![9bNupP](http://im72.gulfup.com/9bNupP.jpg)
نحن لا نستطيع رؤية أشياء كثيرة، فهل يعني ذلك أنها حقا غير موجودة ؟
أحيانا من الأفضل لك أن تعتقد ذلك أو يتوجب عليك اغماض عينيك و صم أذنيك حتى تحافظ على سلامة عقلك .. لكن أسرع بذلك فكثير منا يغمض عينيه بعد فوات الأوان فهو بالفعل على شفير الهاوية ! .
هكذا هي الحال إذا ما كنت تريد العبث مع شيء كهذا.. شيء أنت بالفعل لا تصدق بوجوده إلا أنه موجود .
![6wsCm6](http://im57.gulfup.com/6wsCm6.jpg)
رحلة جديدة ، ومنزل جديد
Part: 1
" مذكرتي العزيزة ؛ لقد عادت أيام الخريف الباردة لزيارتنا من جديد ، أتمنى أن تكون اطلالتها هذه السنة أفضل من المرات الماضية ، أنا أحبك عزيزي الخريف ولكن ... حسنا ولكن أنت في الحقيقة تحمل لي كل مرة شيئا سيئا ؛ على كل حال ليس لدي الكثير لأكتبه هذه الليلة فأنا لم أغادر المنزل سوى للمدرسة ، لقد أردت أن أودع أصدقائي وكل الزملاء وبذكر هذا ، الفصل الدراسي على وشك الانتهاء وتنتظرني مذاكرة طويلة ، أتعجب أني مازلت أملك الوقت لأدون أحداث يومي .
ربما هذا شيء جيد ، في النهاية ليس لدي أصدقاء أروي لهم ما يحدث معي ، وإذا استمر الأمر هكذا فبالتأكيد لن أحصل على المزيد منهم ، لا بأس .. ليس لأن الأمر يعجبني ولكن على الأقل أنه يساعد أبي ..
وبذكر الأحداث ، لعل الخريف هذه السنة يحمل لي بين ثنايا أوراقه شيئا جديدا يكسر طابع الملل المسيطر على روتين حياتي ، لكم وددت أن تطول اقامتنا هنا بضع شهور أخرى ، لربما حملتني الصدفة إلى لقاء أخر مع ذلك المجهول صاحب قلم الفحم ... .
أوه ، مذكرتي العزيزة ، أمي المسكينة تقوم بكل العمل لوحدها وأنا أتكاسل هنا ، أتهرب من مسؤولياتي ، ويبدوا أن ضميري النائم قد عاود الاستيقاظ ، ما يدفعني لمفارقتك الآن ، ولنا تكملة في ليلة أخرى ... " .
كان ذلك أخر ما كتبته قبل أن تسجل التاريخ و التوقيت بخط مائل للأعلى كما هي العادة في كل الأوراق السابقة ، ابتعدت ببطء عن الكرسي الخشبي ولونه الدافئ إذ سيطر البني على أغلب أثاث الغرفة الفسيحة أو ... ما تبقى فيها من أثاث .
في الطابق السفلي لهذا البيت المتواضع ، عمت فوضى كبيرة مكونة من عدد هائل من الصناديق الورقية ، بعضها قد تكوم تحت الدرج و قبالة الباب الرئيسي للمنزل ، و البعض الأخر انتشر بفوضوية في أرجاء الصالة ، كما انتشر الأثاث و مقتنيات المنزل بصورة تدفع لذهن الناظر أنهم حقا يستعدون للانتقال من هنا .
صوت تصادم الأطباق و أدوات المائدة المعدنية يملأ المطبخ حيث كانت تلك السيدة تقف أمام المغسلة ، تتحرك على عجل لتنهي العمل بين يديها و تنتقل للأخر ، في محاولة لإتمام أكبر جزء من الأعمال المتكومة قبل أن ينقضي ما تبقى من الليل .
أطلت الشابة ذات الشعر البني الفاتح – والذي اختلط ببعض الخصل النحاسية المشرقة – من زاوية الباب لتتمم بصوت متذمر :
أمي ، ماذا تردين أن أفعل ؟ .
استدارت السيدة نصف استدارة و يديها ما تزال تقلب القدر على النار :
إيـفي ، هل أنهيت توضيب غرفتك ؟ .
ــ : تقريبا ، لقد أنهيت الجزء الأكبر منها ..
ــ : لا بأس ، حسنا اهتمي أنت بالعشاء ريثما أكملت وضع هذه الأغراض في الصناديق .
ــ : أمي ، لماذا نقوم بذلك نحن ؟ ألا يمكن أن يقوم بذلك العمال في الغد ؟ .
ــ : لا ، يجب أن نرتبها بأنفسنا حتى لا نتعب في إفراغها فيما بعد ، سوف يكون إيجاد الأغراض سهلا إن عرفنا كيف رتبناها ، والأفضل أن تتوقف عن التذمر .
عقارب الساعة الجدارية العتيقة تعانق العاشرة ليلا ، ويترنح البندول المنحوت يدويا من أجود أنواع الخشب الأصلي يمينا ويسارا ثانية بعد أخرى ، ولكن لا أحد يهتم به الآن الكل منشغل بشيء ما ويتمنون أن يبطئ بضع ثوان لينهوا العمل الكثير الذي ينتظرهم .
وفي الصالة الواسعة التي تشغل الصناديق معظمها ومن الواضح أن أثاثها قد رفع فهي خالية سوى من تلك المقاعد المبعثرة في أرضها ذات البلاط الأبيض والبني ، وتلك الطاولة التي تتسع لأربعة أفراد ، أنهت ترتيب المائدة ورفعت صوتها منادية على البقية :
حسنا .. أتركوا ما بأيديكم وتعالوا للعشاء ، إن برد الطعام فلن أعيد تسخينه ..!! .
ويبدو أنها لم تكن حقا في حاجة لذلك التهديد الأخير ، فهي لم تكد تنهي كلماتها حتى دخلوا الصالة واحدا إثر أخر يلتقطون أحد تلك المقاعد المبعثرة ويضعونها عند الطاولة للجلوس .
أخر الواصلين كانت السيدة التي ما أن دخلت حتى جففت يديها في المئزر الأزرق حول وسطها ثم أدارتهما خلفها لتحل العقدة وتعلقه في مقبض الباب ، لم يستغرق الأمر منها سوى بضع ثوان لتجلس ، ومثل كل ليلة على العشاء يبدأ ذلك الحوار العائلي الذي يضجر إيفي بشدة ويسد شهيتها عن الطعام ، ولم تكن هذه المرة مختلفة بل كانت أسوء في نظرها لأنها تعرف مسبقا عما سيتكلمون الليلة .
رغم هذا فقد أنصتت بصمت عندما بدأ السيد كلاركسون الكلام :
حسنا إنها الليلة الأخيرة لنا في هذا المنزل،هل أنتم متشوقون للغد ؟ .
لم يجب أحد في البداية سوى السيدة ماري التي اتسعت ابتسامتها على نحو مضطر لتساند زوجها :
بالتأكيد هم كذلك ، سوف ننتقل لبلد جديد وسيتعرفون على أشخاص جدد ويكونون أصدقاء كثيرينــ .. .
قاطعها صوت اصطدام غاضب أكثر من كونه عنيف على الطاولة حولت نظرها صوب المصدر ، لترى ذلك الشاب ذو الملامح الغاضبة و التي يختفي أغلبها تحت شعره المنسدل نحو الأمام لانحنائه على الطاولة يقطب حاجبيه بغضب مكبوت بعدما صدم كأس العصير على الطاولة :
هذا لن يحدث أبدا ... !
قاطعه السيد مجددا :
ولماذا ؟ ما الخاطئ في الأمر ..؟
أعاد الشاب كلامه بنفس النبرة الغاضبة :
لأنه لم يحدث سابقا ، نحن لا نمكث في نفس المنزل أكثر من سنتين في أفضل الأحوال ، وكل مرة نضطر أن نودع أصدقائنا وكل الأشخاص المهمين في حياتنا ، بعهد ما ، بأمل أن نلتقي مجددا ولكن هذا لا يحصل أبدا ، حتى أنهم لا يستطيعون مراسلتنا بسبب تنقلنا المستمر ، لهذا فالأفضل ألا نكون صداقات من البداية حتى لا نضطر للتخلي عنها في نهاية الأمر .
زفرت إيفي بنحو منزعج لتردف :
أصمت جيمي .. لا داعي لهذا الكلام الآن ، إنه لن يغير الأمر في هذه اللحظة ، ثم يجب أن نراعي ظروف عمل أبي ، أنا متأكدة من أنه هو الأخر لا يحب هذا الوضع المشتت ، لذلك لنجاري الأمر قد نستقر في مكان واحد في نهاية الأمر ..
همست السيدة برقة :
إيف ... .
وابتسم السيد بنحو جانبي متأمل ، هو سعيد أنهم يقدرون موقفه ، عند تلك اللحظة كان الكل شارد بتفكيره في شيء ما ، جيمي يحرك العصير في الكأس بغضب ، والسيدان ينظران لصحون الأكل بشرود ، بينما كانت إيفي تطرق بإصبعها على المنضدة وكأنها تفكر في شيء ما .
صوت ارتطام عنيف صدر عنه تهشم ذلك الصحن الزجاجي الكبير الذي كان يحتوي السلطة ، استفاق الجميع بذعر ليجدوا الطفلة الصغيرة قد أوقعته على الأرض وهي تحاول الوصول للكؤوس القريبة منها .
صاحت السيدة بحده : آنجل .... أوه يا إلهي ماذا فعلت ! .
وضع جيمي يده على فمه وهو يغمغم بضحكة :
إنها ملاك " آنجل " بالاسم فقط ، أما أفعالها فشيطانية ، على كلٍ لقد خفت حمولتنا صحنا ثقيلا .. ربما يجب أن تشكروها لذلك ..
ضحك الجميع لحظة قبل أن يقاطعهم تتأوه السيدة الضجر :
ولكن من سينظف هذه الفوضى ، لقد تأخر الوقت ويجب علي الاهتمام بأعمال كثيرة ! .
أجابت إيفي وهي تبتعد عن كرسيها :
سأفعل أنا ذلك يا أمي ، وأنتم اذهبوا للنوم ، سنتم العمل في الصباح الباكر ..
أجابتها السيدة الكريمة بالموافقة ، فهي تدرك في حقيقة نفسها أن لا طاقة لها للمزيد من العمل هذه الليلة ، لذلك خطر لها أن ترتب باقي الثياب و تترك الباقي للصباح .
جلست إيفي على ركبتيها وهي تجمع أوراق السلطة المبعثرة :
لا بأس ، سأنهي التنظيف وأرتب ما تبقى من أغراض المطبخ يا أمي .
دقات الساعة صارت واضحة وعالية بعدما هدأ المنزل ، كانت إيفي تسمع خطوات السيدة بين حين وأخر ولكن هذا لا يكفي لكسر طابع الهدوء المسيطر على المكان ، أنهت جمع الزجاج المبعثر في الكيس الورقي والتي كانت ذاهبة لترميه عندما أسندت يديها إلى الأرض متكئة عليها ولكن صدف ووضعتها في مكان سيء إذ أن قطعة زجاج مدببة أصابت اصبعها فجرحتها ، لم تشعر بالألم ولم تنتبه حتى رأت قطرات الدماء على البلاط ، زفرت بضيق :
اللعنة ... .
في حركات خفيفة قطعت الصالة لترمي الكيس في سلة بلاستيكية كانت تحتوي على زوائد غير هامة ، و من جوارها سحبت منديل ورقي من العلبة ذات الغلاف المخملي ، ظنت أن النزيف قد توقف عندما رفعت المنديل عن الجرح ، ولكن حدث خلاف ذلك إذ وقعت قطرتان متتاليتان من الدماء لتصبغ البلاط مشكلة بقعة قانية في حجم بصمة الإبهام ، زمت شفتيها بضيق و سارعت تبحث عن علبة الاسعافات الأولية المميزة بلونها الأحمر ، وما أن أنهت علاج جرحها النازف حتى ألقت باهتمامها للفوضى التي تعم المطبخ ، كان هناك مجموعة من الصناديق الورقية كتب عليها سلفا ما يجب أن تحتويه .
زفرت بملل وارتدت المئزر لتبدأ العمل ، ولم يستغرق الأمر منها سوى نصف ساعة لتنهي غسل الأطباق فحركت يدها المبللة لتزيح خصل الشعر التي زحفت على وجهها ، رفعت رأسها وأبعدت عينيها عن صنبور المياه لتقع على صحن فضي كان ينتصب متكئ على مجموعة من الصحون الأخرى بجوارها ، ما أن وقعت عينيها عليه رأت انعكاس ظل أسود غير منتظم تماما يقف عند إطار الباب ، استدارت في أقل من جزء من الثانية ولكنها لم تجد شيئا خلفها ، أعادت النظر للصحن مجددا وإذا بالظل أو مهما كان ذلك الشيء قد اختفى ..! .
تركت ما بيديها بسرعة وركضت في خطوتين إلى الباب ، لم يكن هناك أي أحد والممرالقصير الذي يفصل الصالة عن المطبخ هادئ ومضلم كما تركته عندما دخلت ، فكرت أنها تتوهم الأمر ولكن لتتأكد فقط رفعت صوتها بالنداء :
أمي ..! ، هل مازلت مستيقظة ؟ .
لم يجبها سوى تردد الحروف الأخيرة من كلمة مستيقظة إثر الصدى الناتج عن المكان الكبير الفارغ من الأثاث ومن أي شيء أخر سوى مجموعة الصناديق المكومة والتي لا تزال جامدة في مكانها .
أصغت بانتباه يسير بعد أن تذكرت أن خطوات أمها السريعة والتي كانت تسمعها من الطابق الثاني قد توقفت منذ فترة قبل أن تنهي غسل الأطباق ، تقدمت بضع خطوات في الممر وبدا صوت تكتكة الساعة الجدارية مترددا بصوت عميق أشبه بقرع منظم للطبول .
توقفت في مكانها وبدت على وجهها نظرة الغباء الشديد الذي تشعر به :
أكاد أقسم أني فقدت عقلي ، أنا متأكدة من أن ما رأيته هو مجرد خيال وأن سطح الصحن المحدب هو سببه ... لكن يا إلـهي إنه أوضح من أن يكون خيالا ، إنه تماما مثل الظل الذي شاهدته صباحا .
هزت رأسها بشدة وهي تبتسم :
يا إلـهي ، من الجيد أن لا أحد هنا ليسمع هذه الهلوسات التي أنطقها .
المفضلات