العاشرة ليلا وقشعريرة برد.
العاشرة ليلا وصوت فيروز القادم من مذياع متهالك من مقهى المحطة.
محطة القطار وشهر ديسمبر. الأمطار والبرد والوحدة.
مر قطار العاشرة بعد أن لفظ وجوها شاحبة غادرت الرصيف كأنما الموت يطاردها، والتهم وجوها سئمةً كأن الحزن ولد معها.
لن يأتي قطاري قبل الثانية عشر. أكره الانتظار، لكني هنا سأنتظر لساعتين. ربما لأني أكره الانتظار أحضر المحطة دوما قبل ساعات من موعد السفر. أن أنتظر على رصيف بارد خير أن أنتظر على مرتبة وثيرة قبالة تلفاز يلفظ الأكاذيب.
صوت فيروز المشحون بالشجن يسري في جسدي بخدر عجيب ويدفعني للارتخاء في مكاني وإغماض عيناي.
الحادية عشر ليلا وجفون مثقلة بالنوم.
أنتبه من غفوتي على لغط المسافرين المراوحين ذات أمكنتهم.
برودة المقعد البلاستكي بدأت تصلني وصوت الرعد انطلق في قيادة أوركسترا السحب عازفة بديع الألحان.
المحطة بدأت تكتظ والمقهى غصت عن كاملها وغاب صوت فيروز وعزف الأمطار بين ضجيج المهرولين نحو الأوهام.
أتأمل الوجوه بسحناتها المتشابهة. الغم مسيطر على الكل، وإن كانت الضحكات لا تتوقف.
أنهض من مكاني خارجا للرصيف أتنسم شيئا من طراوة الأمطار الندية. يصلني الرذاذ لوجهي فيتملكني شعور بالنشوة، وأتذكر قصيدة السياب أنشودة المطر. دائما، كلما هطل المطر تغزوني مشاهد الأنشودة. الجوع والفقر والحرمان.
على الرصيف ذي الأرضية الصلبة الباردة والمبتلة تتكوم أجساد سكنها الحرمان. أجساد في براءة العصافير نخرها البرد والفقر. أجساد تداخلت ببعضها تتكوم على نفسها تستدفئ من حرارة الجوع الذي استوطنها.
صفارة القطار قادمة مع حفيف الرياح الباردة تعلن عن قدومه.
شرطي من شرطة المحطة يخرج إلى الرصيف في دوريته المعتادة. يرى الأجساد المكومة على دواخلها. يتملكه جنون الرفس والركل لأجساد لم تذنب يوما سوى ببقائها حيةً. المهانة والقهر تتملك الأجساد الهزيلة فينطلق اللسان بما يقدر عليه من عبارات السب والشتم. الحنق يغزو نفس الشرطي وتبدأ المطاردات المعتادة. أطفال عراة من كرامتهم يجرون على الرصيف المبتل وشرطي عاري من إنسانيته يتبعهم بكل سادية.
قدم طفل تنزلق ويد تمتد للتعلق بملابس رفيق، وينزلقان معا خارج الرصيف.
لا أحد أثناء اهتمامه بالمطاردة المثيرة انتبه لصوت القطار الذي اقترب كثيرا.. الذي اقترب أكثر مما يجب. لا أحد انتبه قبل أن يرى القطار بعجلاته الحديدية يدهس جسدان فتِيان لم ينعما يوما بالحياة.
ذهول أطبق على الكل. وساعة المحطة أعلنت عن منتصف الليل.
مقل تتلألأ دمعا. أفواه مفتوحة دهشة. وجوه حيرى. أجساد ترتعش رعبا.
الثانية عشر ليلا، والسكون يعم كل المحطة.
عاد صوت فيروز يُسمع من جديد. وواصلت الساعة دقاتها الاثنتي عشر
المفضلات