"الخائب إلى الوطن"
على خَط الأُفق البعيد حيث ينعكس العالم كله على حافة ينبوع داكن تقرقع عربة تجرها أربعة ثيران عاتية بقوة على الأرض الصخرية الرطبة، بينما غَسَلَ ضوء القمر الفضي العالم من كل الألوان فيما عدا الرمادي، اللون الذي اصطبغ به وجه يوهان الكئيب وهو عائد إلى الديار، إلى التلال والسهول والمزارع المخضرة من جديد، وبدلاً من أن يكون هذاً سبباً لأن يرى العالم بألوان قوس المطر وجد نفسه لا يقوى على أن يواجه عائلته بتلك النظرات الجريئة وهو مستقيم الجِذع مرة أخرى، عزيزته فرجينيا بنظراتها العسلية الناعمة ولوسي الصغيرة الحلوة صاحبة الفم الضاحك الواسع وجيرارد اللطيف المُحِب للحيوانات الأليفة..
أنّى له أن ينسى!
لاتزال تومِض في عقله أشلاء ذكريات مُمَزّقة عن التّل الأرجواني القابع خلف الغابة والكوخ الذي يلوح في الأعلى كراية شبحيّة وخيوط الضباب الحريرية تلفه بنعومة بالغة، وفي النّهارات الممطرة يتحول المنظر لأعجوبة خضراء مُكَلّلة ببلور المطر النديّ، وقتها كانت خُضرة العالم كلها تنصهر في قاموس الروعة الفائقة، ويجد يوهان نفسه ينزلق فوق فرع السنديان العملاق أسفل شجرة التفاح الذهبي ويشرع في عمله المحبوب على الكمان، فينساب اللحن بإيقاع دافئ نقيّ ليملأ صداه كونه المعزول المنزوي، فالعالم ساكن هادئ، وروحه ملتهبة كطائر حُر يحلق بين السماوات والنجوم والشهب، كانت تلك هي الطاقة السحرية العجيبة لتل الأرجوان.
ولكن مخلب القدر خدش كل هذا على نحو غير متوقع، لا بل أحلام البطولة الزائفة، لكم كان شاباً طائشاً أحمقاً حَسِبَ نفسه يملك من الجسارة ما يكفي لأن يصبح البطل المنتظر لحكاية حِيكَت تحت الظلال. أراد المجد وأسْكَرته أحلام البطولة الشّهباء وعقد العزم على أن يتجرّع من ذلك الكأس حتى الثمالة، أراد أن يكون سيد نفسه وسيد العالم قاطبة، ثم رُد خائباً متسولاً فارغاً إلى ملاذه الأخير والمكان الوحيد الذي عرف فيه أحلى حياة عاشها على الإطلاق. بسيطة، هادئة ومتواضعة، لقد خُلق ليكون مزارعاً لا بطلاً.
كتب يوهان خطاباً رطباً إلى عائلته المنسيّة قبل أربعة أيام من عودته إلى تل الأرجوان:
"إلى غاليتي فرجينيا..
لِكُلٍ منا في هذا العالم المظلم بُقعَة مُقدّسة يا عزيزتي حيث يُدْفَن الكنز الذي تتواجد فيه كل أسباب السعادة لدى المرء، تلك البقعة المقدسة قطعاً لم تكن بالنسبة لي في باريس، حيث يظن الجُبناء مثلي أنّ الظروف قد هيّأت نفسها لأجلهم وأبواب القدر انفتحت على مصراعيها ترحيباً بمجيئهم.
كانت تلك لُعبة يا صغيرتي، وأنا لستُ ضليعاً في الألعاب منذ أن كنت أجوب التلال الأرجوانية متعثراً في خُطى بطيئة خرقاء. كنت طفلاً، وعلى ما يبدو أنني مازلت كذلك حتى اللحظة.
أراد براد أن يسبق قرنه ولكن القرن هو من سبقه. لاشك في أنه يندب نفسه بين الرّماد والحِجارة الآن وكنت لأكون معه لو لم يعود لي عقلي في اللحظات الأخيرة.
أخبريني فقط يا فرجينيا، كيف للزّمان أنْ يخترق المكان؟!
حَسُن، براد آمن بذلك في أعماقه ورآه بعين الخيال وحسب أنه قادراً على نقل ذلك التصور إلى مخيلتي، ولكنه أخطأ في ذلك خطأً لا رجعة فيه.
ماحدث يا فرجينيا يمكن أن تعتبريه واحدة من لامعقوليات الشجعان والفرسان الجريئين أمثال براد، عندما أخذ الرجل على عاتقه حمل العالم الخارجي على حَنِي قامته الصلبة العنيدة أمام فرنسا وثق بي ثقة عمياء كما وثق نابليون بغروشي، وختمتْ المأساء نفسها بهزيمة يُكَشّر لها التاريخ الفرنسي عن أنيابه حين ذكرها، وبراد لم يملك من البصيرة ما يجعله يرى أنني رجل مُتحمّس، شديد الولاء والطاعة، رجل تسبقه سمعته الطيبة النظيفة قبل كل شيء، على عكس الروح المتفجرة الجريئة التي أمل أن يجدها في. أردت أن أتذوق ولو قضمة صغيرة من الشعور الكامن وراء أن تكون الرجل المنشود، أن تكون الشخص الذي سيعيد تشكيل العالم من جديد، أن يُوِرد التاريخ اسمي بين صفحاته بماء الذهب، أن أكون بطل حكايتي لألف عام قادمة. أردتها أن تكون تلك ساعتي، لحظتي، مجدي المُنتظر.
كل الحكايات التي تُروى على اللسان الفرنسي تتحدث عن أسيرة حرب ألمانيّة تنبأت أن فرنسا ستفرض هيمنتها على العالم بعد عام، إدّعت الفتاة أنها رأت هذا في المستقبل، وللأسف الشديد براد رجل يحب أن يكون محور الكونه وما فيه، لاشك في أن الفكرة خطرت على باله من قبل وأرد تحقيقها بأي وسيلة كانت. "فرنسا سيّدة على العالم" وقع العبارة في حد ذاته كان يثير كل عَصَبة في جسد ذلك الرجل، هكذا كانت طبيعته، رجل طموح يشتهي السلطة ويهواها، ويختار أن يغوص في الوحل من أجلها، وطوال عقد كامل من الزمن أقررت بأن براد بارع في المبارزة بالكلمات أمام الحشود، كانت تلك مهنته بامتياز، الديماغوجية، وقبلت تفوقه في الأفكار الملتوية على مضض، الرجل الذي يحب أن يخوض غمار المعارك في ساحات العقول.
الأسيرة الألمانية كانت سر ثوري لا يجرؤ على ذكره، كان هذا ما يردده على مسامعي مراراً إلى أن أتى اليوم الذي رأيت فيه الأسيرة بنفسي، كنت وقتها في مسكنه وتسللت إلى السراديب، وعلى عمق فرسخ كامل تحت الأرض كانت الأسيرة جلد على عظام، بوجنتين شاحبتين غائرتين وشفتين رفيعتين جافتين، مَحنيّة ترتدي الأبيض المتسخ شأنها شأن السحرة في قصص الخيال، مقيدة بالسلاسل عند الكاحلين واليدين والرقبة، ولوهلة ظننتها مجنونة، سألتها على الفور لماذا هي هنا، وأجابتني هي بأسنان مُصفرّة وابتسامة ملتوية "ولماذا أكون في أيّ مكان آخر؟ "
لسوء الحظ أطلّ علينا براد في تلك اللحظة، وأخذ يرغي ويزبد بغضب واهتياج لدرجة أنني حسبته سيزجّني مع الأسيرة في نفس الزنزانة، ولكنه براد الذي عرفته لأكثر من عشر سنوات، وجل ما فعله بعدها أن جلس على الأرض وأطلق صيحة تنم على انعدام الحيلة، ثم جعلني أرى..
كانت الأسيرة كنز للعالم، وأنا وبراد كنا المفتاح لذلك العالم المكنوز.
وبصوت ثعباني همست لنا الفتاة:
"استطيع أن أرى المستقبل الذي ستنشئانه معاً"
كانت الفتاة تكذب بالطبع، ولربما عرف براد بأمر كذبها كذلك، على الرغم مما رأيته من ومضات فرنسية مشرقة لا تُصَدق، حسبته حلم ولكن براد وضع يده على كتفي وقال "ذاك هو ما ينتظرنا يا صديقي، هل تصدقني الآن؟" كان الناس يُحَلّقون في الفضاء على متن آله بلون القشدة، والبنايات الشاهقة تعكس زركشها اللامع الملون على سطوح الأنهار الضيقة التي تنهمر في جوفها، وفي ليلة الحرية تنشد آلاف الأفواه الفرنسية النشيد الوطني بينما ينهال من السماء شلال من الشرار الناري المتوهج بالأزرق والأحمر والأبيض، ويطلق العالم صيحة تهليل زاخرة بالوطنية مفعمة بالابتهال.
أخبرتنا الأسيرة أن ذلك هو المجد الذي سنصنعه للبلاد، مجد أبدي مُخلّد، ومن ثم أغرتني الفكرة بدوري وقررت مجاراتها متجاهلاً حقيقة كوني يوهان المطيع صاحب المُثل البسيطة المخلص تجاه القواعد الصارمة المرسومة.
والحقيقة هي يا فرجينيا أن والدك الأخرق لم يحسب أن الزمان الذي رأيته مع براد ليس بزماننا، كل تلك اللوحات الفنية الحيّة لباريس لم تكن نتاج أفعالنا نحن، إذ أن العصر الذي نعيشه لن يمضِ بتلك السرعة المذهلة،
كانت تلك باريس التي سينشئها أحفاد أحفاد من بقوا بعد الطامة التي ستدفننا نحن وعهدنا المأساوي تحت الأنقاض.
اعتاد الجمهور أن يفور ويغلي مع كلمات براد الساخنة المشحونة بالعاطفة بينما مُنحت أنا قيادة الحشود ضد الحكم الحالي وأسميناهم بالفلول إعلاناً بحلول عصر الأساطير الجديد.
لعبنا لعبتنا بثقة غير مدركين أن ما رأيته بعين الفتاة يسحبنا إلى قلب العماء شيئاً فشيئاً.
ثم حَلّ علينا يوم القصاص، العالم الخارجي أدرك أننا تهديد لملكياتهم بحكمنا ثوريين، كلمة واحدة متوعدة كانت بمثابة جرس إنذار وإخطار بميتة بطيئة لكل جيوش القارة، وانتزاعنا أنا وبراد من تلك الأحلام الواعدة الجريئة لم يتطلب أكثر من جيش فرنسا وحدها، وبين ليلة وضحاها وجد براد رأسه أسفل المقصلة بينما نُفيت أنا إلى التلال حيث المكان الوحيد الذي أبرع في العيش فيه.
ما أتعس أن تُسلب أحلام المرء دفعة واحدة مجرّدة إياه من كل سبب محتمل للإستمرار في خوض مغامرة الحياة لمرة أخرى. تساءلت وقتها لأول مرة وأنا أرى رأس الرجل الذي شاركني حلمه يطير بعيداً مذهولاً مشبعاً بالدماء عن ماهية تلك الأسيرة الألمانية؟!
وأتاني الجواب فجأة بينما عقدت عزم فولاذي على تسليم نفسي طوعاً.
كانت تلك شعوذة بالوهم رفيعة المستوى يا عزيزتي فرجينيا،
مؤامرة ألمانية حقيرة، وكانت ستنتهي حتماً بظفر ألماني غير مسبوق، فقد غرزتْ ألمانيا أنيابها في قلب فرنسا هكذا وهددتها بتمزيق ملكيتها على يد أخطر رجل عرفته على مر تاريخها، وكانت المؤامرة لتنجح لو لم تهب رياح القدر على غير المتوقع وتقف القارة ضد هذا التغيير المحتمل الباعث للرعب بالنسبة لساداتها، وفي نفس الوقت ضربت هدفاً آخراً يصب في صالحها في حال فشل الرهان الأول، ستخسر فرنسا أكبر مفكر وقائد لها، الرجلان اللذان أرسلا ما يقارب ثلاثة آلاف جندي ألماني في الحرب الأخيرة إلى الجحيم.
كان ذلك الرهان الأكبر، ونال العدو إحدى مآربه في النهاية.
كيف للمرء أن يجتاز عصره؟ ، أنّى للزمان أن يستبق المكان؟!
كنا نحن اللاعبين والبيادق، وسمعت الزمن يضحك في أذهاننا بأذن الخيال ساخراً.
عزيزتي فرجينيا والدك يكتب لك سبباً أخيراً يدفعك لأن ترحبي به بأذرع مفتوحة عندما يصل لتل الأرجوان، فقد ماتت تلك النّزوة الطموحة التي لم تكن له، وعادت الأنامل الرشيقة لتنشغل بعزف أنشودة أجراس الربيع من جديد تحت أضواء المساء.
أيّتها الحريّة العزيزة ها قد عُدت إليكِ من جديد..
فلقد نهضت من العالم الآخر لأغرق بين أمواج الألحان من جديد..
لأجعل ذلك الوهج البرّاق يقتحم قلبي المُتَعب من جديد..
. "
المفضلات