مشاهدة النتائج 1 الى 6 من 6

المواضيع: نكهة المطر

  1. #1

    نكهة المطر

    أتعلمين أيَّ حُزنٍ يبعث المطرْ؟
    وكيف تنشج المزاريب إذا انهمرْ؟
    وكيف يشعر الوحيد فيه بالضياعْ؟
    بلا انتهاء ـ كالدَّم المراق، كالجياعْ،
    كالحب، كالأطفال، كالموتى ـ هو المطرْ!

    -بدر شاكر السياب-

    السلام عليكم ورحمة الله.. هذه ثاني رواية لي في هذا المنتدى وعنوانها (نكهة المطر). أرجو أن تنال إعجابكم e056
    اخر تعديل كان بواسطة » lotus2018 في يوم » 25-09-2021 عند الساعة » 15:43


  2. ...

  3. #2
    الفصل الأول
    قهوة... ومطر


    "أوه لقد بدأت تمطر بغزارة... " قالت النادلة بلهجة ودودة وهي تضع فنجان القهوة الساخن على طاولته التي جلس عليها وحيداً قرب واجهة المقهى الزجاجية. تمتم الرجل شاكراً ببرود دون أن يتكلف عناء رفع بصره نحوها، فتبادل الأحاديث "اللطيفة" كان آخر ما يرغب به على الاطلاق. سرعان ما ملأ عبق القهوة المكان مدغدغة حواسه برائحتها الزكية. ابتسمت النادلة قائلة بلباقة: "بالهناء والشفاء سيدي" ثم انسحبت بخفة متجهة نحو زبون آخر.

    كان صباحاً مطيراً من أيام شهر تشرين الأول في العاصمة طوكيو. احتسى الرجل قهوته على مهل منقبض الصدر وهو يراقب بامتعاض قطرات المطر تنساب خيوطاً لامعة على الزجاج أمامه. التلذذ بقهوة الصباح المنعشة كانت إحدى المتع القليلة التي يكاد يحظى بها خلال روتينه اليومي المرهق الذي تشابهت ساعاته ودقائقه، فرشفة واحدة منها كانت تهبه مذاقاً مختلفاً يغير طعم المرارة العالقة بأحاسيسه وتبث في روحه المتداعية شيئاً من السكينة التي تاهت منه منذ سنوات بعيدة.

    اتكأ بمرفقه على حافة الطاولة مسنداً خده على قبضته بينما أفلتت زفرة عميقة من بين شفتيه. حاول أن يشغل نفسه بمراقبة المارة على الرصيف المزدحم قبالة المقهى الذي يجلس فيه. بعضهم كانوا يغذون الخطى بتجّهم نحو أعمالهم أو أماكن دراستهم متجنبين المشي على برك الماء المتجمعة على الأرض هنا وهناك، بينما البعض الآخر كانوا يتمشون على مهل بتعابير حالمة مستمتعين بالمشي في هذه الأجواء التي على ما يبدو كانت تروق لهم على عكسه هو. تذكر أنه لا يحمل مظلة تحميه من المطر الغزير فعقد حاجبيه الكثيفين حتى كادا يلتقيان وهو يتخيل نفسه مبللاً حتى النخاع. صحيح أن مكان عمله لم يكن بعيداً عن ذلك المقهى إلا أن ذلك لم يمنعه من الشعور بمزيد من الضيق وهو يتمتم "سحقاً لهذا..."

    تأمل صورته المنعكسة على الزجاج المبلل وكأنما يفتش عن شيء غير موجود، وكأنما حينما التقى بنفسه أمام انعكاس الزجاج رأى وجهاً لا يعرفه. كان وجه رجل مرهق في السابعة والثلاثين من عمره، ارتسمت على ملامحه الوسيمة بعض الخطوط المتعبة، ذا شعر أبنوسي خطته بعض الخصلات الرمادية هنا وهناك، وعينين حادتين بلون الزمرد بادلتاه بنظرات باهتة.

    أنهى آخر رشفة من فنجانه وطلب المزيد من القهوة في كوب سفري ليأخذه معه للعمل، ثم نهض سائراً نحو المخرج بتثاقل وهو يرجو في نفسه أن يتوقف هطول المطر ولو قليلاً ريثما يصل إلى وجهته. حالما فتح الباب لفحت وجهه نسمات باردة أسرت قشعريرة في جسده فشد ياقة معطفه حول رقبته ودس يده الحرة في جيبه بعصبية. ألا يكفي أن سوء حظه أنساه مظلته هذا اليوم بالذات؟ فوق ذلك هذا الزمهرير غير المعتاد في مثل هذا الوقت من العام! ما إن وضع قدمه خارج المقهى حتى عاجلت قطرات المطر بلا حياء بالانهمال عليه وكأنما تسخر منه. تنهد مستسلماً رافعاً بصره نحو السماء، وسمح للقطرات الجريئة أن تبلل وجهه ولحيته الصغيرة دونما اعتراض. في تلك اللحظة اعتراه إحساس ليس بغريب عليه بالانفصام عن العالم من حوله وكأنما لم يعد جزءاً منه، يحدق في نقطة ما بشرود وعيناه لا تبصران. تهدلت ملامح وجهه، وصمتت الأصوات من حوله، فلم يعد يسمع ضجيج أصوات المارة والسيارات، حتى وقع صوت زخات المطرالغزيرة تلاشى كالسراب... كان عقله ووجدانه يسبحان في عالمه الخاص، عالم من الذكريات الدفينة التي تتدفق من أعماق أعماقه وتغشاه كالسيل العرم حتى تكاد تغرقه من الداخل. تردد في عقله الشارد صوت رقيق محبب آت من البعيد...

    "أتعرف ما هي نكهة المطر؟"

    نكهة المطر...إيه؟

    أرسل زفرة طويلة أخرى متخلصاً من شروده ذاك وهز رأسه وكأنما ينفض غبار الماضي عنه. وبالكاد خطى بضع خطوات حين فوجئ برؤية شابة تركض نحوه بسرعة وكأنما ظهرت من العدم. كانت تلتفت خلفها مذعورة كما لو كانت تحاول النجاة من وحش مفترس يطاردها بلا هوادة، وما إن نظرت أمامها حتى أدركت أنها على وشك الارتطام به مباشرة فحاولت عبثاً أن توقف اندفاعها، إلا أنه وفي أقل من طرفة عين كانت قد اصطدمت به بقوة وأسقطت كوب قهوته لتنسكب على الأرض. سقطت الفتاة على ركبتيها وقد ارتسمت على وجهها علامات الألم والارتباك.

    "ألا تنظرين أمامك يا هذه؟!" صاح بها الرجل بحنق وهو يحدق في القهوة المسكوبة لاعناً إياها في نفسه على الركض كالمعتوهة على ذلك النحو.

    "آسفة.. أنا آسفة جداً... يا سيدي..." اعتذرت الشابة اليافعة بعد أن نهضت بصعوبة. كانت تحاول التقاط أنفاسها المتلاحقة بصعوبة وتبعد عن عينيها خصلات مبعثرة من شعرها البني المحمر كلون خشب الماهوغوني وقد بدا وجهها ناعم الملامح كالأطفال شاحباً كشحوب الأموات. أخذت ساقاها ترتجفان من الإنهاك الذي على ما يبدو زاده وزن تلك الحقيبة الكبيرة التي كانت تحملها على كتفها، وجسدها كان يرتعش من البرد الناجم عن البلل الشديد من رأسها حتى أخمص قدميها، إضافة لكونها لا ترتدي أي معطف يقيها من شر هذا البرد القارس. تأمل الرجل تلك الهيئة المزرية للشابة الواقفة أمامه -والتي خمن أنها في بداية عشرينياتها- بشيء من عدم الرضا، وحزم أمره على مضض بأن يغض الطرف عما حصل وينصرف إلى عمله قبل أن يتأخر بسبب هذه الفتاة الرعناء.

    "لا عليكِ... " تأفف وهو يشير لها بلا مبالاة. لم يكد يستدير ليبتعد عنها حتى كانت قد التفتت للخلف مجدداً فزلقت إحدى قدميها واختل توازن ساقيها الواهنتين وكادت تسقط للخلف، إلا أنه وبحركة تلقائية وثب إليها مسرعاً وفي خطوة واحدة كان يمسك يدها اليسرى بيمناه وطوق خصرها النحيل بيمينه وجذبها نحو صدره فحماها من السقوط. تلاقت عيناه بعينيها الواسعتين القرمزيتين. لبث كل منهما متجمداً كالصنم ينظر نحو الآخر في صمت حائر للحظات بدت وكأنها دهور وقد ارتسمت علائم الارتباك على وجهيهما. امتزجت أنفاسهما الحارة المضطربة لشدة قربهما من بعضهما، وحين استوعبت الفتاة أنها بين ذراعي رجل غريب تسارعت خفقات قلبها بعنف حتى كاد يخرج من صدرها، واحمرت وجنتاها خجلاً وقد عاد اللون إلى وجهها الممتقع. أدرك الرجل بدوره ذات الأمر فاعتراه الحرج وأبعدها عنه بشيء من التوتر.

    "المعذرة سيدي! أنا جد آسفة..." تلعثمت الفتاة معتذرة من جديد وهي تبعد خصلاتها الثائرة عن وجهها باضطراب وخجل.

    "لستِ رعناء فحسب بل خرقاء أيضاً؟" قال بغلظة وهو يفكر كم كانت يدها باردة كالثلج.

    سمع كل منهما خطوات مسرعة تقترب منهما، فالتفتا نحو صاحبها الذي وقف أمامهما وهو يقول لاهثاً بغيظ "ها أنت ذا أيتها اللعينة...لا مهرب لك بعد الآن!"

    شهقت الفتاة وقد علت ملامح الارتياع محياها. نظرت نحو صاحبنا بعينين مذعورتين وأمسكت بأحد أكمام معطفه باستجداء وقد عجزت شفتاها المرتعشتان عن النطق سوى بكلمتي: "أرجوك ساعدني..."

    لم يكن بحاجة لطرح أية أسئلة، فما رآه في وجهها من رعب كان كفيلاً بجعله يفهم ما يجري. لا شك أن هذا الشاب البغيض هو من أطلقت ساقيها للريح على ذلك النحو الأرعن هرباً منه. كان من الواضح للعيان أنه فرد من إحدى عصابات الأشقياء التي لا تخلو منها أزقة طوكيو المظلمة، ويمكن للناظر أن يدرك ذلك من مظهره اللافت بدءاً بملابسه والوشوم المرسومة على وجهه ورقبته وانتهاءً بتسريحته الغريبة. وجهه الدميم كان ينضح بأقذر صفات البشرية، وعيناه اللئيمتان أخذتا ترمقان الفتاة بنظرة خبيثة جعلتها تزدرد ريقها وتحتمي خلف ظهر الرجل كطفلة تلوذ بأبيها، وأخذت عيناها تتوسلان له أن يحميها من هذا الوغد. كانت يداها المتشبثتان بمعطفه من الخلف ترتعشان خوفاً لا برداً هذه المرة.

    سألها بتهكم: "هل اصطدمت به وأسقطتِ قهوته هو الآخر؟" ثم تنهد وهو يتمتم لنفسه بامتعاض "يا له من نهار مشؤوم!"

    همست له دون أن تلقي بالاً لسخريته: "لقد بدأ بالتحرش بي فدافعت عن نفسي مما أغضبه بشدة.. ثم أخذ يطاردني بلا هوادة..."

    اجتاحه شعور بالحنق من هذه الورطة التي ورطته بها هذه الفتاة، فأخذ يقاوم رغبة أنانية في أن يصرخ بوجهها أن هذا ليس من شأنه وأن عليها أن تجد منقذاً آخرغيره، ثم يوليها ظهره وينسحب بلا تردد. ألا يكفي أنها أفسدت عليه صباحه وتسببت في تأخيره عن عمله... وفوقها الآن تنتظر منه أن يتصادم مع هذا الوضيع من أجلها ويلعب دور البطل الشهم؟

    كاد بالفعل يستسلم لهذه الرغبة، فقال لها بفتور: "اسمعي يا هذه، لا وقت لدي كي أحل لك مشاكلك التي لا تعنيني! عليكِ أن..."

    فجأة تراءى له شيء ما أوقعه في حيرة فماتت الكلمات على شفتيه. لقد خيّل إليه أن وجهها قد استحالت ملامحه إلى وجه آخر يعرفه حق المعرفة... كان لصاحبة الذكرى التي داهمته منذ دقائق معدودة.. وكان وجهاً جميلاً بقدر ما كان خائفاً. تردد صوتها الرقيق في رأسه بعبارة متوسلة "أرجوك لا تتركني..."

    "شيوري ... " همس الرجل لنفسه بشرود وكأنما هو واقع تحت تأثير تعويذة ما سلبته حواسه، سرعان ما أفاق منها وعاد إلى أرض الواقع حين اختفت (شيوري) من أمام ناظريه ووجد نفسه يحدق مجدداً في تلك العينين القرمزيتين الملهوفتين. طيف تلك الذكرى القصيرة أوقدت جمرة في ضميره ... بل لعلها أذكت شعلة من النخوة في صدره كان لهيبها قد خبى منذ زمن تماماً كقلبه الخامد.

  4. #3
    كانت الفتاة تنظر إليه وتعابير وجهها تتأرجح ما بين الرجاء الحار والخوف الشديد. أكان ينوي التخلي عنها حقاً بعد أن استجارت به هكذا وبكل بساطة؟ حدق بها بنظرة غريبة هزت كيانها لم تستطع تفسيرها... أكانت تلك نظرة حزن؟ أم نظرة حنين مرير؟ ما الذي رآه في وجهها حتى انقلبت ملامحه على ذلك النحو وجعله يتراجع عن تخاذله عن مساعدتهǿ

    التفت صاحبنا نحو عضو العصابة مخاطباً إياه ببرود يخفي خلفه حنقه: "أنت يا هذا... دع الفتاة وشأنها وانصرف من هنا". رقص قلبها سعادة لدى سماعها تلك الكلمات، ورأت فيه الفارس النبيل الذي ظنت أن لا وجود له في هذه المدينة التعسة!

    "وإن لم أفعل؟" رد عليه مستهزئاً بضحكة مستفزة وهو يدنو منهما ببطء. " من الخير لك أن تتنحى جانباً فأنت لا شأن لك. هذه القذرة تجرأت على اغضابي... وأعرف كيف أجعلها تكفر عن وقاحتها!" أردف رامقاً الفتاة مجدداً بنظرة جائعة تنذر بالأسوأ.

    مد الرجل ذراعه للجانب كدرع يحول بين الفتاة وذلك القذر مما جعل الأخير يتوقف عن السير. "لن أكرر كلامي." كانت نبرة صوته هادئة لكن تحمل في طياتها وعيداً و قد زوى ما بين عينيه بغيظ. "هذا تحذيرك الأول والأخير."

    ارتسمت على زاوية فم غريمه ابتسامة استهزاء كريهة قائلاً: "أوووه... أنا ارتجف! لقد أخفتني حقاً ..." ثم بصق على الأرض أمام الرجل باحتقار متجاهلاً تهديداته المبطنة. أفلتت من بين شفتي الفتاة صرخة رعب صغيرة حين لاحظت بريق نصل مطواته التي أخرجها من بين طيات ثيابه، والتي أخذ يمررها على لسانه ويلعقها وعيناه ترمقانهما بنظرات لا تبشر بخير. "ربما علي تمزيق وجهك المتغطرس هذا أولاً." ثم أردف بضحكة تشمئز منها القلوب: "هذا سيكون مسلياً!"

    "يا إلهي ما الذي فعلته؟" فكرت الفتاة بهلع لائمة نفسها على توريط ذلك الغريب في ما قد ينقلب إلى مجزرة بين لحظة وأخرى. حاصرتها المخاوف حتى كادت تطبق على أنفاسها وهي تتخيله غارقاً في بركة من الدماء بسببها هي. كيف كان عليها أن تتصرف الآن وقد تصاعدت الأمور على ذلك النحو؟ تلفتت حولها في حيرة وجزع. أما من أحد من أولئك الناس في الشارع كان قد لفت انتباهه ما يجري؟ ألن يتدخل أحد قبل فوات الأوان؟ ربما لم يكلف أي منهم نفسه عناء النظر حتى... أو لربما غضوا الطرف بمحض إرادتهم وواصلوا السير على عجل مبتعدين غير راغبين في توريط أنفسهم فيما لا يعنيهم، على عكس ذلك الرجل الذي كان الوحيد الذي لبى نداءها ولو على مضض.

    استرقت نظرة إلى منقذها وهتفت بصوت يختنق بعبراتها: "سيدي احذر .."

    "التزمي الصمت." بترعبارتها بجلافة محتفظاً بثباته رغم غليان الدم في عروقه والذي أحس حرارته في رأسه. لم تستشعر في صوته أي قلق أوخوف، بل كان يقف متماسكاً أمام رجل العصابة كقلعة شامخة لا يهزها أي ريح. تساءلت الفتاة في نفسها عما إذا كانت هذه ثقة أم حماقة؟ هل كان يقدر خطورة ذلك الموقف حقاً؟ كانت عيناه مثبتتان على عدوه الذي يلوح بمطواته بحركات بهلوانية وكأنما الموضوع برمته لعبة لا أكثر في نظره، وفي طرفة عين هجم عليهما بسلاحه كوحش كاسر ينقض على فريسته بلا رحمة.

    ما جرى بعدها جرى كلمح البصر وكأنه أحد مشاهد (الأكشن) في أحد الأفلام السينمائية، تلك التي تتسارع الأحداث فيها لحد الجنون بحيث لا تميز ما يجري وعقلك عبثاً يحاول مواكبة تفاصيلها. في لحظة كانت تتوارى خلف ظهر الرجل وفي الأخرى وجدت نفسها على الأرض بعد أن دفعها بعيداً عنه لحمايتها مما هو آتٍ. حالما لمحت السكين على وشك أن تنغرس في وجهه، شهقت مغمضة عينيها وأمسكت رأسها كما لو كان سيسقط من على كتفيها من هول ما يجري.اجتاحها الرعب كالسيل الهادر حتى شعرت بقلبها في حنجرتها... كانت متشنجة لدرجة عجزت فيها حتى عن إدخال الهواء إلى رئتيها فأمسكت أنفاسها. في بحر الظلام الذي غرق فيه عقلها تناهى لمسامعها أصوات مختلطة غير مفهومة ما بين ضرب وصرخة مدوية وصوت فرقعة كما لو أن شيئاً ما قد تكسر وآخرها صوت ارتطام قوي على الأرض قربها... وبعدها صمت مطبق غريب.

    بالكاد استجمعت شجاعتها وقاومت سلاسل الرعب التي كبلتها، ففتحت عينيها بحذر وعقلها يرسم لها سيناريوهات أليمة تهيؤ نفسها لمواجهتها، وقبل أن تميز عيناها ما هو المشهد أمامها صاحت بأعلى صوتها وهي تمد ذراعيها أمامها منتحبة: "أرجوك لا تمت سيدي أرجوك! "

    "ما خطبك يا هذه؟" أتاها رد الرجل ببرود وقد رفع أحد حاجبيه باستغراب.

    طرفت الفتاة بعينيها عدة مرات وحدقت فيه ببلاهة محاولة استيعاب ما يجري: كان يقف قرب غريمه المكوّم على الأرض والذي بدا في حال لا تسر الناظر، فقد كان يمسك بذراعه - التي على ما يبدو كان الرجل قد كسرها له- ويتلوى يئن متألماً ، وأما المطواة فكانت قابعة على الأرض بعيداً عن صاحبها كأنها بريئة منه.

    اتسعت عيناها بذهول مما تراه! غمرتها الفرحة مشوبة بشيء من عدم التصديق فاقتربت منه وسألته وهي ترمقه متفحصة: "هل أنت بخير؟ ألم يصبك أي مكروه؟"

    رد عليها بلا مبالاة بقوله وهو يرمق عدوه بسخط: "أنا على ما يرام، باستثناء مزاجي المتعكر."

    "الحمد لله!" تنفست الفتاة الصعداء وقد أزيح جبل عن صدرها. "لقد خشيت الأسوأ... كنت لن أسامح نفسي لو متّ بسببي!" قالت ورعشة تجتاحها لمجرد التفكير بالأمر. قبل أن يعلق الرجل على كلامها تابعت وقد جمعت كفيها أمام صدرها وشدت عليهما هاتفةً بانفعال: "ماذا كنت لأقول لزوجتك؟ وأطفالك الأربعة؟ بأي وجه كنت لأواجههم وأنا السبب في تشريدهم!"

    تدلى فكه الأسفل ذاهلاً مما سمعه للتو. هل كان يبدو كهلاً إلى هذا الحد حقاً؟ عبثاً حاول أن يداري شعوره بالإهانة الذي ارتسم على وجهه المتجهم. قال من بين أسنانه بغيظ:"أنتِ... هل أنتِ معتوهة يا هذه؟! ماذا تعنين بأطفالي الأربعة؟!"

    "إذاً لديك... أكثر من أربعة؟"

    "أنا لست متزوجاً أصلاً!" صاح بها وهو عاجز عن تحديد ما إن كانت تحاول استفزازه عمداً بادعاء السذاجة، أم أنها بلهاء فوق كونها رعناء.

    "أوه آسفة سيدي... ربما بالغت في إطلاق العنان لمخيلتي قليلاً." قالت بخجل وهي تدفع بخصلة من شعرها خلف أذنها.

    توردت وجنتاها وضحكت بعذوبة الأطفال. كان وجهها الجميل البريء قد ذكره مرة أخرى بـ(شيوري).

    بالكاد استطاع المجرم أن يتحامل على آلامه المبرحة وينهض بدوره ممسكاً بذراعه المتدلية، وبدا وجهه المتورم من اللكم أسود من شدة غيظه. ارتعبت الفتاة واحتمت خلف الرجل مجدداً، بينما أخذت عيناه ترميان بالشرر وهو ينعق متوعداً: "اللعنة عليك! لن أغفر لك يا هذا!"

    "هيا اغرب عن وجهي وإلا كسرت ذراعك الأخرى. " قالها الرجل بصوته العميق وعيناه تلمعان بنظرات مرعبة ارتعدت لها أوصال الشقي وجعلته يتراجع عن أية محاولة بائسة للانتقام لكرامته المهدورة.

    " ستدفع الثمن غالياً... أعدك بذلك! وأنتِ أيضاً لن تفلتي من العقاب أيتها الحقيرة!" وجه جملته الأخيرة للفتاة التي استجمعت شجاعتها وأخرجت له لسانها مما زاد في شعوره بالإهانة التي لا تطاق، فصك أسنانه بغيظ وأطلق ساقيه للريح مبتعداً عنهما وهو يزمجر متوعداً.

    "الحمد لله..." تمتمت الفتاة بارتياح عميق وأخذت تهنؤ نفسها على نجاتها من تلك الورطة. خارت قواها بعد أن نالت منها كل هذه الأحداث المجهدة للأعصاب فجثمت على ركبتيها مستسلمة لموجة عارمة من الوهن الشديد، وأحاطت جسدها النحيل المرتعش بذراعيها.

    "يا له من يوم تعس بحق! هذا ما كان يقصني..."فكر الرجل بامتعاض متصاعد وقد خشي أن يسقط مغشياً عليها. أخذ يتوعد في نفسه أن لو حصل ذلك بالفعل فسوف يدير ظهره ويتركها على قارعة الطريق بلا ريب هذه المرة، فقد اكتفى من هذه الغريبة ومتاعبها. لن يلقي بالاً لما قد يجري لها بتاتاً!

    تأفف بضيق ووجد نفسه يفعل عكس ما كان يتوعد به للتو وكأنما أصيب بانفصام في الشخصية، فجثى على إحدى ركبتيه أمامها وخاطبها بلهجة جافة: "هييه.. تماسكي. هل تنوين الاستمرار في ابهاج يومي هذا والغياب عن الوعي أمامي؟"

    هزت الفتاة رأسها نافية وقد أتى صوتها ضعيفاً: "أنا بخير... آسفة سيدي..."

    "ألا تجيدين شيئاً سوى التأسف يا هذه؟ بدأت تثيرين أعصابي."

    "آسفة سيدي..." ردت عليه بلا تفكير فأفلتت منه زفرة نفاد صبر وهو يفكر كم هي ميؤوس منها.

    مرت بضع لحظات وهي على تلك الحال والرجل ينظر إليها بصمت حائر. تنهد باستسلام وخلع معطفه ملقياً به على كتفيها. رفعت الفتاة رأسها ناظرة إليه بدهشة فبادرها قائلاً وهو يشيح بوجهه عنها بشيء من الحرج: "ضعيه عليكِ." كان في أعماقه يوبخ نفسه على تخليه عن معطفه في هذا الجو البائس ومنحه لفتاة غريبة حتى لو بدت بحاجته أكثر منه، لكن الأوان كان قد فات على التراجع عن لفتته الكريمة تلك.

    "أوه كلا سيدي... لا يليق بي أخذ..."

    "اصمتي وخذيه بلا نقاش فلا مزيد من الوقت لدي لأضيعه معك!" قاطعها بجلافة وهو ينهض على قدميه.
    "أم لعلك تنوين التجمد هنا على قارعة الطريق؟"

    كان عرضه مغرياً فلم تجادله أكثر. نهضت على قدميها بدورها، وتدثرت بمعطفه الكبير فابتلع جسدها باحتضان. كان واسعاً ودافئاً، وكم كانت بأمس الحاجة لهذا الدفء المرحب به.همست له: "شكراً جزيلاً لك..."

    هز كتفيه بفتور قائلاً: "فقط ابتعدي عن المشاكل، أيتها الرعناء." ثم أخذ يخطو مبتعداً عنها، إلا أنه لم يكد يسير قليلاً حتى شعر بيدها تمسك بطرف سترته مستوقفة إياه. التفت نحوها وقال بنفاد صبر: "ماذا الآن؟"

    هتفت الفتاة والدموع تسيل بحرارة على وجهها المبلل أصلاً: "أردت فقط أن أقول لك أنني لن أنسى صنيعك طوال حياتي سيدي!" كان صوتها رغم ضعفه مفعماً بمشاعر الامتنان الجياشة. تأملها الرجل عينيها الواسعتين لآخر مرة دون أن ينبس ببنت شفة.

    ثم مضى على عجل دون أن يلتفت خلفه.

    لبثت الفتاة في مكانها تنظر نحوه وهو يبتعد شيئاً فشيئاً حتى تلاشى من أمام ناظريها. تشبثت بمعطفه الذي كان يفوح بعبق رجولي زكي، ثم رفعت رأسها للسماء وهي تذرف الدموع متمتمة: "جدتي... سأكون بخير... لا تقلقي علي..."

  5. #4
    أتمنى أن يكون الفصل الأول قد نال إعجابكم... هذه صورة لبطلي القصة قام أحد الرسامين برسمها لي

    mexat1


    توشيو كابوراغي (37 سنة)
    سايوري ايوزمي (22 سنة)

    ما رأيكم بالقصة والشخصيتين ؟ بانتظار آرائكم وتعليقاتكم e106

  6. #5
    حجز !

    لي عودة بإذن الله 036 , تبدو قصة مشوقة biggrin
    , لم أقرأها بعد و لكن وقعت عيناي على بعض الكلمات , بالكاد تمالكت نفسي كي أخرج من هنا فلدي امتحانات نهائية و لن أستطيع الإنغماس جيداً 025

    بالتوفيق حتى عودتي asian
    في أمان الله 031

  7. #6
    قَبْلَ دخولِي لقراءة رواية (نكهة المَطَر)، كنتُ في قِمّة التَّرَقُّب والحَماس والسّعادة!! ذلكَ ببساطة لأنّني كنتُ أعلَم تماماً مَن تكون هي كاتبتها.. إنّها بَطَلَةُ الفضاءات الإبداعيّة، وفارسة ترويض الكلمات، الجونكريّة / هبة أبو النِّيل! لقد سَبَقَ لها أن خطفتْ باقتدارٍ رهيبٍ كامِلَ حَواسّ القُرّاء في روايتها السّابقة (أنتَ هو وطني الّذي أنتمي إليه)، حين طَغَتْ مهاراتها المُذهِلة تماماً علَى عوالِم القُرّاء!! cool-new

    دخلتُ اليوم وأنا أعلم مُسْبَقاً ما الّذي ينتظرني، تماماً كمجنونٍ بكرة القدم حَضَرَ لمشاهدة لاعبه الأُسطوريّ المُفَضَّل (أو لاعبته embarrassed)، في مباراةٍ مُهِمَّة وحاسِمة، ويثق جِدّاً في أنّه سيرَى ما يجعله يقفز مِن الفرحة!! gooood

    وبَدَأت المباراة يا أعزّائي، وبَدَأت (نكهة المَطَر) منذ اللّحظةِ الأُولَى في انتزاع آهات الذّهول والإعجاب، بخطفها القُرّاء ونَقْلِهِم هذه المَرَّة إلَى عالَمٍ جديدٍ مِن الإبداع المُتَشَعِّب بكلِّ ألوان المضامين الأدبيّة والمَهارِيّة!! 😲 لا يمكن يا هبة!! لا يمكن!! أنتِ حَتْماً مِن كوكب (كانتاروس)!! إنَّكِ لاعبةٌ أُسطوريّةٌ في التّلاعبِ بخصمِكِ والسّيطرة عليه، لدرجةِ أنّكِ تجعلين الخصم نَفْسه يَسْعَدُ بدوره في أرض المَلعب ويريد الاستمرار فيه!! 😁 applause

    كابوراغي وسايوري!! يا إلهي!! أيُّ أنمي عظيم هذا الّذي تضعيننا أمامه ايّتها العظيمة؟! أرجوكِ أن تستمرِّي وتُكْمِلِي لنا الأحداث!! e403 e41d
    attachment
    الصور المرفقة الصور المرفقة attachment 

بيانات عن الموضوع

الأعضاء الذين يشاهدون هذا الموضوع

عدد زوار الموضوع الآن 1 . (0 عضو و 1 ضيف)

المفضلات

collapse_40b قوانين المشاركة

  • غير مصرّح لك بنشر موضوع جديد
  • غير مصرّح بالرد على المواضيع
  • غير مصرّح لك بإرفاق ملفات
  • غير مصرّح لك بتعديل مشاركاتك
  •  

مكسات على ايفون  مكسات على اندرويد  Rss  Facebook  Twitter