منطقية مغفلة !
ذلك من قال الذي يعمل ويجلي ويجتهد يحصل على مبتغاه في النهاية ..
ليس صحيحاً البتة ! ، لقد أمضيت سنوات طويلة وأنا أحارب تلك المصطلحات والمعاني الشائكة في كتب حجمها قد يزن حجم أخي الأصغر ، وما نفعي بها ؟ عمل يجبرني بأن أترك سريراً دافئاً كالذي أنا عليه الآن ؟..
تباً.. على الأقل في سنوات الدراسة كنت أقتنص فرص الغفوات السريعة ذات الخمس دقائق حتى يمل هاتفي المحمول مني ويكاد يقف على قدميه ويرمي بنفسه على رأسي لأستيقظ ..
لكن الآن لا ، وألف لا ، علي أن أستيقظ كالطفل الصغير الذي يُجبر على الذهاب لمدرسته غصباً ، يأكل إفطاره الشهي من بيض وخبز وحبوب ، أما أنا فلا أجد في مطبخي غيرالقهوة ! ، طبعاً لا وقت لي حتى باختيار ما شاهت لي نفسي بأكله ، حتى ذاكرتي تهرب مني عند الانتهاء من العمل ، لن أتذمر، القهوة جيدة ، القهوة مفيدة ، وأنا من عشاق القهوة بشكل لا يصدق ، لكن مؤخراً لسبب ما ، ما عدت أستطيب طعمها المر ، ليس لأنها مرة أكثر من اللازم ، هي ليست مرة كفاية !.
طبعاً لا وقت للتذمر أيضاً فقد أصبحت الساعه الرابعة فجراً ولم نتحرك إلى المشفى بعد ..
- تشارل ! سأخرج ، تأتي معي ؟
- ... هدوء...
" يبدوأنه خرج قبلي ، يا له من زميل عمل " .
تصل للمشفى بعد سماع صوت مجموعة لا بأس بها من السيارات المزعجة التي تعل سكينتك ،وتود وبقوة أن تصرخ بها لتصمت ، لكنك بلا شك تتمالك نفسك وتكمل مشوارك إلى وجهتك ،فلا أريد أن ألكم أحداً لأنه نعتني بالمجنون في هذا الصباح الباكر ..
تصل إلى وجهتك بسلامة ، ويستقبلك وجه آآآه تتمنى أن تلعب به لعبة الملاكمة التي كنت تستلطفها في سنوات المراهقة ، لترى في وجهه بقع زرقاء وحمراء تبدو لك جميلة جداً..
- المرضى ينتظرون قدوم سيادتك !
- سيادتي قد وصل ..
- إذهب وقم بالدورة الصباحية في الجناح الثاني .
- عُلم .
الدور ةالصباحية هي أن تستفتح صباح - أو لنقل فجر - كل مريض في الجناح الثاني يقط في سبات عميق ، لتتأكد من أن كل شيء على ما يرام ، وتصور وضعك هنا ، في حالة يرثى لها من الخمول تستقبل تذمرات مرضى حتى أنت تشعر بالأسف على حالهم ..
عموماً بعد دورة طويلة من الفحوصات المبدئية تبدو لك دهراً بأكمله ، قد تكون محظوظاً لتحظى بجراحة مبدئية من غرز وما شابه ، تساعدك بأن تتغلب على النعاس ..
وإن لم تكن محظوظاً ستكون مشؤماً لأنك ستدخل في غرف العمليات من دون خروج ، عملية بعد أخرى وكأنك في دوامة عميقة ، واللوحة البيضاء التي تعرض للجراحين أوقات العمليات وأنواعها تتغير كل ثانية في جراحات مفاجئة لم تتوقع وجودها ،لا وقت بأن تحك رأسك عليك بالعمل والعمل والعمل المتواصل دون توقف..
عمليات قد تكون لا أمل منها ، وتعلم في قرارة نفسك بأنك ستخسر المريض لكنك تقوم بعملك وكأن حياتك هي من على المحك ، وعمليات أخرى بسيطة جداً ،مبدئية تريد أن تتحدى نفسك وتعملها وأنت مغمض العينين حتى كجزء من المزاح ، لكن رغم ذلك تخسر مريضك ، والأسوء بأنك ستخبر عائلة هذا المسكين بذلك وستشهد لحظة إنهيارهم متأسفاً على حالهم .. تقارن نفسك بهم في كثير من المرات ، فأنت لن تتحمل أبداً بأن تخسر عزيزاً على نفسك كما فعلوا ، وفي نفس اللحظة تتساءل هل فعلت كل شيء ممكن أن تفعله لتنقذه من الموت ،رغم علمك بأنك فعلت كل شيء لازلت تشعر بهذا الندم ولازلت تلوم نفسك لخسراتهم .
هذا الشعور لن يتغير على مدى سنوات الخبرة ، ما يتغير فقط مقدرة الطبيب على إخفاء ذلك..
وفي نهاية اليوم تشعر بأنك منهار ، محطم من كل ناحية ممكن أن تتحطم بها ، لكنك تعمل دون توقف ! ، تنظر لحالة هذا ، تتأكد من ضغط هذا ، وتطلب من الممرضة بأن تعطي هذا مسكناً ، إلخ إلخ إلخ .
عندها تتوقف للحظات تتساءل بها ، لماذا أمضيت سنواتي في الدراسة والاجتهاد ولماذا أمضي أيامي هنا في العمل المتواصل الذي لا نفع منه سوى ألم المفاصل وأسفل الظهر ..
- سيد طبيب !
- ....
- سيد طبيب أنا هنا بالأسفل !
- .. أهلا ؟
- عندما أكبر سأصبح طبيباً حتى أنقذ الناس من الموت ، أريد أن أصبح مثلك !
- ( ابتسامة و تنهيدة ) إعمل واجتهد إذاً!
صحيح، هدفي من هذا كله نشوة الفرح التي تغمرني عندما أنقذ إنساناً على وشك الموت ،فرحة أهله بذلك يغنيني عن كل شيء ، وابتسامة فرح منه لعملي تجعلني أنام مرتاحاً رغم كل هذا الشقاء ، علمي بأنه قد يتزوج أو ينجب طفلاً أو ربما ينجز عملاً ضخماً بعد مساعدتي المتواضعة له يجعلني الأسعد في هذا الكون ، ذلك الشعور رغم بساطته كإكسيرالحياة ، يبث فيك الطاقة بعد أن كنت جثة متحركة تجلي للعمل فقط .
كم أنا سعيد لأنني اخترت هذا المجال الرائع رغم مصطلحاته الشائكة ، وكتبه الثقيلة ويومه المتعب ..
منطقية مغفلة حقاً ! .
المفضلات