لا وزن في يزن
الشمس تشرنق المدينة بالأشعة والحرارة والضوء تسلط طاقاتها على ذلك المبنى المركون في زاوية قصوى ، غرفته خائفة مدفونة في أعماق البناء،ساعته تصرخ فوق الحائط وتكاد عقاربها تشير إلى الرابعة عصراً ، مكتبته الفخمة تتوهج بنور العلم ، وضوء الشمس يتطفل على زجاج النافذة وعلى وجهه الذي يطلّ أبداً خلف ذلك المكتب....
يتأمل اسمه على ذلك المكتب ( الطبيب النّفسي : د. يزن كمال ) ، ويهمس لنفسه :
-لا لا....لا....إنني أتخيّل ....لا أحس بضيق في الصدر ولا ارتجاف الجسد ولا اضطرابات في المعدة ولا حاجة شديدة للبكاء....إنني فقط أتوهم.
فجأة يسمع وقع أقدام على سلّم البناء.ترتجف أهداب تلك العيون الزرقاء، وتنقبض الحواجب الشقراء، وتمسك الأسنان اللؤلئية البياض بالشفّة السفلى فتسحقها وتفتتها، يقف شعر الرأس الأشقر، تتلاصق الأيدي وتتضاغط، وباختصار جسده كله الباعث على الحيوية والنشاط يهتز مرتعداً....وهو يقول:
-إنها هي.... نعم أنا أكيد....هي
ويدقّ الجرس، ويقف متردداً، فيفتح الباب مرتجفاً، ثم ينطق متلعثماً فيقول:
-تفضلي....
تدخل المريضة وتستلقي على الأريكة وهو يتأملها، وهي امرأة عجوز في العقد التاسع من عمرها وقد ملىء وجهها التضاريسي بالنتوءات والتجاعيد التي تعترضها البثور والجروح و العينان الغائرتان الغارقتان في محجريهما، والأنف المحنيّ لأسفل والذي يعطي انطباعاً بالتعس والإحباط، وذلك التجويف الكبير الذي يشبه كهفاً في جبل عائم على بحر الآلام والهموم....ثم يخرج من هذا التجويف صدى حزين يقول:
-كيف حالك اليوم يا دكتور ؟
فيجيب هائماً:
-أنا بخير....و..و....ماذا عنك؟
فتجيب بصياح ونواح على عجل وكانها كانت تنتظر هذا السؤال:
-أنا يا دكتور.... أنا .... أكره نفسي وأريد الانتحار واشعر بضيق في الصدر وارتجاف الجسد و اضطرابات في المعدة مع حاجة عميقة للبكاء....أنا.نكرة..انا لا شيء....أنا ....
لم يسمع بقية حديثها فقد كان يعلم ما ستقول، إنها ككل المرضى العجائز الذين ناهزوا الثمانين أو التسعين من العمر ويئسوا من الحياة، ولكنه كان يعلم أن فيها شيئاً مختلفاً.... شيئاً لا يلحظه إلا هو، لقد كانت تتحدث بحسرة مقرونة بسرور عن حيوية الشباب وطعمها..وفجأة..- ما قطع حبل أفكاره – صوت كان له تأثير القذيفة المدفعية على قلبه....صوت الساعة المزعجة المفاجئ،فتلفّت إليها وأخذ يحدّث نفسه:
-إنها الساعة اللّعينة..فلتكف .. إنها تدق...تدق كل نصف ساعة تمر من عمري العقيم هذا ..لا..اشعر أنني اقترب من الشيخوخة أكثر كلما اسمع دقة...كفي...
واتجه به النظر إلى المكتبة التي تدفع بأي عاقل للجنون، فأخذ يستجمع قصاصات جريدة حياته والتي بدت بدايتها كأنها النهاية، فهو يذكر نفسه حارساً أو أمين مكتبة يتبع طلب العلم من المهد إلى اللّحد ،فقد رقص مع أفكار أنتوني روبينز..وحلّ القضايا مع أغاثا كريستي، و عاش حياة الفقر والبؤس مع فيكتور هوجو، ولكن....ماذا بعد ذلك ؟ وهو في الثلاثين من عمره والثقافة حجرته.. زادته ألماً..شوّهت حياته وقلبه..جعلت أيامه وأحلامه خاوية لا كيان لها..وصوت في رأسه يتردد ((لا وزن في يزن..لا وزن في يزن...الخ )) وهو يعيش حياته على هذه الأرض الزلقة اللزجة المتخابطة بين الجامد والسائل..الضائعة متعتها في آفاق الوحشة اللامتناهية..كم من دموع كان ينبغي ان يذرفها على حياته..دموع..دموع بعدد نبضات قلبه السجين الذي لم يعد له..، ويستوقفه صوت العجوز قائلاً:
-دكتوووووووور!؟
فينتبه للهجتها تعجبية استنكارية ويكمل كأنّ شيئاً لم يكن فيقول كما على أي طبيب أن يقول:
-ألم أنصحك بأن تجدي هواية تملأين بها الفراغ في حياتك ؟
-بلى..فعلت
-وما لنتيجة ؟
-كانت الخياطة أنسب شيء لي فهي...
و أخذ الطبيب يحدق بها تتحدث وكأنما هي أول مرة يراها فيها,كانت أول نور يضيء له الطريق...بل وربما الضياء الوحيد في حياته ...الدليل الوحيد ...الفرصة الوحيدة..فهو يتخبط في الظلام ...يصارع شبح العتمة...يتجرع كأس الوحدة...و سيبقى هكذا قابعاً في صمته بانتظار اليوم الذي يأتي فيه مسعف لانقاذه...والى ذلك اليوم الذي سيأتي فيه سيبقى هو مع وحدته..الا اذا ....الا اذا...اذا...
و بسرعة كي يعجل رحيلها نصحها بضعة نصائح وأعطاها أوصافاً لأدوية، وطلب إليها أن تذهب لبيتها لتنام فترتاح، فاستأذنته مودّعة، وراقبها وهي تخرج من الباب و تمشي على السلم و تتجه نحو السيارة التي يفتح لها السائق بابها.وبعد أن تأكد من رحيلها..
خلع ردائه الطبّي الممتلئ برائحة الأدوية وكأنه يمزقه، فصاح قائلا:
-وجدت الحل.....وجدته !!!
واتجه راكضا للباب ليفتحه...مهرولا عند نزوله درجات السلّم، وجارياً كالبرق نحو عيادة طبيب يعرفه.
يدخل العيادة بعد أن يقرا عليها ما هو مكتوب بالخط العريض ( الطبيب النفسي:د.مصعب علي ) يدخل منفجراً متجاهلاً كل المرضى الموجودين فيها وينطلق نحو الغرفة الرئيسية مقتحما إياها وبها الدكتور مصعب مع مريض واقف يستعد للمغادرة، ولكن يزن تجاهلهما واتجه نحو الأريكة واستلقى عليها ونادى الدكتور مصعب ثم قال:
-(( لنبدأ يا دكتور.... اشعر بضيق في الصدر مع ارتجاف الجسد واضطرابات في المعدة مع حاجة عميقة للبكاء.....))
{ تــــمّــت }