عبر جدرانِ مساكنها .. حتى إذا قابلوا تلّة عالية من بعدها لاح قصرٌ رآه دانيال كبيرٌ جداً قد غطّى على منظَرِ غابةٍ داكنةٍ خلفه .. دقق في أسواره التي تُظهر ساحةً واسعة ، وكم كانت أشجاراً جميلة تلك التي تُزيّن ما حول السور .. لم يكن قد رأى ما بالداخل ، لأن سيارتهم لم تدخل من البوابة الأمامية بل وصلت بالذات ليمين القصر الذين كان يضمّ باب الخدم .. أيقظ دانيال شجاعته وخرج من السيارة ملاحظاً غروب الشمس المُودّع له .. وفي أثناء ما هو يتأمل الأبواب الخلفية طول المسكن الذي سيعيش فيه خرج شابٌ صغير من البابِ أمامه تحدث أحد الرجال الأربع مشيراً إلى الطفل مقدّماً حقيبته السوداء ليحملها هو بدلاً عنه ، ذكر حينها شيئاً عن إخبار مدبرة المنزل .. حدق الشاب فيه مستغرباً ، لم يبدو أن مرافقي دانيال قد كانوا على استعداد ليجيبوا على أسئلةٍ قد تُرمى عليهم ، فبعد أن أخبروا الشاب عن الذي سيكون خادماً لسيدهم ركبوا السيارة سريعاً وغادروا المكان من دون كلمةٍ أخرى ..

    " ولكن ما الذي يجري "
    قالها الأخير محتجاً وهو يحدق في الفراغ الذي خلفته سيارة رجال رولاند .. حملق بعدها في وجه الطفل ، تأفأف مشيراً إليه بأن يتبعه ، وهنا كانت أول خطوات دانيال في قصر شقيقه .. مشي صامتاً يراقب حركات الزخارف التي تشكلت على جدار الممر الذي يمشي بداخله ، ثم ذلك البلاط الرخامي القاتم ذو اللون القرمزيّ الداكن .. أول الأبواب التي مرّ عليها دانيال كانت تشير إلى مخازن القصر .. لكنه بالطبع لم يعلم ذلك ، بكل بساطة تداخلت الممرات عليه ، فعبر درجاتٍ قصيرة تحمل سبع عتباتٍ إما ترفعه للأعلى تُشير إلى إتباعها داخِلاً غُرفاً ما .. أو عتبتين يتيمتين تُدخلانه إلى ممراتٍ أخرى غريبة لا عِلمَ له بمحتوياتها .. وبطبيعة الحال كاد دانيال أن يشعر بالدوار وهو ينظر إلى كمية الزوايا التي يجب عليه أن يتعلم إلى أين قد تأخذه ـ وبعد أن كَبِر في السن ـ أدرك أن ذلك الرعب كان من خياله ، فالممرات بُنيت بطريقةٍ سهلة وبسيطة لكنها متداخلة قليلاً ، وهي فقط في ذلك الجزء لأنها تُشير لمكتب مدبرة المنزل والمطبخ ومكانِ إقامة العاملين .. وبطبيعة حال هذا الجزء مختلف كل الإختلاف عن باقي القصر !



  13. #492


    " توقف هنا "
    أمره الشاب بهدوء وهو يفتح باباً يحمل أربعة أسِرّة بِعَدَدِها خزائنُ ملابس موجودة ، ومكتبين صغيرين ، رمى حقيبة دانيال بإهمال على السرير بجانب الباب وهو يغادر بسرعة داعياً من خَلفَهُ لِأن يتبعه مجدداً .. بين كل تلك الجدران لم يصادف الطفل أي مخلوق يمشي ، لكنه ما إن ابتعد عن منطقة سكنِ الخدم حتى دخل تلقائياً إلى بهو القصر الذي ضم أول خمسةِ عُمّال قد رآهم .. شيئاً فشيئاً كان كل خادم يظهر ليقوم بعمله فيمر من البهو يخرج منه عبر إحدى الأبواب .. وقف الشاب سائِلاً في العلن غير حاصِرٍ استفساره على شخص واحد :
    " أين السّيدة دورثي ؟ "
    " أنا هنا ! "

    تقدمت سريعاً سيدة شابّة ذات أصول بريطانية ، جميلة الملامح حسنة المظهر ، تملك شعراً كستنائياً قصيراً بتصفيفة شعر فرنسيّة عيونها عسلية صافية وواسعة .. ابتسمت بلطف وهي تتقدم بسرعة عبر أجساد الخدم الذين لم يهتموا قط بما حولهم سوى إكمال أعمالهم قبل حلول موعد العشاء .. تنفست الصعداء وهي تحيط بحدقتيها جسد دانيال الضئيل والذي كان واقفاً تماماً خلف الشاب الصغير :
    " هل أتى ؟ "
    لابد وأنها تعرف ذلك ، فهي لم تتفاجئ قط كما حصل مع من أحضره إليها .. وهذا كان سبباً لأن تُبعد جسد الأخير ، ليس بفظاظه إنما بِعجلٍ ثمّ ركعت على ركبتيها وقرّبت وجهها من الطفل المدهوش ، في أثناء ذلك كان احتِجاجُ الطّرف الثالث واضحاً :
    " ولكن سيدة دورثي .. أنا لم أسمع بذلك من قبل "
    " ستفعل الآن يا عزيزي "
    ربتت على كتفي دانيال ووقفت حينها مجدداً بعدما دققت في وجهه ثم واجهت الخدم ـ أو ما تبقى منهم ـ ، فتحت فمها ثم قالت بصوتها الجهور :
    " اسمعوني جميعكم ، أعلموا من غاب اليوم وبقاياكم مِنَ الواقفين هنا فلهم أعينٌ تُبصر جيداً .. هذا الطفل هنا سيكون من الآن فصاعداً خادم السيد الصغير الشّخصيّ ( فتح بعضهم فمه مدهوشاً وقبل أن يتحدثقوا أكملت هي بشكلٍ قاطع لا نقاش فيه ) هذه أوامر رولاند ماكسويل شخصياً "

    كان كُلّ من في البهو متوقفاً يستمع إليها .. وفي أثناء الحديث عندما ذكرت أن طفلاً سيكون خادماً شخصياً تغيّرت ملامِحُهم ما بين المصدومةِ والمُستنكرة بشدّة .. حتى إذا أراد أي شخص منهم الإعتراض بعدما دققوا جميعهم في جسد دانيال الضئيل ـ والذي في أشد حالاته إرباكاً ـ قطعت عليهم السيدة دورثي أفكارهم بقولها أنها أوامر حتمية .. لم يتحدث أحد في شيءٍ أمامها .. أمسكت يده وجرّته إلى مكانٍ هادئ لا يعلم أنه سيُساقُ إليه .. فقد مرّت به عبر العديد من القاعات بعضها كان مُظلماً ، أجلسته على الكرسي سريعاً .. هنا استطاع دانيال أن يتأمل في الموقع الذي هو فيه .. شُرفة جميلة تحمل طاولة صغيرة بدى أنها لشرب الشاي ، كانت الشمس قد ابتعدت كثيراً عن ناظريّ القمر ، ففرغ كرسيّ العرش ليتربع عليه بأريحية وملوكٌ نجومية من حوله ظهروا مبتسمين .. شجرةٌ أحاطت تلك الجهة لميلانها فسقطت كل أغصانها لتجعل أوراقها ستاراً بينها وبين عتبات الممرات الغربية الخارجية للقصر .. ولأن المصمم لم يحب أن يقوم بتخريب الشكل الجميل الذي وهبته الطبيعة كرماً منها ، فعلّق مصابيح يدويّة ذات تصميم قديم وقام بجعل القاعة التي تملك تلك الشرفة مناسبة تماماً لهذا الركن ، لكن دانيال لم يكن ليصل إلى ملاحظة هذا الُبعد بَعد من المكان الذي جلس فيه ، فالسّيدة دورثي كانت قد تحدثت سريعاً معه وهي تمسح على ظهره راغبةً بأن يطمئن صدره من الضيق الذي حمله طوال الطريق :

    " يا عزيزي لابد أنك مرتبك وخائف .. لا بأس عليك ، بإمكانك أن تُظهر ارتعابك وارتباكك أيضاً .. ولا تنسى أنه مسموح لك بأن تبكي في الوقت الذي تشاء ، فليس عيباً أن تُظهر مشاعرك "

    وقبل أن يتحدث دانيال أمسكته محيطةً خدّيه المُدوّرين بإمتلاء بيديها الدافئتين :
    " ولكن انظر إلى وجهك الشاحب هذا .. أراهن على أن من أحضرك لم يقل كلمة واحدة لطيفة ! "
    نهضت بسرعة وأمرت شخصاً من الخارج عندما قطعت عرض القاعة بأكملها جرياً ، لاحقها دانيال بعينيه الزرقاوتين .. عادت بإبريقٍ وكأس .. صبّت إليه ماءً على عجل وهي تثرثر مجدداً :
    " الماء هو الوسيلة الممتازة لإراحة النفس من أي اضراب أو خوف أو حتّى حزن "
    أعطته كأساً فشربه بسرعة ، وعندما لاحظته كم كان سريعاً في شربه صبت له كأساً آخر ولكن هذه المرة كان صوتها متذمراً حاقداً :
    " وعَطِشٌ أيضاً ؟ ألا يملِكُ هؤلاء الأشخاص ذرّةً من الرحمة ؟ "
    وضعت الإبريق على الطاولة وراقبت دانيال وهو يشرب بنهم .. عبست تنظر إليه بشيء من الشفقة ثم همست بينها وبين نفسها :
    " أيظنون أطفال الناس من أملاكهم أيضاً ؟ رباه كم هو صغير وضعيف "
    لكن دانيال كانَ يستمع إليها فهو يمتلك أذنين جيدتين ، إلا أن نفسه لم تسمح له بأن يعلّق بَعدُ عليها .. فقد كان متلهفاً بشكل كبير لمقابلة ابن والدته ، وإذا فتح فمه فهو متأكد أنه سيقول من دون وعي منه ( أين أخي ؟! ) لكنه صمت مراقباً تلك المرأة التي تبدو أنها مدبرة المنزل ، فكل ما فعلته كان يدل على ذلك .. إلا أنها لم تُعرّف عن نفسها بشكلٍ رسميّ بعد . أنهى كأسه فأشارت إليه دورثي سائلةً بإن كان يريد المزيد ، نفى دانيال رغبته فقد روى ظمأه ولم يعد يرغب بشرب كأس آخر ، ابتسمت المرأة ابتسامةً لطيفة وتقدمت إليه بشيء من الودّ :

    " عزيزي ، اسمي دورثي وأنا مدبرة المنزل هنا ، إن أردت أي شيء فتعالَ اسألني .. لا مانع من الخطأ هنا فكلنا مُعرّضون للفشل ، جميعنا نتعامل بمحبة ونساعد بعضنا البعض .. لا بأس عندي بأن أغسل الصحون ولا بأس لدى الحارس بأن يساعد في كنس الحديثة أو مسح باب الدخول أو حتى إزالة غبار النوافذ ( أكملت بعد أن لاحظت اهتمام دانيال لما تقوله ) الخطأ ليسَ عيباً .. أن يزلّ لسانك أو أن تسبب فوضى ، هذا دليل على حيويتك ، لكن ما يميز كل واحد عن الآخر هو الوقت الذي يستغرقة في التعلم من أخطائه "
    كانت تقول ذلك بشكلٍ سريع ، راقبت باب القاعة التي يجلسون بداخلها .. ثم أكملت وكأنها تنتظر أحداً لأن يأتي أو كأنها لا ترغب من أي شخص سماع ما ستقوله :
    " إن شعرت بالظلم فقل ذلك بصراحة ، وإن سألوك فأجب بصدق .. لا أعتقد أننا سنتعامل بغير عدل مع طفل صغير لا يمتلك شخصاً يدافع عنه ( ما إن لاحظت دخول أحد العاملين حاملاً صينية متوسطة الحجم حتى غيّرت الموضوع بسرعة ) والآن لا بد أنك لاحظت استعجال الرّجال في المنزل ، هذا لأن الخَدَم هنا يمتلكون منازِلاً يعودون إليها .. بعضهم في هذه القرية والبعض الآخر في القرية المجاورة ، القليل فقط من ينام هنا ( ضحكت بخفوت وهي تردف بصوتٍ شبه هامس ) قد أتأخر في العودة لمنزلي اليوم لكن لا بأس بذلك مادام السبب طفلاً جميلاً كالذي أمامي "

    فتح دانيال فاهَهُ مدهوشاً عندما وضعت ثلاثةُ أطباق أمامه .. كان أول طبق هو طاسة زبدية دافئة ذات لونٍ أبيض تحمِلُ أرزّاً منتفخاً برائحة ماء الزّهر فوقها مُكسرات صغيرة اتضح أنها جوزٌ مطحون .. ثاني طبقٍ رآه كان قطع لحم مع البطاطا والبصل ، أما الثالث فيحمل خبزاً محمصاً يلتصق على ظهره حبيبات السمسم والزبيب المجفف ، قطع دهشته صوت دورثي وهي تعتذر إليه :
    " أعتذر لهذه الأطباق القليلة من الطعام وفي هذا الوقت المتأخر أيضاً ، فالعشاء سيكون بعد ساعاتٍ من الآن .. في الحقيقة ما أمامك ليس سوى بقايا غذاءِ الظّهيرة .. أتمنى أن تأكله كله وأن يُشبعك ولو قليلاً "
    " كل هذه الأطباق لي ؟ "
    أول جملةٍ خرجت من فم دانيال تجاه مدبرة المنزل .. تصلبت في مكانها مستغربة سؤاله ، وأومأت إليه وهي تجيبه :
    " من برأيك أنا أُحَدّث ؟ إنها لك بالطبع ! "
    أمسك المعني ملعقةً وجرب الزبدية على مهل .. لو كان السبب كونه يشعر أنه سيموت جوعاً لكفى أن يلتهم مافي الطّاسة كلها ، لكنها كانت لذيذة بشكلٍ كبير جعلته لا يتوقف عن مد يده إليها إلّا بعد أن استوعب انتهائها .. كان هذا مُحزناً على قلبه لكنه سرعانما صرف نظره إلى قطع اللحم .. راقبته مدبرة المنزل بعيون تحمل الكثير من الإستلطاف ، وبعد أن تأكدت أن دانيال سيُنهي الأطباق حتماً نهضت عنه تاركةً إياه بأكل براحة ووقفت بجانب زميلتها خارج القاعة ..

    " لا أصدق أنك جعلته يأكل في غرفة الإستقبال الغربية ! "

    " لأنّه يحتاج أن يبتعد عن الأنظار ، لقد كان يرتجف بشدّة من الخوف ، أنت لم تري وجهه "
    " لماذا جلعته يأكل الآن إذن ؟ العشاءُ بعد ثلاثِ ساعاتٍ فحسب ! "
    " إنه يأكل كما لم يفعل منذ الصباح ، لا يمكنه أن يتحمل المكوث بمعدة فارغة ، حتى أنه كان عَطشاناً بشدّة .. أنت تعرفين ، لربما أتى من طريقٍ طويلٍ مُتعب "
    امتعظ وجه زميلتها وهي تستمع إلى مُدافعات دورثي المُستَميتَة ، أخيراً قالت منزعجة وهي تواجه مدبرة المنزل :
    " أنت لا تفكرين بتدليله فقط لأنه طفل صغير ! "
    " وهذا ما أنا أتسائل بشأنه ، ألا ترين هذا غير معقولٍ البتّة ؟ لقد جلبوا طفلاً ليقوم بعملِ البالغين "
    نفضت الفتاة أفكار زميلتها وهي تنفي شَكّ المتحدثة قائلةً بحدة :
    " لا تتدخلي في أي شيء ، فاليجلبوا عبيداً ، أطفالا أو عجائز ، نحن مجرد عمّال يتم تغييرنا بعد سنوات من العمل "
    صمتت الفتاة مفكرة بهذا الشأن ، لم يمر وقت طويل حتى دخلت خيوط الحزن بين شرايين قلبها وقالت بهمس :

    " لقد كان يسأل إن كانت الأطباق الثلاثة كلّها له "

    قطبت الأخيرة بإنزعاج على تذمر مدبرة المنزل أو شكّها أو حزنها أو أياً كانت مشاعرها الغريبة التي تعتريها دائماً :
    " وماذا في ذلك ؟ إنه سؤال عاديّ ! "
    " هو لم يسأل إن كان عليه أكل الأطباق وحده ، بل سأل إن كانت هي له ! "
    أكملت شارحة برغبةٍ بإثبات صحّة تحليلها :
    " الفرق بين السؤالين هو لو كان قد قال ( هل آكل كل الأطباق وحدي ) فسيكون مقصده الإنزعاج من كثرة الطعام أو الدهشة لأنه لن يستطيع إلتهامها ربما لعدم قدرته في أكلها كلها دفعةً واحدة في هذا الوقت .. لكنه عندما قال ( كل هذه الأطباق من أجلي ) هذا يعني أنه لم يسبق له ان قُدّم إليه أكثر من طبق واحد ! "
    أومأت إليها زميلتها شاعرةً بالصّداع جراء هذا الكلام ، أشارت إليها بان تتفقد دانيال بصوت حاد شبه غاضب :
    " اذهبي وانظري إن كان قد انتهى من طعامه ، أريد المغادرة بسرعة والإبتعداد قدر المستطاع عن صوتك ! "
    لم يكن المعني قَد تأخر على أية حال ، فهو كان جائعاً لدرجة كبيرة لذا كانت وجبته سريعة ومستعجلة .. رفعت الفتاة الصحون الفارغة في صمت وهي تجحد الطفل بنظرة جانبية ، قبل ان يسأل دانيال عن سبب حملقتها بهذه الطريقة قالت دورثي بسرعة فائقة :
    " لابد أنك تريد رؤية القصر .. تعالَ معي سأُطلعك على المكان "

    كان يظن أنها ستريه أخاه ، لهذا في بداية حديثها شعر كما لو أن قلبه سيخرج من مكانه ، أمسكت بيده اليمنى وفتحت أنوار المكان ليظهر تصميم ريفيّ جميل ما بين الوردي والأصفر ، فتحَ فاهه مدهوشاً لجمال المكان ورهبة عظيمة لمنزل شقيقه .. قالت مدبرة المنزل بإبتسامة لطيفة وهي تلاحظ تفاعل دانيال المستمر والذي لا يستطيع التحكم به في خضم الأحداث الأخيرة :
    " الطابق الأرضي يحمل البهو الكبير ، قاعتين لإستقبال الضيوف .. غرفتان لإقامة العاملين ، مطبخان وغرفة لتناول الطعام بالإضافة إلى المخازن وكذلك المكتب الرئيسي للتوظيف ولإرسال الرواتب ولمناقشة وضع العُمّال فيه "



  14. #493


    بالطبع أرته السيدة كل هذا على عجل بينما دانيال يحاول جاهداً لأن يتذكر مكان كل واحد منهم .. أراد أن يسأل عن ما إذا كان أخوه قد جلس في ذلك الركن أو شرب الشاي على تلك المنضدة .. لكنه لم يستطع أن يفتح فمه طوال فترة تجواله .. ركبا الدرج الذي ينتصف البهو وأكملت السيدة دورثي شرحها :
    " في الطابق الأول هناك مكتبة كبيرة وهي تحتل نصف الطابق .. توجد قاعة الإحتفالات وغرفة واحدة لإستقبال الضيوف .. إنها صغيرة بعض الشيء لهذا خصّصَها السيد لأصدقائه الصّغار إذا ما رغبوا في زيارة سريعة ( أكملت متلعثمة ) نسيت ذكر المطبخ الصغير ! "

    كان المكان هادئاً تماماً إلا من بعض الخدم الذين يقومون بمسح الأثاث واللوحات ، تسائل دانيال إن كان أخوه قد التفت لتلك المزهرية أو وقف في منتصف المكتبة يبحث عن كتاب ما .. تخيله جالساً في غرفة الإستقبال الصغيرة ـ والتي لم تكن كذلك بالنسبة إليه ـ لولا أنه شاهد القاعات في الأسفل لقال أنها أكبر غرفة استقبال شاهدها في حياته ، رسم جسد ليونارد في عقله .. بشعره الأشقر اللامع وملامحه اللطيفة بعيون جدّه إدوارد ، لكنه ليس متأكداً إن كانت ملامح أخيه ستكون لطيفة عندما يراه ، فهو يعتمد في تخيلاته على وصف والدته ، وهو يعلم تماماً أن كل شخص مهما بلغت قباحة أخلاقه أو بشاعة مظهره فسيكون جميلاً ونبيلاً ووسيماً أمام أمّه .. لذا هو ليس متأكداً من صدق هذا الوصف الذي اعتبره ـ مبالغاً فيه ـ خصوصاً لو لم تعرف أين تمت تربيه وعلى يد من !
    " ها نحن ذى أخيراً "
    قالتها دورثي مرتاحة بعدما وصلوا للطابق الثاني .. وقفت أمام دانيال وأشارت إلى يساره ـ الذي هو يمينها ـ وتحدثت بصوتٍ هادئ عكس صخبها السابق :
    " في هذه الجهه سيكون هناك خمس غرف لنوم الضيوف ، غرفة معيشةٍ واسعة ومطبخ صغير "
    مدت يدها ليمين داينال ـ الذي هو يسارها ـ وقالت بنفس الوتيرة السابقة :
    " غرفة نوم السيد من هنا ، مكتب كبير وغرفة معيشة ثانية أكبر من شقيقتها في الجانب المقابل "
    راقبته وهو يُحدّق مطولاً في ذلك المكان .. كان قلب دانيال يدقّ بسرعةٍ كبيرة وبسُرعة عندما سأل سؤالاً أرادَ ان يُفصح عنه منذ اللحظة التي أتى فيها إلى هنا :

    " وأين هو الآن ؟ "

    أجابته هامسةً وعيناها تأسُرانِ الطفل بشدّة في مقلتيها :
    " السيد في غُرفته منذ الظّهيرة "
    عندما قالت هذه العبارة شاهدت كم أن دانيال تحرّك بسرعة وفي وجهه تلك اللهفة الغريبة .. وقفت أمامه مانعةً إياه وهي تحمل استنكاراً من اندفاعه لرؤية سيدها الصغير :
    " هل ستذهب لرؤيته الآن ؟ أوليس من الأفضل أن تنتظر حتّى انتهاء موعد العشاء ؟ "
    " أنتِ تعلمين أنه من الضروري تقديم خادم السيد الشخصي فور قدومه ، لقد انتظرتُ وقتاً طويلاً سيدة دورثي "
    تجمدت بصدمة وهي تُدقق في فيروزية عينيه ، لقد كانت متأكدة أن لون حدقتيه كان أزرقاً صافياً يلمع بشدّة ، لكنها لم تهتم كثيراً بإنقلاب عينيه أو شكّها أنها بدأت تفقد انتباهاً كبيراً لوجه العاملين هنا .. إلا أن ما احتل الجزء الكبير هو سؤالها عن حماسه لمقابلة سيده بهذه الطريقة وهو الذي أتى والخوف يركبه ويعتصر قلبه بشدّة !
    " بالطبع بالطبع .. لكنك لو لم تُرد فسأتجاهل القوانين وأقومُ بتأجيل لقائكما .. "

    رفض المعني عرضها بشكل مهذّب وسارعت خطاه لأن يتجه ليمينه ملمّحاً للسيدة دورثي بأن تتقدم وتدله على مكان غرفة سيده .. مشيت أمامه في تلك اللحظة مُسلّمةً نفسها للأمر الواقع الذي فَرضه دانيال عليها ، مرت بعدّة أبواب حتى وقفت عند مَمَرّ ظَهَر بابه الكبيرُ الحليبيّ بشكلٍ ملفت .. كانت قد طرقت استئذاناً لكن لم يكن هناك ردّ يُذكر .. وهنا اضطرّت لفتح الباب .. لم يتفرّغ الأخ الصغير للإلتِفاتِ لشكل الغرفة لأن عقله وقلبه وكل ذرة في جسده كانت تتفاعل تلقائياً من أجل أن تتقدم في اللحظة المناسبة وتهجم على شكل أخيه تُدقّقه وتُحَلّله في أقرب فرصة ، ولكنه على أية حال أُجبر على رؤية أمور أخرى كانت أمامه .. سرير كبير يمتلك فراشاً أزرق داكن ، وسجّادة بيضاء فاخِرة .. هُنا بابٌ يبدو أنه كان لغرفة التبديل الجانبية ـ لكن دانيال لم يعرف ذلك ـ لهذا تسائل لو أن الباب المصنوع بالخشب الأسود قد يكون للحمام وهو في زاوية بعيدة عنه نظراً لحجم الغرفة الضخم ، إذن ما ذلك الذي هناك ولأي مكان يجبُ عليك أن تمضي من خلاله ؟ مكتبةٌ صغيرة ذات أرفف متباعدة لتبدو بتصميم حديث ، حامِلُ تلفاز متطور وبعض الأجهزة التي لم يرها دانيال في حياته في زاوية أخرى ، على يمينه شرفة أُغلِقَت أبوابها الزجاجية وطاولة جانبية فخمة بكراسٍ طويلة ..
    أتت كل هذه الزوايا والأجسام مروراً سريعاً على عينيّ دانيال .. وفي النهاية قد رآه واقفاً ينظر من نافذة غرفته الكبيرة التي كانت بعرض الجدار تسعُ رؤية ما خلفها من أعشاش وأشجار صغيرة .. ممسِكاً كِتاباً ما يقوم بنقر حافته الحادة على الطاولة شارد الذّهن ، يرتدي بنطالاً مريحاً كحليّ اللون وقميصاً أبيض .. لم يستطع دانيال رؤية ملامح شقيقه ، إلا أن شعره كان أشقراً تماماً كما قالت أُمّه ، لم يتوقع أن تكذب على شكله الخارجي على أية حال ، لكنه أرادَ فقط أن يتأكد من روعة الفتى التي أمضت والدته ليالٍ طويلة في البكاء عليه ..

    " أعذرني لدخولي غير المأذون له سيدي الصغير ، لكن هذا أمر عاجل يحتاجُ أن تُعلَمَ به "
    كان صبياً ذو أحدَ عَشَرَ عاماً لا يرد عليها إلا بالصمت ، من الواضح أن عقله مشغول ببضعَةِ أمور لا أحد يعلم عنها شيئاً .. همهم لها مُعبّراً عن فهمه ، لكن جسمه لا إرادياً قد توغّل في دوامةِ الأفكار لذا لم يكن متفرغاً لأن يتحدث ويقطع شرودَه الحاد ـ تحدث للكثير هذه الحالة أحياناً ـ ، إلّا أنها سرعانما ترحل إن كان الطرف الآخر يقوم بشيء ما تُفسد عليك خلوتك الزّمينة التي تجعل كل شيء متوقفاً وغير مُهمّ .. لكنّ المعنية لم تتحدث .. كانت تنظر إلى دانيال بأسفٍ شديد .. فهو لن يتقبل الأمر كما حصل مع العاملين في الأسفل .. حينها وعندما فكّرت بهذا بحسرة كان ليونارد ينظر إليها بهدوءٍ شديد ، فقد قطع حبل حِواراته الصامتة وأدار رأسه .. لاحظ الطفل الواقف بجانب مدبرة المنزل ، حان دوره هو الذي يزيل دورثي عن ثرثرتها الذاتية عندما أشار برأسه إلى دانيال وهو يُردِفُ ببرودٍ بطيء :

    " دورثي ، من هذا الذي بجانبك ؟ "
    " هذا ما أردت إيضاحه لك سيدي إنـ..."
    وقبل أن تُكمل كلامها كان دانيال قد تقدم مسرعاً إلى الأمام متحدثاً عن نفسه :
    " أُدعى دانيال سيد ليونارد "
    لم يرُدّ ليونارد على ذلك الطفل الصغير ، كان صامتاً يحدق فيه بعيون عشبية غير مبالية تظن أنه لا يستحق أن يُسمعه كلامه .. بينما مدبرة المنزل تنظر مذهولةً إلى دانيال الذي نَطَقَ من دون إذن !
    " أنتِ لن تُدخِلي قَصري إلّا الخَدم ، لكن ألم يتعلم هذا الطفل أن يتحدث إلا إذا أُشير له بذلك ؟ "
    قالها بشيء من الإحتقار متوقعاً أن ترد مدبرة المنزل عليه ، قبل أن ينظر للسيدة ليُعزز كلامه كان دانيال قد فتح فمه وقال بصوتٍ واضح وثابت مجدداً :
    " لن أقول أنه من الأدب ، لكن من الضروري أن تسأل صاحبَ الشأنِ عن أمره "
    فرغت فاهها مُرتبكة وإلتفتت لسيدها الذي رمى كتابه على الطاولة بصبر نافذ بسبب استفزازٍ غير مباشر من شخصٍ غريب ، أصغر منه سِنّاً ، وسيعمل عنده من الآن فصاعداً !

    " أوليس لسانُكَ طويلٌ ويحتاج قصّه ؟ ( أكمل بنبرة حادة شرسة ) ألم تُعلمك والدتك أن تحترم أسيادك ؟ فما بالك الآن تتجرّأ وترد عليّ ؟! ( نظر إلى دورثي وأشار إليها بإتهام ) كيف تسمحين لطفلٍ مثل هذا يعمل هنا ! "
    ارتبكت ملامحها وهي تُقذَفُ في وسط هذه المُشاحنة غير المتوقعة ، لم تَعلم أن دانيال سيتجرّاُ ويرد .. لا بل يتحدّث أصلاً من البداية في غير موقعه ! فكّرت في النصائح التي أعطتها إياه في الشُرفة ، لقد كانت هي السبب في أن يختلط الأمرُ على الطفل .. إلا أنها لم تعلم أن دانيال يتعمد التحدث بهذه الطريقة .. كانت هذِه الجُمل المُحمّلة بمشاعر الغيرة والغضب لأسبابٍ عديدة .. شيطانُهُ الخفي أشار إلى ليونارد أن هذا هو المخلوق الذي فضلته والدته عليه ، مجرد صبي متعجرف يتصرف كما تم تلقينه ، يتعامل بوضاعة مع الخدم الذين تحت إمرته !



  15. #494


    " أنا آسِـ..."
    قاطعها ليونارد وهو لازال في مكانه واقفاً بعيداً عنهم بجانب النافذة :
    " ثم لماذا تجلبينه إلى غرفتي الشخصية ؟ هل أنت مُغفّلة ؟ إن كان توظيف الخَدَمُ من اختصاصك إذاً من الطبيعيّ أن يكون ذلك في المكتب الخاص بالطابق الأرضي ! "
    وقبل أن تشرح له السيدة دورثي ، فتح صاحب العيون الفيروزية فمه وشرح مُتطوعاً بكل اختصار وبساطة :
    " لقد أتيتُ بنفسي إلى هنا سيد ليونارد ، هذا لأنني سأكون خادمك الشخصي من الآن فصاعداً "
    ساد الصّمت على الحاضرين ، دورثي التي كانت تتوسل أن لا يصرخ سيدها في وجهها .. ودانيال الذي راقب ملامح أخاه .. ثم ليونارد صامتٌ بصدمة .. قطع ترقبهم المتوتر صوت ضحكة منفلته بشقاوة لكنها حادّة وعصبية بعض الشيء .. لم يحادث السيد الطفل لأنه لا زال يظن أن ذلك الجسد الضئيل لا يستحق اهتمامه أبداً ، إلا أنه حدق في مدبرة المنزل التي شحب وجهها ، أجل .. هذا الصبي بإمكانه ان يطردها بطرف عينيه فقط أو بحركة صغيرة واحدة !

    " سيدة دورثي لقد ظننتك تملكين عقلاً طوال الفترة السابقة بعكس باقي العاملين هنا "
    قطب دانيال مقهوراً من هذه الكلمات اللاذعة والتي ظنّ بكل تأكيد أنها قادمة من طرف جدته أم رولاند أو والده شخصياً ، صرخةٌ أكمل بها ليونارد كلامه وهو يمسك ملابس دانيال بعد أن تقرب منه وهزّه بعنف أمام السيدة الشابة :
    " إذن ماذا يعني هذا التصرف للتو ؟ حُثالة صغيرة قصيرة القامة أشك أنها تستطيع حمل صينية شاي من دون أن يهتزّ قَررتِ فجأة ان تجعليها خادمي الشخصي ؟! "
    " لدي إسم "
    صرّحَ دانيال بضيقٍ وهو يحاول إفلات ملابسه التي بعثر هندامها قبضةُ ليونارد ، لكن المعني شدّها بعصبية أكبر من سابقتها وقربه من وجهه بصراخٍ يتعالى في الجناح الفارغ :
    " وقاحة في وقاحة ، هذا ما أنت عليه ، اخرج من قصري ! "

    " لا تستطيع طردي "
    تمهثل الطفل وفيروزيته تنبض بإضطراب لأجل أن تَقذُفَ الأخضر المُحترق على وجه ابن والدته .. لكنه في آخر لحظة قال الجملة بصبر ، فترك ليونارد ملابس دانيال االتي ابتعد ترتيبها عن مظهره ، لم يقل شيئاً لدورثي المذعورة هذه المرّة ، بل همس للصبي وفمه مفتوحٌ لهذا التجاوز غير المُغتفر :
    " ماذا تعني أيضاً ؟ أتحاول أن تسخر مني ؟ "
    " لقد أتيت من طرف السيد رولاند ماكسويل شخصياً ، السيد الكبير لن يسمح بإخراجي من القصر "
    أدار الأخير رأسه وحَدّق في مدبرة المنزل التي تنهدت وتحدثت جملةً كاملة من دون أن يقاطعها أي واحدٍ فيهم أخيراً :
    " ما يقوله الصبي الصغير حقيقة ... أوامرٌ مباشرة من رولاند ماكسويل بتعيين دانيال خادمٌ شخصيّ لك "
    لقد كان سيسامحها لو قالت له انها تمزح ، وأن هذا الطفل ليس سوى متطفل وأنه سيُأمر بإخراجه فوراً من منزله قبل أن يرتفع ضغط دمه بسببه .. ثم سيكون كل شيء على ما يرام ، لكن دورثي كانت جادّة تماماً .. ولم تقل أي شيء مما كان يأمل ، والطفل الواقف مستجمعاً كل شجاعة العالم لمحادثته قد أغاظه وأغضبته نظراته الفيروزية ، لذا من الطبيعي أن يتصرف بسرعة ويشفي غليله .. أمسك ليونارد دانيال هذه المرة من جسده لا من ملابسه ، ولم يبالي من ارتجاف الأخير متفاجئاً بشدة وبأقوى ما لديه رماه خارج الغرفة ليقسط على وجهه .. شهقت الشابة محدقة في وجه الخادم المتألم وهرعت إليه .. لكنها قبل أن تؤنب ليونارد لاحظت أنه أغلق ـ بل صفق ـ الباب قوة في وجهها وعيناه الحاقدتان تنظر بالخَطَر !

    قفل الباب على نفسه وبقي ينظرُ إلى الفراغ الذي خلّفه الطفل وتلك المرأة .. خادمٌ صغير ؟ ما الذي يُفكر به والده ؟ إنه مجر غلام لا يُحسن التصرف ! أمسك هاتفه ولمس اسم ومكتب والده .. كان يدور بعصبية بالغة متوعّداً وشامتاً بينه وبين نفسه ، فُتح الإتصال وارتبط الطّرفان .. أراد الصبي أن يحادث والده لذا ما إن سمع صوت سكرتيره حتى انفجر في وجهه بنفاذ صبر :
    " توقف عن كل هذا الهراء وأعطني والدي ! أخبره أن هذا بشأن الخادم الجديد الذي جلبه لي ، أخبره أي شيء المهم أنني مُحادِثُهُ اليوم يعني أنني سأفعل ذلك رُغماً عن أنفك المتعجرف ! "
    صمت المعني مُحترماً مشاعر ابن سيّده ولو كانت ذات اسلوب حقير بعض الشيء .. كان ليونارد ينتظر أن يرُدّ والده من أجل أن يُحادثه ، ولو اضطر للتمثيل على أنه انسانٌ هادئ رغم اعصاره الذي يدور من أجل جَرفِ كل شيء وتدميره .. لكن صوت السكرتير مجدداً هو الذي خرج ببرود وبسرعة :
    " السيد رولاند منعني من إيصال اتصالك إلى مكتبه الخاص ، وقال أن عليك اتّخاذ الفتى خادِماً مانِعاً أي اعتراض يصدر من قِبلك "
    تجمد الولد الوحيد مبتلعاً غصّة حارِقة فاجئته .. من دون توديعٍ أغلق الخط وعيناه العشبيتان تمتلئان ببعض الدموع الساخنة ، متى سيفكر والده بمحادثته إذن ؟ عندما يحتضر من دون أن يراه ويتكلم إليه كأي أبٍ وابن طبيعيين ؟ شهق مريداً إدخال الهواء لصدره وسرعانما تجاوز خيبةَ أمله كما يفعلُ عادةً ، عندها انقلبت ملامحه باردةً حاقدة .. وهمس في وسط غرفته بينما يده ترمي الهاتف على الأرض :

    " كل هذا بسبب تلك الحشرة ، طفلٌ وقح !! "
    لم ينتبه لتأنيب دورثي لدانيال في الخارج ، حيث وقفت بغضب هي الأخرى وقالت من بين أسنانها من أجل أن لا يسمعها سيدها الذي بداخل الغرفة :
    " لِمَ فعلتَ ذلك ؟! "
    بقيت تنتظر ردّة فعله .. اعتدل في جلسته بعدما تأوه بقدر ما يريد لكن من دون فائدة بسبب رمية ذلك الشقيّ ، فقد عانقته الأرض بقساوة بالغة .. فنظر مقطباً إلى الفراغ باحثاً عن إجابة شافية .. رفع رأسه أخيراً ليواجهها ويقول بصراحة :
    " أنا نفسي لا أعرف لماذا "
    ضاعت الكلمات التي أراد أن تقولها إليه ، الغضب والعتاب الطويل الذي جهّزته طوال الفترة التي كان يتشاجر فيها مع سيد القصر ، مدّت يدها من أجل مساعدته وهي تشعر بتعاطف بالغ معه :
    " هل أنت بخير إذن ؟ "
    لم يرد عليها المعني لكنه اعتدل واقفاً وحدقتاه تتأملان باب أخيه ، لقد كانت والدته مخطئة في محبّة هذا المخلوق النزق .. لم يستطع التحكم في مشاعره كثيراً لأنه كان غاضباً جداً من ليونارد .. لكنه يتسائل لماذا أرادَ أن يشفي غليلهُ بهذه الطريقة .. رغم ثرثرةِ دورثي التي ظلّت طوال الطريق تتحدث عن كيفية تعامل الخادم الشخصي مع سيده .. إلا أنها لم تنتبه لعقل الصبي الشارد .. أراد بكل قوة أن يكتب رسالة لوالدته ، أن لا تشتاقي لإبن زوجك .. فهو مجرد وغدٍ كجدته وزوجها وولدها الذي لا يدري أين هم الآن وماذا يفعلون ، لكنه متأكد أنهم جميعاً يعيشون في نعيمٍ بينما هو ووالدته فقط من يعانيانِ في هذه العائلة المنقسمة لقسمين ..

    p_3992lesn2



  16. #495


    السلام عليكم ورحمة الله وبركاته ، كيف حالكم جميعاً ؟ أتمنى أن تكونوا على أفضل ما يرام embarrassed
    حسناً قبل كل شيء البارت غير مُدقق نهائياً laugh لذا أي شخص يشعر أنه سيصاب بجلطة او سكتة قلبية فليذهب إلى ملف سمورة من أجل أن يشنّ حرباً عليها لأن البارت على مسؤوليتها laugh > لا دخل لي ، أنا بريئة laugh !!
    والآن لنأتي للمهم .. أولاً لم أرد أن أضع البارت في شهر فبراير hurt ، كنت أود وضعه بعد الامتحانات في نهاية يناير ، لكن ما علينا .. المهم أن البارت الموجود وكل شي بخير وعلى أفضل حال ermm
    أيضاً ، أنا متفاجئة أكثر منكم لان البارت خرج بهذا الطول !!! laugh أنا مجرد فتاة لطيفة أُصيبت بمرض جعلها لا تستطيع كتابة جملتين جيدتين laugh .. إلا أنني أخرجت بارتاً بهذ القدر ؟ : وجه مستنكر بسعادة : أنا سعيدة لأنني أتقدم ولو قليلاً .. لكن بعض الأجزاء في هذا البارت لم تعجبني نهائياً dead لكن هذا أفضل ما أستطيع وضعه لذا أتمنى أن تعذروني .. حيث أنني من دون وعي أختصر كل شيء .. > بهذا الطول وهي تختصر كل شيء laugh الثرثرة مرعبة ! laugh على كل حال أتمنى أن يعجبكم البارت حقاً .. وأن تكونوا سعداء بهذه الهدية النفيــــــــــــــــــــــسة جداً embarrassed وأن لا يسألني أحدكم متى الذكريات التالية classic لأنني سأقتلكم جميعاً classic وأيضاً .. أرى أنكم ستتسائلون عن المواقف والمشاعر التي تلت هذا الموقف مع دانيال وليونارد لكنني للللن ولن ولن ولن أتحدث عن هذا في هذه الأثناء laugh يمكنكم الصراخ إلى آخر العالم أنا لن أخبركم أي شيء الآن laugh
    على كل حال .. لا أدري متى البارت القادم hurt لكنني سأحاول أن يأتي سريعاً .. في أمان الله embarrassed
    p_399wnil92



  17. #496
    غياب واسفة P2Q2CH
    الصورة الرمزية الخاصة بـ KEI SHIN







    مقالات المدونة
    4

    Grace of Sea Grace of Sea
    You Are Different You Are Different
    الإخباري اللامع 2016 الإخباري اللامع 2016
    السلام عليكم ورحمة الله وبركاته

    بإذن الله برجع لك بعد العصر اتفلسف في رد اختبر فيها صبر ربما012"براااااlaugh

  18. #497
    وااااه انهيته اخيرا 😍
    اخبرك بسعادة بالغة اني شارفت على اخر امتحاناتي وسنبدا في عطله نصف السنه لذا انا متحمسة لوضع ردي البدائي😍
    ساخبرك بكل مشاعري تجاه هذه الرواية القاتلة اللتي لم تجعلني ادرس للاسبوعين القادمين😢😂😂😂😂
    والان الى لقاء قريب فلدي امتحانات ادرس لها
    مع الشكر لطول هذا البارت حقا فقد انتظرت شيء اقرأه قبل ان ابدا فترة الامتحانات الممله هذه😂😂😭

  19. #498
    غياب واسفة P2Q2CH
    الصورة الرمزية الخاصة بـ KEI SHIN







    مقالات المدونة
    4

    Grace of Sea Grace of Sea
    You Are Different You Are Different
    الإخباري اللامع 2016 الإخباري اللامع 2016
    حسنا جاري القراءة فلنرى ماذا لدينا هنا 012laugh

  20. #499
    إقتباس الرسالة الأصلية كتبت بواسطة KEI SHIN مشاهدة المشاركة
    السلام عليكم ورحمة الله وبركاته

    بإذن الله برجع لك بعد العصر اتفلسف في رد اختبر فيها صبر ربما012"براااااlaugh
    حسنا جاري القراءة فلنرى ماذا لدينا هنا
    مجدداً مع هذا الرد السحري الذي لا يُرى ؟ laugh
    لا شان لي بك .. اقرئي في الوقت الذي تريدين وردّي في الوقت الذي تريدين لأنني أعلم ان هذا الرد لن أراه اليوم ولا الذي بعده ولا حتى بعد السنة القادمة tired laugh

  21. #500
    غياب واسفة P2Q2CH
    الصورة الرمزية الخاصة بـ KEI SHIN







    مقالات المدونة
    4

    Grace of Sea Grace of Sea
    You Are Different You Are Different
    الإخباري اللامع 2016 الإخباري اللامع 2016
    حسناً سانتقم منك برد اخليك تفكري ما تقول هذا كلام و اتفلسف لما تقول وبعدينlaughsmoker

بيانات عن الموضوع

الأعضاء الذين يشاهدون هذا الموضوع

عدد زوار الموضوع الآن 1 . (0 عضو و 1 ضيف)

المفضلات

collapse_40b قوانين المشاركة

  • غير مصرّح لك بنشر موضوع جديد
  • غير مصرّح بالرد على المواضيع
  • غير مصرّح لك بإرفاق ملفات
  • غير مصرّح لك بتعديل مشاركاتك
  •  

مكسات على ايفون  مكسات على اندرويد  Rss  Facebook  Twitter