مشاهدة النتائج 1 الى 6 من 6
  1. #1

    الماتركس"الوجود الافتراضى"....فلسفته و فيزيائه

    الوجود الإفتراضيّ

    فلسفته و فيزيائه

    تنبية

    [GLOW]الموضوع يتكلم اساسا على الوجود الافتراضى و افكاره مع الاستعانة بالكثير من مشاهد الفيلم و ذلك لتسهيل الشرح فقط لا غير[/GLOW]


    attachment



    في أولى مشاهد "The Matrix"، يسحب "نيو Neo"، الشخصية المركزية للفيلم، كتاباً بعينه من خزانته، الكتاب كما سنراه بلحظة خاطفة يحمل عنوان المؤلَّف الفلسفي الشهير (النسخ والمحاكاة Simularca and Simulation)، للفيلسوف الفرنسيّ جان بودرياردJean Baudrillard، وبتقليب سريع للكتاب يتوقف نيو عند الفصل الخاص بالنهلستية لنكتشف أن ما نراه ليس كتاباً كما يتراءى لنا إنما هو علبة مجوّفة تضم أقراصاً للكومبيوتر، وبكلام آخر، فالكتاب ليس كتاباً بل "حقيقة زائفة".

    يعكس هذا المشهد الخاص بالكتاب "الحقيقة" التي تعيش فيها البشرية في ظلّ الماتريكس، إنها ببساطة واقع افتراضي يوحي بأنه واقع حقيقي رغم أنه ليس كذلك، بل هو حقيقة إصطناعية ينتجها كومبيوتر، إلاّ أنها تبدو حقيقية لدرجة أنّ الذي يعيش فيها يؤمن بأنها هي الحقيقة "الحقيقية". والفكرة الاساسية التي يقوم عليها الفيلم، هي إيقاظ النخبة التي ستقود عملية تدمير "النظام" الإفتراضي الذي يتحكّم بأذهان الناس. لذلك فإنّ الفلم لا ينتهي عبثاً بوصلةِ روك صاخبة لفرقة Rage Against the Machine (الثورة ضد الماكنة)، وهي تكرز على إيقاع الجيتار: إستيقظْ .. استيقظْ!


    مرجعية ماتريكس:

    يعجّ الفيلم بمرجعيات فكرية وإشارات دينية عديدة، فمن البوذية أخذ فكرة جهل الحقيقة وتحرير الذهن، ومن اليهودية أخذ "صهيون" عاصمة داود الملكية، وهي البقعة العاصية الوحيدة ضد النظام الافتراضي للوجود، أما من المسيحية فقد وردت رموز لا حصر لها، أولها "نيوNeo" المخلِّص الذي يترادف إسمه مع (الأَحَد The One)، في تبادل دلاليّ مقصود للحروف، وترينتي (الثالوث Trinity) في إشارة للأقانيم المسيحية الثلاثة، وهي التي تحيي "نيو" من بعد موات بقبلاتها، إلاّ أنّ المرجع الفلسفي الأساسيّ للفيلم هو كتاب بودريارد (النسخ والمحاكاة)، الذي يقال أنّ الأخوين فاشوفسكي (صانعا الفلم) قد كلّفا الممثل كينو ريفز "نيو" بقراءة هذا العمل قبل الشروع بالتمثيل.. فمن هو بودريارد، وماهي أفكاره؟


    الفلسفة الإفتراضية:

    النقطة الأساسية في عمل بودريادر الفلسفيّ (النسخ والمحاكاة)، والتي بني عليها فلم ماتريكس، هي فكرة "الحقيقة المُتخيَّلة" التي تقول بأن الناس في المجتمعات المعاصرة يعيشون في عالم مُصطَنع تتلاشى فيه الحدود بين الواقع والخيال ويندمجان. ويستشهد بودريارد بالرئيس الأمريكي الأسبق والممثل رونالد ريغن كنموذج لكيفية إنصهار الحقيقة والخيال في بوتقة واحدة، كما لا ينسى أن يستشهد بمدينة ديزني "عقدة فرنسا الثقافية" التي رغم كونها مدينة إصطناعية إلاّ أنها تحاول إنتاج "شيء حقيقي" يدخل بدرجة أو بأخرى ضمن العالم الإفتراضي.

    ولد بودريارد، أهم فلاسفة ما بعد الحداثة، عام 1929 في مدينة Reims الفرنسية، وتتلمذ أثناء سني دراسته لعلم الأجتماع على يد المفكر الماركسي هنري لوفيفر. تزامن صدور أول أعماله الفلسفية (نظام الأشياء The System of Objects) مع تظاهرات الطلاب الصاخبة عام 1968، وفلسفته هي مزيج من علم الإجتماع ونظريات الإتصال والإقتصاد السياسيّ إضافة الى علم النفس والسيمياء، ولذلك فهو يعد الفيلسوف الرئيسي لمابعد الحداثة أو مابعد البنيوية، والعقل الذي يعوّل عليه الفكر اليساري الحديث في منازلته للبنيوية ومواجهة المجتمع الرأسمالي الحديث.

    "أنا عدميّ وإرهابيّ في عالم الأفكار"، يقول بودريارد في تصريح له عام 1971 "تماماً كما أنّ الآخرين إرهابيون بقوة السلاح!"، ويعتبر ذلك ردّ فعلٍ طبيعي على إحتكار الأفكار ومصادرتها من قبل النظام المهيمن فإنما هو "إرهاب ضدّ الإرهاب".

    في الأعوام التي سبقت وتلت حرب الخليج (1990ـ1991) كتب بودريارد ثلاث مقالات صادمة واستفزازية نشرتها جريدة ليبراسون الفرنسية، أولها نشر قبل الحرب: "حرب الخليج سوف لن تقع". الثانية أثناء الحرب: "هل حرب الخليج تجري الآن فعلاً؟". والثالثة بعد الحرب: "حرب الخليج لم تقع!" وتتركز تلك المقولات على نقد أسلوب العرض الإعلامي "الإفتراضي" للحرب وتسويقها كما تسوّق الحروب الخيالية الأمريكي حيث ينتصر فيها الطيب على الشرير، فالحقيقة المعروضة للحرب ليست حقيقة وأنما هي صورة مزوّقة ومزيفة قامت بصناعتها الإدارة الأمريكية، حسب تعبير بودريارد. أمّا ردّه على الصدمة الأعلامية لسقوط بُرجَي التجارة العالمية فكان:"إنّ إنهيار بُرجي مركز التجارة العالمي لا يمكن تصوّره، إلاّ أن ذلك غير كاف لجعله حدثاً حقيقياً"! ...



    إحداثيات جورجياس الإغريقي:

    السوفسطائي اليوناني جورجياس النهلستي يضع ثلاث إمكانيات للتعامل مع العالم:

    1) لا شيء موجود.

    2) إذا وُجدَ أي شيء، فلن يمكننا إدراكه.

    3) إذا وجد أيّ شيء واستطعنا إدراكه، فلن يمكننا الإتصال به.

    وفي خضمّ هذه الحيرة يجد توماس أندرسون "نيو" نفسه، فهو كائن ضائع، مضيَّع بين حقيقتين، حقيقته النهارية كمواطن عادي يعمل في شركة للبرمجة، وحقيقته الليلية كهاكر متمرّد على النظام الشبكيّ الذي هو جزء منه ومصنِّع له. هاتان الحقيقتان وُضعتا أمامه كخيارٍ أخير على على شكل كبسولتين في راحتي مورفيوس، قائد المجموعة السرية "المستيقظة" التي قررت إختيار "نيو" كمخلّص ومنقذ للبشرية من الوهم الإفتراضي. كبسولتان، زرقاء وحمراء، فإمّا أن يتناول الزرقاء (كناية عن ثقافة السلطة) فتنتهي القصة ليستيقظ في سريره ويؤمن بما يريد أن يؤمن به، أو يأخذ الحبّة الحمراء (كناية عن ثقافة التمرّد والثورة) فيبقى في "بلاد العجائب"، حيث سيريه مورفيوس في محاورات شيقة وعميقة، مدى عمق جحر الأرنب الذي هو فيه. وقبل أن يمد "نيو" يده لتناول الحبة الحمراء يذكّره مورفيوس بأنه "سيقدم له الحقيقة... لا أكثر"!

    صحراء الحقيقة:



    ما فوق الواقع، أو فوق الحقيقة Hyperreality، هي واحدة من إنشغالات جان بودريارد الفلسفية، وبوجه خاص "ما فوق الواقع" الأمريكيّ، فأميركا ـ طبقاً لبوديارد ـ قد شيّدت لنفسها عالماً أكثر "واقعية" من الواقع نفسه، وهؤلاء الذين يقطنونه أناس مهووسون بالخلود والكمال وتمجيد ذواتهم، فالحقيقة هناك مُستبدَلة بنسخةٍ Copy، وبالتالي فإن حقيقتهم تلك قد حل محلها بديلٌ زائف فلا شيء حقيقي هناك لأن الناس مكبّلون بالوهم. ولذا فليس من دون قصد يهتف مورفيوس مخاطبا "نيو" عند تناوله الكبسولة الحمراء (حبّة الوعي): "مرحباً بك في صحراء الحقيقة!". فما فوق الواقعية Hyperrealism ، عرض من أعراض ثقافة مابعد الحداثة، فهي "لن توجد" و "لا وجود لها"، لأنها ببساطة إسلوب لتصوير المعلومات التي يكون موضوعها العقل، ومن أهم ملامح هذا العرض هو "الحقيقة المفلترة" أو "حقيقة عبر البروكسي" ولذلك فإن بودريارد يفترض أن العالم الذي نعيش فيه قد حلت محله نسخة من عالم تحركنا فيه حوافز مزيفة لا أكثر.



    شكلت الأفكار الفلسفية المعادية للثقافة الأمريكية محور السياسة والفكر الفرنسي منذ الحرب العالمية الثانية حتى الآن، ومن الصعب على أيّ مفكر أو مثقف فرنسي "تسويق" نفسه دون الدخول في هذا التيار الذي تحركه وتغذيه عقدة النقص والصغار الفرنسي تجاه محرريهم، وبالتالي فإنها تجعلهم ـ دون أن يعوا ذلك ـ "نسخا" وبدائل غير حقيقية من الثقافة الرسمية لمجتمعهم الذي يستهلك أفكارا ينتجها هو ليستهلكها ثم يعيد إنتاجها من جديد.. هذه الأفكار هي التي جعلتهم يمنحون جائزة مهرجان (كان) الكبرى في العام الماضي لمخرج تافه مثل مايكل مور على فيلم دعائي لا قيمةَ له "11 فهرنهايت" لتساوقه مع "النسخ" الثقافية التي تقوم منظومتهم الفكرية والسياسية بإنتاجها، في الوقت الذي تقوم فيه المؤسسة الثقافية الأمريكية "المزيفة" بإنتاج فيلم لا مثيل له تمثل فيه أفكار بودريارد الفلسفية، المنتقدة لمؤسستها الإعلامية حجر الزاوية، في صياغة فنية وتكنلوجية عالية التطور ستجعله بلا ريب في مصاف كلاسيكيات السينما للقرن الواحد والعشرين.

    حوار مورفيوس


    attachment


    هناك أغنية شهيرة للمغنّي الإنجليزي جون لينون إسمها "مُراقباً الدولاب Watching The Wheels"، يقول فيها:

    يقولُ الناسُ إنّي كسولٌ، أهدرُ بالأحلام حياتي

    يقدّمون لي كلّ نصيحةٍ، خصوصاً لإرشادي

    وحين أقولُ "إنّي بخير، أراقبُ الظلالَ على الجدار"

    يقولون: أفلتَ منك الزمنُ يا غلام، فلم تعدْ هنا على الأرض.

    فعن أيّ جدار يتحدث جون لينون، والى أيّة ظلال يشير!؟
    8142a0c855f5602a82637e30e68e8f79
    baee48f03cc49a9be900a6b85f5d73ac


  2. ...

  3. #2
    ما وراء الظلال: رحلة الى كهف إفلاطون

    في الفصل السابع من كتاب "الجمهورية" يحاول إفلاطون أن يشرح لمحاوره مقولةً لسقراط تهدف الى تبيان ما للتهذيب الحقيقيّ من خطورة واهمية في تنشئة الجيل. إنه يتصوّر طائفة من الناس مكبّلين بالسلاسل منذ ولادتهم ويقيمون في كهف، ظهورهم مقابلة لمدخلهِ ووراءهم نار مشتعلة ذات لهب. بين النار والناس هنالك طريق يمرّ عليه الناس، وأمام هؤلاء الناس جدار يصل الى مستوى رؤوسهم فيخفيها، إلاّ أنه يسمح فقط برؤية ما يحملونه فوقها من أشياء، فتلقي تلك الأشياءُ، بسبب اللهب، ظلالَها على جدران الكهوف أمام أعين السجناء، فتتراءى تلك الظلال لهم على أنها هي اليقينيات الوحيدة.

    ثم يفترض إفلاطون أنّ أحد السجناء قد حلّ أغلاله وخرج الى ضوء النهار فألِفَ، بالتدريج، رؤيةَ ما حوله فتسنّى له إدراك حقيقتها. يقول إفلاطون أنّ نسبة هذا الرجل الى السجناء السفليين كنسبة الفيلسوف الى العامة المهذّبين تهذيباً ناقصاً. فإذا ما عاد الى الكهف واستأنف مركزه وعمله السابق فإنه سيكون أول الأمر عرضةً لهزء رفاقه فيما لو حاول تبيان "حقيقة" تلك الظلال لهم، بالضبط كما أن الفيلسوف الحقيقي هو موضوع لهزء الناس وسخريتهم، لأنّ معرفته ـ حسب إفلاطون ـ ستكون فائقةً على معرفة رفقائه باعتبار الظلال والحقائق التي وراءها.


    غمائم على عينيّ الحصان :


    يسمّي البروفسور علي الورديّ هذه الحالة:"التنويم الإجتماعي"، والمعارف المحدودة التي يتلقاها الناس تلقيناً منذ الصغر:"الإطار الفكريّ". والأطار الفكري الذي يقصده الورديّ هو الإطار الذي إعتاد الأنسان أن ينظر الى الكون من خلاله، وهو إطار يحدد مجال نظره ويقولب تأويلاته ويحكم تفسيراته وفهمه للاشياء، ويشبّهه هنا بالإطار الجلديّ الذي يوضع على جانبي عينيّ الحصان "الغمامتان"، لكي يتوجّه ببصره الى أمام بشكل دائم، فلا يرتبك أو يتطوّح في سيره.

    يقول علي الورديّ في كتابه "خوارق اللاشعور": إنّ الإطار الفكريّ الذي ينظر الإنسان من خلاله الى الكون، مؤلَّفٌ جزؤه الأكبر من المصطلحات والمألوفات والمفترضات التي يوحي بها المجتمع اليه ويغرزها في أعماق عقله الباطن. فالإنسان متأثّر بها من حيث لا يشعر. فهو حين ينظر الى ما حوله لا يدرك أنّ نظرته مقيدة ومحدودة. وكلّ يقينه أنه حرّ في تفكيره!

    ويحدد لنا الورديّ ثلاثة أنواع من القيود التي يرسف فيها عقل الإنسان، وهي هنا تشاكل القيود التي يرسف فيها السجناء الذين تحدثتْ عنهم إمثولة الكهف في كتاب "الجمهورية" لإفلاطون، وهي حسب تصنيف الورديّ:

    1) القيود النفسية: وهي مجموعة معقّدة من الرغبات المكبوتة والعواطف المشبوبة والإتجاهات الدفينة في داخل كل إنسان.

    2) القيود الإجتماعية: وهي علاقات التعصب الوطني، الطبقي أو الطائفيّ للجماعة التي ينتمي اليها الإنسان.

    3) القيود الحضارية: وهي القيم الثقافية والأهداف الاجتماعية التي يتربّى عليها الإنسان منذ الصغر وينشأ في أحضانها، والتي تتغلغل عميقاً في لا شعوره حتى تصبح جزءاً لا يتجزّأ من منطقهِ وأسلوب تفكيره.

    إذنْ، فالأنسان الذي يولد حرّاً في "كهف الماتريكس" فإنما يولد والقيود مهيّأة له منذ الولادة لتكبيل عقله في سجن فكريّ لن يستطيع الخروج منه إلاّ بمقاومة ذاتية رهيبة لتلك القيود التي تكبّله وتشلّ حركة مقاومته تجاه كل ما هو مختلف ولا يتفق مع "حقيقة" الجماعة التي ولد في كهفها، لذا فمن النادر أن نرى إنسلاخات فكرية لأفراد ينتمون الى مجموعة بشرية معينة تعتنق ديناً أو مذهباً بعينه والإنضمام لجماعة أخرى لا تشاكل منظومتها الفكرية والإجتماعية تلك التي نشأ عليها، كتحوّل السيخيّ الى مُسلم، أو المسلم الى بوذيّ مثلاً. فكل فرد من هؤلاء يعتقد أنه وحده الذي يستأثر بحقيقة الوجود التي تمثلها طائفته ويحملها دينه، ومن الممكن ان يستميت من أجل فكرها أو يبيد المخالفين لها، ويشكل التأريخ بمجمله وثائق حيّة تدعم هذا الأمر، ومن يقرأ تاريخ الإبادات الجماعية يستنتج أنها تأريخ لصراع الأفكار والقيم بين كهفين مختلفين لا أكثر، فلكل امريءٍ من دهره ما تعوّدا، وكلّ حزبٍ بما لديهم فرحون.

    إذنْ فإنّ "الثقافةَ" إنما هي محضُ وهمٍ، و"العقل" هو عادة فكرية لا أكثر، فالإنسان الذي يتربّى في أحضان جماعة معينة وينشأ بين ظهرانيهم يخضع لما يسميه الورديّ بـ "التنويم الاجتماعي"، فالقيم والأفكار والسلوكيات التي يتطبّع بها إنما هي القيم والأفكار والسلوكيات السائدة لتلك الجماعة، والتي يزعم الإنسان، حين يدافع عنها، أنها هي الحقيقة العليا التي توصّل اليها بعقله وأن كل الأدلّة العقلية والنقلية تؤيد ذلك "الوهم الجماعيّ" الذي يؤمن به. ولذلك فأن حركة تفكير الإنسان هنا تخضع للجاذبية الأرضية، وقد ندر وجود مَن أفلت من منطقة الجذب أو الشدّ الفكري هذه وانطلق محلقاً في فلك الأفكار الكونيّ، خارقاً منطقة الجذب تلك، بعيداً عن جماعته التي ترسف في تلك الأغلال، أغلال الوهم التي كبّلها بها أسلافها، والتي سيكبلون بها أبناءهم بعد ذلك، وهكذا دواليك. وفي حديث نبويّ يقول "كل مولود يولد على الفطرة، فأبواه يهوّدانه، أو ينصّرانه، أو يمجّسانه"، أي أنّ الانسان يولد كصفحةٍ بيضاء يتولى الكتابة عليها أهله ومجتمعه فيجعلونه يهودياً أو نصرانياً أو مجوسياً. لذلك لا يستغربنّ أحد أن ينكر الإنسانُ المفاهيمَ والأفكارَ التي تعارض ما نشأ عليها عقلُه الباطن، بل المستغرب أن ينكر ما هو وأهله عليه، فمن الأقوال التي كان يرددها الإمام الغزالي في كتبه "أنّ الانسان يستغرب ما لم يعهده، حتى لو حدّثه أحَدٌ أنه لو حكّ خشبة بخشبة ليُخرجَ منها شيئاً أحمر، بمقدار عدسةٍ، يأكل هذه البلدة وأهلها، ولم يكن رأى النار قطّ، لاستغربَ ذلك وأنكره"، فدعونا الآن ننهض مع السيد توماس أندرسن "نيو" من غفوته على طاولة الكومبيوتر...


    مع "نيو" في جحر الأرنب :

    "إنهض يا نيو فالماتركس إمتلكك!". في لحظات البرزخ الذي تتلاشى فيه الحدود بين الحلم والحقيقة، لحظات التحرر من قيد العقل والإطار الفكريّ، يجيؤه هذا النداء من الماوراء، نداء يصيبه بالرجفة ويجعله يغيّر كل حياته ويصعقه، تماماً كما صعق النبي محمد حين جاءه نداء الوحيّ في غار حراء وجعله مذهولاً يرتجف طوال يومه ليغير حياته وحياة قومه كلها فيما بعد. فـ"نيو" الغافي على طاولته أمام كومبيوتره الذي تركه في حالة "بحث Searching" ونام مربوط العقل به عبر أسلاك جهاز الإنصات يصحو فجأة مذعوراً على صوت هذا الهتاف الذي أتاه من وراء عالم الماتركس كأنه إشارة استغاثة من بعيد.. وحين يتساءل عن كنه هذا النداء يجيبه الهتاف ثانيةً: "إتبعْ الأرنب الأبيض!"، إنه صدى للنداء الذي تلقّاه ملوك المجوس من اللاوراء لتتبع النجم الذي سيدلّهم الى الحظيرة التي ولد فيها المسيح، حيث بداية تأريخ وعهد جديد.

    إنّ الاشارات التي إعطيت لنيو تضمّنت إجابة قبل سؤال، وهي تقوم هنا مقام الإشارات النبوئيّة للمخلّصين، إنّها ذات الإشارات التي وصلت الى بوذا العظيم وموسى وعيسى للخروج من الدائرة الماتركسية لمجتمعاتهم المقنّنة، لذلك فإن بشارة المسيح كانت بشارة هدمٍ تدمير "جئتُ لأنقض لا لكي أبني"، وهذا النداء نفسه سيردّده نبيّ نيتشة الزرادشتيّ فيما بعد. ولا يقطع هذا الحوار المفزع بين "نيو" وما وراء الغيب إلاّ صوت طارقٍ على الباب... فنيو، كما يتكشّف لنا هنا، إسم مستعار لقرصان ألكتروني Haker، ينتحله السيد توماس أندرسن، الموظف المدنيّ في شركة للبرمجيات، يمارس من خلاله هوايته المفضّلة: إختراق النظام والإستحواذ على الملفات الرسمية ومن ثم بيعها لمن يرغب من الزبائن والفضوليين.

    ـ "هل شعرت يوماً أنك تجهل إنْ كنتَ مستيقظاً أم حالماً؟"، يساءل "نيو" أحد زبائنه كما يساءل المرء نفسه، أو كمن لا ينتظر جواباً، فيجيبه الزبون كأنّه يتحدّث في حلم "طوال الوقت، يسمونه مخدّر مسكلين mescaline". إنهم ضحايا العالم الماتركسي، حيث يختلط الشيء باللاشيء، والواقع بالوهم، والحياة بالعدم، والصورة بمجازها. وقبل أن يرحل الزوّار يدعونه للخروج الى المرح مثلهم، وهنا تظهر العلامة: أرنب أبيض موشوم على الكتف اليسار لإحدى الفتيات اللواتي بصحبة ذلك الزبون (اليسار أيضاً لتوكيد هويّة المجموعة المتمرّدة على النظام)، هذا الأرنب ستتكرّر الإشارة إليه فيما بعد، لذا فإنّي أرى من الضروي أن نعرف، باختصار، شيئاً عن حكايته قبل أن نلج في ثنايا المحاورة الأولى لمورفيوس.

    أليس في بلاد العجائب :

    عام 1888 أصدر لويس كارول Lewis Carroll (1832 ـ 1898) حكايةً خرافية للأطفال تدور حول مغامرات لطفلة صغيرة إسمها "أليس Alice" تعيش في عالم الأحلام. ولويس كارول هو الأسم المستعار لكاتب وعالم رياضيات بريطانيّ إسمه الحقيقيّ Charles Lutwidge Dodgson، إلاّ أنه إشتهر بإسمه المستعار الذي وقّع به روايته الخرافية الشهيرة هذه التي صدرت عام 1865 وحملت في باديء ذي بدء عنوان (مغامرات أليس تحت الأرض)، ثم عُدّل لاحقاً ليصبح (مغامرات أليس في بلاد العجائب Alice's Adventures in Wonderland).

    يتمحور الفصل الأول من الحكاية (الهبوط في جحر الأرنب)، وهو أهم الفصول على الإطلاق، حول فتاة صغيرة بعمر سبع سنوات، إسمها أليس، يغلبها النوم في أحد المروج فتشاهد (أو تحلم أنها تشاهد) أرنباً غريباً يرتدي ملابس جدّ أنيقة ويتطلّع الى ساعته بين الفينة والفينة وكأنه على موعد ما، فيغلب أليس الفضول لتطارده لتجد نفسها وقد هوت معه في حفرته. وهناك، في الحفرة، تجد نفسها في عالم آخر كل شيء فيه لا معقول، فالحفرة التي هوت إليها ليست حفرة وإنما نفق يفضي الى قاعة فسيحة كل أبوابها مُقفلة، وفي نهاية النفق حديقة جميلة لا تستطيع الوصول اليها بسبب حجمها لكنها تجد على طاولة قريبة زجاجة ماء ملصق عليها ورقة مكتوب فيها "إشربني"، فتشرب أليس منها لتجد حجمها وقد تقلص جداً لتصبح بحجم الدمية مما يتيح لها المرور عبر النفق والولوج الى الحديقة لتقابل هناك مخلوقات بالغة الغرابة كقطّة تشاشير المرحة وصانع القبّعات المجنون إضافة الى شخصيات عجائبية أخرى مستلّة من ورق الكوتشينة.

    إنّ توازي النصّ الذي يقدمه كارول هنا مع عوالم دانتي والكتاب المقدّس، النزول الى العالم السفليّ خاصّة، أمر لا يغيب عن ذهن ناقدٍ ذي بصيرة، فمشهد دانتي في مفتتح (الكوميديا الإلهية) منحدراً صوب الجحيم "في منتصف حياتنا، ألفيتُني في غابةٍ مظلمة"، حيث يصف لقاءه بالوحوش الثلاثة في أسفل الكثيب "فهْدة رشيقة واثبة"، و"أسد شامخ الرأس يغمره جوع مسعور" ثمّ "ذئبة محمّلة بجميع الشهوات"، يذكّر بقوّة بمشهد لقاء أليس ومخلوقات الهوّة العجيبة التي إنحدرت إليها وهي تطارد الأرنب، بل أن دانتي يتماهى مع أليس في لحظة إنفلات التركيز وهيمنة الحلم على العقل، فلا يعود يعرف إن كان نائماً أو مستيقظاً، مثله مثل أليس في بلاد العجائب، أو مورفيوس في عالم الماتركس، فهو يصف دخوله في غابة الظلمات قائلاً: "لم أعرف كيف تسنّى لي أنْ أدخلها، لفرط ما كان النعاس يكتنفني في ذاك الموضع".

    ومع ذلك، فقد ألصقت بكارول تهمة شنيعة. ففي منتصف الستينيات ظهرت إشاعات نجحت في تسويق طبّ الأمراض العقلية مفادها أنّ لويس كارول كتب تلك "الهلوسات" في عوالم أليس السوريالية تحت تأثير المخدرات التي تقوم بتنشيط المخيّلة الخاملة. وفي الواقع فإن الدراسات العلمية التي بحثت في هذا الشأن فيما بعد أثبتت بشكل حاسم خطَلَ هذه الفكرة، لأنّ المخدرات لا تخفق في تحسين الإبداع الشخصيّ وتطويره فحسب، بل إنّ إدمانها يؤدي الى الإضرار بقوّة الخيال الإبداعي بشكل كبير فيما لو تكرّر تعاطيها.

    ولكن دعونا نسأل: ألا يحيل هذا الإتهام الى الإستنتاج المضمر الذي تضمّن إجابة الزبون على تساؤل نيو "فيما إذا كان قد شعر يوماً بأنه "يجهل إنْ كان مستيقظاً أم حالماً"، ليردّ عليه بأنها تأثيرات مخدّر يسمونه "مسكلين Mescaline"؟. يبدو علينا أن ننقّب قليلاً في حياة لويس كارول الشخصيّة لنعرف علاقتها بطاقم المجموعة التي تجابه الماتركس.

  4. #3
    لعبة الهويّات المتعارضة :

    كان لويس كارول هو المولود الأوّل من بين 11 طفلاً لكاهن في أحدى الكنائس الأنجليزية. بدأ منذ سنوات عمره الأولى بالقيام بأعمال ظريفة لتسلية نفسه وعائلته الكبيرة، عن طريق الخدع السحرية والدمى المتحركة أو كتابة القصائد للصحف المحلية. تخرّج عام 1845 من كلية كنيسة السيد المسيح Christ Church، في اوكسفورد بعد دراسته اللاهوت وبقي هناك لتقديم محاضرات في الرياضيات وكتابة الأطروحات أو تقديم الإرشادات للطلبة في الكلية. بعد نيله درجة الشمّاسية، وبسبب تأتأة في نطقه، صرف نظره عن أن يكون كاهناً مثل أبيه ويمّم شطر إهتمامات أخرى. من بين تلك الإهتمامات التي برع فيها كان التصوير الفوتوغرافي، خصوصاً للفتيات الصغيرات، حيث أنجز مجموعة مدهشة منها، تعرف بمجموعة كارول، ومن تلك الفتيات اللواتي قام بتصويرهن 3 أخوات، هنّ بنات هنري جورج ليدل Liddell، عميد كلية كنيسة السيد المسيح تلك. واحدة منهن كانت أليس Alice، تلك التي كتب حكايته الخرافية تلك بوحيٍ منها ومن أجلها، فقد كانت جنّية إلهامه وعروس شعره.

    attachmentattachment
    الصورة الأولى أليس الحقيقية، والثانية للأخوات الثلاث معاً، أليس على يسار الصورة (تصوير لويس كارول)





    يذكر مدوّنو سيرة كارول أنه كان منطقيّاً صارماً جداً في حياته، يبتكر دائماً أكثر الطرق فاعلية لإتمام مهمته. وبسبب صعوبات النوم لديه (مثل نيو) فقد إخترع ما يُعرف بالنيكتوغراف Nyctograph، وهي أداة لأخذ الملاحظات في السرير أثناء الليل أو تحت تأثير تبدلات الذهن، مستنبطاً طريقةً فذّة لدعم الذاكرة وتنظيف رأسه من الأفكار التي تراوده أثناء محاولته النوم. كتب رسالة الى عالم الإحصاء الأنجليزي، أو "أبو الإحصاء" كما يُدعى، شارلز باباج Charles Babbage، مقدماً له نصائح ثمينة تتمحور حول كيفية تطوير آلته الحاسبة. طوّر كارول كذلك الناسخة الهلامية Hectograph، وآلة الطباعة اليدوية التي تعرف بطابعة هاموند Hammond Type-Writer، إضافة الى أداة تصوير الوثائق البدائية المعروفة بإسم قلم أديسون الكهربائي Edison's electric pen.

    أما على صعيد الأكتشافات الظريفة فقد إبتكر كارول قاعدة لإيجاد اليوم من كل إسبوع في أيّ تاريخ وقوانيناً للفوز في المراهنات وقواعد لتنظيم التحكيم في دورات التنس. كما إبتكر مقياساً لقياس نسبة المشروب الكحوليّ Liquor. وبسبب ولعه الشديد بلعب الشطرنج إخترع رقعة شطرنج خاصة للسفر، كما برع كذلك في إنشاء الألعاب التي تعتمد على المنطق والكلمات المترادفة ومزدوجة المعنى، وهذه البراعة تتجلى كثيراً في أعماله التي كتبها الى أليس مثل "مغامرات أليس1865 " و "عبر المرآة1871 " التي كانت بطلتها أليس أيضاً، وقد مارسها حتى على شخصه، فحين أصدر شارلز لوتويدج دودجسن Charles Lutwidge Dodgson حكايته الشهيرة عن مغامرات أليس لم يمهرها بإسمه الحقيقيّ، بل قام بلعبة لغوية، أشبه ما تكون بالخدع السحرية التي كان يقوم بها في طفولته، لتغيير إسمه وإبقائه كما هو في نفس الوقت، إنه مزيف وحقيقيّ أيضاً
    ، إذ قام بترجمة إسميه الأولين Charles Lutwidge الى اللغة اللاتينية ليصبح إسمه "Carolus Lodovicus"، ثم قام بأنْجَلزَتِه (أي جعله إنجليزياً صرفاً) وقلبه، ليتحوّل الى لويس كارول "Lewis Carroll". هذه الألعاب اللغوية واحدة من براعات كارول التي يُشهد له بها في لغته الأمّ، فغالباً ما كان يقوم بتوليفات لغوية جديدة من خلال دمج كلمتين مع بعضهما للخروج بكلمة جيدة تحمل معنى مزدوجاً في الأنجليزية. هذه البراعة متأتية له طبعاً من خلال ذهنيته كعالم بالمنطق وأستاذ للرياضيات وعلينا أخذها بالحسبان حينما نمرّ فيما بعد على أسماء الشخوص الذين سنصادفهم في عالم الماتركس، فغالباً ما تحمل أسماء الشخوص عند كارول وفي فلم الماتركس معاني مزدوجة، فهي ليست مسمّيات عابرة لتحديد هويّة أشخاص أو كائنات إفتراضية فقط بل إحالات ثقافية غالباً ما تحمل أبعاداً دينية أو سياسية تقتضي استدعائها إذا أردنا فهم النصّ الماتركسيّ. إنها الصورة والمعنى، الرنين والدلالة، والنسخة والمحاكاة في الوقت ذاته.



    السقوط الى الأعلى :

    في مقال سيكلوجي للكاتب السويديّ جيري ماتّا Jerry Maatta، حاول فيه تحليل سيكلوجية أليس داخل الهوّة واستبطان ردود فعلها مطابقاً بين السقوط في الهوّة وبين الدخول في مرحلة المراهقة بالنسبة للفتيات اللواتي بعمر أليس، حيث تنضج تجربتها خارج البيت وتشعرها الأحداث بإنفلات الزمام من ترتيبها المنطقيّ البسيط لعقلها الطفوليّ الذي يتعرض لتلك الرجّة النفسية بعد السقوط في الهوّة، وهي مسافة تحولها من طفلة بريئة الى إمرأة ناضجة، فمشاعر أليس تتحوّل بشكل فجائيّ من المرح الى الضيق والتبرّم في الفصول التي تلي فصل السقوط في هاوية الأرنب، وغالباً ما يدفعها اضطرارها لإطاعة قوانين بلاد العجائب الى البكاء والغضب.

    تشاكل هذه التجربة، برأيي، تجربة السيد توماس أندرسن بعد تناوله الكبسولة الحمراء وانكشاف حقيقة "العالم الواقعي" له، فالرعب والقلق والرفض لما انكشف لعينيه من جديد رجّ نفسية السيد أندرسن بشكل كاد يدفع به الى الجنون، إلاّ أنها كانت تجربة جعلته أكثر وعياً واشدّ إصراراً على مواجهة العالم الجديد المزيف، فقد جعلته صدمة التجربة تلك، والتي تشابه صدمة أليس في بلاد العجائب، أكثر نضجاً وأشدّ وعياً للعالم الذي هو فيه، فقد بدأ يرى الأحداث بعين أخرى. دعونا الان نعود الى حكاية أخرى من الحكايات الخرافية التي كتبها كارول، وكانت بطلتها أليس طبعاً، لنطابق بينها وبين أحد مشاهد الماتركس.

    في حكايته "عَبْر المرآة Through the Looking Glass " التي كتبها عام 1871، أي بعد ستة أعوام من صدور "أليس في بلاد العجائب"، يطلب الملكُ من "أليس" أن تراقب الطريق لترى مَن القادم، فيدور الحوار التالي بينهما:

    ـ "أنظري فقط باتجاه الطريق واخبريني إن كنتِ تستطيعين رؤية أحداً منهم".

    ـ " أرى لا أحد على الطريق"، تقول أليس.

    ـ أتمنّى فقط أن تكون لي مثل هاتين العينين لرؤية لا أحد! ومن مثل هذه المسافة أيضاً.

    يذكّر هذا الحوار الذي يغلب عليه المنطق بالمشهد الذي تلى إعادة تهيئة جسد نيو بعد الولادة الجديدة، حيث دار حوار صغير بين مورفيوس وبينه حين كان مسجّى على طاولة العمليات:

    نيو: ماذا أنتم فاعلون؟

    مورفيوس: عضلاتك خامدة. نحن نعيد بناءها.

    نيو: لماذا تؤلمني عيناي؟

    مورفيوس: لأنك لم تستخدمهما من قبل.

    فالعين تفتح لأول مرّة لترى حقيقة العالم والبصيرة تنسحب من الخيال لتشاهد الواقع وتتأمله، ليس كما يتوهّمه العقل بل كما تراه العين. إنّ العالم الماتركسي يستند بقوة على الصور التي يقوم الوهم بانتاجها، ولا يمكن لهذه الصور أن تفعل فعلها بقوّة إلا للنائم أو لمغمض العينين، فالبصر يشتّت الوهم، وصورة العين تطرد صورة الخيال، فالناس في العالم الماتركسيّ كما وصفهم الحديث النبويّ "الناسُ نيام، فإذا ماتوا انتبهوا"، لأنّ موت العالم الماتركسي الوهميّ سيكون بمثابة صحوة جديدة للعقل وللعين من عالم الأحلام.

    إنّ نصوص كارول ترتبط بكثير من العلاقات المتشابكة والوشائج المشتركة مع فلم ماتركس، وتتداخل عوالم "أليس" مع عالم "نيو". ومن جملة تلك الوشائج هي ترينيتيTrinity (الثالوث)، ومورفيوس Morpheus. ففي المقال المذكور للكاتب السويديّ تُقدّم لنا إلماحة عابرة، لكنها ذكية تصلح لأن نجعلها هنا كعيّنة للعبة تبادل الهويات التي تدور في أعمال كارول الأدبية وفلم الماتركس، ففي القصيدة التمهيدية لمغامرات أليس إشارة واضحة لبنات السيد ليدل Liddell الثلاث، أليس Alice ، إيديث Edith، ولورينا Lorina ، حيث أسماهن: Prima، Secunda، Tertia، أي باللاتينية: الأول، الثاني والثالث، وذلك بصيغة المؤنث. وبديهي أنّ اللاوعي الديني الرهبوتيّ قد لعب دوراً كبيراً في هذه الصياغة للاشارة الى صديقاته الصغيرات اللواتي كان يقرأ لهن مغامراته اثناء نزهاته معهن. لكننا في محاولتنا لتقريب فكرة تناصّ الأفكار بين عالم كارول وفلم الماتركس لا نستطيع إغفال فكرة الثالوث المهيمنة في فكرة الماتركس والتي تتجلى في الثلاثي: نيو، مورفيوس وترينيتي.

    فلدينا نيو Neo، الذي يتداخل بتبادل حروفه مع The One (الأوّل)، ومورفيوس Morpheus (الأب الروحيّ)، ثمّ ترينيتيTrinity (الثالوث)، وهؤلاء الثلاثة يشكلون بنية القوة التي تقود المواجهة مع عالم الماتركس وأدواته البوليسية، أشباه المستر سميث Smith، أو "العميل" كما يطلق عليه. إنها الأقانيم الثلاثة التي تشكّل بُنية القوّة الواحدة المناهضة، كما تشكّل عناصر النيوترون Neutron، البروتون Proton، والألكترون Electron، بُنية الذرّة Atom، التي ستدمّر نظام الماتركس. بل يمكنني القول أنّ نيو هو النيوترون (لاحظ هنا تقارب الإسمين)، ومورفيوس (معادله الروحي) هو البروتون. أما ترينتي فهي الألكترون. إنه نمط متكرر ومتوراث من أنماط النماذج البدئيةArchetypes ، حسب تعبير يونغ Jung .

    attachment

  5. #4
    شطرنج أليس:

    في مشهد إرتقاء السلالم نحو مورفيوس تواجهنا لقطة ذات مغزى، إنّ نيو وترينيتي يرتقيان سلالم تحيط بها جدران وأرضية تماثل رقعة شطرنج. إنّ الخدعة البصرية للكاميرا في هذه اللقطة توقع المشاهد في حيرةٍ وتساؤل فيما إذا كان ينظر اليهم من فوق السلالم أم من أسفلها؟ إنهما يرتقيان ويهبطان في الوقت ذاته. إنّ هذا المشهد يحيل بالتأكيد الى بلاد العجائب التي دارت فيها مغامرات أليس، حيث تصادف في مغامراتها مخلوقات على شكل قطع شطرنجية تتحرك على أرضية تشابه رقعة الشطرنج وتشترك معها في ذلك العالم الغرائبي. ويذكّر تداخل الصعود والهبوط بتفكير أليس الطريف، حين ظلت تهوي لساعات في جحر الأرنب، بأنها ستخرج "صاعدة" من الجانب الآخر من الأرض "حيث الناس يمشون على رؤوسهم بالمقلوب!". ويتأكد العالم الشطرنجيّ أكثر فأكثر في كتاب "عَبر المرآة Through the Looking Glass" الذي كتبه كارول فيما بعد، الفصل الثاني تحديداً، حيث تهتف أليس مندهشة وهي تتطلع الى أحد حقول القرية المقسّمة الى مربعات، بأنها "تشبه رقعة شطرنج عملاقة". ولكن دعونا نسأل: ما علاقة كل ذلك بعالم الماتركس الإفتراضي؟ إنّ الإجابة على هذا السؤال الإعتراضي المشروع يحتّم علينا الرجوع قليلاً الى زمن كارول وقبل ذلك أخذ فكرة موجزة عن رواية "عبر المرآة" التي لم تترجم الى العربية كما أعتقد.

    تدور رواية "عَبر المرآة" حول فتاة صغيرة (إسمها أليس أيضاً) تدخل من خلال مرآةٍ فوق الموقد لتجد نفسها في عالمٍ شبيه بعالمها الأول الذي إكتشفته أليس الأولى في بلاد العجائب وذلك بعد سقوطها في جحر الأرنب، إلاّ أنّ الدخول إختياريّ هذه المرّة وبمحض إرادتها، حيث تلتقي بشخوصٍ طريفة مثل الملك الأبيض (شطرنج) والشخصيتان المتناقضتان تويدلدوم Tweedledum وتويدلدي Tweedledee، اللذان رغم تشابههما في كلّ شيء إلاّ أنهما يناقضان بعضهما بعضاً، وعلينا هنا أن نتذكرهما جيداً حينما يحين وقت الحديث عن الهويّات الثنائية المتعارضة في كلٍّ من عالم كارول والماتركس. يبقى أن نشير الى ميزة إختلاف جوهرية في روايتي كارول، فبينما تستند "مغامرات أليس في بلاد العجائب" على لعبة الكوتشينة وتستقي أغلب شخوصها من صورها، فإن رواية "عَبر المرأة" تستند على لعبة الشطرنج وأحجارها، لكن بقوانين بالغة الغرابة سنوضّحها لاحقاً.

    يذكر إ. غراهام Graham E في مقدمته لكتاب "عبر المرآة" التي خصصها عن لويس كارول وكتابته لهذا الكتاب، أنّ لويس كارول بعد سبع سنوات من إصداره "أليس في بلاد العجائب" قد إنهمك في تلقين أليس ألغاز لعبة الشطرنج وصنع لأجل ذلك قصصاً لتوضيح حركات الأحجار وقوانين اللعبة، ثم قرّر فيما بعد أن يحوّل تلك القصص الى رواية واحدة بعد أن إلتقى بفتاة أخرى في لندن، وكانت ـ ويا للمصادفة!ـ تحمل إسم "أليس" أيضاً، فأخضعها لتجربة طريفة لا أرى بأساً في سردها هنا لأنها ستؤدي بنا في نهاية المطاف الى التعرّف على دستٍ خاصّ للشطرنج سيفيدنا جداً في فهم عملية إنتقال الأجساد من العالم الواقعي الى عالم الماتركس الإفتراضيّ، إلا وهو المعروف بإسم: "دست أليس" أو "شطرنج أليس" Alice Chess.

    في يوم ما، بعد تدوينه للقصص الشطرنجية المتناثرة، إلتقى لويس بكارول أثناء زيارته للندن بصبية صغيرة في الثامنة، تُدعى أليس رايكس Alice Raikes، فدعاها للدخول الى البيت ووضعَ في يدها اليمنى برتقالة ثم سألها في أيّة يد تمسك بها، فأجابته بأنّها في يدها اليمنى. بعد ذلك جعلها تقف أمام المرآة وسألها "في أيّة يد يحمل الطفلُ الذي في المرآة البرتقالةَ؟"، فأخبرته أليس أنها في اليد اليسرى، وحين طلب منها توضيح الأمر قالت "إذا كنتُ على الجانب الآخر من المرآة فهل ستظل البرتقالة في يدي اليمنى؟". ويبدو أنّ الإجابة التي أدهشت كارول قد جعلته يعقد العزم على أن يكون كتابه القادم عن العالم الذي يقع في الجانب الآخر من المرآة!

    في عام 1953 إبتكر في. ر. بارتونV. R. Parton ، وهو أحد عباقرة الشطرنج في العالم، دستاً غريباً إستوحاه من عالم كارول في حكايته "عبر المرآة". تقام المبارة فيه على رقعتين وليس رقعة واحدة كما هو معهود، وبين فيلقين من أحجار الشطرنج التقليدية، لكن لونيهما لن يكون هذه المرّة بالأبيض والأسود كالعادة، بل بالأبيض والأحمر. لهذه اللعبة قوانين ثلاث هي في غاية البساطة والغرابة أيضاً:

    1. أيّ حركة للقطعة يجب أن تكون قانونية على الرقعة التي تحركت منها.

    2. أيّ قطعة يمكنها أن تتحرك أو تأسر قطعة معادية إذا كان مربع الأتجاه في الرقعة الثانية شاغراً.

    3. بعد الحركة تنتقل القطعة الى المكان المطابق لمكانها في الرقعة الثانية.

    أي أنّ القطعة التي تتحرك في أيّ من الرقعتين، تنتقل الى موقعها الإفتراضيّ في الرقعة المجاورة وهكذا بالتبادل، فما تحركه هنا ينتهي هناك، وما تحرّكه هناك يتمركز هنا، وهكذا دواليك حتى نهاية آخر قطعة شطرنج على الرقعتين. إنها أشبه بلعبة النظر الى المرايا المتقابلة، فما تراه هنا، موجود هناك، وما تراه هناك هو أنت لا غير..

    attachment
    attachment
    رسمة من حكاية "عَبْر المرآة" حيث تدخل أليس من المرآة لتخرج من الجانب المقابل مع نموذج لشطرنج أليس




    أنّ الوجود الواقعيّ في الرقعة الأولى يقابله وجود إفتراضيّ على الرقعة الثانية، والصراع والتداخل على رقعتي شطرنج أليس يقابله التداخل والتعارض بين عالمي الماتركس الإفتراضيّ والعالم الحقيقيّ الذي تعيش فيه عصبة مورفيوس، ولذا فأنّ النزالات والمعارك التي تدور بين صفّي فيالق الشطرنج التي تحتّم انتقالها على الرقعتين تشابه النزالات والمعارك في عالم الماتركس، فبينما أجسادهم ثابتة على كراسيّهم في العالم الحقيقيّ (مركبة نبوخذ نصر) تنتقل أجسادهم الإفتراضية الى العالم الإفتراضي لتدير الصراع ضد القوّة البوليسية التي تحكم الماتركس الإفتراضيّ، وكلّ لطمة هناك أو رصاصة، يقابلها نزيف دمٍ في موضع الجسد الواقعيّ الساكن في مركز الإتصال الرئيسيّ، حيث أجسادهم مثبتة على كراسيّ توصل أدمغتهم بعالم الماتركس. وكلّ موت هنا يساويه موت مقابل هناك في عالم الماتركس القائم على تصورات العقل، لأنّ لا حياة للجسد بعد موت العقل، على حدّ تعبير مورفيوس.

    إن الصراع البشريّ مع عقل الماتركس الرقميّ ينبغي أن ينظر إليه على أنه إمتداد لكلّ النزالات التاريخية البشرية في مباريات الشطرنج ضد عقل الكومبيوتر الجبّار التي قام بها عمالقة الشطرنج أمثال ميخائيل كاربوف وبوريس سباسكي وبوبي فيشر وغيرهم من مهرة الشطرنج العظام، وأن يُنظر أيضاً الى هذه النزالات الآن على أنها تمرين مستقبليّ للقتال ضد الماتركس والإنتصار عليه.

    مرايا الأسماء وتضادّ الصور :

    أنّ العديد من سمات شخصية لويس كاورل وإعماله تتجلى بقوة في تفاصيل فلم الماتركس، فخلفيته الرياضية والمنطقية وإهتمامه الشطرنجي واللعب بالمترادف من الكلمات وتضادّ المعاني تركت كلها بصماتها بقوة على نسيج الفلم، فالمخلوقات الغريبة التي تملأ حكاياته، على سبيل المثال، جميعها مختلقة من مفردات حقيقية إنجليزية، فرنسية ولاتينية. من جملة هذه المخلوقات الفأر Dormire، الذي تلتقي به أليس. فهو مقبوس من مفردة لاتينية معناها "النوم"، وهذا يحيلنا الى شخص مورفيوسMorpheus ، الذي حسب المثيولوجيا اليونانية، هو "أمير الأحلام". ومن نماذج الترادف اللغوي لدينا كذلك إسم الفلم نفسه، فالماتركس The Matrix مشحون بمعنيين مترادفين: معنى واقعيّ: "الرّحم"، وافتراضيّ: "لائحة من العناصر الرياضيّة تُعامل ككيان واحد". وينطبق الأمر نفسه على جميع الشخوص التي ظهرت في الفلم تقريباً، وسنقدّم مسرداً عنها فيما بعد.

    إنّ صورة اللاهوتي والعالم الرياضيّ للويس كارول تبدو واضحة بقوة في طاقم الماتركس، وخصوصاً توماس أندرسن "نيو"، فصعوبة النوم، المزاج العصبيّ الخجول، عدم استمرائه للطعام، كلها صفات سلوكية مشتركة بين الإثنين. يضاف اليها الولع بالثنائيات، إنفصام الشخصيتين بهويتين مختلفتين وبإسمين مختلفين أيضاً. فمما باحت به أليس بذكرياتها عن لويس كارول أنّه كان يلبس رداء الكهنة الأسود حينما يكون في أوكسفورد، أما حين يصحبها في نزهة على النهر، فقد كان يرتدي بنطالاً أبيض ويبدل قبعته السوداء بقبعة من قش، ويمكنني هنا أن أجزم بأن ثياب مورفيوس (ونيو بعد إنضمامه اليهم) هي نفسها ثياب الرهبانية وبدلة القسّ التي كان يرتديها لويس كارول في أوكسفورد.

    لقد تجنب الأخوان فاشوفسكي، صانعا الفيلم، الإجابة عن الأسئلة التي تحاول نبش دماغيهما، فغالباًً ما كانا يردّدان أنهما "ولدا وترعرعا في المجلات المصوّرة"، الى أن شطحا ذات يوم وذكرا أنهما يهتمّان باللاّهوت، بشكل خاصّ، والرياضيات. نعم!، إنّ الرياضيات واللاهوت هما جوهر الماتركس، فالرياضيات أساس العالم الرقميّ الأفتراضيّ، واللاهوت هو دعامة الإيمان بالمخلّص القادم...


    لم يكن بدّ من هذه المقدمة المملّة واستطرادها لفهمٍ أفضل للمحاورة الأولى من محاورات مورفيوس، ومع ذلك فقد اختصرت قدر الإمكان، فلفهم جيولوجيا "ماتركس" بكل تفاصيلها الثقافية والفكرية سنحتاج مجلدات عديدة لإكتشاف كلّ طبقاتها الفكريّة والثقافية. إنّ الإحالات الثقافية التي يقدمها فلم الماتركس تذكر بمتاهة مكتبة بابل التي تخيلها بورخيس، فكل دهليز يقودك الى دهليز آخر، وكل كتاب يوصلك الى غيره بمتاهة معرفية لا تنتهي، إنها ضياع وإكتشاف يقودك الى ضياع آخر

    المحاورة"حوار مورفيس"

    مورفيوس: أتصوّر .. بأنك حالياً تشعر مثلما شعرت "أليس" وهي تهوي في جحر الأرنب.

    نيو: تستطيع أن تقول ذلك.

    مورفيوس: يمكنني مشاهدة ذلك في عينيك. شكلك يدلّ على أنك تقبل بما تراه لأنك تتوقع أن تستيقظ. الطريف أنّ هذا ليس بعيداً عن الحقيقة. هل تؤمن بالقدَر يا "نيو"؟

    نيو: كلا!

    مورفيوس: لمَ لا؟

    نيو: لا أحبّ فكرةَ أنّي لا أستطيع السيطرة على حياتي.

    مورفيوس: أعرف بالضبط ما تعنيه. دعني أقلْ لك لماذا أنت هنا. لأنك تعرف شيئاً، وما تعرفه لا تستطيع شرحه. إلاّ أنك تشعر به. بل شعرتَ به طوال حياتك: هنالك شيء خطأ في هذا العالم، لا تعرف ما هو إلاّ أنه موجود. كشظيةٍ في ذهنك تقودك الى الجنون. هذا الشعور هو الذي قادك إليّ. هل تعرف عمّا أتحدّث؟

    نيو: الماتركس!

    مورفيوس: هل تريد أن تعرف.. ما هو؟

    نيو: (يهزّ رأسه موافقاً).

    مورفيوس: الماتركس في كل مكان حولنا، حتى حالياً في هذه الغرفة. يمكنك رؤيته من نافذتك، أو عندما تشغّل تلفزيونك. تشعر به عندما تذهب الى العمل..عندما تذهب الى الكنيسة..عندما تدفع ضرائبك. إنه العالم الذي غطّى عينيك ليحجب عنك الحقيقة.

    نيو: أيّة حقيقة؟

    مورفيوس: بإنّك عبدٌ رقيق، كالآخرين وُلِدتَ عبداً في سجنٍ لا تستطيع أن تشمّه أو تذوقه أو تلمسه.. سجنٌ لعقلك.



    المصادر

    جريدة "الصباح"يوم 25/2/2005

    "النسخ والمحاكاة" لبودريادر

  6. #5
    مشكور اخي علي هذا الموضوع واشكر جهودك واقدرها
    sigpic72520_1
    اخوكم/
    المرغمــــي
    التوقيع/
    ¶™®§½±][¶المرغمـــــــي¶][±½§®™¶:

  7. #6

بيانات عن الموضوع

الأعضاء الذين يشاهدون هذا الموضوع

عدد زوار الموضوع الآن 1 . (0 عضو و 1 ضيف)

المفضلات

collapse_40b قوانين المشاركة

  • غير مصرّح لك بنشر موضوع جديد
  • غير مصرّح بالرد على المواضيع
  • غير مصرّح لك بإرفاق ملفات
  • غير مصرّح لك بتعديل مشاركاتك
  •  

مكسات على ايفون  مكسات على اندرويد  Rss  Facebook  Twitter