انتهى ذلك اليوم بهدوء بعد مفاجآت كثيرة غير متوقعة وحل المساء وانتشر الظلام في المدينة
رغم أن ضوء أعمدة الإنارة تحاول إضاءة المكان.
في داخل المنزل الذي يعيشان فيه وفي غرفة الجلوس التي كانت فيها أرآئك متعددة بلون أحمر داكن
مع فضي مخطط، وعلى إحداها جلس ذاك الشاب بهدوء وهو يحمل بيديه علبة عصير تفاح
ليشربها وهو يشغل التلفاز، خرجت من المطبخ الذي يجاور الغرفة شقيقته
وهي تحمل تفاحة حمراء بيدها لتجلس على أريكة منفردة هاتفةً: عصير التفاح مجدداً؟
كاد يأخذ رشفة إلا أن كلامها أوقفته ليرمقها بطرف عينيه قائلاً باستنكار: وأنتِ.. تفاحة مجدداً.
حبست ضحكة كادت أن تخرج وأخذت قضمة من التفاحة وهي تشيح ببصرها عنه لتنظر نحو التلفاز.
ـ هل تريد العشاء؟
ـ لا أدري.. إن كنتِ تريدين لا بأس
قالها وهو يتابع مشاهدة الأخبار، ثم هتف مغمضاً عينيه: أتساءل إن كنتِ تجيدين الطبخ كي تعدي العشاء !
ما إن أنهى جملته حتى سمع صوت وقع أقدماها، فتح عينيه ليجدها تتجه نحو المطبخ
فحك رأسه قليلاً: يبدو أنها ستعد العشاء رغماً عنها الآن.
تنهد وأخذ يشاهد خبراً ما في التلفاز إلا انه صُدِمَ حين عرضت الأخبار جريمة قتل،
وما إن وقعت عيناه على جثة ميتة غارقة في دمائها حتى اتسعت حدقتا عينيه واخذتا تهتزان بخوف
وهو يتعرق بشدة في رعب، أغلق التلفاز بلوحة التحكم (ريموت) الذي في يده وأسند رأسه لحافة مسند الأريكة
وعيناه مغمضتان، أطرق برأسه بعد أن وضع يده على جبينه، وماهي إلا دقائق حتى سمع صوت جرس المنزل.
قام من مكانه متجهاً نحو الباب وعلبه العصير لا تزال في يده، ليقول بكسل: من؟
سمع صوتاً من خلف الباب: أنا !
فتح الباب بانزعاج وملل مردداً: أنا أنا..
وما إن فتح الباب حتى رأى أمامه صديقة شيزون يقف راسماً على وجهه ابتسامة مرحة هاتفاً: مرحبـــــــــاً!
ـ ألا يمكنك ترك الـ أنا وقول اسمك؟!
قالها مغمضاً عينيه ليرد الأخير بمرح وهو يحك رأسه ضاحكاً كالعادة: يقال ان الـ أنا يزيدك فخراً وشهرة و..
وما كاد يفتح عينيه حتى سمع صوت إغلاق الباب في وجهه،
فأخذ يحك رأسه بحيرة قائلاً:يوكا.. ما بك منزعج هكذا ؟
ـ أحمق.. لن أدعَ مغروراً يدخل إلى المنزل.
اعتبرها مزحة إلا انه سمع صوته الجاد الذي قال: من؟
أخفض رأسه للأسفل باستسلام وهو يقول: شيزون
رفع رأسه ليراه يقف أمامه بابتسامة جذابة بعد أن فتح له الباب قائلاً: تفضل
تفاجأ قليلاً إلا أنه دخل إلى المنزل وهو يقول: يا لك من غريب الأطوار !
لم يقل شيئاً وإنما أغلق الباب ودخل خلف شيزون الذي جلس على الأريكة في غرفة الجلوس،
فسأله هيرو قائلاً: هل كنت ذاهباً لمكانٍ ما ؟
ـ أجل، كنت عائداً إلى الشقة بعد أن تناولت العشاء في منزلهم.
استغرب من إجابته فقال بتعجب وتساؤل: أنت لا تعيش معهم؟
ابتسم باصطناع ووضع ذراعه على مسند الأريكة قائلاً: أجل، صحيح أنني كنت اسكن مع عائلة هانامي
في منزلهم لكنني شعرت أنني ثقل عليهم فاخترت ان استأجر شقة أسكن فيها رغم أنهم قد طلبوا الا أفعل ذلك،
في كل الأحوال وافقت على شرطهم مقابل عيشي في الشقة وهي أن أبقى عندهم بعد المدرسة حتى المساء.
ـ هكذا إذن
رد بخفوت وهو يطرق برأسه محاولاً فهم مشاعرة لكنه سمع صوته يقول: أين هايو؟
خرجت منه ضحكة متشمتة وهو يشير إلى المطبخ بيده، نظر إلى هناك فسمع صوتاً من المطبخ
لينظر إلى هيرو قائلاً بتعجب: هل..
لم يكمل حين أجابه هيرو بلا مبالاة وهو يرفع كتفيه بابتسامة مضحكة: تقول إنها ستعد العشاء،
كل ما علي فعله الآن هو انتظار انفجار قوي بعد لحظات
ضحك شيزون كما ضحك ثم صمتا قليلاً وشيزون يخفض جسده قليلاً واضعاً ساعداه على فخذيه
ليردف بعدها بجدية: هل تخفي عني شيئاً؟
استغرب هيرو من سؤاله هذا لكنه أجابه قائلاً:ولماذا تسأل سؤالاً غريباً كهذا ؟
ـ اليوم حين أتيت للمدرسة بتلك الطريقة الغريبة.. بدوت متبعاً و..
ـ أجل لقد كنتُ متعباً قليلاً
قاطع جملمة شيزون ليتحدث هو إلا أن الأخير انفعل فجأة وصرخ: تقول قليلا ؟!
إذن لماذا كان هناك أثر دماء على وجهك؟
تعجب هيرو منه وحدق به لوهلة فشعر شيزون بالخجل من نفسه وجلس بهدوء قائلاً: آسف
ـ لا بأس..
وصمت دون أن يزيد على كلمته شيئاً فقال شيزون مجدداً: أخبرني ما الذي حدث قبل مجيئك؟
ـ لماذا أنت مُصِرٌّ هكذا ؟
ـ لأنني مُصِرٌّ على معرفة الحقيقة، أنت بالتأكيد تخفي شيئاً ما
ـ ما دمتُ أخفي شيئاً فإنني لا أريد ان يعرفه أحد..
ـ بل سأعرفه
ـ وما شأنك أنت؟
وانقلب حديثهما إلى صراخ وجدال مطول حتى انهتى حين قال شيزون
وهو يجلس على الأريكة متنهداً: أنت عنيد جداً
ـ وأنت كذلك
نظرا إلى بعضهما ثم ضحكا معاً ليقول شيزون: حسناً لا تخبرني ما دمت لا تريد ذلك
لم يجبه هيرو واكتفى بالصمت حتى ساد بينهما هدوء غريب قاطعه جملة شيزون الجدية: إذن..
ما الذي حدث قبل 4 سنوات بعد ان اختُطِفت هايو في تلك الليلة؟
وقع السؤال كالصاعقة على هيرو ولم يستطع الجواب بل شيزون نفسه لم يعطهِ فرصة
حين أكمل بنبرته السابقة: ولماذا اختفيت
بعد ذلك وما سبب الجرائم التي حدثت بعدما سمعت بخبر موتكما ؟
حدق به هيرو بصدمةٍ وذهول وعينان المرتعبتان تريان مقتطفات مقطعة أمامهما،
أغمض عينيه وأخفض رأسه قليلاً قائلاً مقطباً حاجبيه
لكن بنبرة هادئة: لماذا تسأل عن شييء لا يخصك مجدداً؟
ـ شيء لا يعنيني؟! لا تعلم أنني أعتبرك أكثر من صديق لي أيها الغبي
وهناك أشياء لا أعرفها عنك وأريد ان أعرف..
رغم أنني سمعت خبر موتكما من ذاك الفتى الذي يدعى اوز والذي كان صديقك كما يدعي..
إلا أنكما لا زلتما على قيد الحياة.. ثم إنني رأيتك بالصدفة بعد ذلك الخبر مع أشخاص غرباء،
لا تعلم دُهشت عند رؤيتك حيا ترزق، قمت بملاحقتك فتفاجأت بـ هايو التي لم أصدق أنها هي،
حالتها كانت مزرية والجروح يغطيها.. كما أنني رأيتك مصدوماً مثلي ولا أظنك كنت تعرف عنها شيئاً..
ثم بعد أن رأيتكما مجدداً والتقينا وعدنا إلى حياتنا الطبيعية وانتهت تلك الجرائم بعد ظهوركما..
حوادث غريبة لا يمكنني تصديقها..
كان يحدق في الفراغ المظلم الذي أمام عينيه وشيزون يسرد أحداثاً لا يتذكرها هو،
لا يتذكر غير مقتطفات من الماضي الذي لا يعرفه، ماضٍ مجهول !
وضع يده على رأسه متألماً وهو يغمض عينيه صراخاً مخفياً شعورة بالتعب: كفى..
توقف شيزون للحظات ثم قام من مكانه حين لمح الألم على ملامح صديقه، فاقترب منه
ليسأله بقلق: هل أنت بخير؟ وجهك شاحب جداً
لم يرد عليه وإنما رمقه بحدة ثم أغمض عينيه وابتسم باصطناع وهو يتعرق ليردف: تعلم أنني لا أذكر يا شيزون
ـ إذن هل ما سمعته صحيح؟! هل.. فقدت ذاكرتك؟
أبعد هيرو يده عن رأسه وتنهد مطرقاً برأسه للأسفل: أجل.. لكنني لا زلت أذكر بعض الأشياء فأنا لم افقدها كلياً،
خبر موتنا تلك.. لم يكن حقيقياً، لأنه في الحادثة نفسها فقد ذاكرتي نصفياً بعد سقوطنا من أعلى الجرف،
لكنني لا أذكر الحادثة كاملة حتى.. يا للسخف
قال جملته الأخيرة وهو يبتسم باحتقار لنفسه في حين كان شيزون صامتاً يحدق بهيرو لوهلة ثم أردف: لا عليك
وقف بجانبه واضعاً يده على كتفه: فـ في النهاية أنت تذكرتني بعد فقدانك للذاكرة
وابتسم ابتسامة باهتة ليجعل هيرو ينسى كل شيء ويرد له تلك الابتسامة،
لكن انتهى المشهد الدرامي في ثوانٍ حين سمعا صوت انفجار قوي من المطبخ،
قفزا رعباً من مكانهما وهرع هيرو إلى هناك وهو يهتف باسمها، ما إن كاد يدخل حتى خرجت هايو من المطبخ
الذي انتشر فيه الدخان وهي تسعل بقوة،اقترب شيزون من خلفه ليقول مازحاً
وهو يضربه على ظهره: كنت على حق، ما كان عليك سوى ان تنتظر الانفجار.
ثم أخذ يقهقه بصمتٍ مانعاً انفجار ضحكته ليضحك هيرو أيضاً بينما هايو ترمقهما بانزعاج،
سعل شيزون قليلاً ثم قال: أظنني تأخرت يجب علي العودة إلى الشقة الآن، أراكما غداً
ثم اتجه نحو الباب وقد تبعه كل من هيرو وهايو، ففتح الباب وقبل أن يخرج هتف بابتسامة: طابت ليلتكما.
وخرج مغلقاً باب المنزل خلفه.
كان هيرو واقفاً بعد خروج شيزون وهايو واقفة خلفه دون أن ينطق أحدهما ببنس شفة،
لكن هيرو قطع سواد الصمت والهدوء قائلاً: يا إلهي هل كان هناك شيء مهم نتحدث فيه
لتضطري إلى التنصت وتنسي أمر العشاء؟
ارتبكت هايو وأخذت تنظر للأرض باحثة عما ستقوله، فهيرو قد اكتشف أنها كانت تستمع لحديثهما،
أردف هيرو قائلاً بهدوء حين لم تقل هايو شيئاً: انسي أمر العشاء فقد تأخر الوقت
ثم استدار ذاهباً من هناك إلا أن هايو أوقفته حين صرخت من خلفه: إذن أنت تذكر.. لقد استعدت ذاكرتك !
وقف في مكانه دون أن يتقدم خطوة أخرى بعد جملتها،
مرت بضع ثوانٍ ثم التفت إليها هاتفاً ببرود: أتمنى أن أستعيدها قريباً
واستدار مجدداً ليكمل مغادرته من هناك لولا أن هايو وقفت أمامه وهي تقول: تتمنى ذلك ! لماذا تفعل هذا بي؟
أنت تذكر أمي، تذكر أبي، تذكر القرية وكذلك تذكر الجميع، وحتى أنك تذكر أننا سقطنا من أعلى الجرف !
ثم قالت بصوت أعلى وهي تضرب صدره بقبضة يدها دون أن تعي ما تفعل: لماذا تكذب إذن؟
لماذا تريد أن تدفن الماضي وتنسى ما فعلوه بنا ؟ لماذا ؟!
ضربت صدره مجدداً فتراجع للخلف قليلاً مغمضاً عينيه بهدوء رغم ما قالته ونطق: لماذا لا تنسين ذلك؟
ـ لن أنسى شيئاً.. ما دام أثر هذا الجرح على عنقك !
قالتها وهي تزيح خصلات شعره عن تلك الندبة على عنقه،
تنهد بعمقٍ وأمسك معصمها منزلاً يدها قائلاً: إنه على عنقي وليس على عنقك،
في كل الأحوال استعادتي لذاكرتي لا يعني أنني سأتغير كما تظنين، لا أريد ان أكون قاتلاً..
بعد كل شيء الشرطة تقوم بالتحقيقات حول هذه القضية التي ليس فيها شاهد ولا دليل
ولا فائدة لذاكرتي التي لا تذكر سوى أشياء تافهة ولا يوجد أي شيء يدلنا على أي شيء.
ـ ما الذي يفعله الشرطة؟! أخبرني ما الذي يفعلونه؟ إنهم متساهلين ولا يشعرون بما نشعر به نحن،
حتى لو ألقوا القبض عليهم.. بمجرد أن يدفعوا المال يطلقون سراحهم وبكل بساطة.. لا أعرف ما فائدتهم.
ابتعد هيرو عنها وصعد السلم ذاهباً للأعلى متوجهاً نحو غرفته بينما هايو تلاحقه بنظارتها
وهي تسمع صوته البارد: لا أريد أن تنهال التحقيقات فوق رأسي، اذهبي للنوم.
أما هي فقد تشبثت بملابسها وشدت قبضتها وهي تزم شفتاها بحنقٍ وقد اختفت عينيها خلف خصلات شعرها
حين أطرقت برأسها للأسفل بإحباط لتقول في داخلها:"ميؤوس منك! "
المفضلات