مهارات التفكير الإبداعي على ألسنة المخلوقات في القرآن الكريم..
لقد بدأت محاولات فهم ظاهرة الإبداع منذ عهد الإغريق القدماء قبل أكثر من عشرين قرنا، ولكن كانت هذه المحاولات في حدود عقل البشر الذي هو مناط التكليف والتكريم بالإنسان من الله - تعالى -، والذي أشار إلى العقل إشارات واضحة في مواضع كثير في القرآن الكريم تحت كلمات مفتاحية متمثلة في (يعقلون في 22 آية، تعقلون في 24 آية، الألباب في 16 آية، الأبصار في 9 آيات) كما أشار إلى الفكر والتفكير تحت كلمات مثل (يتفكرون في 10 آيات، تتفكرون في 3 آيات) وفي هذا دليل واضح على الاهتمام بالعقل و التفكير بشكل عام
وكما يشير (ابن القيم الجوزية) " أن التفكير في القرآن نوعان:
تفكير فيه ليقع على مراد الرب - تعالى- منه، وتفكير في معاني ما دعا عباده إلى التفكير فيه، فالأول تفكير في آياته المسموعة، والثاني تفكير في آياته المشهودة.
والأمثلة التالية يمكن أن تبرهن قال - تعالى -: " وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَمَا أَنزَلَ اللَّهُ مِنْ السَّمَاءِ مِنْ رِزْقٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ آيَاتٌ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ(5) " (سورة الجاثية).
قال - تعالى -: " إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ(3) " (سورة الزخرف).
قال - تعالى -: " وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ(21) " (سورة الروم).
قال - تعالى -: " قُلْ لَا أَقُولُ لَكُمْ عِندِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلَا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلَا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ أَفَلَا تَتَفَكَّرُونَ(50) " (سورة الانعام).
قال - تعالى -: " قَدْ كَانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتَا فِئَةٌ تُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَأُخْرَى كَافِرَةٌ يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ وَاللَّهُ يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَنْ يَشَاءُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِأُوْلِي الْأَبْصَارِ(13) " (سورة آل عمران).
قال - تعالى -: " الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمْ اللَّهُ وَأُوْلَئِكَ هُمْ أُوْلُوا الْأَلْبَابِ(18) " (سورة الزمر).
ولتعدد مفهوم الإبداع واختلاف مناحي الباحثين واهتماماتهم العلمية ومدارسهم الفكرية لا يوجد تعريف جامع لهذا المفهوم ولكن ينظر إليه بصفته قدرة عقلية للبحث عن الجديد وإنتاجه وهي كما كشفت البحوث والدراسات التربوية والنفسية تتكون من قدرات عقلية وهذه القدرات هي:
1. الطلاقة: وهي القدرة على إنتاج أكبر عدد من الأفكار عن موضوع معين في وحدة زمنية ثابتة.
2. المرونة: وهي القدرة على تغيير الحالة الذهنية والأفكار بتغير الموقف والتحرر من القوالب النمطية في التفكير.
3. الأصالة: وهي القدرة على إنتاج الحلول الجديدة والطريقة وعدم تكرار الأفكار والحلول التقليدية للمشكلات.
والناظر في آيات القرآن الكريم نظرة المتمعن والمفكر سيجد ان هناك آيات كثيرة جدا تشير إلى التفكير الإبداعي ومهاراتة: الطلاقة والمرونة والأصالة، جاءت على ألسنة المخلوقات تحت تعبيرنا الذي نستخدم: (قال الله - تعالى -على لسان محمد - صلى الله عليه وسلم -، موسى، إبراهيم،... وهكذا) والأمثلة التالية تدل على ذلك:
قال - تعالى -: "قَالَ مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ(12)قَالَ فَاهْبِطْ مِنْهَا فَمَا يَكُونُ لَكَ أَنْ تَتَكَبَّرَ فِيهَا فَاخْرُجْ إِنَّكَ مِنْ الصَّاغِرِينَ(13)قَالَ أَنظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ(14)قَالَ إِنَّكَ مِنْ الْمُنظَرِينَ(15)قَالَ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ(16)ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ وَلَا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِين " َ(17) (سورة الاعراف).
فهذه الآية تجمع مهارات الطلاقة والمرونة والأصالة:
فالطلاقة جاءت على لسان إبليس في ردوده على كلام الله في هذه الحوار السريع فجاءت عدة أفكار في زمن قصير.
اما المرونة: فجاءت في انتقال إبليس من موقف إلى آخر حتى حصل على تأخيره إلى يوم القيامة.
أما بالنسبة إلى الأصالة: في تبرير إبليس لعدم سجوده لآدم (علية السلام) إذ قال - تعالى -على لسان إبليس: " قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ(12) " (سورة الأعراف).
قال - تعالى -: وَاخْتَارَ مُوسَى قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلًا لِمِيقَاتِنَا فَلَمَّا أَخَذَتْهُمْ الرَّجْفَةُ قَالَ رَبِّ لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُمْ مِنْ قَبْلُ وَإِيَّايَ أَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ السُّفَهَاءُ مِنَّا إِنْ هِيَ إِلَّا فِتْنَتُكَ تُضِلُّ بِهَا مَنْ تَشَاءُ وَتَهْدِي مَنْ تَشَاءُ أَنْتَ وَلِيُّنَا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الْغَافِرِينَ(155) وَاكْتُبْ لَنَا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ إِنَّا هُدْنَا إِلَيْكَ قَالَ عَذَابِي أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشَاءُ وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شيء فسأكتبها لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ(سورة الأعراف، 156)
فهذه الآية اشتملت على طلاقة في التعبير جاءت على لسان موسى - عليه السلام - بصورة المناشد المتوسل لله - تعالى -المتعذر عن بني إسرائيل بعدم هلاكهم، وأنهم تابوا الى الله.
قال - تعالى -: إِنْ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا إِنَاثًا وَإِنْ يَدْعُونَ إِلَّا شَيْطَانًا مَرِيدًا(117)لَعَنَهُ اللَّهُ وَقَالَ لَأَتَّخِذَنَّ مِنْ عِبَادِكَ نَصِيبًا مَفْرُوضًا(118)وَلَأُضِلَّنَّهُمْ وَلَأُمَنِّيَنَّهُمْ وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّ آذَانَ الْأَنْعَامِ وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ وَمَنْ يَتَّخِذْ الشَّيْطَانَ وَلِيًّا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَقَدْ خَسِرَ خُسْرَانًا مُبِينًا(119) (سورة النساء).
اشتملت هذه الآية على الطلاقة جاءت على لسان إبليس في ذكره للمنكرات التي سيضل بها الناس المبتعدين عن أمر الله - تعالى -.
وانظر إلى المرونة التي أبداها إبراهيم (علية السلام) باستخدامه خطوات التفكير العلمي لمعرفة السبيل الامثل إذ قال - تعالى -: " وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنْ الْمُوقِنِينَ(75)فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَى كَوْكَبًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَا أُحِبُّ الْآفِلِينَ(76)فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بَازِغًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لَأَكُونَنَّ مِنْ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ(77)فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَذَا رَبِّي هَذَا أَكْبَرُ فَلَمَّا أَفَلَتْ قَالَ يَاقَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ(78) " (سورة الأنعام).
قال - تعالى -: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّي الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنْ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنْ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (سورة البقرة، 258).
اما في هذه الآية فقد اظهر إبراهيم - عليه السلام - أصالة متميزة في تفكيره بإقامة الحجة على النمرود في وجود الله - عز وجل - بقوله - تعالى -على لسان إبراهيم (قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنْ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنْ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ).
قال - تعالى -: وَاسْتَبَقَا الْبَابَ وَقَدَّتْ قَمِيصَهُ مِنْ دُبُرٍ وَأَلْفَيَا سَيِّدَهَا لَدَى الْبَابِ قَالَتْ مَا جَزَاءُ مَنْ أَرَادَ بِأَهْلِكَ سُوءًا إِلَّا أَنْ يُسْجَنَ أَوْ عَذَابٌ أَلِيمٌ(سورة يوسف، 25).
جاءت الأصالة في هذه الآية على لسان زوجة عزيز مصر حين استبقت يوسف - عليه السلام - في الدفاع عن نفسها بسرعة بديهة منقطعة النظير بمكرها وكيدها بقول الله - تعالى -على لسانها: (قَالَتْ مَا جَزَاءُ مَنْ أَرَادَ بِأَهْلِكَ سُوءًا إِلَّا أَنْ يُسْجَنَ أَوْ عَذَابٌ أَلِيمٌ).


المرجع كتاب منهجية التفكير في القران الكريم "خلل الحدري"..
كتاب الدمغ ولتعلم والتفكير"ذوقان عبيدات"