الحــــــــــــــــــــدس
الموضوع يتكون من :
1- مقدمة
2- "المتن"
3- الخاتمة
4- أسئلة لكم .
المقدمة :
في أعماق نفس كل إنسان كنوز ودفائن كثيرة، ومواهب وقدرات كبيرة، وقوى نفسية خارقة. وفي أغوار اللاوعي طاقات نفاذة وقوى مبدعة تستطيع أن تقود الفرد في طريق النجاح لو أحسن استثمارها.ولكن هذه القوى النفسية في الحقيقة لا تأتي الإنسان طوع إرادته وهي قد تزول أو تضعف حين يريد الإنسان أن يقويها في نفسه وهي قوى لاشعورية تنبعث من أعماق العقل الباطن. ومن المعلوم أن الوعي شيء قشري سطحي مقابل اللاوعي أو العقل الباطن الذي يتحكم فينا بآليات غير مفهومة ولا تخضع للمنطق.ومن المعلوم أن الوعي واللاوعي أو العقل الباطن عند الإنسان لا يشتغلان معا وهما يشبهان المتغيران في معادلة رياضية واحدة وهي عند الرياضيين معادلة غير قابلة للحل.وكذلك يشكل الإنسان معادلة غير قابلة للحل عمليا. ولأهمية ظاهرة الحدس فقد أثارت اهتمام الباحثين والمفكرين والفلاسفة منذ أقدم عصور الفكر. فنجد الاهتمام بها في الفلسفة اليونانية بوصفها من أهم عناصر نظرية المعرفة كما نجد الاهتمام بها في الفلسفة المشائية وأما في القرون الوسطى فقد اهتم بالحدس ابن سينا ثم الغزالي ثم عاد الاهتمام بالحدس في أوروبا مع (ديكارت) .
المتن :
سأتناول العديد من التعاريف ، الحدس هو :
1- التصور الذي يقوم في ذهن خالص منتبه بدرجة من الوضوح والتميز لا يبقى معها مجال للريب
2- التصور الذهني الذي يصدر عن نور العقل وحده
3- التعاطف العقلي الذي ينقلنا إلى باطن الشيء ويجعلنا نتحد بصفاته المفردة التي لا يمكن التعبير عنها بالألفاظ
عالم الرياضيات الفرنسي المعروف (هنري بوانكاريه) يقول باختصار جامع:« نبرهن بالمنطق ونخترع بالحدس». أما عالم النفس الشهير (كارل يونغ) فيبين مفهومه لظاهرة الحدس فيقول: « الحدس سياق غير شعوري من حيث أن نتيجته انفجار محتوى غير واع في الواعية.. فكرة مفاجئة أو شعور بأن شيئاً ما سيحدث وهو يشبه سياق الإدراك لكن الإدراك سياق غير شعوري خلافاً لفعاليات الحواس والاستبطان وهذا ما يجعلنا نتكلم عن الحدس باعتباره فعل فهم غريزيا وسياقا شبيها بسياق الغريزة مع الفرق هو أن الغريزة دفع يهدف إلى تنفيذ فعل بالغ التعقيد على حين أن الحدس هو فهم غير شعوري لوضع بالغ التعقيد لذلك كان الحدس بمعنى ما في موقع معاكس للغريزة». يذكر (كارل يونغ) مثالا في كتابه (البنية النفسية للإنسان) يؤكد أن الإنسان إذا كان مشغولا انشغالا شديدا بأية قضية واستعصت حلها عليه في اليقظة فإن احتدام عقله شبه الواعي يستمر في العمل حتى أثناء النوم فيحصل له الحدس الخارق فيقول:« في رأيي أن جميع الفعاليات التي تحدث في الواعية تظل تعمل في الخافية أيضا .. هناك أمثلة كثيرة على مشكلات فكرية استعصت حلولها في اليقظة ووجدت حلولها في الأحلام.. أعرف خبير حسابات ظل مدة عشرة أيام وهو يحاول بلا طائل أن يكتشف مسألة إفلاس احتيالي وظل ذات يوم يعمل عليها حتى منتصف الليل ولكن دون أن يفلح ثم ذهب إلى النوم.. وفي الساعة الثالثة صباحا أحست زوجته أنه نهض وذهب إلى مكتبه تبعته فرأته يسجل بعض الملاحظات ثم عاد إلى سريره بعد حوالي ربع ساعة وفي الصباح لم يتذكر شيئا، ولما استأنف عمله اتضح له أن على مكتبه عدداً من الملاحظات مكتوبة بخط يده تسوي المشكلة تسوية نهائية».وأما الفيلسوف الأمريكي (بيري) فيرى في كتابه (آفاق القيمة) أن القدرة الحدسية التي تمكن الأدباء والرسامين وغيرهم من مبدعي الفنون هي ذاتها القدرة التي تمكن العلماء من رؤية الاتساق الذي يجمع بين الوقائع ويزيح الستار عن الحقائق المخبوءة. فيقول: « إن هذا اللغز ليس وقفا على الجزء الجمالي من الحياة فلا تزال رؤية العالم الكبير الذي تنعقد فيه حقائق واكتشافات في وحدة متسقة كانت حتى ذلك الحين لا رابطة بينها.. هذه أيضاً لغز بيد أن هناك ألغازا صغيرة في الحياة اليومية: التذكر المفاجئ لما نسي.. العبارات الموفقة والخواطر المبتكرة.. إن أقصى ما يمكن أن يقال هو أن التجارب الماضية والذكريات المختزنة تبلور نفسها فجأة في وحدات منتظمة تكون شيئا جديدا في عالم الوعي إن الخيال ليس مجرد مخزن لشظايا أو نتف أو أشتات ولكنه نشاط إبداعي يبدو انه تلقائي». ويقول العالم الفرنسي الشهير كلود برنار في كتابه (مدخل إلى دراسة الطب التجريبي):« ما من قاعدة يمكن الاعتماد عليها في الإيحاء إلى العقل بفكرة صحيحة مثمرة إلا وتكون للمجرب بمثابة حدس يوجه الذهن سلفاً نحو بحث موفق.. وكل ما يمكن قوله بعد بزوغ الفكرة هو كيفية إخضاعها للقواعد المنطقية الدقيقة.. أما ظهور تلك الفكرة فقد كان تلقائيا محضا وطبيعتها فردية خاصة بها.. وهذه الفكرة عبارة عن شعور خاص عن شيء ذاتي مقوم لعبقرية كل فرد وما لديه من روح الابتكار والإبداع ولا يشاركه فيها أحد سواه.. وتبدو الفكرة الجديدة في صورة علاقة جديدة أو غير متوقعة يرى الذهن وجودها بين الأشياء.. ومن العلاقات ما استدق ولطف بحيث لا تحسه ولا تفهمه أو تكشف عنه إلا الأذهان الثاقبة ذات المواهب الممتازة والأذهان الموهوبة أو التي أتيح لها من الظروف العقلية ما جعلها أحسن استعدادا وأفضل تهيئة». إن الحدس موضوع فلسفي علمي دقيق يصعب إدراك معناه بالاطلاع على قواميس اللغة العربية لأنها لا تعطي لكلمة (حدس) هذا المضمون الكبير فالحدس في اللغة هو التخمين والظن والتخيل والتوهم والتوقع والتصور والفراسة والسبر والقصد والوطء والغلبة في الصراع والسرعة في المشي والمضي مع طريق غير مطروق وهو أيضا اضجاع الشاة للذبح واناخة الناقة ويقال: بلَغت به الحداس أي الغاية والَمحدس المطلب والحدس هو حَرز الشيء وتقديره ويقال تحدَّس الرجل الأخبار تحسَّسها بخفية والرجل الحدُوس هو الرجل المغامر.هذه بعض معاني كلمة (حدس) ومن الواضح أنها لا تستطيع التعبير بوضوح وتحديد عن المعنى العلمي الفلسفي أو الأدبي أو الفني أو الأدائي لكن لا يوجد بديل آخر للتعبير عن هذا المعنى العميق والدقيق غير أن القارئ يستطيع أن يفهم المعنى من السياق، أما الكاتب فيستعين بألفاظ أخرى مثل الاستبصار والإلهام والوثوب الذهني. والمفكر المعروف (إبراهيم البليهي) يقول في تعريفه للحدس الخارق والصائب: «هو ضوء يسطع في الذهن فجأة وبقوة فيفتح أبواب الحقيقة للباحثين ويمد العاملين بالإلهام، وهو ذروة المصادر الأربعة الرئيسية للمعرفة».وفي رأيه :«إن الحدس الصائب لا يتحقق إلا بمنظومة من الشروط تضاف كلها إلى الموهبة المتوقدة: وأول هذه الشروط الامتلاء المعرفي حول الموضوع ومعايشته معايشة حميمة وكافية.. وثانيها الشعور القوي بأهمية الحل المطلوب.. وثالثها الحرارة الوجدانية التي تحشد كل طاقات الإنسان المذخورة لتتلاحم في اتجاه واحد.. ورابعها الاستمرار في الاتجاه نفسه حتى تنكشف الحقيقة ويتحقق الحل.. وخامسها الاختمار الكافي الذي يؤدي مع التلهف إلى نضج الفكرة.. وعند هذه الذروة يكون الحدس الخارق متوقَّع البزوغ».ومن أشهر الأمثلة على وثبة الإدراك بواسطة الحدس الخارق في مجالات العلم والعمل تجربة ومحنة الغزالي التي يذكرها في كتابه(المنقذ من الضلال) فوضع بعد أن أسعفه الحدس الخارق قواعد الشك المنهجي وكذلك التجربة الفكرية للفيلسوف الفرنسي ديكارت.ويروى عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه كان يقول. :« من لم ينفعه ظنه (حدسه) لم تنفعه عينه». إن القدرة الحدسية ضرورية في العلم والعمل.فالعلم - كما يقول (باول ديفز) في كتابه (القوة العظمى): « ينمو ويتسع في ظل الحدس والتأمل ».وفي كتب علم النفس وعلم التربية والفلسفة العلمية يرد كثيرا وصف الحدس وقد أسهب الذين حللوا عملية الإبداع كثيرا في إطراء القدرة الحدسية واعتبارها شرطا للقدرة الإبداعية، كما اهتم بهذه القدرة علم النفس المعرفي. وفي علم النفس قسم بعض الباحثين الحدس إلى مستويات تبدأ من: مستوى الحدس الجسمي ثم الانفعالي ثم العقلي ثم الروحي ولكن آخرين من علماء النفس اعترضوا على تقسيم الحدس إلى مستويات وقسموه إلى وظائف وهي: الاكتشاف الحدسي والحدس الإبداعي والتقييم الحدسي والحدس العملياتي والإشراق الحدسي والتنبؤات الحدسية وهناك علماء نفس آخرون قد قسموا الحدس إلى خمسة أنواع هي: الحدس الكشفي والحدس التجريبي والحدس العلائقي والحدس السيكولوجي والحدس الفلسفي.
الخاتمة :
وأخيرا أحب أن أنقل هنا للقارئ ما كتبه المبدع فؤاد التكرلي عن تجربته الحدسية في العمل الروائي حيث يقول:« كنت قبل سنة ـ 1950م ـ أحاول أن أهتدي بمقولات نظرية واضحة تقودني إلى كتابة أقصوصة عراقية ناجحة على المستوى الفني وكنت أقرأ الكثير من الأقاصيص العربية والمترجمة وأتأمل في المكونات الصياغية لتلك الأقاصيص ولم أخرج من تلك القراءات القصصية بنتائج محددة ولكني اكتسبت حدساً فنياً بما هو جيد وما هو رديء كانت لديَّ افتراضات كثيرة عن اللغة والشكل الفني ونوعية المادة الخام والحوار والدلالة العامة للأقصوصة وكانت كلها افتراضات مائعة ومختلطة بحيث وجدتني في حيرة أتساءل عن كيفية الاستفادة من هذا الخليط الغامض من الأفكار وكان الحل الحاسم (هو الشروع) في الكتابة.. كتابة الأقصوصة التي تضع على الورق ما يحتشد به ذهني من تفاصيل وافتراضات وهواجس ولقد حدث لي هذا الحادث (الحدس) المنتظر من دون مقدمات في شهر ديسمبر سنة (1950م فكتبت أقصوصتي الحقيقية الأولى وكان اسمها (العيون الخضر) استطعت أن أعزل نفسي عن العالم وأن أنجز كتابة ذلك العمل». يعلق ( البليهي)قائلا: إن المبدع لم يتعجل قطف الثمار وإنما أطال الصبر والانتظار حتى نضجت لقد هيأ نفسه على مهل وبنى قدرته بروية واستعان بكل ما يمكن الاستعانة به من النظريات وأشكال الأداء وأعطى كل ذلك مدة كافية للتفاعل والاختمار وفجأة أدرك أن الشكل الإبداعي يتخلق ببطء أثناء الأداء وتتحدد عناصره بالتنفيذ فأهَّلَته هذه الخبرة الأولية لكتابة روايته الأولى (الوجه الآخر) التي أنضجَت تجربته ورسخَت ثقته بنفسه فأنجز عمله الروائي الآخر (الرجع البعيد) ثم أراد أن يغيِّر زاوية المنظور وشكل التعبير متحدياً ذاته بأن يبدع عملاً روائياً لا يكون امتداداً لأعماله الروائية السابقة وكما يقول: « خلال اثنتي عشرة سنة كنت مستغرقاً في استرجاعات مستديمة لما أملك في مخزون ذاكرتي من مواد حياتية خام قد تصلح لتنفيذ افتراضات فنية جديدة وكنت هادئاً صابراً غير مكترث لمرور الزمن (وغير ضجر من طول الانتظار) آملا أن أعثر ليس على فكرة روائية بل على فكرة روائية تتحداني أن أكتبها كما يجب.
إن كشوف العلم وروائع الفكر وفتوحات الأدب وانجازات الفن ومهارات الأداء ليست ثمرة من ثمار الالتزام بقواعد البحث وأساليب الأداء فقط وإنما هي الهامات مضيئة تنبثق من حرارة الاهتمام على حد تعبير البليهي وكما يقول (يوسف أسعد) في كتابه (الشخصية المبدعة) :« المبدع يستعين بمنهج آخر نستطيع أن نسميه بالمنهج الاستشفافي أو المنهج الاستشرافي.. ذلك أن المبدع يتذرع بما يسمى بالحدس.. والحدس هو رؤية ذهنية.. هو قفزة معرفية.. الحدس الذي يتمتع به المبدع هو نوع من الطفرة المعرفية..
والانسان يبقى جاهلا يتعلم طالما هو حي في صيرورة متدفقة، فإن مات انقطعت الصيرورة، وكل الذي فوق التراب تراب. ومن حرم القدرة الحدسية أصبح عبئا وعالة على المجتمع مهما حمل من شهادات. علمه من علمه وغفل عنه من غفل، ومن يغفل عن سنن الله فإن سنن الله لاتغفل عنه. وما يجعل الإنسان ينمو هو العلم، وفوق كل ذي علم عليم.
الاسئلة :
1- هل تؤمن بالحدس ؟
2- هل تعرف أشخاص لديهم خاصية الحدس؟
3- هل لديك أنت خاصية الحدس ؟
أرجو أن الموضوع عجبكم و استفدتوا ...
المفضلات