(العروة الوثقى) جديد الشيخ سمير المالكي
بسم الله الرحمن الرحيم
(( العروة الوثقى ))
الحمد لله القائل في محكم التنزيل (( فمن يكفر بالطاغوت ويؤمن بالله فقد استمسك بالعروة الوثقى لا انفصام لها )) .
والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين وحجة على الناس أجمعين وعلى آله وصحبه والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين .
أما بعد ، فإن من المعلوم بالضرورة أن رأس هذا الدين وأصل أصوله وأساس أمره التوحيد ، المتضمَّن في الشهادتين العظيمتين : شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله ومقتضاهما إفراد الله بالعبادة والطاعة وإفراد رسوله صلى الله عليه وسلم بالطاعة والمتابعة ، فلا يدان بدين ولا يحكم بحكم إلا وفق شريعته وسنته وهديه .
وأن من أعظم مقتضياته الكفر بالطاغوت وتكفيره والبراءة منه ومن أوليائه .
والعجب كل العجب حين يهمل التنبيه إلى هذا الأصل بين المسلمين اليوم إلا من رحم الله ، وقليل ماهم ، فتجد العالم والمفتي والفقيه والخطيب والواعظ .. وهلم جراً ، يخوضون في كل علم قراءةً ودراسة وتعليماً وشرحاً وتفسيراً إلا في هذا الفقه الأكبر والعلم الأعظم ، فلا يكادون يذكرونه في شيء من المواعظ والفتاوى والخطب ، إلا تحلة القسم .
وإن ذكروه – أحياناً – اقتصروا على أقل القليل دون شرح أو تفصيل ، مع حاجة الأمة كلها وضرورتها إلى بيانه وتوضيحه والدعوة إليه وكثرة الحديث عنه وخاصة في مثل هذه الجاهلية الجهلاء التي تعيشها الأمة الإسلامية بل البشرية جمعاء .
من كلام بقية السلف
ومن وصايا الإمام محمد بن إبراهيم آل الشيخ لعموم الأمة قوله – رحمه الله – في إحدى المناسبات العظيمة بعد أن أطال الكلام في تقرير التوحيد ومعنى شهادة أن لا إله إلا الله – (( وإني إذ أقرر هذه الأصول العظيمة الواجبة الاتباع أستنهض همم إخواني المسلمين في داني الأرض وقاصيها وأستثير عزائمهم إلى التمسك بذلك والاعتناء به ، وأدعوهم إلى أن يرجعوا إلى ربهم في سرهم وعلانيتهم ويصدقوا فيما بينهم وأن تتصافَّ قلوبهم وتتوحد كلمتهم وتجتمع صفوفهم ، ويكون الهدف والقصد واحداً وهو تحكيم الشرع الشريف ورفض القوانين الوضعية التي عزل بها الكتاب والسنة ، فبذلك يقوم لنا مجدنا ونكون السباقين إلى كل خير المنصورين في كل حلبة .قال الله تعالى (( ولاتهنوا ولا تحزنوا وأنتم الأعلون إن كنتم مؤمنين )) . وقال تعالى (( واعتصموا بحبل الله جميعاً ولا تفرقوا )) اهـ . انظر مجموع فتاوى الإمام [ 1 / 83 ] .
وقال - رحمه الله في مناسبة أخرى (( بسم الله الرحمن الرحيم . أوجه خطابي هذا إلى كافة المسلمين من حجاج بيت الله الحرام وغيرهم ، نصيحة لهم ، وبراءة للذمة ، ورجاء أن يتنبهوا من غفلتهم ويستيقظوا من رقدتهم ، ويصير أكبر همهم وجل بحوثهم وعامة كتاباتهم وإرشاداتهم حول تحقيق معرفة ماهم إليه أشد شيء ضرورة من بيان حقيقة مابعث الله به رسوله صلى الله عليه وسلم ، بل ضرورتهم إلى ذلك أعظم وأكبر من ضرورتهم إلى الطعام والشراب ، بل أعظم وأكبر من ضرورتهم إلى النَّفَس ...
وأجد من يتكلم عن الأمور الدينية أكثرهم أو كلهم إلا من شاء الله لايكتبون ولايرشدون إلا في أمور هي في الحقيقة من الفروع والمكملات .
فتجد الكاتب وتجد المرشد لايتكلم إلا حول فرضية الصلاة - مثلاً – ووجوب فعلها في جماعة ، أو الحج أو صيام رمضان أو الزكاة ، وأشباه ذلك ، أو في أشياء من المحرمات ، كالربا والتعدي على الأنفس والأموال والأعراض وغير ذلك من المعاصي والمخالفات ، ونعم ما فعلوا ، وحسن طريقاً ما سلكوا ، ولكنهم كانوا عن أهم الأهم في بعد إلى الغاية .
فقد كان خير الخلق محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم في أول بعثته ومبدأ دعوته يبدأ بالأهم فالأهم .وأقام صلى الله عليه وسلم بمكة عشر سنوات من بعثته قبل فرض الصلاة - التي هي عمود الإسلام –وما بعدها من الأركان ,كل ذلك في بيان التوحيد والدعوة إليه،وبيان الشرك وتهجينه والتحذير منه …
فحقيق بالمسلمين ـ ولاسيما العلماء ـ ( أن يجعلوا)كبير عنايتهم ومزيد اهتمامهم بمعرفة حقيقة مابعث الله به الرسل من أولهم إلى آخرهم وخاتمهم محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم وعليهم أجمعين ,وتعليمهم ذلك ,والعمل به ظاهراً وباطناً ,والموالاة والمحبة والتناصح فيه والتواصي به :من توحيد الله تبارك و تعالى في ربوبيته وفي ذاته تبارك وتعالى , وأسمائه وصفاته وأفعاله , وفي إلهيته وما يستحق من عبادته وحده لاشريك له , وأنه مافي العالم علويه وسفليه من ذات أوصفة أو حركة أوسكون إلاالله خالقه لاخالق غيره ولارب سواه.
وأن يوحد سبحانه وتعالى في ذاته وأسمائه وصفاته وأفعاله بأن يؤمن أنه تعالى واحد أحد فرد صمد لم يلد لم يولد ولم يكن له كفواً أحد….
وأن يوحد تبارك وتعالى في ألوهيته بأن يفرد بجميع أنواع العبادة,فلا يعبد إلا إياه ولايدعى أحد سواه ولايسجد إلا له ولايتوكل إلاعليه ولا يرغب إلا إليه ولايستعان ولايستغاث إلابه ,ولاينحر ولاينذر إلا له, ولا يخشى ولا يخاف أحد سواه , ولا يرجى إلا إياه, حتى يكون سبحانه وتعالى هو المفزع في المهمات والملجأ في الضرورات , ومحط رحل أرباب الحاجات في الرغبات والرهبات وفي جميع الحالات. فهذا هو مضمون أصل الدين وأساسه المتين شهادة أن لاإله إلاالله وحده لاشريك له .
وأصله الثاني شهادة أن محمداً رسول الله صلىالله عليه وسلم نطقاً واعتقاداً وعملاً,وهوطاعته فيما أمر وتصديقه في جميع ماأخبر واجتناب مانهى عنه وزجر , وأن لايعبد الرب تبارك وتعالى إلابما شرعه رسوله محمد صلى الله عليه وسلم , وأن تقدم محبته صلى الله عليه وسلم على النفس والولد والوالد والناس أجمعين , وأن يحكَّم صلى الله عليه وسلم في القليل والكثير والنقير والقطمير .كماقال تعالى (( فلا وربك لايؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لايجدوا في أنفسهم حرجاً مما قضيت ويسلموا تسليماً ))... ومن المهم جداً اتصال المسلمين بعضهم ببعض اتصالاً خاصاً, وأن يتذاكربعضهم مع بعض في هذه الأصول العظيمة… وأن يكونوا شيئاً واحداً في العمل بكتاب ربهم وسنة نبيهم صلى الله عليه وسلم ,يداً واحدة في الذب عن حوزة الدين, ومناوأة أعدائه من الكفار والمشركين ,فإن الأخذ بذلك هوسبب السعادة والسيادة والفوزوالنجاة في الدنياوالآخرة..)) انتهى نقله باختصار من مجموع الفتاوى [1 / 88 ] . فانظر-وفقك الله-إلى عظم اهتمام هذا الإمام بتقرير أصول الدين في المواسم والمحافل العظام , وتدبرماجاء في وصيته للأمة من مسائل , منها:
1-تقرير توحيد الربوبية ، ومقتضاه أن الأمركله لله وأنه سبحانه المتصرف في هذا الكون علويه وسفليه,لاشركة لأحد معه في شيئ من الأمركمالاشركة لأحد معه في شيئ من الخلق (( ألاله الخلق والأمر)) .. ((لايملكون مثقال ذرة في السموات ولافي الأرض ومالهم فيهمامن شرك وماله منهم من ظهير)) ..
2-تقرير توحيد الألوهية , فلايرغب إلاإليه ولايخاف إلامنه ولايستغاث ولايستعان إلابه في سائرالمهمات والأمورالمدلهمات ، عدا ما أذن الله به من الاستعانة بالمخلوق فيما يقدر عليه .
3-تقريرالمسائل المتعلقة بهذا التوحيد , ومنها إخلاص الموالاة في الله والبراءة ممن عاداه من الكفاروالمشركين ومن شايعهم من المنافقين , وهذا من مقتضيات التوحيد ولوازمه التي لاتنفك عنه.
4-تقريرالتوحيد الآخر وهو توحيد المتابعة للرسول صلى الله عليه وسلم ، وهومن توحيدالله , فلايستقيم هذاإلابذاك , إذ الرسول هو المبلِّغ عن الله , وطاعته طاعةلله , ومعصيته معصية لله , ((من يطع الرسول فقدأطاع الله)) (( وماأرسلنامن رسول إلاليطاع بإذن الله)) .
وعليه فإن من لوازم ذلك تحكيم هديه وسنته ونبذ كل القوانين الوضعية والدساتيرالأرضية التي اخترعتهاأمم الغرب والشرق والتي يجمعهاوصف واحدجاء في القرآن وهو(( الطاغوت)) .
وهاهنا أمرمهم , وهوأن النصوص صرحت بأنه لايكفي مجردالمعرفة بحكم الله وحكم رسوله صلى الله عليه وسلم , ولاترديد ذلك على الألسنة دون عمل , فإن الإيمان لايستقيم إلابالعمل , فلابد أولاً من قصد التحاكم إلى الكتاب والسنة ، والعمل بموجب ذلك الحكم ، ثم الرضاوالتسليم به .(( فلاوربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيماشجربينهم ثم لايجدوا في أنفسهم حرجاً مماقضيت ويسلموا تسليماً)) .
ولقد كان من أعظم المسائل التي يقررها ذلك الإمام العظيم كثيراً في فتاواه ورسائله ومؤلفاته ودروسه , مسألة تحكيم الشريعة وحدهاونبذكل القوانين الوضعية بسائرأنواعها وأشكالها , في السياسة العامة والخاصة , ولم يثنه ماكان يجده من مخالفة ومعارضة من قبل بعض الحكام والأمراء , وقلة نصرة ومعونة من قبل كثير من العلماء ، لم يثنه ذلك عن الإكثارمن ذكر هذه المسألة وترديدها وتذكيرالعامة والخاصة بها .
5- ولقد نبه الإمام كذلك إلىأن انشغال العلماء والوعاظ والكتَّاب بالحديث عن فرائض الدين الأخرى-عدا توحيد الله-وتحذير الناس من اقتراف المحرمات الكبرى- عداالشرك بالله - أن ذلك مع أهميته وحاجةالناس إلى بيانه وشرحه , إلا أنه ينبغي أن يقدم عليه الكلام في التوحيد ومقتضياته والتحذيرمن نواقضه ومبطلاته .
قلت: كيف لو رأى سماحة الشيخ الإمام صنيع أكثر علماء اليوم وانشغالهم عن تقرير الأصل الكبير , لا ببيان فرائض الإسلام الأخرى , بل بأمورأقل أهمية منها بكثير ؟!
بل كيف لو سمع الإمام ماينعق به طائفة ممن يسمَّون بالعلماء والفقهاء ، والعلم والفقه منهم براء , من صياح وعويل بمالاطائل من ورائه ولامصلحة للإسلام والمسلمين من قوله , ويتعسفون في الاستدلال عليه بماهودليل على نقيضه , ويحرفون الكلم عن مواضعه ابتغاءالفتنة وابتغاءتأويله ؟!
وكيف لورأى - رحمه الله - حال أكثرأهل هذا الزمان من المنتسبين إلىالعلم والمشيخة ممن اتخذوا دينهم لعباً ولهواً , وغرتهم الحياة الدنيا واشتروا بآيات الله ثمناً قليلاً , وجعلوا الدين والفقه مطية وسخَّروه لخدمة مصالح أعداء الدين والأمة المحمدية ؟!
الولاء والبراء
ومن أعظم مقتضيات التوحيد ولوازمه قضية الولاء والبراء , التي هي مضمون شهادة أن لاإله إلاالله ، وقد تواترت نصوص الكتاب والسنة على ذكرها وتقريرها ,كما تواترت نصوص الأئمة علىشرحها وتفصيلها خاصة أئمة الدعوة النجدية .
ومما ورد في مصنفاتهم ورسائلهم مقالة ابن عقيل المشهورة(( إذا أردت أ ن تنظر إلى محل الإسلام من أهل الزمان فلا تنظر إلى ازدحامهم في أبواب المساجد ولا إلى ضجيجهم بلبيك ، ولكن انظر إلىمواطأتهم أعداء الشريعة )) .
وإني لا أعجب كثيراً من تصريحات كثيرمن الرؤساء ومن شايعهم ممن لبس لبوس المشيخة وتسنَّم بعض المناصب الدينية , بكلام ينسف أصل هذه القضية التي هي أصل الدين وأس العقيدة , وقدكثرت تلك التصريحات في العقد الأخير , وبالأخص بعد تهديد رأس الكفر والشر لدول العالم بأنه (( من ليس معنا فهو ضدنا )) .
ولا أعجب كثيراً من سكوت جماهير العلماء والوعاظ والكتاب وكتمانهم الحق في هذه القضية التي هي فوق كل قضية , فلا "الإرهاب" , كمايسمونه , ولا "التكفير" ولا "القتل" ولا "التفجير" ولاغيرهامن القضايا المعاصرة بأهم بياناً وتفصيلاً وتقريراً وشرحاً ودرساً من قضية الولاء والبراء في الدين .
وإنما العجب كل العجب حقاً من تصدي أولئك وإنكارهم على كل من قام يبين للعامة في درسه أووعظه أوخطبته هذه القضية واعتباره " معارضاً للسلطة " و "مفرقاً للوحدة" و "مثيراً للفتنة " و " مهيجاً للعامة" حتى إني سمعت من ذلك "الحفيد" تصريحاً بمنع الخطباء والوعاظ والمصلحين من الحديث عنها لأنها- كمايزعم - من المسائل العويصة الشائكة التي لايحسنها ولايفهمها على وجهها إلا الراسخون في العلم .
ولم يتفضل "معاليه" ببيان من هم "الراسخون" المعنيون ، وترك الأمة في حيرة من أمرها , فهذا الوصف ، كذلك ، من المسائل العويصة الشائكة , فكل منتسب إلىشيء من العلم والرئاسة الدينية يمكن أن يدعيه هو فخراً أو يصفه به أتباعه ومريدوه زوراً .
[Glow]يتبع>>[/Glow]