الصفحة رقم 26 من 36 البدايةالبداية ... 162425262728 ... الأخيرةالأخيرة
مشاهدة النتائج 501 الى 520 من 710
  1. #501


  2. ...

  3. #502

  4. #503

  5. #504
    السلام عليكم ورحمة الله وبركاته .

    صفير رياح و غبار مبعثر في الأجواء ، هذه أطول مدة اختفي فيها اليس كذلك ؟ فصل دراسي كامل em_1f31a
    الحمدلله فقط أنه مضى ، آمل أن تكون نتائجكم افضل مني XD
    على أي حال ، الفصل الثامن عشر قريباً -ربما غداً أو بعده - الأهم أن سيكون في الفترة الحالية ، حاولت وضعه في الرد القادم لكن الإتصال الضعيف بالإنترنت يظهر مواهبه الآن ، لديَ تنويه أقدمه قبل ذلك .

    شكراً لكل من استمر بالتردد إلى هنا ، لم أنسى عناق طوال الفترة السابقة لكن الأوضاع لم تسر في صفَي قطعاً ، استطعت أن اكتب اجزاء متفرقة في كل مرة أجدُ نفسي فيها متفرغة و قضيت الأيام السابقة القليلة في جمعها .
    للأمانة لديَ نيَة في كتابة الفصل التاسع عشر ووضعه في هذا الأسبوع الذي يدعونه "إجازة منتصف العام" em_1f31a آمل فقط أن امتلك الوقت و المزاج الكافي لذلك .

    اخر تعديل كان بواسطة » Red Riding Hood في يوم » 18-01-2015 عند الساعة » 21:07

  6. #505

  7. #506
    لا بأس عزيزتي نحن نقدر ظروفك لذا آثر أكثرنا على عدم الإلحاح بطلب الفصل ،، فهذا يسبب ضغطاً إضافياً مع كمية الضغوط التي لابد ومررتي بها ، وليس وكأننا نسينا[ عناق ]أبداً 😊 ..

    بانتظار الفصل القادم بشغف ،،🌹
    سبحانك اللهم وبحمدك ،، أشهد أن لا إله إلا أنت ...
    أستغفرك ، و أتوب إليك ...

  8. #507

  9. #508

  10. #509
    mXvhyq


    So I try, I take the waves in waves. Everyday, I call my "one more day
    I cut and paste, hang up these days, and hide the walls with no white space
    I don't need space. I don't. So I remain
    The days; a sound that repeats. and I keep my face veiled in the minor key
    I change the scenes, sing what I mean. "The lines are no longer in between"
    I don't need space. I don't
    It's all in my head, but I just can't keep it there
    . If I stay in bed, still, with a vacant stare, I'll see life go by, while outside, sun shines
    This won't be the last "one more time"
    I'll see life go by, while outside, sun shines. This won't be the last "one more time
    Cause the sun shines...on me



  11. #510
    خذلتها الكلِمات إلي تعمدت هجرانها دائماً ، وتركتها وحيدة ذاك المساء ، فقط عندما أرادت إيقافه في الرواق وإخباره بأن عليهما التفكير من جديد و إيجاد حل و سطي ، تبددت كل إرادتها و برُد بريق التورمالين في عينيها ، أشاحت بوجهها عنه وغادرت لغرفتها بكم هائل من الأحاسيس التي أبتِ الأوصاف أن تتملكها .
    اعتقادها الدائم بوجوده دوماً إلى جوارها تمزق أخيراً ، هي ليست ناقمة إلا على تقربه منها ، لقد كانت بخير لوحدها ، تغلق على قلبها الباب وتقضي كل وقتها لوحدها ، فقط لما ظهر أفسد عليها حياتها ، و ليتها لم تستجب له أو تصغي إليه ، ليتها ألقت بوردة الخزامى التي أهداها إياها أرضاً ، ليتها أخرسته عندما وصف عينيها بلون التورمالين .
    لم تعرف ذاك اللون في حياتها ، عيناها الخضراوان شُبّهتا دوماً بالأعشاب الميتة ، ليس فقط و لأنهما داكنتان ، بل لأن رحيق الصبا و عنفوان الشباب مفقود منهما ، ليتها ردت كل ابتسامة ، و دفعت بكل عناق بعيداً ، فقط لتريح نفسها من عناء ما تقاسيه الآن ، أجبرت عقلها على التفكير بشيء واحد فقط ، وهو أن حياتها لم تكن بخير يوماً لذلك فلا فرق الآن .
    استجابت للدوقة آنّا ماريّا عندما قربتها منها و ضمتها بقوة، حزنها الواضح طغى على ابتسامتها الواسعة و عبارات الوداعِ المحبّة لكن كان عليها الإدعاء بعدم الاكتراث فلا شيء هناك لتفعله، ليديا الغير راضية بكل ما آل إليه الأمر وجدت في الدوقة أمَاً لم تنجبها ، قبلت وجنتيها ولحقت بشقيقتها و روزانا للعربة بعد وداعِ سكان المنزل ، انفطر قلب السيدة سيفيريانو على الشقيقتين لوحت بصوت أمِ قلقة ، متلهفة لرؤيتهما سالمتين وراضية بكل ما يصيبها ما دامتا سعيدتين
    "عودا سريعاً"

    عرفت صباح يوم رحيلها بما فعله يوجين سفورزا ، ما زادها إصراراً على الاستعجال و العودة ، لم تكن المسألة في اعتراضها على ما أقدم عليه ، لقد توقعت شيئاً كهذا مسبقاً و يبدوا أن تحذيراتها لجيروم لم تأتِ بنتيجة ، ستكذبُ لو قالت بأنها تفهمه فهي لا تفعل ! عدا أن الشيء الوحيد الذي هي موقِنة منه ، هو أن إبادة المرتزقة كانت خياره الوحيد ، مع أنه تأخر في ذلك فما عاد هناك ما يحميه أو يقاتل لأجله ، الغضب هو الدافع الوحيد وراء كل تصرفاته ، غضبُ الطفل الذي اغتُصِبتْ سعادته ، و أُرسِلت عائلته إلى العالم الآخر بدونه ،
    في سن السادسة فقط و قف يحدقُ بفراغ إلى أشياء لم تعد ذات أهمية و حياة لا تستحقُ أن يعيشها ، كل ما ابتسم لاحت له أشباح عائلته من حوله ، كل ما ضحِك رنّ في أذنه صدى صراخ أشقائه ، الدافع الوحيد لعيشهِ حتى الآن هو الانتقام لا أكثر ، ربما كان بريئاً في طفولته مما أقدم عليه أجداده و لعلَ من دمَروا سعادته وجدوا نفسهم أبرياء أيضاً ، ببساطة الجميع أبرياء في الحرب ، إما من عقولهم الجاهلة التي قادتهم للقتل كوسيلة للسلام ، أو أبرياء من عواقب أفعال هؤلاء الجهلاء ، العناء كُتِب على البشر ما داموا يقتلون بعضهم طمعاً و رغبة فيما ليس لهم به حق ، لا أرض لأحد ، الأرض كلها ملك للبشر ، ليس لأحدِ الحق في قتل الناس و اغتصابِ أملاكهم رغبة في المزيد لا أكثر ، الغضب و الحسد و الطمع هي ركائِز كل الحروب ، هي الخطايا المميتة التي قادت البشرية نحو التهلكة .
    على أي حال ، روز ماري قررت العودة بالفعل إلى إسبانيا ، لو لا أنها قررت فجأة إعادة أقراط التورمالين لجيوفاني ، و لما طرقت باب غرفته و لم يجِب فقد دخلتها ، كانت مملة جداً و لا شيء يلفت النظر عدا الإطلالة الرائعة للنافذة الخشبية ، حيث يبدوا البحر أكثر وضوحاً و لامعاً لما تسقطُ أشعة النور فوقه ، عادت أدراجها راحلة فهبت الرياح و طارت الأوراق من على مكتبه ، في تلك اللحظة بالذات كان عليها الرحيل و العودة فيما بعد ، و على غير عادتها فقد اقتربت وانحنت نحوها لتعيدها لمكانها ، وكما هو مفترض فقد لفت حديث الأوراق كل اهتمامها ، قرأت السطر تلو الآخر ، الورقة بعد الأخرى ، و أي مقاطعة لن تفلح في إخراجها من أفكارها ، قلبت الرسالة و سجَلت اسم المرسل في ذاكرتها جيوفاني ببيرتو دي غويدو من نابَولي ، و ضعت كل شيء جانباً بعد تحديق طويل في العدم ، لملمت نفسها و غادرت المكان ، ليس وكأن تلك الرسائل تشرحُ الكثير من الأمور التي تريدُ معرفتها بل إنها تدلُ على الطريق لذلك ، اسمها كان مدوناً هناك في أحدِ الأسطر ، ليس اسمها وحده بل ڤانوسا غونزاليس جدتها الدوقة العظيمة ، و ميكاييلا غونزاليس والدتها ، و امرأة غريبة باسم مارغاردين ، الأمر محير جداً لأنه ظهر فجأة ، أو بالأحرى اكتشفته بدون مقدمات ، تماماً كما لو كان حلماً ، رحيل روزانا إلى عائلتها هناك في نابولي جاء كفرصة مناسبة لمرافقتها ، سألتها ذلك ورحبت الشابة الضريرة بها بحفاوة بالغة .

    ما إن وصلت العربتان اللتان تنقلان الشقيقتان غونزاليس و روزانا سيفيريانو إلى هناك ، حتى استأذنت روز ماري في الذهاب و تركت ليديا في منزل عائلة دي روسّي برفقة سيرجي واصطحبت ماتيو معها، وجدت المنزل سريعاً بفضلِ جهوده في البحثِ و السؤال ، لما وصلا رفض الخادم إدخالهما بحجة مرضِ سيده ، لكن الأمر اختلف لما أرسلته ليخبره أن روز ماري غونزاليس تريد الحديث ،بقي فارسها في ردهة المنزل و اضطرت هي للذهاب لغرفة نومه لما عرفت أنه مريض جداً ، وجدت رجلاً عجوزاً عظيم اللحية هائل الجسد ، كان مضطجعاً في فراشه وحاول الجلوس حال رؤيتها ، و من بين كل تلك الهضاب و المنخفضات رأت ابتسامة شاحبة ، مد يده و تكلم بصوت خشن
    "ڤانوسا الحبيبة ! هل جئتِ لأخذي معكِ للجنة ؟ لقد طال انتظاري لكِ يا عزيزتي !"
    "أستميحك عذراً ، لستُ الشخص الذي تظن ! "
    لم يكن خائباً الأمل كثيراً عندما أنكرت كونها فتاته المنشودة ، بدا وجهه كإنسان تشبع بخيبات الأمل حتى لم يعد ذلك يشكل فرقاً ، حافظ على وقاره ثم نطق" اقتربي رجاء"
    دنت حتى وقفت إلى جانب فراشه ، أشار لها بالجلوس و عرف أنها تملك الكثير في جعبتها
    "أنت تعرفني لذلك ما من داعِ للتعريف عن نفسي ، لقد جئت لأسألك عن بعض الأمور "
    ضاق حاجباه الكثيفان و زم شفاهه فبدت ملامح نصف وجهه السفلي أشبه بقطعة قماش خيطت بعبث
    "أعرفكِ ؟ و كيف لي ذلك أيتها الشابة ؟"
    "أنت تفعل ، ڤانوسا التي ذكرت اسمها منذ دقائق تكون جدتي الكونتيسة العظيمة"
    عمّ الصمت لبرهة و انفكت عقد الخيوط عن قطعة القماش المهترئة فأردف مبتسماً
    "بالطبع سأعرف روزا الصغيرة من بيت عشرات البنات ، أنتِ تشبهين جدتكِ كثيراً و كأنني أراها أمامي الآن "
    لزمت الصمت احتراماً لذكر أعظم إنسان في حياتها و تابع الفايكونت محتاراً
    "لكنني لا أفهم كيف ترككِ جيوفاني تأتين إلى هنا ، إنه حريص جداً على أن لا تعرفي عني "
    "ما تقوله يزيدني حيرة ، لقد عرفت عنك بطريقتي الخاصة و لم أكن مهتمة حتى علمتُ أنك تعرف جدتي ووالدتي و قررت زيارتك بدون معرفته ، ربما الأمر ليس مهماً بالشكل الكافي لكنني لا أعدَ الصدفة قط سبباً لخِطبتي من جيوفاني ، و أي شخص كان ليرمي بالسبب إلى القدر ، أي شخص إلا أنا ! و كنت أنوي تجاهل الأمر لولا ما علمته عنك، كيف تعرفني ؟ ما علاقتك بجدتي؟ هل أنت من أخبر جيوفاني عني ؟ و الأهم م ذلك لماذا يخفي أمرك ؟"

    "أنت تسألين الكثير يا روزا ، و أخشى أن شرح الأمر سيأخذِ منا وقتاً طويلاً "
    عدَل من وضعيته في الجلوس و استدرك "لكنني لم أتحدث منذ أشهر و سأخبركِ الحكاية كلها فما رأيك ؟ "
    "هذا ما جاء بي إلى هنا "

    ابتسم من تيَار الذكريات الذي هزه بقوة ، شخص بصره للسقف و كأنه يرى فيه شريط حياته مصوراً
    " لطالما سحرتني .. لطالما...جعلتني أعلقُ عينيّ على وجهها العذب ، مميزة و متفرَدة بكيانها عن الجميع ، تماماً كالحلم ، موجودة ، تصغي ، تمشي ، ترقص ..ومن ثم تختفي بلا أثر ، عندما رأيتها أول مرة لم تكن تنظر إلي ، كان الأمر ..لا أعرف كيف و كأنها تنظر نحو الفراغ ، و لم أكن الوحيد الذي رمقته بتلك الطريقة قطعاً ،ڤانوسا لم تعطي أحداً أي اهتمام ، و لا يوجد من يعرفُ بأي الأشياء كانت تفكر و أي الأمور تسرق تفكيرها ! حتى جاء اليوم الذي رأيتها فيه لوحدها في حفلة في قرطبة ، انزوت عن الآخرين بعيداً و جلست على الشرفة حيث تحبُ أن تكون ! لقد تكلمتُ إليها فبدت كعادتها صامتة ، و لا أعرف كيف جاء إلى ذهني ذاك التشبيه لعينيها لكنني قلته ، أخبرتها أن عيناها جوهرتان لامعتان تماماً مثل التورمالين ، لقد التفتت حينها إلي ، أتصدقين ذلك ؟ أتصدقين ! ڤانوسا الفاتنة نظرت إلي !! لا بل رأتني أخيراً و يا إلهي كم بدت رائعة الجمال ! مع أنها قالت بأنها لم تعرف ذاك اللون من قبلُ في حياتها ،صرنا نتحدث شيئاً فشيئاً ، و إذا ما التقينا في المناسبات كنت أراها تراقبني حتى اقترب و القي التحية عليها ، في عيد ميلادها أهديتها عقد تورمالين و منذ ذلك الحين لم تتوقف عن ارتدائه ! و منذ ذلك الحين وهي تزداد جمالاً في عيني يوماً بعد آخر ، و كما هو واضح يا روزا الصغيرة فإن جدتكِ تزوجت بالكونت غونزاليس ! كان رجلاً عظيماً ذائع الصيت و أعترف أمامك أنه كان يفوقني في كل شيء إلا في حبي لها ! لقد جاءت لإخباري بخطبتها بنفسها ، يظنها الجميع قاسية عندما أخبرهم بذلك غير أن ذلك غير صحيح ، خاطئ تماماً و بلا معنى ، ڤانوسا خشيت أن ينقل شخص ما الأخبار إلي وأكرهها ، لا شيء في الواقع خفف عني زواجها إلا علمي التام بأنها تحبني حباً جماً ، و لم تكن فكرة إقناع والديها بالرفض أو حتى الهرب مجدية ، فإذا ما مات والداها فإن أخاها الغير الشقيق سيرثُ ثروة العائلة وتترك هي مفلسة ، و لم أكن غنياً بالشكل الذي يسمح لي بطلب يدها للزواج لذلك تزوجته ، لم تبكي وتغلق الباب على نفسها لكنها انطفأت كشمعة احترقت حتى قعر الإناء ! و بعد عقود التقيت بها كان الرجل قد مات بعد ست سنين وتركها مع صبي وفتاة ، حكايتكِ أنت بدأت بعد لم شملي بجدتك الحبيبة ، لقد كانت تخبرني عن حفيدتها الصغيرة ، حفيدتها الأولى المميزة ، لو تعرفين كم أحبتكِ ، لقد كانت ترى نفسها في الفتاة المتمثلة فيكِ ، لطالما ثرثرت لي عنكِ ، عن كونكِ نسخة مصغرة عنها ، عن الطريقة التي تتحدثين بها بكل لباقة و كأنك فتاة كبيرة ، و رأيتكِ مرة ! جالسة معها على الشرفة تماماً كما كانت تفعل قبلاً ، كنت أشبه بابنة لها ، لقد كنتِ الأغلى في قلبها و لم يحبكِ شخص ما بقدر ما أحبتكِ ڤانوسا "
    اعتدل أكثر ، الحديث عن الماضي ألهب قلبه و أثار فيه الكثير من المشاعر المدفونة
    "الغالية ڤانوسا كانت قلقة عليكِ ، لقد حزنت جداً لما ماتت أمكِ ، و لما تزوج والدكِ ثانية حرصت على أن تكون زوجته تراعي احتياجاتك وفقدانكِ لأمـ...

    " والدي لم يتزوج أبداً بعد وفاة أمي ! لقد كنت كبيرة إلى الحد الذي اذكر فيه وفاتها !"
    حدقَ الرجل العجوزُ بها بشفقة ، ارتجاف بؤبؤي عينيها جعل الحزن يقتحمُ قلبه و يدفعه للندم على موافقته لرؤيتها
    "أنتِ أكثر من عرفتُ من الأشخاص براءة يا عزيزتي روزا و لذلك منعكِ جيوفاني من القدوم ، تلك المرأة لم تكن أمكِ ، هي الأخت التوأم لوالدتك و زوجة أبيكِ و كانت تدعى مارغاردين ، أما أنتِ فابنة ميكاييلا الأخت التي أحبها والدكِ بصدق ، لكنها كما أخبرتكِ ماتت ولا أحد يعرف بموتها ، لا أحد سواي أنا و جدتكِ و أبيكِ ، لم يستطع لورينزو والدكِ الاعتراف بذلك ! أمكِ لم تكن شخصاً سيئاً لكن عاطفتها قادتها للقيام بأكثر الأعمال تدميراً لسمعة عائلة غونزاليس ، و لم يكن بوسعِ والدكِ الإقرار بموتها قطعاً فقد كانت هناك بعضُ الشكوك تدور حولها منذ البداية ، شكوك عن كونها متواطئة مع المرتزقة ، الآن لا ترمقيني بهذه الطريقة فهي لم تكن كذلك ، ميكاييلا ساعدت شخصاً بريئاً و استحقت القتل ، المشكلة هنا أن ذاك الشخص كان يشاعُ كونه من المرتزقة و لم يكن والدكِ مستعداً للمخاطرة بشرف و سمعة العائلة و تبرير موت والدتك لهدف شريف ، أتعرفين حجم العواقب ؟ حجم الفضيحة الهائلة و الحرب التي ستقوم لو أُشِيع ذلك؟ سيدة من عائلة نبيلة وقفت ضد القانون ومدت يدها لمساعدة أحدِ المرتزقة ، لم تكونوا لتسلموا من آل سفورزا جيرانكم في المنطقة ، و ستقوم حرب أهلية أنتم فيها الطرف الخائن ، ستعانون و تنزعُ منكم ألقابكم النبيلة و لا تعودون شيئاً بعدها ، لكن فانوسا قامت بالشيء الصحيح يوم أمرت والدكِ بالزواج من مارغاردين ، تواطأت عائلتكِ مع عائلة أمك حتى تنتحل توأمها هويتها ، و تعيش كأمك ميكاييلا ! و كالسيدة غونزاليس لنهاية حياتها ."
    ارتجفت راغبة بنفي ما سمعت ، ليس هذا هو النوع من الحقائق التي توقعتها ، أي قصة خيالية هذه التي حدثت في حياتها و لا تدركُ أو تذكر منها شيئاً ، ازدرت ريقها بصعوبة وكأنها تبتلع حنظلاً مراً وقاسياً
    "أتقول بأن والدي وجدتي اخفيا موت أمي ؟ أتخبرني الآن بكل وقاحة أنها ...أن والدتي كانت خائنة ؟ ولم يخبرني أبي بذلك قط ! كذب علي ؟ وجعلني أظن مارغاردين أمي الحقيقية لسنوات طويلة !! "
    تابع يروي الحكاية ببال طويل ، الفتاة كانت أكثر صبراً مما توقع مع أنها بدت كمن يجاهد نفسه لا أكثر
    "لقد ظن أنه يقوم بالشيء الصحيح ، و صدقيني لو كنت مكانه لأخفيت القصة عنكِ أيضا ، خاصة و أن مارغاردين ماتت بعد ذلك بسنوات قليلة لذلك فما من فائدة لشرح الأمر ، و ما زاد الأمر سوءاً هو معاملتها السيئة وغيرتها منكِ التي جعلت جدتكِ تأخذكِ بعيداً عنها ، أعرف أن والدك خاف أن تكرهيها بعد ما فعلته ! و كراهيتكِ لها ستحولينها لأختكِ الصغرى و عندها ستزداد الأمور سوءاً و تعقيداً أكثر مما كانت عليه ، أترين الآن ؟ بعض الأمور تؤلم كثيراً إن عرفناها على حقيقتها ! بعض الأمور من الأفضل لها أن تبقى أسراراً لا يعرفُ أحد شيئاً عنها ، كنتُ أنا من حكيتُ لجيوفاني عنكِ و عن عائلك يوم كان يزورني في منزلي ، كان صبياً عادياً معدوم الثقة بالنفس ، لقد وُلِد بين أربعة صبية مثاليين و لم يكن هناك مكان له ، أشقائه استغلوا كل شيء بما في ذلك اهتمام والدهم ، لم أكن أعلم أبداً أنه سيضعُ نصب عينيه إيجاد تلك الفتاة الصغيرة التي حكيتُ له عنها ، كان يراسلني متسائلاً "أخبرني كيف أجيبها عندما تسألني كيف عرفت بشأني ؟ " كلمة واحدة منه كانت ستقودكِ إلى هنا ، و بارك الله ذاك الصبي عرف بأنني لن أخفي شيئاً عنكِ "
    "إذاً ... جيوفاني سمع الحكاية عنك ، و أنت نقلتها عن جدتي ..هذا..يعـ..."
    "أعرف أنه قدر كبير من الحقائق قد لا تقوين على تقبلها كلها دفعة واحدة لكنني لم أخفي عنكِ شيئاً ، لا شيء إطلاقاً "

    لقد سبق وأقحمت نفسها لتعرف الماضي الذي اعتقدت أنه كان واضحاً ومرسوماً أمامها ، أحياناً لا تكون المرارة في الأشياء التي لم نعرفها واكتشفناها فجأة ، بل في تلك التي ظننا أننا ندركها أكثر من غيرنا و من ثم تبيَن لنا جهلنا بها ، بعثَ هذا الإحساس قدراً كبيرة من عدمِ الأمان في داخلها ، لكنها تابعت تسأل
    "من كان ذلك الشخص الذي ماتت ميكاييلا لمساعدته ؟ من الذي تسبب بكل هذا القدر العظيم من التعقيد و سوء الفهم ؟ "

    "أتحاولين إخباري بأنكِ ستنتقمين لأنه من دفع بأمكِ للقيام بذلك العمل الأحمق ؟ و فري طاقتك ، تلك المرأة ماتت و كانت مجرد فرنسية بريئة تخلى عنها زوجها وهي حبلى بطفلهما الأول ، و قدم لها المرتزقة المساعدة من باب كونها مكروهة من الأسبان مثلهم لا أكثر و لا أقل ، أتعرفين ؟ أعتقد أنهم أرادوها واحدة منهم و إلا لما أمروها بما دفعها إلى الهرب و طلب مساعدة أمك ، زوجها كان يدعى إدغارد غارسيا ، مساعد الملك و رجل مكروه ليس فقط من قبلهم بل من نصف نبلاء المملكة ، و لقبولهم لها كواحدة منهم أمروها بقتل طفلها فرفضت و علمت أنهم سيفعلون ذلك عندما تنجبه فهربت ، هربت لقصر عائلتك و هناك طلبت مساعدة أمك ، لكن مارغاردين طردتها خوفاً من التسبب بالمشاكل ، علمت بأن شقيقتها ستفعلُ أي شيء لإنقاذ صديقتها ، و لسوء الحظ ميكاييلا عرفت بكل شيء ولحقت بها ، لا أحد يعرف ما حدث بعد ذلك لأنه لا يوجد من كان معهما لرواية القصة ، لكن الشيء الوحيد الذي سأخبركِ به هو أنهم عثروا أولاً على جثة ميكاييلا و على مسافة أبعد قليلاً جسد صديقتها الفرنسية ريبيكا فارتين ، بإمكان أي شخص استيعاب الأمر صحيح ؟ تطلب الأولى من الثانية أن تهرب لتنقذ حياتها و حياة طفلها ، لكنهم يجدونها لاحقاً مقتولة في بركة من دمائها ، و طفلها لا أعرف ما حدث له ؟ قد يكون قُتِل أيضاً ، و ربما اختطف ، و ربما أكله سبع جائع ، أنا أروي لكِ ما حكته لي جدتك ، لم تكن تصدق أن امرأة مثل والدتك ستقوم بعمل كهذا لتشويه سمعة العائلة ، لكن كما سمعتِ يا صغيرتي فالحكاية مختلفة عن كل شيء يتخيله المرء ، لإثبات حقيقة واضحة اضطرت جدتكِ ووالدكِ لاختلاق الأكاذيب ، فلا ميكاييلا و لا ريبيكا كانتا من المرتزقة ، و مع ذلك اتُهِمتا بكونهما منهم ، و المضحك أن الحقيقة ليست كما تبدوا عليه دائماً "
    لم يكن الأمر مضحكاً أبداً ، على الأقل ليس في نظر روز ماري
    "ذلك الطفل الذي أنجبته ريبيكا كانت فتاة ، ابنة ريبيكا التي ظننتها ماتت لم تمت ، و اسمها الآن آيريس "
    "من الجيدِ معرفة أن تلك الليلة انقضت عن ولادة صحيح ؟ شكراً لإخباري يا روزا الصغيرة ، لم تعد القصة بالمأساوية التي ظننتها لوقت طويل ، أتعرفين ؟ فانوسا أحبت ميكاييلا كثيرا ً ، وفي كل مرة تحكي لي عنكِ كانت تختمُ كلامها قائلة (تلك المرأة العظيمة أنجبت طفلة ستكون كذلك يوماً ، فتاة لا تنجبُ النساء مثلها ! ) و لا تدركين يا صغيرة إلى أي حد ضحكت ، لأي قدر بقيت سعيداً لما عرفتُ بأن روز ماري غونزاليس ستقودُ جيشاً بأكمله لقتال المملكة الفرنسية ! كأن الحياة دبَت في جسدي من جديد ، كل كلام فانوسا استحوذ على تفكيري و تمنيتها هنا لنشرب نخب الحلم الذي صار حقيقة أخيراً "
    اخر تعديل كان بواسطة » Red Riding Hood في يوم » 26-01-2015 عند الساعة » 13:54

  12. #511
    هذا الحديث قادها لتذكَر اللحظة الأولى التي التقت بها بجيوفاني ، يوم صاح هاتفاً باسمها ، كيف لا يصدقٌ أنه التقاها أخيراً ، لم تبكِ لكنها لم تكن بخير أبداً ، وجدها الرجل تحدقٌ في الفراغ و تبتسم تارة وفي الأخرى تعضٌ على شفاهها من كل ذاك الاستبداد ، كمن فهم كل شيء ، كمن صار يربطُ كل تلك الأمور في خيط واحد ليصنع الصورة المناسبة ، فهمت كل شيء أخيراً ، لكن الحقيقة لم تكن بالشيء الذي سيجعلها تغادر مكانها مبتسمة أو حتى شاكرة ،نهضت من مقعدها و تركت العجوز في محله ، نادى عليها بهدوء
    "هل أنتِ نادمة على القدوم ؟"
    آخر مرة تراه فيها ، آخر مرة تسمع فيها صوته وتحدق بوجهه ، وجه الرجل الذي عرف ماضيها أكثر منها ، الرجل الذي أحبته جدتها يوماً ما "قطعاً "

    أغلقت الباب خلفها ببطء ، و مضت في الرواق حتى وجدت ماتيو الذي لحق بها بما أنها لم تتوقف للحديث إليه
    "هل كل شيء على ما يرام ؟ هل وجدتِ ما جئتِ لأجله ؟ "
    حمداً للرب أنه كان معها ، لأجزاء قصيرة من الثانية فقط نسيت ما سمعت للتو و أجابته
    "آه نعم ، كل شيء سار كما أريد ..دعنا نعدِ الآن لاصطحابِ ليديا و من ثم نخطط لعودتنا للوطن "
    "لكننا وصلنا للتو فقط ! ليس لدي مشاكل في العودة طبعاً لكن سيادتكِ لم تنامي منذ وقت طويل ، و لم تأكلي شيئاً أيضاً "
    أمسكت بساعده لما أحست بأن المغادرة لن تكون بالبساطة التي اعتقدتها ، شعر ماتيو بأظافرها تُغرسُ في يده ، على الأرجح كان التفكير يستحوذُ على كل خلية فيها
    "ماتيو هناك أمور أهم "
    ما إن خرجا من الباب حتى أحضر السائس لهما خيولهما ووقفت تحدقٌ به ، تمالكُ نفسها لم يكن يوماً بالصعوبة التي ظنتها ، لكنها الآن لا تعرف أين بالضبط عليها أن تضع قدمها
    "سيادتك ؟ أتحتاجين المساعدة ؟"
    " لاه...إنني..بخير تماماً، من هذا الذي لا يسعه امتطاء حصانه في نهاية الحال "
    لكنها كانت الشخص الذي ليس فقط لا يسعه ذلك ، بل و أكثر! لم تعرف ماذا تفعل ، تمنت لو تفرغ ذاكرتها بكل ما سمعت حتى تعود من جديد روز ماري الطبيعية ، كل ذاك القدر من التفاصيل أرهقها ، الحقيقة القاسية مزقتها من الداخل وبقيت عاجزة تسير بلا إدراك .
    "انتظري سيادتك ! ألن تمتطي الحصان "
    "لا فائدة من ذلك ماتيو "

    "روز ماري "
    توقفت لما وجدته أمامها ، مثل اليوم الأول الذي التقته به ، ترجل من حصانه بوجه ممتقع قلقاً و اضطراباً ، رفع سبابته بارتجاف ناحية الباب
    "إياكِ و دخول ذاك المكان..إياكِ أن تضعي قدماً هناك "
    الدموع التي انسابت على وجنتيها أخيراً سمرت قدماه على الأرض ، بذهول سقطت يده لجانبه ، و تمتم يرجوها تكذيبه
    "لكنكِ فعلتِ "
    لم يستطع هذه المرة أن يهرع إليها ، لم يستطع تطويقها لتبكي بين يديه ، دموع روز ماري الغالية كان هو سببها ، فقط باقترابه منها قادها لمعرفة الحقيقة القاسية ، هو الملامُ على كل ذلك ، حبه لها سبب انكسارها الآن ، فقط ليته كان أبكر ، ليته أسرع ليمنعها من الدخول ، عندما قرر إيجاد الفتاة الصغيرة التي حكى له جيوفاني عنها ، كان قد قرر جعلها سعيدة ، لكن تلك ليست سعادة ! ذلك لا شيء سوى التعاسة و الحزن ، لقد علم متأخراً برحيلها لنابَولي و أدرك اختفاء الرسالة ففهم كل شيء بعد فوات الأوان .
    أمر ماتيو بالعودة لأنه سيبقى معها ، اعترض الأخير فأمرته سيدته بتنفيذ الأمر ، هي بدورها كانت تحتاجه قليلاً إلى جوارها ، تقبل تلك الحقيقة حتى و إن كانت تعني بأنها ستبقى لتقتله ، ناولته يدها ليساعدها على امتطاء ساجيتاريوس و من ثم صعد خلفها .

    لم يعرف أين عساه يأخذها وانتهى بهم المطاف على الشاطئ البعيد ، كان خالياً تماماً و الجزء المستخدم منه كميناء بعيد كثيراً عنهما .
    "لا تتظاهر بالندم ، لو كنت كذلك لما أصريت على إحضاري إلى إيطاليا "
    "ألا يمكن أن أشعر بشيء من الانزعاج بشأنك ؟"
    "و من قال بأنني منزعجة حتى تفعل ذلك أنت ؟"
    "آوه لست معتوهاً روز ماري حتى أظن أنكِ بخير "
    جلست في مكانها بعد أن أرهقها السير ، و لم يكن الأخير وحده ما أرهقها بل تكالبُ الأمور جعل أبسط الأشياء أكثرها صعوبة
    "كان يناديني بروزا الصغيرة "
    ضمت ساقيها إليها و طوقتهما بذراعيها ، جلس جيوفاني إلى جوارها وانتظرها أن تتابع كلامها ، بالنسبة له لا يهم ما تقول ما دامت ستتكلم في نهاية المطاف ، معرفته الوثيقة بها تدعوه للإصغاء ، فهي ليست ممن يفتحون قلوبهم حال الحزن
    "جدتي أيضاً كانت تدعوني بروزا الصغيرة ، أتعرف ؟ ربما أنا لستُ حزينة لأن الأم التي عرفتها ليست أمي الحقيقية..على الأقل أعرف أنها لم تكرهني ، لقد كانت امرأة عظيمة ، ضحت لإنقاذ شخص يهمها أمره ، من سوء الحظ أنه ليس العالم فقط من لم يحفظ لها هويتها ، بل وحتى ابنتها لم تعرفها إلا بعد أن أكملت عقدين من عمرها ، إن كنتُ أنا مثلها فهذه مدعاة فخر لي"
    ابتسمت لنفسها ، و اقتنع جيوفاني بأن تلك كانت أكثر لحظاتها براءة ، انكمش كل شيء فيها لكن شفاهها اتسعت بأكبر ما يكون ، وكما قالت ربما الحقيقة لم تزعجها ، لكن إخفاءها عنها وجهلها بها كان أكثر الأمور إيلاماً ، استجابت له عندما لف ذراعيه حولها و طوقت هي الأخرى عنقه بيديها
    "روزا الصغيرة ، لقد أحببتك طوال حياتي بدون رؤيتك ، و عندما وجدتك كنت كطفل التقى بأحد أبطاله الخياليين ، بطل يسمع عنه دائماً و الآن فقط التقاه ، أنتِ تفوزين ! لا يمكنني احتمال فكرة رحيلك بعيداً عني ، روزماري غونزاليس ائذني لي بطلب يدك للزواج مجدداً "

    لقد عملت على المحاولة لإصلاح الأمر طوال الأيام القليلة الماضية ، حبها لجيوفاني لم ينقطع بابتعادهما بل ازداد وتضاعف ، أن تجد شخصاً يحلمُ بك و يتمنى لقاءك قبل رؤيتك ليس شيئاً كثير الحدوث ، ما الذي يمكنها فعله ؟ عن أي شيء تتحدث ؟ كيف للسانها أن ينطلق بالجوابِ مثل كل مرة يعرضُ أمر ما عليها ، رفعت وجهها إليه حتى تلامست جباههما ، لبرهة بانت ضواحكها ، و لانت مشاعرها .
    اخر تعديل كان بواسطة » Red Riding Hood في يوم » 26-01-2015 عند الساعة » 13:55

  13. #512
    هبت الرياح و تلاطمت حول العربة ، رجتها بعنف و أرغمتها على تخفيف سرعتها كثيراً ، تأخر الشتاء طويلاً هذا العام ، و عندما اقبل كان أقسى من أي شتاء آخر ، الطريق إلى العاصمة الفرنسية لم يكن بأي حال من الأحوال يسيراً ، و مع تراكمات الثلوج و الرياح القوية ؛فقد ازداد الوضع سوءاً و الطريق طولاً و مشقة .
    اعتادت في بداية الأمر تدثير نفسها بالبطانية الحمراء الثقيلة ، و مع انتصاف الليل لم تعد تدفِئها بشكل جيد ، و للحظات عديدة فكرت في إمكانية إشعال نار بالعربة حتى يتدفئا فقط ، لكن تخيل ردة الفعل المستخفة الحائرة على وجه نيكولاس أجبرتها على التريث و عدم التفوه بشيء كهذا ، انكمشت على نفسها لما أحست بالهواء يعبر من شقِ العربة ، و رفعت رأسها نحو الماركيز الجالس في الجانب المقابل لها ، عاقداً ساعديه إلى صدره ، و رأسه مائل للأسفل ، لم يساورها أي شك في كونه نائماً فعادت لتلقي برأسها على احدِ طرفي مقعدها و تحاول بلا فائدة إجبار النوم على استيطانها ، لعلها تنسى أمر البرد .
    و من كان يصدق ؟ تذكرت اللحظات التي كانت تسير بها أسفل المطر مبللة لأخمص قدميها ، تجرُ خلفها أطراف ثوبها الممزق ، من كان سيصدق ؟ بأن تلك الفتاة اليائسة التعيسة ستصبحُ ما هي عليه الآن ، شعرت بالبرد يغمرها و ارتجف جسدها ، و عوضاً عن أن تنام فقد سبب لها هذا الشعور أرقا عظيماً ، يد نيكولاس أعادتها للواقع قليلاً ، هز كتفها منادياً عليها فنهضت من فورها
    "هل نمتِ ؟ سابيينا أنتِ باردة كقالب ثلج "
    "ا..أنا بخير حقاً !"
    بعصاه النحيلة طرق سقف العربة ؛ فاسترعى بذلك اهتمام السائق ، ربما كان البرد قد جمّد عقل سابيينا عن التفكير فانتهى بها الأمر تستسلمُ له و لا تدركُ ما أمر به زوجها ، في وقت قصير توقفت العربة أمام نُزل وحيد في منتصف الطريق ، همست بارتجاف لما فتح الباب و ساعدها على النزول
    "لكننا سنتأخر هكذا ! يجب أن نصل سريعاً و إلا..."
    قاطعها بعد أن ضعفت و تلاشى صوتها
    "لا يمكننا إيقاف ما هو مقدّر ! كما أنني أفضل خوض حربِ ثانية على أن أدفنك على قارعة الطريق"
    استندت إليه عندما فقدت كل ما تبقى من قوتها ، امسكها بإحكام و دخل بها إلى النزل ، استقبلهم المالك مرحباً ! فلا يمر العديد من الأشخاص في وقت متأخر و طقس سيء كهذا ، طلب بعض الطعام لهما ووفر سكنا لسائق العربة و اصطبلاً للخيول .
    عندما وصلا لغرفتهما كانت زوجة المالك قد أوقدت النار في المدفئة فوضع الماركيز زوجته على المقعد الأكثر قرباً منها و خلع عباءتها ، غطاها بالبطانية الحمراء من جديد ،لم تصدق سابيينا وجود الدفء أخيراً ، و بلا سابق إنذار غفت في مكانها ، لولا إيقاظ نيكولاس لها قبل أن تسقط في النوم بعمق.
    "سابيينا يجب أن تضعي شيئاً في معدتك الخاوية ، انهضي و تناولي بعض الحساء فقط هيا "
    تثاقلت عن النهوض و غمغمت برجاء
    "أرجوك دعني و شأني ، لا أريد شيئاً سوى النوم "
    عبثاً حاول إجبارها على النهوض ، عقلها كان قد تجمد حقاً و استحال عليها التفكير بشيء غير الدفء و النوم ، رائحة الحساء تغلغلت لأنفها و شعرت بنوع من الارتياح ، إحساس كمن هو بمنزله الآن ، ربما لو لم تضطر هي و الماركيز للسفر ، و لو لم يقدم يوجين سفورزا على ما قام به لكانا يتسامران الآن أمام النار و يَقْرَآنِ لبعضيهما .
    بعد محاولات شتى منه نهضت أخيرا و تناولت الطبق الذي جلبه لها بنفسه ، رائحته طيبة أي نعم و لكنها لا تتذكر مذاقه أو حتى لونه .
    راقبها بشرود و في زاوية شفاهه تقبعُ ابتسامة من يحدقُ بطفلة شبه نائمة ،بسط أصابعه فوق النصف السفلي من وجهه محاولاً إخفاء ابتسامته على تصرفاتها اللاإرادية ، و انتهى بها المطاف نائمة على مقعدها ، و ذاقت غيبوبة من لم ينم منذ أيام .
    في الصباح التالي ، استيقظت قرابة الظهيرة تقريباً ، كانت لا تزال متعبة و رأسها يؤلمها بشدة ، رحلتهما بدأت منذ خمسة أيام على الأرجح و ينبغي لهما الوصول في غضون يوم ونصف أو يومين آخرين ، لم تنم جيداً طوال الأيام الماضية التي استمرت رحلتهما بها ، و لم تتوقف العربة إلا لتبديل الخيول أو لثلاث ساعات حتى يرتاح السائس ، و في الليلة التي اشتدت بها البرودة كانوا قد قطعوا شوطاً لا بأس به و لم يقلق نيكولاس من احتمالية تعطيلهم أبدا ، قدم لها شراباً دافئاً عندما استيقظت ، و سألته بصوت حالم
    "ألا تنام ؟ "
    "لقد نلتُ كفايتي يا صغيرة ، اخبريني هل أنت مستعدة لمتابعة الرحلة ؟ "
    دفعت بقدميها خارج السرير قائلة "انتظرني حتى اخذ حماماً فقط و من ثم لنذهب "
    وجدت الحوض مملوءاً بمياه ساخنة و منعشة ، و ما انتظرت حتى تغطس فيه ، أخذت حماماً سريعاً وارتدت ادفأ ملابسها ، جففت شعرها سريعاً أمام نار المدفئة و في غضون ذلك وصل الإفطار لذي طلبه لها ، سألته بينما تلم شعرها للخلف و ترتدي شالاً صوفياً سميكاً
    "ألن تأكل نيكولاس؟"
    أجابها بينما يغلق أزرار معطفه الأزرق الداكن و يلقي بالعباءة السوداء مجدداً فوق كتفيه
    "لقد أخذت كفايتي من النوم و الطعام سابيينا ، لا تقلقي بشأني و حاولي أن تنتهي سريعاً "

    حمل صندوق الملابس الذي استخدمته معه للعربة ، و تركها هناك تحملقُ بكوبِ الشاي ،عندما انتهت أخيرا تابعا رحلتهما التي اقتربت كثيراً لحسنِ الحظ ، و لأنه كان النهار فقد استمتعت بالاستماع إليه يقرأ لها في كتاب ما .
    "كيف سيكون و ضعنا في باريس ؟"
    أغلق الكتاب لما طرقت فجأة سؤالاً مهماً ، ابتسم بتكلف شخص ساخر
    "في ڤيرساي ،سمعت الكثير عنه لكنني لما أزره قبلاً كما ترين ، سنقطن هناك في جناح عرضه علينا مستشار الحاكم "
    هتفت بدهشة بينما تعتدل في جلستها و تميل بجسدها نحوه
    "إذاً فهم يعرفون بقدومنا !"
    أجابها بصبر و بال طويلين
    "لقد أرسل البلاط الأسباني رسالة عن قدومي حتى قبل مغادرتنا للبلاد ، لن نلعب لعبة الضيوف المفاجئين يا صغيرة "
    طأطأت رأسها ، و هي تعرف أنه في كل مرة يدعوها بالصغيرة فهو يسخر منها بشكل غير مباشر
    "نيكولاس أتمانع لو سألتك عن شيء مهم "
    "تفضلي "
    ترددت و تلعثمت في بداية حديثها ، عدلت وضعية جلوسها مرة أخرى و ظهر صوتها ضعيفاً
    "فـ ـي الواقع هناك العديد من الأشياء التي أريد سؤالك بشأنها ، اعتقد أنني لا أعرفك بعد أو أفهمك بالشكل المناسب ، لكن الأهم الآن..هل يمكنك إخباري أين كنت في اليوم الذي وجدتني به على الحدود ، لا بأس إن رفضت إجابتي لكن الأمر يهمني "
    غاص في مقعده ، و مثل المرة السابقة غطى شفاهه بإصبعيه الوسطى و السبابة ، و برزت عظمة خده الأيسر لها لما التفت للتحديق من خارج النافذة ، صمته الطويل أزعجها و لأريب ، فهو إما أنه لا يجد نفسه مستعداً لإخبارها ، أو يحاول اختلاق كذبة ليسكتها بها ، مع أن الاحتمال الأخير بعيدُ جداً فنيكولاس لا يكذب
    "لا أظن أن للأمر أي أهمية بعد الآن ، لكنني سأجيبكِ ما دمتِ ترين الأمر ضرورياً ، أخبريني هل سبق و سمعتِ بالإيرل بولارد ؟"

    "لا "
    "كانت هناك مصالح بين عائلتي و عائلة هذا الرجل ، في الوقت الذي التقيتُ بكِ فيه لأول مرة ، كنت قد عدت للتو من زيارته ، حاول إعادة الشراكة بيننا من جديد لكن كما تعرفين فقد توقف أجدادي عن تجارة العبيد منذ استيطان آل سفورزا للشمال ؛ لذلك لم ينتهي لقاؤنا بشيء ، لم أرِد أن يعرف أي شخص بسفري أبداً وخاصة يوجين ، ذاك الشاب لم يثِق بي في حياته كلها و لن يفعل ، و تفسير الأمر لن يأتي بأي نتيجة لذلك اتفقت مع خوان غارسيا و قررنا التكتّم على الأمر ، أتعرفين سابيينا ؟"
    لم تنبس ببنت شفة ، و أدركت في عينيه انطفاء شيء ما التمع لحظة الحديث عن اللورد غارسيا
    "موته لم يكن خسارة للدوق وحسب ، لقد كان حلقة الوصل الوحيدة بين العالم و يوجين ، و ما فعله ذاك الأخير بإحراقِ الغابة هي أول عواقب فقدانه ! خسارة عظيمة بحق "
    "لكن خوان غارسيا كانت لديه شكوك بشأنك أيضاً "
    ابتسم لها باستمتاع مما يسمع ، إخباره عن مدى حذر الجميع و عدم وثوقهم به كان يمتعه في كل مرة
    "غير أنه و على عكس الجميع ذكي جداً ، شخص آخر كان و بالطبع سيعلنُ الحرب علي و يترصدني لقتلي ، لكن ذاك اللورد الذي و ضِع في المكان الخاطئ مختلف ، أغلبُ الظن بأنه سيخفي نواياه و يتظاهر بالبراءة حتى يمسكني بالجرم المشهود ..حسناً إن كان هناك جرم أصلاً ، أو إن كنتُ أحمق كفاية لعدم أخذ حذري "

    تكلمت أخيراً بصوت مبحوح و أكثر انخفاضا عما سبق
    "على الرغم من أنك تحاول شرح الأمور لي إلا أنك تزيدها تعقيداً بحديثك هذا"

    مال ناحيتها و داعب أرنبة أنفها متهكِماً من جديد
    "أنتِ فقط متعبة يا صغيرة لذلك لا تستوعبين ما أقول جيداً ، اخلدي للنوم فلن اصطحب معي ماركيزة معتلة "

    و على تلك السخرية نامت بعمق ، ومضى يومان آخران قبل أن تصل العربة إلى قصر فرساي الواقعِ غرب العاصمة الفرنسية باريس.
    تأبطت ساعده لما وقفت قدماها على الأرض ، شمت هواء الطبيعة المنعش و بدا الطقس أخف برودة هنا ، كانوا قد توقفوا قبل الوصول وبدلت سابيينا ملابسها بفستان أزرق ياقوتي ووشاح أحمر قانِ تسدله على كتفيها بانسياب ، لمت شعرها للأعلى كعادتها مؤخراً لكن العديد من خصلاتها المموجة تمردت فلامست رقبتها و صدغيها .
    استقبلهم مستشار الحاكم بدبلوماسية معهودة من جميع من هم على شاكلته و رحب بهم بحفاوة بالغة ، تقدمهم للداخل قائلاً
    "اسمحا لي سيادتكما بأن أخذكما بنفسي إلى جناح الضيافة الذي أعددناه خصيصاً "
    ابتسمت بجانب شفاهها لنيكولاس بينما يهمس بأذنها بسخرية ما ، أحبت هذا الجانب من شخصيته كثيراً ، تصورت أنه لطالما التقى بأناس و احتفظ بتعليقاته المستهزئة لنفسه ، لكن الآن فهو ينحني نحوها هامساً في كل مرة ، و في كل مرة يدق قلبها بصعوبة ، و تسمع صدى خفقاته كما لو كان الصوت الوحيد في الوجود .
    "خذا قسطاً من الراحة رجاء ، ستُقام الليلة حفلة على شرف الملك و سماحتكما ضيفا شرفنا لهذه الليلة ، سآتي لاصطحابكما بعد المغيب بساعة تماماً "
    قال هذا بينما يفسح الطريق أمامهما لدخول الغرفة ، سأل بتواضع إن كان هناك شيء آخر يقدمه لهما ثم انصرف مستعجلاً
    "إذاً هل يعجبُ المكان الصغيرة ؟ "
    كان يسألها هذا وهو يراقبها تخلع حذائها و ووشاحها و تختفي خلف حاجز ما لخلع ملابسها أيضاً ، عادت في زمن قصير وهي ترتدي ثوب نوم صوفياً دافئاً ، ألقت بجسدها على السرير و اختبأت أسفل الغطاء
    "يمكنك قول ما شئت ، لدي كل ما يهم الآن "
    اهتزت أعمدة السرير لما وضع ثقله عليه و ألقى برأسه على الوسادة المجاورة لها ، أخفت نصف وجهها بغطائها و انكمشت من البرد
    " لستُ خائفة إلا من رحلة العودة ، أعني أننا سنقضي أسبوعا آخر في العربة بعد عدة أيام صحيح ؟ "
    "ربما علينا تغيير بعض الأشياء في العربة إذاً "
    "مثل ماذا ؟ "
    فكرت إن كان يقصد فكرتها السخيفة السابقة في إشعال النار داخل العربة ليتدفئا ، لو أنها فقط تجدُ فقط طريقة واحدة للاستفادة من حرارة النار بدون التعرضِ لخطر الاحتراق ، تأففت بصوت مسموع و أغمضت عينيها بقوة
    "كمادات ساخنة ربما ؟ "
    لم تدرك ما قال فقد غفت أخيراً على أصابعه تعبث بالخصلات الساقطة فوق جبينها ، و انزعج متمتماً
    "إنكِ تنامين كثيراً مؤخراً "


  14. #513
    أيقظها نيكولاس قبل المغيب بساعة حتى تُجهِز نفسها للحفلة ، ووجدها لا تزال منهكة جداً ، كابرت وتحاملت على تعبها ، دارت الأرض حولها وكادت تقع عدة مرات قبل وصولها إلى إناء الماء الموضوع فوق المنضدة ، غسلت وجهها مرات عديدة لعلها توقظُ الخمول و تسترجع نشاطها الدائم
    "سابيينا ابقي الليلة في الفراش ، سأقابل جلالته بنفسي "
    جففت وجهها بالمنشفة بخشونة ثم ألقت بها جانباً مسرعة نحو صندوق ملابسها لتجد لنفسها ثوباً ملائماً
    "هذا هراء ، لم آتِ هنا لأبقى طريحة الفراش و أتركك في مواجهة الفرنسيين ، صدقني ستكره وجودك لوحدك هناك "
    جلس أمامها يراقبها تمشطُ شعرها الغجري للخلف و من ثم ترفع نصفه بدبابيسها و أدواتها الأخرى ، لم تأخذ وقتاً طويلاً حتى أخرجت ثوباً أسوداً من أحدِ الصناديق و اختبأت مجدداً خلف الحاجز لتخلع عنها ملابسها
    "أتريدين أن أساعدكِ ؟ أعرف أنه كان من المفترض أن اطلب لكِ خادمة "
    " لا تقلق أستطيع تدبَر أمري ، لن يأخذ الأمر وقتاً طويلاً كما أفترض "
    لكنها سرعان ما برحت مكانها و أدارت ظهرها له حتى يغلق ثوبها من الخلف ففعل من فوره ، عادت مجدداً تقطع الحجرة بسرعة خارقة نحو علبة المجوهرات الموضوعة في داخل صندوق آخر ، ارتدت عقد الألماس الأسودِ الذي أهداه لها البارون فارنيسي بالإضافة إلى أقراط كانت قد أهدتها إياها إحدى قريبات نيكولاس في يوم زفافها ، و طبعاً خاتم زواجها ، التفتت في النهاية مبتسمة ببشاشة
    " وكيف أبدوا الآن ؟ كماركيزة ؟ "
    ردَ عليها بالمثل ، و مد ذراعه لها لما طرق المستشار الباب لاصطحابهما ، رافقاه عبر ردهات القصر و حتى قاعة الاحتفال ، هناك همس للحاجبِ بأمر ما ثم وقف على جانب الباب مفسحاً الطريق أمامهما
    "الماركيز و الماركيزة دي لا روسا ، كاتالونيا – إسبانيا "

    من مكانها المميز قرب الكرسي الملكي استطاعت رؤية القادمين الجدد ، و أزالت مروحتها عن وجهها ضاحكة
    "لقد تفضلا بالمجيء أخيراً "
    "انظري إليها سيدتي الدوقة ، أغلبُ الظنِ أنها أجنبية "
    هزت الدوقة آورليان رأسها باستمتاع و هي تتأمل سابيينا تهبطُ الدرجات ويدها في يد زوجها ، تلك الصبية تعرفُ كيف يجعلها اللون الأسود عذبة الجمال حقاً ، و عيناها الفاحمتان كأنهما الماستان من تلك التي تزين بها نحرها .
    "من كان ليصدق بأن الغجريات يمكن أن يكنَ بهذا الجمال "
    حركت السيدة هنرييتا رأسها ببهاء " أنا أصدق "
    و قادتها قدماها لتكون أول من يقترب و يرحبُ بوجودهما بصفتها زوجة قريبِ جلالته
    "سيدي الماركيز لقد انتظرناك طويلاً "
    قدمها المستشار لهما فرفعت أطراف ثوبها ثم انحنت لتحييها ، التفتت نحو زوجته التي رمقتها بحذر
    "آمل أن الرحلة لم ترهقكِ يا عزيزتي ؟ "
    "آوه كل شيء على ما يرام شكراً لاهتمامك ، الطقس كان شديد البرودة لكننا تدبرنا أمرنا "
    حرك رأسه بوقار تجاه التحيَات التي كان يتلقَاها ، وراح يرسل بصره في المكان بحثاً عن جلالة الملك ، لم يكن من أولئك الذين سيلقون بالكلمات اللطيفة هناك وهناك ، و على الأرجح أن سابيينا كانت مثله تماماً ، تلك المجاملات السخيفة من وقت لآخر جعلت كلاً منهما يرمق الآخر بهدوء.
    بعد ساعة من الانتظار تقريباً عاد المستشار إليهما قائلاً بأن جلالته يحبُ رؤية الماركيز الآن ، انحنى تجاهها فرفعت من نفسها إليه
    "ذاك الانتظار يعني أنا غير مهتم بما جئت لقوله "
    "أتقصدٌ أنه حزم أمره على إعلانِ الحرب من جديد "
    "قد يكون ذلك صحيحاً ، لكن الأهم من ذلك هو أنه يظن رؤيتنا لن تؤثر في قراره أبداً ، هل ستكونين بخير لوحدك ؟ "
    أفلتت ذراعه أخيراً و هزئت من قلقه عليها
    "لم أكن بحال أفضل يوماً ، امضِ أنت و سأبقى أنا هنا أبهر الجميع كعادتي "
    انصرف من فوره وراقبت هي سيره المستقيم لخلفِ الستائر التي تشكل خلفية للعرش ، وقفت جانباً تتأمل مظاهر البذخ المبالغ فيها ، صحيح أنها لطالما تمنت عيش حياة كريمة لكن هذا الزيف الذي يحيط بها ليس طريقة عيش أبداً بل عذاباً لا يحتمل ، استجابت للسيدات التي رحنَ يحدّثنها بالكثير من الأمور التي تخص النسوة ، وليس سابيينا كما افترض لكنها انسجمت بشكل ما و لم تجد مشكلة في الأخذ والرد معهن ، عُرِض عليها الرقص لمرة أو اثنتين غير أن جوابها لم يتغير عن كونه الرفض بحجة أنها لا تشعر بشكل جيد.

    لاحقاً لفتت اهتمام الدوقة ناحيتها ، فعيناها راحتا تسرقان كل ومضة قادمة من خلف الستائر الحمراء المذهبة ، لا شكّ و أن فكرها مشغول بما يحدث هناك ، توقفُ أرجحة المروحة القماشية ما إن تحس بخروج شخص ما ، شخص تأمل أن يكون نيكولاس ، ليدنوا و يهمس قائلاً بأن المهمة تمت على أكملِ وجه لكن الهواء وحده كان يعبثُ بها ، فتعود لتزفر بحدة و تجبر السيدة آورليان على الاقتراب منها
    "عزيزتي الماركيزة "
    ضحكت برزانة ، و أمسكت بكلتا يدي سابيينا بين كفيها
    "إن كنتِ قلقة مما سيحدث فهذا يا سيدتي عمل سيادة الماركيز ، لا يمكننا نحن النساء فعل شيء حيال هذا أليس كذلك ؟ "
    ارتجف بصرها من تحديقها الطويل في ابتسامة الدوقة ، بالفعل هناك أمور لا قدرة لها بها ولكن هي تكره ذلك ، سرعان ما جاملتها بطأطأة من رأسها الأسود ، مالت محدثتها نحوها للحظة ثم مازحتها هامسة
    "أما إن كنتِ اشتقتِ إليه فلا شيء يمكنني فعله حيال ذلك "
    ما كادت تعقبُ ضاحكة على التعليق الأخير حتى لاح لها خيال نيكولاس قادماً من جهة العرش ، زفرت بعمق هواء ساخناً و لم تعرف إن كان عليها سؤاله حالاً عما حدث أم تنتظر حتى يعودا لجناحهما ؟ و هو لم يكن و لا للحظة شخصاً يسهل فهمه ناهيك عن قراءته ، سألها مستغرباً تصلّب أطرافها الغريب
    "أكل شيء على ما يرام ؟"
    سحبت يديها من كفي السيدة هنرييتا قائلة بعتاب
    "لا تعبث بي ، أنا من يفترض به سؤالك إن كان كل شيء على ما يرام ؟"
    تبادل الاثنان نظرات ساكنة بينهما حتى قال مطمئناً إياها
    "هناك سوء فهم حاصل لا أكثر و قد تم حلّه ، لن تكون هناك معارك للوقت الحالي فلا داعي لأن تحبسي أنفاسك بهذا الشكل "
    اخفت انكماش جبينها بإخفائه بكفها المبسوطة
    "لقد كنتُ قلقة من أن نكون قد ضيعنا وقتاً وجهداً بالمجيء بلا فائدة "
    عاتبتها الدوقة بتعاطف مع حالها "جلالته لن يخيب ظن أحد أبدا "
    نيكولاس لم يرتح لكل ما بدا عليها ، شيء ما بزوجته وهو لا يقدر على تشخيصه أبداً حتى مع خبرته البسيطة المكتسبة
    "سابيينا إنك شاحبة جداً كما لو أنك رأيتِ طيفاً ، تعالي سأخذك لتجلسي قرب المدفأة "
    انسحبت للخلف هامسة "سأفعل ذلك بنفسي "

    ما إن رحلت حتى دنا الماركيز خطوة اقرب من الدوقة ، توجَب عليها التعليق بشيء ما بما أنها شهدت حال زوجته
    "اعذريها رجاء إنها متعبة كثيراً مؤخراً ، اعتقد أن السفر لا يناسبها "
    سرحت في التحديق بخيال سابيينا الذي اختفى خلف حشود النبلاء و تلاشى بلا أثر ثم رفعت رأسها بجدية تجاه الماركيز
    "اعذرني أنت يا سيدي إن سألتك ، إلى أين تنتمي زوجتك الغجرية ؟"
    السؤال المعتاد يوجَه إليه في كل مكان وفي كل مرة يكتفي بالقول بأنها غجرية من رومانيا القديمة ، لكن الأمر اكبر من مجرد انتماء ووطن ، لم يدرك أن لسانه نطق بأفكاره الحالية إلا بعد أن أحس بوقعها على مسامعه
    "سابيينا لا تنتمي لشيء ، لأن كل شيء ينتمي إليها ."
    ذاك كان كل ما لديه و ابتسمت الدوقة لسبب لا تعرفه حيال ذلك ، ما إن انتهى الحفل حتى عادا لغرفتهما ، اخبرها بينما يخلع الجزء العلوي من ملابسه و يراقبها تزيل الدبابيس بكسل عن شعرها
    "لقد طلب تعويضاً !"
    لفّت نحوه باستنكار "هل هو جاد حباً بالرب ؟ تعويض ماذا ؟ "
    "لأن جزءاً من غابات فرنسا قد تضرر ، قال بأن الدوق سفورزا يدين له بتعويض لتدميره لممتلكات البلاد"
    "و بعد ؟"
    "استنكر ما قام به يوجين ووصفه بالعمل الغير إنساني ، تعرفين ؟ يقصد إحراق الناس أحياء "
    "هو نفسه الذي أعلن الحرب على اسبانيا رغبة في توسيع ممتلكاته "
    أعادت عقدها الماسي لصندوقه و ضحكت بخمول
    "لا أظن الضحك مناسباً لموقف كهذا ، و لكن كما يقال شر البلية ما يضحك"

    "هل أنت منزعجة ؟ "
    جذبها لتجلس بجواره على الأريكة ولم يفلت يديها ، حركت رأسها في الهواء و ابتسمت بهدوء
    "ما الذي تظنه سيزعجني ؟"
    "فكرة أنكِ لا تعرفين موقعك في كل هذه المعمعة الحاصلة هنا "
    زمت شفاهها قليلاً و أدرك نيكولاس لحظتها أنها لا تأخذ حديثه بجدية ، لكنها كانت تفكر ببساطة
    "أنت محق ، أنا لا انتمي لأي شيء و لا حتى للغات التي أجيدها ، أنا الشخص الوحيد الذي لا يعرف من أين جاء ؟ و لا يجيد لغته الأم ! "
    غاصت في الأريكة و تيبست ابتسامتها الشاحبة بينما تتابع
    "لكن الأمر ليس بهذا السوء ، لا يمكنك أن تحزن على فقدان شيء لم تمتلكه يوماً أليس كذلك نيكولاس ؟"
    لم ترد الاستمرار بالحديث ، لم ترد فتح مواضيع أخرى أصلاً و متابعة النقاش عن الوطن و كل الأمور المعنوية التي لا تمتلكها ، مالت للإمام ، ثم نهضت لتبدل ملابسها و تخلد للنوم .

    لعلّ الأمر لم يكن بذاك السوء حقاً بالنسبة لشخص عاش هكذا منذ بداية إدراكه للدنيا ، و لشخص مثل سابيينا الصغيرة ، غير أن فكرتها تلك لم تنل على رضاه حتى مع أنها الحقيقة التي لا يمكن إخفاءها ، على الأرجح أنها وصلت لتلك المرحلة التي لم يعد أصلها مهماً في نظرها ، الأصل ؟ هو موروث لم يطالب به أي وريث و لكنه يناله عن استحقاق ، لم يكن لسابيينا فيه نصيب و لفظ "غجرية" لم يكن في أي وقت من الأوقات غير كافي ليمنعها من الإيمان بوجود موقع لها في هذا العالم ، بحث عنها بعينيه فوجدها نائمة على الفراش ، حمل ثوبها الأسود الذي ألقته في موجة كسلها ووضعه جانباً ، تأكد من إضافة المزيد من الحطب للمدفئة و لحق بها .

    في الصباح استيقظت على حركته في أرجاء الغرفة ، خبئت عينيها الداكنتين خلف الغطاء و سألته بإنهاك
    "إلى أين ستذهب ؟"
    "جلالته دعاني لرحلة صيد برية معه ، سنعود قرب الظهيرة "
    نهضت من فراشها على عجل قائلة "إذاً دعني أساعدك في الاستعداد "
    "لا داعي لذلك عودي للنوم فلا تزالين متعبة "
    تجاهلت أوامره لها بالبقاء في مكانها و راحت تزرر قميصه و تلف الوشاح الداكن الزرقة حوله ثم تجلب المعطف الأسود لتساعده على ارتداءه
    "انتبه لنفسك و لا تصطد شيئاً لو سمحت فلا أحب فكرة قتل الحيوانات البريئة للمتعة "
    "كما تأمر سيدتي ، شيء آخر ؟ "
    ابتسمت لذلك ، لم يكن يسخر هذه المرة بل يرمقها بلطف شديد ، قبلت وجنته لما انحنى إليها ولوحت بيدها لما رحل .

    حركت أصابعها داخل خصلات شعرها الفوضوية جداً و لمتها للخلف حتى يتسنّى لها غسل وجهها ، انتبهت للرسالة الموضوعة فوق المنضدة و التقطتها بحيرة ، كانت ترسم ختم البلاط الإسباني و مكتوب عليها اللفظ "مستعجلة" لم تفتح كما هوا واضح و لعلّ نيكولاس لم ينتبه لها أو نسيها ، لكن بما إنها مستعجلة فقد يكون الأمر خطيراً ، ارتدت مئزرها الأزرق الطويل حول جسدها ، تأكدت من أن شكلها يبدوا مقبولاً قليلاً و غادرت الحجرة تحمل الرسالة بين أصابع يمناها .
    مضت عبر الرواق الطويل و نزلت من السلم تتلمس الجدار كي لا تفقد توازنها ، اجتاحها ارتياح نسبيّ لما شاهدت نيكولاس لا يزال واقفاً أمام الباب يحدث مستشار الملك الذي استقبلهما بالأمس ، توقفت لما اجتاحها دوار رهيب و أغمضت عينيها بسبب الضوء القوي الذي باغتهما، ارتجفت خطواتها و حاولت تمالك نفسها كي لا تسقط ، لكن كل شيء استمر بالدوران في حلقات مفرغة ، حتى وجوه الخدم المرتاعة لمحيّا جسدها الذي مال حتى غابت عن الوعي .

    و لم تدرك أن حالة من الاستنفار دبّت ، و بأن نيكولاس أسرع إليها لا يردعه إلا عدم قدرته على الإسراع أكثر .

  15. #514
    سقف الحجرة المرصوص بالحجارة كان أول ما أدركته لما فتحت مقلتيها ، عادت بروحها للحياة كمن قدِم للتو من عالم آخر ، عالم لا يذكر منه أحد شيئاً ، و إن كان محظوظاً كفاية فقد تبقى معه ذكريات بعض الأحلام المتفرقة ، الجميلة ، المستحيلة ، و العجيبة .
    الألم الناجم عن ضغط "الكورسيه" الضيق حول نصفها العلوي نبهها أنها لم تبدل ملابسها في الليلة الماضية ، و خط الدموع الجافة الذي يصل بين زاوية عينها ونهاية وجنتها يذكرها بآخر ما قد سمعت قبل هربها لغرفتها و الانهماك بالبكاء حتى الفجر ، ليتها معه الآن ، ليتها تستطيع أخذه بين يديها ، الطبطبة بخفة وحنان فوق كتفه ، أو على الأقل ليتها تقف إلى جانبه ، ولو بصوتها المفقود ، ووجودها العديم الأهمية ، و ليس لها غاية في أن تكون مفيدة في أي شيء ، كل مرادها أن تكون بقربه .
    اغتسلت و بدلت ملابسها ثم غادرت الكوخ ، قابلت حديث توبياس المماثل للصراخ بالتجاهل و أغلقت الباب خلفها ، ووقتها تمنت لو أنها لم تكن تسمع مثل ما هي لا تنطق ، إلياس المنهمك بتقطيع الأخشاب انتبه لجلوسها على ما تبقى من جذع الشجرة التي قطعها ، مسح بساعده جبينه المتعرف و حرص على الالتفات لها كلياً لما شرع بالحديث
    "إن كنتِ لا تملكين ما تفعلينه فاذهبي لشراء الخبز"
    قال ذلك وهو يلقي بالقطع النقدية إلى حضنها ، لم تنزعج فهي لا تجدُ ما تقوم به ، و في واقع الأمر ، الاتصال المتاح بين أصم وخرساء محدود جداً و ذو طريق واحد ، هبطت التل و امتلأت رئتاها بهواء البحر الدافئ المشبع بالماء ، ثقيل جداً و منعش جداً ، تجولت في طرقات القرية الصغيرة فلم تستطع فعل ذلك سابقاً ، لم تعد تستمتع بشيء واحد مؤخراً ، كل الأمور تسير على غير رغبتها ، كل الأشياء تسير في عكس تيار إرادتها و لا حدث يصبُ في مصلحتها ، إنها وحقاً صاحبة أتعس حظ في الكون ، و ليت نحسها متعلق بها وحدها بل إنه يصيب من هم حولها كذلك ،اشترت الخبز من أول مخبز وجدته أمامها ، وضعته في سلته وأغلقت عليه بقطعة قماش لتبقيه ليناً طرياً

    "آيريس ؟ أنت آيريس؟"
    أدارت كتفها ناحية السيدة التي نادت عليها ، جربت آيريس إنعاش ذاكرتها والبحث عن هويتها ضمن سجلات عشرات الأشخاص الذين التقت بهم لكنها لم تجد لها صورة واحدة حتى ، فحركت رأسها بالإيجاب وانتظرت الخطوة التالية من قبلها ، ازدادت ابتسامة السيدة دفئاً و عرفت عن نفسها بغبطة
    "أنا الليدي دافني بولارد ، صديقة قديمة جداً لخالتك العزيزة "
    تهللت قسمات آيريس وحظيت الليدي بكامل اهتمامها أخيراً ، مشت معها في طريق العودة و أخبرتها بأنها التقت بالسيدة إليزابيث -أي صديقتها القديمة- صباح الأمس ، و بأن كلتاهما كانتا وصيفتان لجلالتها في أيام شبابهما قبل أن تخطفهما مسؤوليات عائلتيهما بعيداً ، أضافت كون خالتها شديدة القلق عليها و لولا أنها تخشى القيام بما يمنع ذلك العجوز عن مساعدتك لجاءت لرؤيتك ، و على نحو ما انتهى الأمر بهما تجلسان على سور حجري محطم يحيط ببعض أجزاء القرية
    "إن إليزابيث تحبك كثيراً ، إنها مستعدة لحبِ الجميع ، لطالما أشعرتني وكأنه لا حدود لقلبها ، هي تحتوي الجميع بكل خنان وتفتح لهم أبوابها على وسعها "
    الحديثُ هكذا عن الأشخاص الذين تحبهم يبهج قلبها و كأنها برفقتهم حقاً
    "لقد أحبت والدتك قبلاً وضحت لأجلها بالكثير و ها هي تفعلُ الشيء ذاته معكِ "
    لم يكن لديها شك في كمية الحب التي تبادلها إياه خالتها ، و لطالما عرفت بأنها تقبع في رأس قائمة أولوياتها
    "أتعرفين بأنها كانت على وشكِ الزواج في اليوم الذي ماتت فيه أمكِ وجاء بك العابران الريفيان إلى بيتها ؟"
    لعل هذا هو أحد أكثر الأشياء ندرة في حياتها ، لقد ظنت بأن خالتها لم تتزوج وهذا لأنها لا تريد ذلك ، و حمداً لله على كونها كتاباً مفتوحاً تسهل ترجمته و قراءته ، ابتسمت السيدة بارتياح بينما تحكي لها
    "كانت على وشكِ الزواج بماركيز فرنسي أحبها كثيراً ، لكنها فسخت خطبتها لما رفض أن تبقيكِ في عنايتها ، أذكرُ أنها قالت لي عندما زرتها مع بعض النساء لنلومها على قرارها
    "أحياناً نضحي بأشياء جميلة لنحصل على ما هو أجمل منها ، أنا سأعيش بدون حب رجل لكن آيريس الصغيرة لن تعيش بلا حب أم ، و بئس الخالة أنا إن ألقيت بابنة أختي بعيداً فقط حتى أكون أنا سعيدة"
    كنتِ في تلك اللحظة بين يديها ، و الحب وحده هو ما أحاطتكِ به ، لا أحد أحبك بقدرها و لن يحدث ذلك ! لن يضحي أي إنسان بسعادته الشخصية ليمنحها لكِ سواها ، إليزابيث عندما فسخت خطبتها من ذلك الماركيز كانت على قناعة تامة بأنه أفضل ما تقوم به ، إنها ليست ضعيفة أو حمقاء إطلاقاً ، موت والديها في صغرها وانهماكها بالعناية بوالدتك علماها الكثير و منحاها حكمة غير محدودة ، في تلك السن الصغيرة التي كان من المفترض لها أن تنشغل فيها بالعبث كباقي الفتيات كانت تجاهد لردعِ المخادعين و إبعادهم عن ثروة عائلتها ، و تجاهد لصنع مكانتها كسيدة في الطبقة النبيلة .

    معرفة هذه الأمور عن خالتها لا تسعدها ، بل تزيدها عبئاً و ندماً على كل شيء أحزنها بسببها ، حتى و إن لم تكن لها علاقة في الكثير من الأمور ، آيريس وجدت في داخلها مساحة واسعة لتشغلها بالشعور بالذنب ،سمحت السيدة دافني لنفسها بالتقرب من الشابة الحسناء قليلاً ، بسطت كفها فوق يديها المطويتين في حجرها ، لمعت عيناها كبداية على سلسلة طويلة من البكاء و النحيب ، تباً للعاطفة القوية ، تباً ليتها تفعل شيئاً واحداً بدون تدخل دموعها ، ضحكت لنفسها و مسحت ببطن يدها عينيها
    "آوه آيريس لم أحدثكِ بهذه الأمور لتبكي ، لقد ظننتك وحيدة وقررت أن نحظى بوقت لطيف لكنني زدت الأمر سوءاً أليس كذلك ؟ على أي حال أثقُ بأنكِ ستكونين مثلها يوماً ما ، أحمدُ الله كثيراً أنكِ لم تكبُري فتاة مدللة بسبب رعايتها المكثفة لكِ ، حمداً لله أنني أرى شابة جميلة حسنة السلوك وطاهرة القلب مثلك "
    نهضت من محلها ونفضت بحركة انسيابية الغبار عن ثوبها ، جمعت عباءتها حول كتفيها قائلة
    "يهربُ الناس من البردِ القارص للمناطق الساحلية لكن أعتقد أنه يلحق بهم في نهاية المطاف "
    بادلتها آيريس ابتسامة بشوشة و أحست بامتنان لهذه المرأة ، لهذه الصديقة الوفية
    قالت مازحة بينما تساعدها على النهوض واستكمال سيرهما
    "ربما شتاء إسبانيا أخفُ بكثير عما نعيشه الآن ، إن كان كذلك فلا أطيقُ انتظاراً حتى تنتهي الحرب لتأخذيني معكِ إلى هناك "
    ليت ذلك صحيح ، ليت بوسعها جمع حاجياتها فوراً و الرحيل إلى أرض عائلتها ، تنهدت و سمحت للهواء بالتسلل لنهاية رئتيها ، طبطبت السيدة دافني فوق كتفها و أوصلتها إلى بيت العجوزِ توبياس ، لما وصلتا لثمت جبينها و تمهلت رويداً تتأمل وجهها كمن يبحثُ عن شيء ، كمن وجد شيئاً و يحاول استغلال آخر فرصة في إشباعِ عينيه برؤيته
    "كوني بخير آيريس "
    غادرت أخيراً و تركتها مع بقية الكلمات هذه ، مثلُ هؤلاء الأشخاص يظهرون فجأة ليختفوا بالطريقة التي ظهروا بها ، لقد واجهت الكثير في هذه الفترة القصيرة ، فقدت الكثير من الأشخاص و لم تجني شيئاً سوى قلب أكثر هشاشة و روح كالصلصال تتعرضُ للفاجعة بعد الأخرى و لا تتحطم بل تبقى في مكانها مليئة بالندوب ، رفعت رأسها للسماء ، نحو رذاذ مياه المطر الذي سقط على شعرها وملابسها .

    يقولون ..
    إن الآلام ما إن تصيب المرء حتى تتملكه وتقتات على حزنه ، يقولون أن لاشيء يمكن القيام به لطرد الألمِ بعيداً ، و الطريقة الوحيدة لعدمِ الإحساس به هو التعايش معه حتى لا يعود مؤلماً ، و مهما حاولت إقناع نفسها بأنهم في الحقيقة قد رحلوا وتركوها ، شيء في داخلها يخبرها أن الموتى فقط يرحلون ! لكن الأحياء..هم باقون ، للأبد .

  16. #515

    تجاهلها توبياس لبقية اليوم ، صحيح أنه وبخها ما إن عادت لكنه بعد ذلك حبس نفسه في صمته ، و رجحت آيريس ذلك لغضبه على تجاهلها له ، لكن طبعاً ذلك لم يدم فقد وجد نفسه يصرخ فيها لما كانت تظهر اشمئزازاً من أقراص الدواء التي صنعها
    "يا لكِ من حمقاء لا تقدرين جهودي "
    دهشتها لعدم استمراره بعقابها و تجاهلها لبقية اليوم جعلت شفاهها تنفرج عن استغراب من هذا الرجل ، هذا السكير الحكيم ، و المعتوه لدرجة لا تصدق أيضاً .
    "ألم تقل بأنك لن تتحدث إليها أبداً و سترسلها لخالتها ؟ إنك تناقض نفسك "
    اشتطَ توبياس غضباً و حطم ذراع الكرسي بركلته القوية
    "أيها الصبي اللعين ، تتظاهر دائماً بأنك لا تعرف شيئاً لكنك في الحقيقة تبقي عيناً على أفواهنا "
    هز كتفيه ببلادة و سحب قطع الكرسي الذي حطمه العجوز المخبول
    "الأغبياء هم فقط من يدعون معرفة كل شيء "
    التفت إلياس لآيريس و دفع بالخشب المحطم أمامها قائلاً بتقرير
    "أعرفتِ الآن لم توجد الكثير من قطع الأثاث المحطم؟"
    ضحكت فقط لأن الرجل بدا على وشك انتزاع سيفه وقتلهما ، ركل الطاولة هذه المرة و ردعه إلياس بقوله
    "لن أصلحها إن حطمتها "
    تعمد ركلها من جديد و صرخ بالشابين "يستحسن بكما الهرب قبل أن أقتلكما "
    "الغضب ؟ لم نغضب ؟ أنت الوحيد الغاضب هنا ! ؟"
    تشابه نطق الكلمتين و عصبية توبياس في قولها جعلت الأمر يلتبسُ على إلياس و يطلبُ من معلمه تفسير مقصده فانفجرت بالضحك ، ضحكت كشخص لم يظن بأنه سيضحك بهذه الطريقة مجدداً ، و انتهى المطاف بالعجوز يغلق باب حجرته على نفسه ، السخرية تكمنُ في حجم سوء الفهم القائم في هذا المنزل.
    جلس الشاب إلى الطاولة أمامها ، كان المطر في الخارج يمنعه من مزاولة عمله كحطاب فاكتفى بالجلوس في الكوخ ليجد شيئاً آخر للقيام به ، و القراءة كانت الخيار الأفضل طبعاً ، اختلست آيريس النظر نحو المجلد المتهرئ بين يديه ، اللاتينية القديمة ، لم تعرف أن هناك من لا يزال يتحدث بهذه اللغة ، لكن فكرة كونها لغة عتيقة و غير مستخدمة كثيراً تجعلك تفكر في نوع الأشياء التي ستكتبُ بها ؟ الأسرار التي تحتفظ بها هذه اللغة فقط لأن لا أحد قادر على فهمها ، ابتسمت ومدت يدها له كي يناولها المجلد قليلاً ففعل بدون اعتراض.
    إلياس كان شخصاً مختلفاً ، كبرياءه يسع البحر ويفيض ، كنجم سماوي سقط أرضا و حاول العودة فلم يستطع ، و في معظم الأيام كان يستمر بالقراءة في مجلده اللاتيني المتهرئ ، و انتهى بها الأمر تقرأ الكلمات بدون استيعاب
    "أفهمتِ شيئاً ؟ "
    رفعت رأسها عن الصفحات لما سألها ، ابتسمت بتواضع و شرعت تغلق الغلاف نافية ، وضع سبابته على الصفحة التي كانت تقرأ فيها ثم حمل الكتاب إليه
    "أتريدين أن اقرأ لكِ ؟"
    عرضه ذاك تطلَب تفكيراً ملياً قبل تقديمه ، لكن الأمر انتهى به يعدل وضعية جلوسه و يباشر القراءة

    خلفتُ عن الرحيل
    فوقعتُ ضحية للبقاء
    تُركتُ وحدي
    معزولاً
    بائساً
    مهموماً

    لا يجبُ أن أبقى
    لا يجب عليّ المكوث هنا
    الارتباط بالأشياء سجن أبدي
    لأن لا أقفال له
    و الهرب لا يعتمد إلا عليك
    و لا يكون إلا بك

    تموتُ عشرات المرات
    ترقبُ الدنيا تجري
    و أنت في محلك واقفاً

    الحاجز الذي يردعك عن الرحيل
    لا يمنعك من رؤية العالم
    بل يتركك تراقبه متحسراً
    لا يمكنك وضع قدم فيه
    لا يمكنك أبداً

    الحياة في بعضِ الأحيان نقمة
    تكون هي سجننا
    وجلادنا
    و ضريحنا

    و بينما لا تستطيع الابتعاد
    لا يمكنك أيضا الوقوف بلا جدوى
    فهي تحبسك
    و تمضي و لا تنتظرك
    و أنت ، تستمر بالمشي
    في طريق لا تريده
    و أرضِ لا تهواها
    حتى نفسك ، سخرت منك
    و تركتك تقاسي حالك المزري
    و لم تتعب حتى في
    إظهار الشفقة على حالك .

    و بقيت متروكاً
    بقيت تعيش ميتاً
    و تصبحُ نائماً

    تسير للإمام
    لكنك متجه للوراء
    ضائع في الحياة
    حبيس للعنة البقاء .

    و تبدأ تدرك أخيراً
    مرارة أن تكون إنساناً
    و تتمنى
    لو أنك لم تولد
    لو أنك مت قبل هذا
    لو أنك تموتُ الآن
    و لما تيأس من كل أمنياتك
    تفكر لو أن كل واقعك هذا
    ليس إلا حلماً سيئاً
    و تستمر بالدوران في حلقات مفرغة.
    و تموتُ ألف مرة
    و ما من حل . "

    قد لا تبدوا كل الأمور المجهولة جيدة من الداخل ، في اللحظة التي أنهى بها كلماته لبث متصلباً زائغ البصر يحدقُ في العدم ، و تخلخلت هالة قاتمة كئيبة أوصال آيريس ، كجزء من الظلمة ، كأن دائرة لفت حول إلياس و زادت المسافة بينهما اتساعاً ، لم تملك الجرأة على لمسه و إخراجه من سجن أفكاره ، لكنه في نهاية المطاف اظهر ابتسامة متحجرة و أغلق المجلد ثم أعاده لمكانه
    "ليست المعرفة كلها نور كما ترين ، وما سمعته للتو هي كتابات لرجل مجهول وجِدت على كوخ جبلي في عهد الإمبراطورية الرومانية ، بشكل ما وصلت ليدي توبياس و أنا امتلكتها بالطبع ."


    تحديقها الطويل نبهها إلى الندبة البارزة على عنقه و التي صنعت ظلاً خفيفاً على سحنته لما سقط الضوء عليها ، مثل تلك الندوب لا تنجم إلا عن سلاح حاد ، نصل معدني حاول قطع عنقه والفتك به ، و جلوسه أمامها الآن هو الدليل الوحيد على نجاته من تجربة القتل التي تركت آثارها به ، أزاحت عينيها إلى وجهه المتصلبِ لما ضيق أخيراً الياقة ليخفي آثار جرحه ، خجلت من نفسها و ازدرت أخلاقها الوقحة الأنفة ، لعل مجالسة توبياس لا تجلبُ لها خيراً
    "لا داعي لأن تخجلي هكذا ، إنها فقط مزعجة عندما تنظرين إليها لذلك أخفيها دائماً "
    ما دام قال ذلك فربما لا بأس بسؤاله عن سببها ، ربما القليل من الفضول لن يفيد لكنه لن يضر إطلاقاً ، عرف سؤالها ببساطة فالفضول لم ينفكَ يتوقف عن البريق في مقلتيها
    "لقد حاول أحدهم قتلي بخنجر كما ترين "
    رفع رأسه و كشف أكثر عن الندبة المستقيمة الممتدة عرضياً على عنقه
    "بشكل ما نجوت ...أعني ..هي أنقذتني و هربنا ...كان الشيء الوحيد الذي يسعنا القيام به للنجاة"
    راقبت أسنانه تصطك ببعضها غضباً ، و الطريقة التي أحكم بها إغلاق قميصه لإخفاء الجرح الذي يشرحُ الماضي ، ارتجف صوته وتحشرج لوهلة ثم عاد طبيعياً
    "غير أن الأمور تختلف كثيراً ، في ذلك الوقت أدركتُ أن الحياة لا تبقي لك مكاناً للعودة إليه ، و ما فائدة الوطن إن لم يكن الأشخاص الذين تريدهم ينتظرونك هناك ؟ لطالما ظننت أن احتكار لفظ الموطن على الأماكن ظلم كبير للبشر ، نحن ننتمي لبعضنا ، الموطن هو نحن و ما عدا ذلك عديم المعنى "
    أغلق الكتاب بهدوء بغضِ النظر عن ارتجاف يديه ، كان حريصاً على تمالكِ أعصابه حتى في أوقات انفعاله ، لم يكن ليضحي ليكون مثل توبياس .
    "الرحيل لم يكن اختيارنا ، و الابتعاد عن بعضنا كان شيئاً أُجبِرنا عليه "
    لم يكن ينبغي عليها توجيه السؤال التالي ، لكنها فعلت ، و في لحظات سطرت حرفين وحيدين على راحته
    "من ؟"
    نهض من مقعده بعد ما تأكد من توقف تساقط المطر ، أعاد الكرسي لمحله و الكتاب كذلك ، لبرهة ظنت أنه لن يجيب على سؤالها لكن صوته أعاد إليها انتباهها ليقول
    "أنا و إلياس "
    و لبعضِ الوقت ، ظنت أن ما سمعت للتو لا يحمل أي معنى ، هو و إلياس ؟ هو و نفسه ؟ !
    اخر تعديل كان بواسطة » Red Riding Hood في يوم » 26-01-2015 عند الساعة » 14:07

  17. #516
    الأسوأ فيه ، الأكثر مدعاة لحبس الأنفاس و خفض الجفون ، هو أن انطفاء نار الانتقام لم يكن كافياً بعد ، على أحدهم ملأ تلك الفجوة ، سدّها بأي كان من المشاعر ليمسكه عن التسبب بالمزيد من المعاناة ، القضاء على أعداءه لم يكن كافياً ، يتوجبُ عليه إيجاد عدوٌ آخر يذيقه جهنم غضبه ، شخص آخر ينبغي له أن يذوق معنى أن يغضب يوجين كارليس سفورزا .
    هبط عن صهوة جواده لما انطلق جسد ما فجأة من بين الأشجار الجافة ، صرخت مرعوبة ما إن رفعت رأسها آليه ، بدت كمن سيتشقق رعباً ، شفاهها الجافة استمرت بالارتجاف لمحياه و لكوكبة الفرسان السود المستقرين خلفه ، عيناها توسعتا وهي تنكمش هلعاً للخلف وتجر جسدها معها حتى أدمت راحتي كفيها ، لم تدرك كيف للصمت أن يكون مخيفاً حتى توقف الوقت وهم يحملقون بها بعيونهم الزجاجية ، هي وهم و الرب وحده .
    لقد ظنتهم كتيبة أخرى من الأعداء جاءوا ليجهزوا عليها بعد إذ هي هربت ، جاءوا ليمزقوها كالوحوش المسعورة و يفتكوا بالحياة في جسدها ، لكن قائدهم ، صاحبُ العيون المخيفة سألها بعد أن أكدت له ملابسها الممزقة الملطخة بالدماء على وجود شيء ما .
    "ما الخطب يا صغيرة ؟ من فعل بكِ هذا ؟ "
    التفت لفرسانه لما ألجمها الذعر عن الحديث
    "أيجيد أحدكم التعامل مع الصبيات ؟"
    "إنها سيلينا فارنيسي ابنة البارون إدوارد فارنيسي"
    تقدم يوهان حتى وقف بمحاذاته ، و تحديقُ يوجين فيه جعل لزاماً عليه شرحُ الأمر
    "لقد التقيت بها قبلاً"
    "تكلمي أيتها الطفلة ، ما الخطب معكِ ؟"
    حملها يوهان ووضعها على جواده عندما أبتِ الكلمات مغادرة حنجرتها ، بدا و كأن الصوت يتخبط في سقفِ حلقها و يعود ليخنقها بالصمت ، سألها مجدداً بعد أن أروى ريقها المتصحر بالمياه
    "خذي نفساً عميقاً وتحدثي ، ما الخطب ؟ من فعل بسيادتكِ هذا ؟"

    تجمعت الدموع في عينيها البارقتين بالطفولة ، و تلاشى الأمن الذي كان يفترضُ أن يوصف فيهما ، في تلك اللحظة نسيت تشوه وجهها ، نسيت أنها حبست نفسها في حجرتها لأشهر طويلة خشية رؤية أحدهم لبشاعتها ، كل ما جال في خِلدها هو ذكرى هذا الصباح الموحِش ، كيف عسى الأمور تنقلبُ بهذه السرعة ؟ كيف تهربُ السعادة ويسرقهم الوجع ببساطة ؟ استيقظت على حلم جميل رأت فيه أمها تعانقها هي و سارا ، بدون سبب فقد تحسن مزاجها و طرأت في بالها فكرة هي الأولى من نوعها ، بغيابِ سابيينا و نفاد كتبها عليها التوجه لمكتبة المنزل لإحضار المزيد ، ربما يكون بوسعها ايضاً إخبار شقيقتها بحلمها ، و مواجهة لخوفها و خشيتها من رؤية أحدهم لوجهها فقد اخفته بخصلات شعرها الطويلة ، وارتدت وشاحاً فوق رأسها ايضاً .
    سرور الجميع برؤيتها تغادر سجنها و تمشي في طرقات البيت كالسابق صرف عن أذهانهم منظرها العجيب الغير لائق ، لا تصدق كيف تلعثمت بالحديث و اختبأت كل الجدار لما صادفت سارا و زوجة أبيها قادمتان من الحديقة ، حدثتَ الاثنتان بها بفضول و تقدمت سارا متسائلة إن كان بوسعها الانضمام إليهما على الإفطار ، بهذه البساطة تجاهلتا كل ما يحدث في حياتها ، وفَرتا عليها صعوبة التبرير و عاملتاها كأن شيئاً لم يكن ، رافقتهما إلى حجرة الموسيقا على غير العادة و هناك و لأول مرة منذ زمن طويل تحدثت لشخص آخر غير نفسها .

    لكن كما هو مفترض فكل شيء تبدد ، اختنقت بعبراتها و صرخت بصعوبة تجاهد فيها على إخراج صوتها
    "لقد اقتحموا المنزل و حطموا كل شيء ! حاولت مارثا إبعادهم لكنهم طعنوها ! لقد قتلوا الفرسان و ...و دخل أحدهم حجرة والدي وأقفل الباب خلفه ، ماما كانت مع سارا ..إنها تنزف ..أرجوكم ساعدوها ، لقد دفعتني من النافذة قائلة بأن عليّ الهرب ! لا أعرف ما حدث ! كلهم كانوا موتى ! كلهم لم يرفعوا رؤوسهم عندما ناديتهم ، أرجوكم ...لا أريد أن أفقد أياً منهم "
    لم ينتظرها لتكمل كلماتها ، كانت الكتيبة قد تحركت من مكانها منذُ أدرك يوجين ما يحدث ، بقيت هي لوحدها مع الدوق الألماني و قلبها لا يرجوا شيئاً سوى سلامة من تحبهم ، قالت باكية و هي تشد ملابسه إليها
    "هل سيكونون بخير ؟ هل سيموت أبي ؟"
    رفع قامته ناحيتها وامتطى الحصان خلفها ، عيناها المذعورتان لم تبرحا وجهه قط و اللهفة قطعتها لتسمع إجابته ، و ما كان بيده أن يعدها بشيء ! إذا ما كانت تأخرت حقاً في إخبارهم ، أم أن الأمور ستسير بشكل جيد و الدوق سفورزا موجود ، أكبر خطأ يرتكبه هو أن يجيب بلا علم أو دراية ، لكن أكثر ما سيحطمها هو أن يعتنق الصمت ويتركها تعايش الخوف والترقب..وفقدان الأمل.
    "د..دعنا نلحق بهم ! لا أعرف كيف أقود الخيل..أرجوك فا لنعد للمنزل ! لا يجب أن نبقى هنا "
    سحب لجام الخيل ناحيته و تبع الطريق الذي سلكه الفرسان من خلفه ، لا يعرف لماذا استجاب لها ، كان عليه أن يعود أدراجه للقلعة حتى تحظى الفتاة بالعناية المناسبة فما يدريه عن حجمِ الجروح التي تمتلكها .
    كان الرجوع هو الشيء الأمر عليها و الأقسى ، الترقب و الذعر تركا أثارهما الواضحة فيها ، لم تعرف ما الذي ستجده هناك ، لم تتوقع شيئاً أصلاً ، عقلها توقف عن رسم الصور ونسجِ العديد و العديد من التوقعات ، هناك احتمالان لا ثالث لهما ، احتمالان سيقلبان حياتها رأساً على عقب ، في القتال طريقان وحيدان .. إما الموت و إما الحياة .

    كان أحد فرسان يوجين و يدعى فيرناندو واقفاً على عتبة الباب يترقبُ خروج أحدهم لقتله ، أو قدوم الدعمِ ليخبر سيده عنه ، ترك يوهان ليدخل المنزل لكن يده امتدت لتردع سيلينا عن الدخول ، حاولت الفتاة مقاومته فأحاط بها بقوة قائلاً
    "لا يوجد في الداخل ما يصلح لفتاة صغيرة "
    "أنت لا تعرف ...أنا لستُ صغيرة ! عائلتي في الداخل يجب أن اساعدهم ..دعني"
    كان على وشكِ إفقادها الوعي ليتفرغ لما هو أهم منها لكن يوهان خلصها منه قائلاً بحزم
    "عليها أن تعيش واقعها مهما كان "
    مضى الاثنان للداخل و بقي الفارس يرفضُ فكرة يوهان الغير منطقية ، كيف لطفلة أن تشاهد مقتل عائلتها و تتقبله ببساطة لأنه واقع تعيشه.

    كانت جثث الخدم تقطع طريقها من وقتِ لآخر ، و فيما عمل يوهان على تجاوزهم متطلعاً للأمام ، بقيت سيلينا لتشهد حضور الموت للمرة الأولى في حياتها ، انتزعها من شرودها صراخ والدتها ، اضطرت أن تمشي بين الجثث و قلبها ينبض بالأسى ، آسفة لعدم احترام تلك الأجساد الفارغة ، تصلبت أطراف جسدها إثر وقوفها في حجرة الموسيقا ، تلك التي كان من المفترضِ أن تفوح أنغاماً لهيجه صارت تبثُ صراخ البارونة من شدة الألم ، الدماء المتدفقة منها لونت أرضية المكان ، تماماً كما لو أن كيساً دموياً ثقب فسال في كل اتجاه و زاوية ، و بجانبها انحنى بيدرو ، سمعت أحدهم يقول بأن والده كان طبيباً و بأنه يمتلك خبرة ضعيفة ، دفعته عن طريقها و انحنت إليها ، لم تجرؤ على مناداتها بأمي ، لم يعدِ الوقت مناسباً ، فات الأوان لإظهار تلك العاطفة ، فتحت المرأة عيناها و أحست بدموع الشابة الصغيرة تنهمر على وجهها و تلهبُ جروحها
    "أحسـ نتِ ..أنا...أنا فخورة بكِ ...لقد احضرتِ المساعـ عدة ! "
    ما فائدة المساعدة ! ما الفائدة ؟ لو أنها بقيت لتموت معهم لكان أفضل ، وجهت بصرها تجاه بيدرو فأشاح بعيداً و نهض من جوارها ، بين يديه حمل عباءته التي دثر بها جسداً لا يكاد يتجاوز طوله راحة اليد ، أصابها التبلد لما فهمت ما حدث ! خدرتها الفاجعة فسالت الدموع على وجهها و قد باتت تعرف دربها جيداً ، مد الكومة إلى أحدهم و قال بخفوت كي لا تسمعه سيلينا
    "ضعه مع جسدِ الفتاة "
    نقلت بغير استيعاب نظراتها الزرقاء بين أمها ،و الهيئة الضئيلة التي حُمِلت بعيداً ، و الجسد الممدد في زاوية الحجرة ، لا يهم أنه تغطى كلياً بعباءة فارس آخر فقسمات ذاك الجسد معروفة لها جداً ، رددت كمن يحدث نفسه و هي تترك مكانها نحو شقيقتها
    "هذا لا يمكن ..هل سارا أيضاً...سارا و أخي...هل ؟"
    "أنا آسف !"
    ردعها يوهان عن التقدم لما أدرك متأخراً فداحة الأمر ، حاولت إبعاده بضعف فانتهى به المطاف يوجه أوامر سريعة بأخذ الجثة بعيداً
    "توقف ..لا يمكنك فعل هذا ! سارا لا تزال على قيدِ الحياة ! سارا لن تموت و تتركني وحدي..عليَ إخبارها بالحلم الذي رأيته ، ستفرح وتستيقظ على الفور إن قلت لها أنني رأيت والدتنا..! "
    هزت قميصه بقوة و شدته نحوها تصرخ فيه بقلة حيلة
    "لن تموت !! لن تموت ! لطالما لحقت بي كظلي ! تقول ما أقول و تحب ما أحب و تذهب حيث أذهب ، لن تتخلى عني هكذا ، لن تتخلى عن الحياة وتتركني لها وحدي ! ليس وحدي ! ليس بدونها ! لااا "

    انهارت على الأرض و أمسكها من مرفقيها ليحميها من التحطم فوق البلاطات القاسية ، لكنها بقيت واعية ، بقيت تتمتم لنفسها ، تحاول احتمال الفاجعة ، منذ أقل من ساعة كانتا تجلسان سوية و تثرثران كما لم تفعلا من قبل ، كيف للبشر الرحيل بهذه السرعة ؟ كيف ؟ كيف يكونون بجوارنا و في لحظات قليلة يرحلون و لا ندركهم !

    في حجرة الطابق العلوي ، حيثُ المزيد من الجثث الممهدة للطريق ، نام البارون فارنيسي للأبد بعد أن اخترق نصل عنقه و منع الهواء من عبور حنجرته والدخول إلى رئتيه .
    ما إن حطم فرسان سفورزا الباب حتى وجدوا القاتل منحنياً كمفترسِ فوق جثة البارون الممدد على الفراش ، لم يفاجأ يوجين قط فالرجل لم يكن للحرب و خبرته بالقتال ضعيفة ناهيك عن كسر ظهره و عظام حوضه ، انتزعه أوغستين من فوق القتيل بغضب و هوى عليه بالسيف لولا أوامر يوجين له بتركه ، لف جيروم الحبال حول ساقيه و كسر معصمه لما حاول قتل نفسه ، أيظن الأمر بتلك البساطة ؟ لقد قتل كل المجرمين أنفسهم في القتال عن عمد ، وهذا لا يعني إلا شيئاً واحداً من مصلحة الدوق سفورزا ، حمله اثنان من الفرسان وهو مقيد ، حملق يوجين به بابتسامة مجنونة ، ابتسامة من يتوعد بمعرفة كل شيء و بأسوأ الوسائل و أفظعها قبل الإجهاز عليه.

    اقتحمت سيلينا فارنيسي المكان و انتزعت خنجر روبيرتو من حزامه بسرعة خاطفة لتهوي به في صدر قاتل أبيها ، لف يوجين ذراعه اليمنى حول وسطها ومنعها من أخذ خطوة أكبر للأمام ، في نفس الوقت الذي أسرع فيه يوهان لانتزاع السلاح منها ، تلوت وبكت و حاولت فك ذراعه الحديدية عنها ، ضربتها ، و ركلته بقدميها ، و أقحمت أسنانها في ذراعه حتى أدمتها ، لكنه لم يتركها و أمر فرسانه بالتحرك متجاهلاً صراخها حتى يعيدوه ، جف الدم في عروقها لشدة ما حطم الغضب روحها
    "عد !! سأقتلك ! سأمزقك !! سأقطعك بأسناني و اغرس نصلي في كل رقعة من جسدك ، سأشق صدرك و اقتلع قلبك بيدي الاثنتين !! سأذيقك الموت بكل صوره و أشكاله ! سأقتلك الف مرة ..سأقـ...

    صرخت بالبكاء بعد ما لم تعد تقوى تحمل رؤية قاتل أبيها يغادر المكان حياً بعد أن دمر كل شيء جميل في حياتها ، مهما فعلت فإن ذراع الدوق لا تلين و تتركها ، و فقدت الإدراك بعد انهيارها .
    "ليس عدلاً أن يرحل الجميع ويتركوني لوحدي ! لا أريد أن ابقى وحيدة بعد الآن ! لا أريد العيش بمفردي"


    ترك يوجين لجيروم مهمة التحضير للاستجواب ، و نقل المجرم في أقصى درجات السرية إلى قلعة الدوق سفورزا.
    اخر تعديل كان بواسطة » Red Riding Hood في يوم » 27-01-2015 عند الساعة » 12:48

  18. #517
    ارتعدت فرائصه بلا إرادة منه ، جسده قاوم الموت على الرغم منه ، وخفتت الشجاعة التي ظنها تملكته عندما اقتحم منزل الرجل المسالم ليقضي هو ورفاقه على كل من تبقى ، شهق كغريق يبحث عن جزيئات الهواء ، وكان ذلك سبب عودته للواقع أخيراً.
    شد أوغستين رأسه المقطر ماء و رفعه ليمعن التحديق في وجهه
    "هذه ليست إلا البداية ! سأجعلك تعترف بأمور لم ترتكبها أيها الفاسق المتعفن "
    بدون تركِ فرصة للمرتزقِ في الدفاع عن نفسه غطّس أوغستين وجهه من حديد في دلو الماء متجاهلاً مقاومته و دفعه المعاكس القوي ، و فقط في اللحظة التي أوشك فيها يموت رفع رأسه مجدداً ليعيده للحياة ، ليعلمه بأن الموت في حقيقة الأمر رحمة ! و أن الحياة هي العذاب الحقيقي ، استنكر روبيرتو عليه ذلك قائلاً
    "أنت فارس ! لا ينبغي عليك التصرف بطريقة وحشية "
    احتاج وقتاً حتى يخرج رأس الرجل من الماء مجدداً ، و أجاب باستهتار
    "تتحدث وكأننا نتعامل هنا مع كائن بشري ، لن أغفر له ما فعل و سأستمر بفعل ذلك حتى يتوسل الموت ، سأجعله يذوق معنى أن تموت ألف مرة "

    "في سبيل قتل الوحوش ..فرسان سفورزا مستعدون ليكونوا وحوشاً كذلك "
    كان جيروم هو الناطق بالعبارة الآنفة ، و من خلفه اقتحم يوجين الزنزانة ، وقف برضا شنيع عن نفسه ، متأهباً مستعداً للعبث لوقت طويل جداً ، بدون الحرب هو متفرغ تماماً و بوسعه قضاء الأيام القادمة في استخراج كل حرف من هذا الوغد الجالس أمامه ، سحب كرسياً وجلس أمامه بوضع عشوائي ، واضعاً كل ساق على أحد جانبي الكرسي
    "هل قال شيئاً ؟"
    "ليس بعد " قالها أوغستين مفلتاً رأسه ليرتدّ للأمام
    قرب الدوق كرسيه من سجينه أكثر وترك السيقان الخشبية تنزلق فوق الأرض مصدرة صوتاً يتلف الأعصاب
    "أخبرني أيها الصبي ..ما اسمك ؟"
    رفع ببطء رأسه نحو مستجوبه المبتسم على اتساع شفاهه ، تبطن صوته كراهية وهتف فيه بصوت مرتفع
    "ستندم ! ستموت يوماً ..سنقتلك "
    رفع يوجين يداً فتقدم فالنتينو الواقف خلفه و فك وثاق الفتى ثم دفع بذراعه اليسرى إلى منضدة اسطوانية و ثبته بأصابعه القوية
    "أنا لا أكرر كلامي أبداً ، ما اسمك يا ولد"
    لم يكن عاقلاً بالشكل الكافي ليحفظ لنفسه موتاً سريعاً و مريحاً ، صرخ بحماقة
    "فا لتذهب للجحيم"
    أشار الدوق بسبابته فهوى فأس بنصل دقيق وقطع يد الولد من طرف المعصم ، انهار بالصراخ باكياً و الدماء تتدفق كينبوع للتوَ تفجَر ، أخبر يوجين بعد ذلك
    "ضمدوا يده كي لا ينزف فما زلتُ أريده حياً "
    ما إن تم ذلك حتى ضرب بقبضته المنضدة وتلوث قفازه الجلدي الأسود بالدماء
    "جهز اليد اليمنى ، أنا لا ألعب يا ولد ..إما تجيبني و إلا سأستمر بتقطيعك كأوصال حتى لا يبقى فيك لحم ولا عظم"
    "اسـ..اسمي..خوان "
    "حسناً جداً ، امتلاكك لاسم صديقي لن يخفف من عذابك يا عزيزي خوان ، ستجيب على اسألني كلها هل ما قلت واضح ؟"
    تبتل بالصمت يظنُ أنه يكفي فأشار يوجين مجدداً لفالنتينو ، و لولا أنه تنبه وصرخ بنعم لكان معصمه الأيسر يصافح الأيمن بعيداً عنه
    "أهناك مرتزقة غيرك ما زالوا أحياء ؟"
    "نعم "
    "كم عددهم ؟"
    "قرابة المائة "
    التفت لجيروم عندما قال بتقرير
    "يفترض أن لا يشكلوا لنا مشكلة "
    "وكيف هربتم من إحراق الغابة ؟ "
    "لقد كنا في الجزء الشمالي ورأينا النيران وهي تلتهم كل شيء قبل إحاطة جنودك بالمكان فهربنا بأقصى سرعتنا "
    "عظيم ! و الآن يا عزيزي خوان أخبرني بصدق و إياك التفكير بالكذب علي "
    ابتلع الولد ريقه كمن بحلقه أشواك مغروسة
    "من خلفكم ؟ من السيد البالغ الطيب الذي يدعمكم باستمرار ؟ "
    "لا أعرف عما تتحدث"
    لم يتوقف السجان هذه المرة و تطايرت دماء المعصم الأيمن لما قطعها ، مسح يوجين ما أصاب وجهه منها
    "ألم اقل لك ؟ لا تغضبني !"
    ردعه جيروم بوضع يد فوق كتفه
    "ما رأيك أن تتوقف الآن ؟ لقد قطعت له يدين و لاشك أنه غير قادر على التجاوب معك "
    "لا تكن معتوهاً فلم اعهدك هكذا ، ليس لدي وقت لأضيعه معه ، أنا مصمم على التخلص من حكاية المرتزقة قبل انتهاء مدة الهدنة ، كما أن تركه سيسمحُ له بوقت لاختلاق الأكاذيب"
    "أليس كذلك ؟" سأله مبتسماً فأمسك خوان دموعه و هز رأسه بنعم
    "نعودُ لسؤالنا ، من يدعمكم ؟"
    "لا أعرف شكله ، و لم ألتقِ به قبلاً ...انتـ... انتظر ليست قدمي أرجوك انتظر ؟؟! كل ما في الأمر أنني سمعت بعض الأشخاص يتحدثون عنه لا أكثر ..قالوا بأن اسمه فان بيترو ، اليخاندرو العظيم كان يكرهه وتمنى لو يموت ، لكن الرجل خالد ! لقد شاهده أخي وهو ينهض بعد اختراق سهم لصدره "
    " بيترو إذاً ؟ لا يبدوا للاسم أي معنى ، هل سمع أحدكم به قبلاً ؟"
    تلفت حوله فلم يحصل على شيء سوى النفي ، لما عاد ليستجوب الصبي كان الأخير قد فقد وعيه ، لكمه أوغستين ليتأكد من كونه لا يعبث معهم وانتهى به الأمر أن سقط من كرسيه وتدحرج فوق الأرض الصلبة ، حرك يوجين شدقيه في برود ، عادت عيناه لتتأملا المكان كناية عن التفكير ثم نهض آمراً روبيرتو وفارساً آخر بالعناية بالأسير حتى يستعيد وعيه ، غادر محله وأمر أوغستين باللحاق به ، صعدا عبر سلم القبو الحجري للأعلى و أغلق فارس الغطاء الصلب خلفهما ، لفّ ذراعه حول كتفي أوغستين بينما يسلكان طريقهما للخارج ، انتظر حتى وصلا لأطراف سورِ الحديقة قبل أن يشرع بالحديث قائلاً
    "أريد منك السفر إلى العاصمة الليلة "
    أبطن الفارس تساؤله وترك لسيده مهمة مواصلة الحديث ، الثقوب التي خلفتها أقدامها فوق البساط الثلجي سرعان ما عادت تمتلئ بالثلوج التي بدأت بالهطول تدريجياً ، ومن ثم بغزارة .
    "هناك شيء أريدك أن تحقق في تفاصيله جيداً ، شيء لا أزال غير مسلم كلياً بانتهائه كأن لم يكن ، انشغالي السابق بفرنسا و من ثم المرتزقة صرفاه عن تفكيري لكنني ما زلت مصمماً على معرفته "
    "سأفعل كما تأمر سيادتك ، أهذا بسبب فان بيترو "
    "جزئياً نعم ، غير أنك يا صديقي لن تجد شيئاً فهذا ليس اسمه الحقيقي طبعاً ، إن كان عاقلاً بالقدر الذي يجعله يخفي اسمه الأصلي ، الأهم الآن أن ترحل للعاصمة مع غيابِ الشمس ، بدل ملابسك وغير حصانك و أخفي سلاحك لتكون أمام الجميع لاشيء عدا عابرِ سبيل ميسور الحال ، اذهب و دع أوغستين الحقيقي هنا "
    "وماذا بعد ؟ "
    غطى بصر الدوق المكان ليتأكد من أن لا أحد يسمعهما سوى الفراغ
    "حقق وابحث في موت إدغارد غارسيا ، الأمر متأخر معك حق لكنه الشيء الوحيد الذي تريثتُ به عن قصد مجاهداً نفسي عن ذلك ، اسمع يا أوغستين ، غارسيا العجوز عرف أموراً لم يدركها أحد سواه ، تحفظ عليها جيداً لكن الأمر انتهى به يخبر ابنته الوحيدة و لما مات أطلعتني بشأنها ، اعدامه كان سبباً كافياً لإغلاقِ فمه و التخلص من مشكلة لا نهاية أو حل لها ، و إلصاق تهمة الخيانة به ذكاء جداً ، فإن انتهى المطافُ بالعجوز و أخبر أحداً ، لن يصدق أي كائن ما جاء به لأنه نقله عن خائن ! أتدركُ ما أقول ؟ أتفهم ؟ عرفت الآن لماذا سألت الصبي المرتزِق عمن يدعمهم ؟ لأن آيريس غارسيا أخبرتني بذلك ، و من المحال لطبقة مشردين الحصول على أسلحة و خيول جيدة فقط عن طريقِ السرقة ، هناك ذراع خفية تعبثُ في الخفاء ، عيون ترى الوضع في الشمال بشكل آخر ، و شخص له مخططات مختلفة تماماً عنا ! شخص عبث بما فيه الكفاية ، شخص حتى لو ابدنا المرتزقة عن بكرة أبيهم فسيجلبُ الآلاف منهم ، لذلك يجب التخلص من الأفعى و دفن جحرها حتى ننهي المشكلة "

    "تريدُ مني قتله إذاً ؟"
    "يا صديقي الصغير عملك معي لا يستوجبُ القتل دائماً فأنا لستُ سفاحاً ، و مهمة قتله لن تكون يسيرة على أي حال "
    "سأذهب الليلة كما أكرتني و سأتكتم على الأمر جيداً "
    "افتح عينيك جيداً و ابقى متيقظاً فالعدو هذه المرة مجهول تماماً عنك "

    التفت ناحية فيرناندو لما أقبل ناحيتهما ووقف قليلاً حتى ينتبه يوجين له ويسمح له بالقدوم ، تأفف سيده بامتعاض و صوته يقطع الفراغ بينهما
    "اقترب ماذا لديك ؟ "
    ما إن نفذ الشطر الأول من الأمر حتى هزّ رأسه بطاعة قائلاً
    "إنها البارونة الصغيرة ترجوا أن تسمح لها برؤيتك والحديث إليك "
    وجه اوامره لأوغستين بالانصراف ، ثم راح يحملقُ في وجه فارسه الآخر ببرود لعلَه يفهم
    " ببساطة ما الذي تتوق مني القيام به ؟ أنا لا أجيد التعامل مع الأطفال إطلاقاً ، فما بالك بطفلة باكية فقدت للتو عائلتها ؟ دع يوهان يتصرف معها "
    "إنها لا تبكي ، كما أن الدوق يوهان أمرني بالتأكيد عليك لتأتي لرؤيتها "
    "أهناك خطب ما بوالدتها ؟ "
    "لا ، لقد استيقظت قبل قليل و الطبيب قال بأنها مسألة وقت حتى تشفى "
    حرك كتفيه في انزعاج و سأل مرة أخرى "إذاً فالأمر عن مراسم دفن أبيها و أختها ؟ "

    " لا أعرف "

  19. #518
    الثرثرة ، الفوضى ، و المعمعة التي تدور في حلقات حولها لم يكن لها أي تأثير على انسجامها بعملها ، الصراخ الذي تسمعه بين لحظة و أخرى و تكالبِ قطع الأثاث في السقوط هنا وهناك لم يكن ..كما هو ظاهر للعيان بمشكلة قط .
    كان صباحاً جميلاً ذاك الذي تقضيه في الانشغال ببعض الأعمال المتكالبة فوق رأسها ، و التي تستمر في التسويف و التأجيل بشأنها حتى يتحسن مزاجها و يصير في مقدورها إتمام كل شيء على أكمل وجه ، ارتطمت إحدى الخادمات بطاولتها فانسكب الحبر على بعض الأوراق و على ثوبها ، ارتعبت و انحنت متأسفة
    "اعذريني سيدتي ! "
    رفعت بأصابعها الدقيقة الكوب المتأنِق بالورود ثم ارتشفت الشاي ببطء و مدت يدها الأخرى ببساطة
    "احضري علبة حبر جديدة من الصندوق "
    هرعت لتنفيذ الأوامر بينما تصطدم مجدداً و مجدداً بالفوضى التي يحدثها الصبيان ، باشرت سيدتها عملها من جديد في تركيز يعجبُ له المرء و لا يستوعبه العقل ، في غمرة هذه الأفعال الهمجية لا تزال قادرة على تمالكِ أعصابها بهدوء ، و منذ الصباح فقط انتهت من الرد على ما يقارب الخمسين رسالة ، إما تتضمن دعوة ، أو تقديم معروف ، وواحدة من دوق عجوز يهدي طفليها مهرين صغيرين بمناسبة عيد ميلادهما ..و "مهلاً لحظة "
    نهضت واقفة أخيرا و التفت لها الجميع عندما هتفت بذهول
    "اليوم هو عيد ميلادكما !!"
    أوشكت الخادمة المسنة تبكي من فرطِ السعادة ، فسيدتها و أخيراً استوعبت ما يجري هنا بينما كانت غارقة حتى الثمالة بالكتابة ، انفعلت واضعة ما تبقى من الأوراق على الطاولة و سحبت الصبيين بسرعة نحو الحمام
    "ميغان أعيدي كل شيء لمكانه و رتبي الحجرة ، سيدة فاني ساعديني في تنظيف هذين الفأرين الصغيرين "
    وبدلاً من ذلك فقد ازداد الولدان شقاوة و عبثاً ليتسببا بالمزيد من القلق للخادمة المسنة ،. وراحت أمهما لتجلب ملابس مناسبة للحفلة الصغيرة التي قررت و زوجها إقامتها في الحديقة الخلفية لمنزلهما ، توقفت في منتصف الرواق و نظرت من النافذة للخارج ، كان كل شيء يسير على قدمِ و ساق ، الطاولات موزعة بعناية و مفروشة بأقمشة حريرية مطرزة برسوم أنيقة و مزينة بورود الياسمين و القرنفل العطرة ، لا عجب و أن لا يدَ لها في كل ما يقامُ الآن ، هي نفسها تدركُ أن الخدم هم من يدبرون المنزل أفضل منها بينما تمضي جلّ وقتها بمساعدة زوجها في أعماله و تعليم الصبية العلوم المناسبة ، أو هكذا يظنُ الجميع ، تركتهما في عهدة الخدم و هرعت لغرفتها لتنظف نفسها من بقع الحبر التي لطخت أصابعها و ملابسها ، ارتدت ثوباً ازرقاً ينسجم بشكل جيد مع تفاصيل جسدها النحيل و سحنتها الباردة ، ابتسمت باهتمام بعد أن وجدته واقفاً عند الباب ينظر إليها ، و تابعت تسير في الغرفة جيئة و ذهاباً بحثاً عن حاجياتها
    "أما كان من الأفضل لو تركتِ ميغان تساعدكِ بدلاً من تضييع وقتها في تنظيف حجرة المكتبة التي تحتاج لأكثر من مجرد منشفة ومنفضة غبار لتعود كما كانت ؟"
    ضحكت أكثر على تعليقه المنزعج من تدمير مكانه المفضل في المنزل
    "لا تقلق كل شيء سيعود إلى ما كان عليه "

    جلس على أقرب كرسي و راقبها تلف عقد الياقوت الأحمر حول عنقها و تضع الأقراط في محلها
    "أتعرفين ؟ كنت أتحدث مع البارون لانسيلوت قبل قليل و بدأ فجأة بالثرثرة عن الأوضاع السياسية في المرتفعات"
    صمت برهة حتى يسمح لها بتذكر الرجل المقصود لكنها قالت بعدم اكتراث
    "عدنا للحديث عن الموضوع نفسه ، لا أفهم إصرارك على مناقشتي بأمور لا أطيق سماعها و كأنك تستمتع بذلك"
    "لأن لا احد يفهم مثلكِ يا إلياس ، كان يحدثني عن احتمال أن تمد إنجلترا العون لفرنسا في حربها ضد الأسبـ...
    قاطعته ببرود و تقدمت للمنضدة لترتب شعرها الأسود المموج
    "قلتُ لك يا عزيزي أن الحكاية كلها مجرد احتمالات لا تقدم أو تؤخر ، ليس من مصلحة أي من الطرفين أن يمتلك الآخر قوة يقلبُ بها الموازين ، الرجال يحبون الثرثرة فقط و الادّعاء بأنهم رجال حرب ومستعدون للقتال لأي سبب كان"
    "صحيح أن اعتقادك هذا يؤسفني ، لكن لماذا على سبيل الصدفة يا إلياس تملكين خبرة أكبر مني في الرجال ؟"
    ضحكت بصوت جهوري بينما تلف ذراعيها حول عنقه و ترتب ياقة لباسه
    "لأنك محظوظ كفاية لكيلا تضطر للاستماع إلى الترهات التي يتفوهون بها أمام النساء لإبهارهن "
    تهكّم بينما يبعد يديها و يجلس على المقعد
    "و مع ذلك فقد دعوتهم لمنزلنا اليوم، إنكِ تناقضين نفسكِ يا ليلي "
    "إنه عيد ميلاد الصغيرين ، أردت أن أقيم حفلاً بسيطاً لهما و يصادف أن أصدقائهم يكونون أبناء أولئك الأشخاص ، لا يمكنك أن تكون قاسياً جداً يا عزيزي وتحرم طفلينا فرحة عيد ميلادهما "
    ضحك باستمتاع من تعابيرها المتلونةِ بين لحظة و أخرى"يا لكِ من ماكرة ! و صرتُ أنا الأب السيئ الآن "
    دارت حوله حتى وصلت لمنضدتها من جديد
    "كنتُ أمازحك طبعاً ، الأهم الآن أن تبقى مع الصغيرين طوال الحفل ، أنت تعرف كم يفتقدانك بسبب سفرك المتواصل "
    "و أنتِ ألا تفتقديني ؟ "
    "لماذا ؟ هل من المفترضِ أن افعل ؟"
    صمت برهة و ظنت أنه تضايق من حديثها فالتفتت إليه لتطمئن لكنه قاطعها
    "لا أدري ماذا أقول بشأن ذلك ؟ إن حدث لي شيء سأكون واثقاً من أنكِ ستبقين بخير ، لكنني لا أحب منطقكِ إطلاقاً يا إلياس "
    طأطأت برأسها للأسفل لتلملم خصلات شعرها السوداء الغزيرة ، كانت شفاهها مشغولة بإمساك بعض مشابكِ الشعر فقالت من بين أسنانها
    "سولومون لا تكن هكذا ، اليوم من بين كل الأيام ينبغي أن تعتقني من الشعور بالذنب ، بالمناسبة هل أجبت على صديقك الفرنسي ؟ "
    وجدته في لحظة واقفاً خلفها ، مبتسماً بثقة حيالها
    "لم تعد طريقتك في تغيير الموضوع مجدية معي يا عزيزتي ، كما أنني أفكر برفضِ دعوته "

    اجبرا على ختم حديثهما لما فتح باب غرفتهما على مصراعيه وظهر من خلفه طفلان بهيان ، يرفرفان بروح البراءة و بجمال الصحة والمظهر ، انحنى الأب للأمام وحملهما بذراعيه بسرعة فتعالت قهقهاتهما عالياً
    "أوه ألن تحظى ماما بعناق هي أيضا ؟ "
    ما إن وضعهما أرضا حتى أحاط الأصغر خصرها بذراعيه النحيلتين ، و ابتسمت إلياس بينما تنحني وتقبل جبينه
    "ما الأمر تريستان ؟ الم تعد والدتك تستحقُ أن تعانقها ؟ "
    "والدتي ! لقد التقينا قبل أقل من ساعة ، لماذا يفترضُ بي عناقكِ و كأنني لم أرك منذ اشهر لمجرد أنني بدلت ملابسي و حسب ؟"
    ادعت الاستياء ثم التفتت تهمس لزوجها
    "لا تبدأ بالمقارنة ، اعلم أنه يشبهني و لا اصدقُ لأي حدِ أنا مزعجة "
    "لم أكن لأفعل "
    انحنت بجذعها للأمام وربتت على رأس طفلها قائلة
    "يبدوا أنكما سبقتما ماما هذه المرة في ارتداء ملابسكما ، مالكوم لا تركض كثيراً حتى لا تقع كالمرة الماضية ، تريستان لا داعي للحديث عن القتال و الحرب كلما التقيت بأحد جنود أبيك اتفقنا ؟"
    وجهه الأبيض الطفولي امتحق بحمرة غاضبة ، وراح يهز قدمه في عصبية
    "و لكن هذا هو الشيء الوحيد الذي استمتع بالحديث عنه ، كما أنه عيد ميلادي و يفترض بي أن افعل ما أشاء "
    راحت تجادله بجدية من يناقش رجلاً لا طفلاً
    "اخبرني ما الشيء الممتع في الاستماع لقصص الحروب ؟"
    حرك سولومون كتفيه في انزعاج لمعرفته باندلاع نقاش حاد بين الاثنين ، فأمسك براحة ابنه قائلاً
    "أنا و مالكوم سنسبقكما إلى الحديقة الخارجية "
    لم يطل الأمر بل تبعهما الاثنان الآخران و اجتمعوا في الحديقة لاستقبال الضيوف الذين سيشاركونهم الاحتفال بعيد مولدِ الصبيين ، الأكبر كان تريستان و يشبه والدته إلى حد لا يصدق ! ليس فقط في شعرها الأسود و عيناها الضبابيتان ، بل و في عنادها ، برودها ، غطرستها أحيانا كثيرة ، على النقيض كان مالكوم الذي يصغره بدقائق معدودة ، ليس و كأنه لم يكن مميزاً بل إن لفظ الصبي الإنجليزي كان كافياً ليصفه جيداً ، فحتى مع امتلاكه لعيني والدته ، شعره الذهبي الناعم ورثه عن أبيه الفايكونت .
    بمجردِ وصول الجيران و الأصدقاء نسي كلُ منهم الآخر و راحوا يقضون وقتاً ممتعة في الحديث و اللعب هنا وهناك ، كان نهاراً دافئاً على غير عادة و استمتع الجميع بتناول الطعام و الرقصِ و الغناء .

    راحت تتمشى بين الحضور بكأس شرابها المعتّقة ، تحاولُ إيجاد ما يطرقُ سمعها و يثير اهتمامها للتوقف و الإصغاء ، و ربما المشاركة لو استحق ذلك ، شاهدت جماعة من الرجال متحملقين في دائرة و من بينهم الدوق ماكنزي الذي أهدى صغيريها المهرين ، فكرت بالمرور و إلقاء التحية و في كل الأحوال لطالما أحبت أسلوب الرجل في الإصغاء و من ثم إطلاقِ السخريات هنا و هناك
    "ها هي أنت يا سيدتي ، خفتُ أن لا تتسنّى لي الفرصة برؤيتك "
    التقطت يده لما مدها نحوها و ابتسمت بتهذيب لتشكره على كرمه فهتف بخشونة
    " لقد فعلت ذلك لأجلكِ فقط ، و مع أن لسولومون مكانة لدي إلا أنكِ تفوقينها ، و إهداء اللعب و الهدايا ليس بشيء يقدمُ لابنيك "
    شكرته من جديد و تلفتت حولها باحثة عن الصبيين كي يقدما امتنانهما فصرف مجدداً تفكيرها بقوله
    "أصغ فقط إلى ما يتفوه به هؤلاء القوم الأغبياء "
    مالت نحوه بينما تقيّم الوضع ببصرها جيداً
    "أهي الحرب من جديد ؟ "
    "اسمعي بنفسك ."

    "لذلك أقول يا سادة بأن على كل رجلِ القيام بأمر عظيم ليخلد ذكره "
    اعترض على قوله نبيل آخر يقف في الطرف المقابل له "أفترضُ أن الحياة أقصر من أن تضيع وقتك في لفتِ اهتمام الآخرين ليتذكروك !
    لكن الأول عاد ليدافع عن فكرته بحماسة شديدة "صدقني سيادة اللورد لا يوجد هناك ما يثبتُ عظمة الرجل أكثر من تخليدِ اسمه للأبد "
    تكلم الدوق العجوزُ بعد أن يئس من بساطة تفكيرهم الممل"هراء شبان هذه الأيام ينبعُ عن طيش وقلة خبرة ، لا تريدون إلا المجد و كأنه بالسهولة التي تثرثرون بها"
    ردّ عليه بارون شاب هو لانسيلوت الذي حدثها عنه زوجها صباح اليوم "إنه موضوع مهم سيادة الدوق ، حتى سيادة الفايكونتيس إلياس مهتمة به انظر كيف تراقبنا بعينيها الفاتنتين "
    قهقه أحدهم يخاطبها منحنياً إليها"هل التغزل بعينيك سيمجدني ويجعل التاريخ يحفظ لي اسمي ؟"
    اقتربت أخيراً لتشاركهم حوارهم السخيف الذي أقحمت به "طبعاً ، كأكبر أخرق عرفته البشرية ، أهذا كافِ بالنسبة لحضرتك ؟"
    تعالت ضحكات الرجال مجتمعين و حافظت السيدة على ابتسامتها واثقة و عنيفة

    "لا تتركين لأحد فرصة امتداح جمالك هذا ليس بعدل "
    رفع الدوق يده أمامهم ليفسحوا لها المجال بالوقوف "أخبريهم سيدة باكينغهام ، من أين يبدأ الطريق للمجد في نظرك ؟ دلي هؤلاء الطائشين على السبيل الأقصر لتحقيق حلمهم "
    لم يكن جاداً طبعاً فسايرته في لعبته و في أحاديثه الساخرة "الموت يا سيدي هو البداية "
    "الموت ؟"
    تابعت بثقة من يتحدث عن علم و دراية كبيرين "أجل ، لا يهم ما يفعل المرء حتى يموت ، لن يعبأ الناس بحياتكم ما لم يفقدوها ، و حتى يتحقق طموحكم البريء يتوجب عليكم الموت أولاً "
    راح الأول يوجه لها أسئلته باهتمام لفكرتها المحيرة "ما الذي يضمنُ لنا كلامك ؟ ماذا إن متنا ولم يتحقق ذلك ؟"
    هزت كتفيها بعدم اهتمام و ناولت أقرب خادمة منها كأس الشراب الذي فرغت منه "لا يوجد ضمانة ، الإثباتُ الوحيد هو تحقيق الموت !"
    "في هذه الحالة لن نعرف أن أسماءنا ستخلد إن متنا "
    بدا متحيراً أكثر إثر قوله السابق و ضحكت إلياس بدهشة من بساطة تفكيره "أوه صحيح ؟ حسبتكم ستعرفون بشكل ما "
    تضايق البارون لانسيلوت من تهكمها و كأنها لا تعبأ بهدفهم و مرادهم "لا تسخري منا يا سيدتي فما نحن إلا رجال نريد أن لا تضيع حياتنا هباء "
    عاد الدوق ليقول بانفعال "اعذريهم سماحتكِ فهم ليسوا سوى أطفال لا يفهمون المعنى من الحياة بعد "

    "آوه لا تقلق أتفهم قصدهم الشريف ! "
    "على الأقل نحن نسعى لأمر قيم ، بدلاً من العديد من الناس الذين تضيع حياتهم بلا فائدة ، حتى إذا ماتوا لم تحسّ بهم !"
    تلاشت ابتسامتها و بدأ الوضع يتخذُ منحنى حساساً كثيراً بالنسبة لها
    "كأنك تقول بأن حياتك هي الأفضل لأنك ستخلدُ اسمك ليتذكرك الآخرون ، و هم ليسوا بذي أهمية لأنهم لم يمتلكوا أياً من الهراء الذي تظنه أنت قيماً و أهدافاً"

    ساد الصمتُ قليلاً و أسفر عن توتر الجوّ ، البارون لانسيلوت تدارك الأمر و سألها
    "اغفري لي وقاحتي سيدة باكينغهام لكن ما الذي تعرفه سيدة ناعمة مثلكِ عن الشرف و المجد و الموت ؟"

    "أعرف ما يكفي لأقول بأن نقاشكم منذ البداية كان سخافة و مضيعة للوقت ، الرجال الحقيقيون ! الرجال الذين عرفتهم لفترة من حياتي كان هدفهم أسمى من مجردِ صفحات و اسطر تسجلّ أسماءهم للبشرية ، كانوا يعيشون لأجل المبادئ التي زرعوها في قلوبهم و العهود التي نذروا على الحفاظِ عليها"

    "اسمحي لي ! ليس مقصدي التقليل من أهميتك ، كل ما في الأمر أن بعض الأمور للرجال ليثرثروا بها ، أنت مجرد سيدة !"

    حركت رأسها بتجاهل و رفعت أطراف ثوبها لتعلن عن مغادرتها حديثهم السقيم
    "سعيدة جداً بأنك أدركت ذلك أخيراً "


    قطب الفايكونت باكينغهام حاجبيه بعد أن رحلت فتلاشت نيته في إيقافها وإخراجها من مثل هذا النقاشات مع الرجال ، اقترب الدوق ماكنزي منه
    "ما زلت تبقيها بحوزتك يا سولومون "
    لم يتعب نفسه في خفضِ بصره للرجل القصير وردّ مراقباً تنقلات زوجته بين الضيوف
    "إنها ليست شيئاً لأحوزه أيها الدوق "
    أشار لخادمه بأن يسحب له كرسياً و جلس من فوره ثم تابع
    "لكنك تفعل ! لا تقل لي أنك منذ التقيت بها لم تسمعها تتحدث عن العودة لموطنها "
    حرك شدقيه باستياء و لم يمنعه تعلقٌ مالكوم بساقه من الإكمال
    "لا أفترض أنها تريد ذلك ، و لا أتوقعها تبيت نية للرحيل ، إنها واضحة جداً و ليست ممن يخفون الإسرار "
    بسبابته أمر الدوق خادمه ليدلك أكتافه المتصلبة ليخف الألم قليلاً
    "هذا لأن هويتها هو أكبر و أخطر سر تحتفظُ به ، ما حاجتها لإخفاء المزيد برأيك ؟"
    لم يكن سولومون باكينغهام يجيب بمنطقية إطلاقاً ، على الأقل ليس مثلما اعتاد أن يفعل ، موضوع إلياس يزعجه لدرجة أنه لا يريد الاعتراف بذلك و يستمر في تجاهله
    "كانت تتحدث في البداية عن ذلك ، في الخمس السنوات الأولى لها هنا لكن ما إن تزوجنا وأنجبت تريستان و مالكوم حتى لبثت كل تلك الأمور تضمحل تدريجياً ، و عندما افتح معها سجلات الماضي فإنها توقفني بنفسها ! ما فائدة العودة على أي حال ؟"

    "إنه ليس مكانها وأنت تعرف ذلك ، لديها واجبات تتخلف عنها و العديد من الأمور ستعودُ لنصابها بعودتها "
    الكذب المستمر على نفسه بكون إنجلترا وطنها الحالي لم يحلّ من الأمر شيئاً ، هو أكثر من يعرف بأنها لا تنتمي إلى هنا بأنها و في الحقيقة حبيسة كل تلك الذكريات التي تطاردها و تجعلها تجبنُ عن العودة

    "ألا تفهم ؟ ليس لديها من تعود إليه ، إنها عالقة هنا خائفة من الرحيل"
    سحبه الدوق من ذراعه و اثبت له أكثر من أي وقت مضى أن القصر ليس حكماً على القوة البدنية
    "توقف عن الكذب على نفسك سولومون ، كلانا يعرف أن هناك شخصاً باقياً لها "
    أبعد نفسه بغضب يتضاعف ، رتب كم قميصه غير مقتنع بما يسمع
    "رجاء لا تقل بأنك تقصد أخاها المجنون ذاك ! إنه لمن الخطر إرسالها إليه"
    "لم يصر إلى هذا الحال إلا بعد أن فقد الجميع ، الجميع بالإضافة إليها "
    شيء في داخله نبهه بتفوهه بما لا يليق ، لطالما غضبت إلياس منه لأنه يتحدثُ في أشياء لا يدركها جيداً
    "إنها تعرف بوجوده حياً و لو أرادت العودة إليه لفعلت لكنها تفضل البقاء هنا "
    "لكنه لا يعرف بأنها لا تزال على قيدِ الحياة و إلا لحرك جيشاً فقط لإعادتها ، صدقني إنك تكذب على نفسك بقولك أنها تريد البقاء هنا ؟ زوجتك خائفة من العودة لتجد المنزل الذي كان مملوءاً مرة خالياً الآن ! خائفة من أن يكون شقيقها قد كرهها بعد غيابها طوال هذه السنوات ، لقد صار لها زوج و أطفال لذلك هي تخشى الرحيل وفقدانهم من جديد ، إلياس مرتعبة من أن تفقد الشيء الوحيد الذي امتلكته فجأة من اللا شيء "

    "هذه ضريبة كونها نبيلة !"

    "بل هذه ضريبة كونها سفورزا"
    اخر تعديل كان بواسطة » Red Riding Hood في يوم » 27-01-2015 عند الساعة » 12:46

  20. #519
    النهاية.

    جزئية ليديا و جورجيانا جاهزة لكنني لم أُضِفها لأن أحداثهما دسمة قليلة .

    طيب إن شاء الله تكونوا استمتعتم ، اخبروني بالأخطاء إن وجدتموها و شكراً .


  21. #520


    مكاااااااااااانىىى
    السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
    أهلاً بعودتك ريدوو
    حسناً سرقت بعض وقت الثانوية العامة لكتابة رد سريع وغير منسق ولكنه يحتوي فقط بعض التعليقات على أهم الأحداث
    وبالمناسبة كل الأحداث هي أهم الأحداث هه

    إلياس باكينغهام
    الكل أصبح يعرف الآن أنها أخت يوجين
    وحسناً
    أتراجع عن اعتقادي بكون العجوز المقتول في السابق والده وأصر على أن إلياس شقيقه
    إلا إذا كان عدد القبور الفارغة أكثر مما يظن الرجل المقتول نفسه وشيء في داخلي يرجح ذلك
    وسولومن
    تحذير أخير
    أنت لا تعرف مع من تتعامل لذا ففي لحظة ما ستجد الفتاة قد عادت لإيجاد شقيقها
    شقيقيها على الأرجح
    ودعيني أقل
    مازال لدي اعتقاد بأن نيكولاس دي لا روسا أحد أقارب يوجين
    وبمناسبة نيكولاس
    تعليق وحيد .. أظننا سنرى طفلاً عما قريب :ماكر:

    مازلنا مع يوجين وعائلته
    شخصيتك الجولة أظنها لها علاقة بالإيرل بولارد وإن بعض الظن إثم
    الطرف الثالث حتى في الروايات !!

    دافني بولارد
    لا أظن ظهورها عابراً كما تعتقد آيريس >> شكاكة من الدرجة الأولى

    الختام
    قصة معقدة باتت تربط فتاتي المفضلة بالمرتزقة
    وليس هي فقط بل روزا والي لا أظنها ستتوقف قبل أن تثبت براءة والدتها
    حسناً ذاك الصوت في داخلي يعود ليقول ميكاييلا ... ريبيكا .. قبور سفورزا .. آيريس غارسيا .. حلقة واحدة
    الراحلتان ضحتا لنجاة الباقين
    أنتظر معرفة البقية وأيضاً لا أتوقف عن التفكير فيما تريدين إخباري به

    أنا أيضاً لدي ما أقوله
    لم يخب ظني يوماً فيما ستكتبينه وواثقة أنه لن يخيب
    وأيضاً
    أرجو أن يمتد غيابمك في الخير فقط لستة أشهر قادمة حتى أنهي اختباراتي لأضع ردوداً لائقة
    كتعقيب على أخطاء النص
    انتبهي فقط أن نفي النفي إثبات
    أراك قريباً
    في أمان الله
    اخر تعديل كان بواسطة » shymaa ali في يوم » 26-01-2015 عند الساعة » 18:33

الصفحة رقم 26 من 36 البدايةالبداية ... 162425262728 ... الأخيرةالأخيرة

بيانات عن الموضوع

الأعضاء الذين يشاهدون هذا الموضوع

عدد زوار الموضوع الآن 1 . (0 عضو و 1 ضيف)

المفضلات

collapse_40b قوانين المشاركة

  • غير مصرّح لك بنشر موضوع جديد
  • غير مصرّح بالرد على المواضيع
  • غير مصرّح لك بإرفاق ملفات
  • غير مصرّح لك بتعديل مشاركاتك
  •  

مكسات على ايفون  مكسات على اندرويد  Rss  Facebook  Twitter