مسير ... أم ... مخير ؟
بواسطة
في 31-05-2012 عند 12:27 (1870 الزيارات)
بسم الله الرحمن الرحيم
عادة ما تكون هذه النقطة بوابة الجدل الأعظم ، لكي يبرر البعض بعض مفاهيمه الخاطئة ... ويظهرون كل شيء على أننا مجرد ذبابة في شبكة من الحتميات أو قشة في تيار بلا حول ولا قوة ولا إرادة ...
نعلم أن أفعالنا معلومة عند الله تعالى في كتابه ، وليست مقدرة علينا بالإكراه ، كما يحصل أحيانا عند توقعنا لخسارة فريقنا المفضل ، أو حصول معركة وحرب قريبة بين دولتين مثلا ، أو رسوب صاحب لنا في اختبار ، فهنا نحن قد كنا نضع افتراضات معينة حسب معلومات متوفرة ، وأصاب علمنا ، أما العلم الإلهي فلقد وضعنا بين احتمالين كما تعلم، ويشير إلى ذلك الآية الكريمة ( فألهمها فجورها وتقواها ) .. ولم يقل أو تقواها ، في إشارة إلى حرية الإنسان ...
بداية ، نعرف جميعا أن كل ما يحصل في هذا الكون يسير وفق نمط معين ، أو قوانين واستراتيجيات ، حتى وإن دخل بعضها في دائرة اللا معقول في نظرنا مما قد لا تدركه عقولنا ، فمن الممكن الآن أن نحسب المدارات وسرعات والكتلات ربما ونحن واقفين في أماكننا لشيء معين ، عدا الإنسان فهو ما نحس بأنه يمشي على مزاجه وحسب الكيفية التي يريدها... فالإنسان نحن لا نعرف ماذا يضمر اليوم أو غدا ، أو ماذا سنفعل ، ولكننا قد نحكم أو نجزم بذلك حسب المعلومات والإفتراضات المتوفرة... وكذلك هو الذي يتصادم ويغير ويؤثر بأي شكل كان ، ويدخل سلسلة من الصراعات المستمرة ..
هناك نظرية الحتمية الداخلية التي قالها الدكتور سيغموند فرويد والتي تنص على : ( أن الإرادة حرة في الظاهر مقيدة في الباطن وأسيرة لجبرية الغريزة وآلية الحوافز الباطنة) عاد هو فنقضها قائلا : ( أن الغريزة هي خام غفل تتحكم فيه الإرادة بالكبت والإطلاق والتسامي ) ـ، أي أن الإرادة هي المتحكمة ، في الظروف الداخلية والخارجية ، وليست أسيرة لها مطلقا .. والكلمة التي يرددها البعض من الحتمية الطبقية أو الغريزية فهي خاطئة تماما في المجال الإنساني ، فلا توجد حتميات أبدا في المجال الإنساني ، وإنما غالبا ترجيحات واحتمالات...
علينا أن نذكر نقطة مهمة في الحرية البشرية ... وهي أن الله سبحانه وتعالى أعتق نفوسنا من كل صنوف الإكراه على شيء لا نحبه ، أو لا نرتضيه ... فالله أعطى النفس البشرية القدرة على التلفت من اللازم والضروري والمحتوم ، وهذه نراها دائما في الكثيرين من البشر .... فهناك منطقة الضمير التي لا يتنبأ بها أحد مطلقا ..
نعلم جميعا أننا نضمر الكثير في ضمائرنا ونسبح دائما في خيالنا .. وهناك لا توجد تلك القيود أو القوانين ، فنحن بالفعل أحرار في تلك المنطقة ، ونحن نعلم جميعا أن منطقة الضمير تلك ستكون مجهولة للطرف الآخر ، ومن الممكن أن يضمر أحدهم إخلالا بتعاقد ما ونحن لم نعلم مسبقا ...
رغباتنا تضل حرة ما دامت في الضمير والنية ، ولكنها مع أول اصطدام بالعالم الخارجي تفقد جزءا منها ، وأول هذه المعوقات الموجودة في عالم القوانين هو جسدنا |، فنحن مطالبون بتنفيذ بعض غرائزه التي تعتبر ضرورة كالأكل والشرب والملبس إلخ ..
فرغباتنا لا تستطیع أن تعلن عن نفسھا بدون جسد، و جسدنا ھو أداة حریتنا كما أنھ القید علیھا. و لیس جسدنا وحده بل أجساد الآخرین أیضا أدواتنا، فنحن ننتفع بما یصنعه العامل و ما یزرعه الفلاح و ما یخترعه المخترع و ما یكتبه الكاتب و كل ھذه ثمار أجساد الآخرین و حریاتھم. المجتمع أداة ھائلة موضوعة في خدمتنا بما فیه من برید و مواصلات و نور و میاه و
صناعات و علوم و معارف.
هناك قانون وسنة إلهية وهي سنة التكيف والتوافق ، فنحن البشر عادة ما نصادف أوضاعا غير مريحة ، أو مشاكل عديدة أو أمورا طارئة ، فنجبر على التكيف والتأقلم معها ، حينها نكون قد حققنا توافقا لا يقوم بإعاقة ما نهدف إليه من عمل ما معين بمشيئة الله حسب حريتنا المتاحة لنا ...
إن الإنسان یعیش مضطربا بین عالمین: عالم إرادته الحرة بداخله . و عالم المادة حوله الراسف المغلول في القوانین.
و سبیله الوحید إلى فعل حر ھو معرفة ھذه القوانین و الفطنة إلى استغلالھا بالوفاق معھا.. و ھو دائما أمر ممكن. و لھذا فالحریة حقیقة لا تنفیھا المقاومات و الظروف الخارجیة، بل إن ھذه المقاومات تؤكد الحریة فلا یمكن أن تكشف حریتنا عن مدلولھا في الخارج إلا بوجود عقبات تزحزحھا و تتغلب علیھا.. إنھا تكشف عن مدلولھا من خلال صراع و بدون ھذا الصراع لا یقوم لھا معنى.
و الضوابط الخلقیة و القوانین الاجتماعیة لا تنفي الحریة و إنما ھي أشبه بعلامات المرور.. وضعت لتننظم المرور و تفسح أكبر حریة للكل.
خلاصة قولنا كله أن الإنسان حر في منطقة ضميره بالكامل ، وحر حرية نسبية في مجال الفعل والتنفيذ حسب الحدود والمقاومات الموجودة في المحيط الخارجي ..
نصل هنا إلى نقطة مهمة وهي علاقة القضاء والقدر بحريتنا هذه التي أنكرها بعضكم .... وبما أنكم لن تقتعنوا بسهولة وستصلون لسفسطائية ... فلنذهب للقرآن الكريم ..
(( و لو شاء ربك لآمن من في الأرض كلھم جمیعا أفأنت تكره الناس حتى یكونوا مؤمنین )) (99 – یونس ).... وأيضا ... (( و قل الحق من ربكم فمن شاء فلیؤمن و من شاء فلیكفر.. )) ( ٢٩ – الكھف )
(( و لو شئنا لآتینا كل نفس ھداھا.. )) ( ١٣ – السجدة)...
وفي أكثر من مرة في القرآن الكريم تشير الآيات إلى أن الله سبحانه وتعالى جعل حرية الإنسان عين مشيئته وكرامة منه وفضلا ، وأن ما يجري على الإنسان ليست إكراها للمخلوق ولا عصيانا للخالق ...
الله سبحانه وتعالى عرض على الإنسان الأمانة ...وهي ( الحرية والمسؤولية ) .. عرضها لنقبلها أو نرفضها كما نشاء ..
(( إنا عرضنا الأمانة على السماوات و الأرض و الجبال فأبین أن یحملنھا و أشفقن منھا و حملھا الإنسان إنه كان ظلوما جھولا )) ( ٧٢ – الأحزاب ).
بهذه الحرية التي قدرها الله على الإنسان حقت عليه المسؤولية والمحاسبة ...
(( كل نفس بما كسبت رھینة )) ( ٣٨ – المدثر )..
(( كل امرئ بما كسب رھین )) ( ٢١ – الطور )....
و بمقتضى ھذه الحریة جعل الله من (( ضمیر الإنسان و نیتھ و سریرتھ )) منطقة محرمة و قدس أقداس.. لا یدخلھا قھر أو جبر.. و قطع على نفسه عھدا بأن تكون ھذه المنطقة حراما لا یدخلھا أحد .. لا ملك ولا شيطان ولا قهر إلهي ... أو تسيير كما زعم البعض هنا ...
كل منا يضمر في نيته ما يشاء ، وإنما تبدأ لحظة التدخل الإلهي لحظة خروج النية إلى حيز الفعل ..فيعطي الله للإنسان تيسيرات من جنس نيته ...
((فأما من أعطى و أتقى ( ٥) و صدق بالحسنى ( ٦) فسنیسره للیسرى ( ٧) و أما من بخل و استغنى ( ٨) وكذب بالحسنى ( ٩) فسنیسره للعسرى ( ١٠ ) )) (اللیل)
دعونا نرى بعض الآيات الأخرى ...(( و لو علم الله فیھم خیرا لأسمعھم.. )) ( ٢٣ – الأنفال )
(( فلما زاغوا أزاغ الله قلوبھم.. )) ( ٥ – الصف ) ..
وليس هذا بالجبر ولا الحتم ... كما تتوسمون أنتم على سبيل المثال خسارة فريقكم المفضل لكون لاعبيه مصابين .. أو لكون لديكم ولدان على سبيل المثال ، أحدهما مجتهد والآخر مهمل .. فترسل أحدهما للدراسة في الخارج أو في أرقى الجامعات، بينما الآخر ترسله لتخصص يناسب مزاجه وكونه ليس بالشخص ذي الشدة ...
لا یكون إكراھا منك و لا جبرا و لا عنوة و إنما لأن ھذه طبیعته التي سبق علمك إلیھا.. و إنما تأتي التجربة فتكشف لھ نفسه. و بذلك یحق علیه العقاب صدقا و عدلا.. فقد علم من نفسه ما لم یكن یعلمه ...
(( علمت نفس ما قدمت و أخرت )) ( ٥ – الانفطار )
و لھذا جاءت الدنیا لتكون حقل تجربة و اختبارا لمعادن النفوس:
(( خلق الموت و الحیاة لیبلوكم أیكم أحسن عملا.. )) ( ٢ – الملك )
یقول الله في قرآنه:
– (( ود كثیر من أھل الكتاب لو یردونكم من بعد إیمانكم كفارا حسدا من عند أنفسھم.. )) ( ١٠٩ - البقرة )
لم یخلق الله الحسد في قلوبھم و لم یودعه في ضمائرھم، و لكنھم یحسدونكم اختیارا من عند أنفسھم..
و العبارة ھنا صریحة (( من عند أنفسھم )).. و ھي تنفي التدخل الإلھي و تقطع بوجود ھذه ..المنطقة الداخلیة التي تركھا الله حرة...
عندما نقول أن كل شيء قسمة ونصيب وأننا مجرد مسيرين فكأننا منذ الآن نختلق عذرا لفشلنا في زواج أو دراسة ... وبل حتى يوم القيامة ، عندما يكون أحدكم ارتكب معاصي وذنوبا وفجور ، هل سيأتي أحدكم يوم القيامة ليقول : ( يا رب ، كنت مسيرا من قبلك يا رب ) ؟ فكأنكم تصفون الله بالظلم هنا ...
أتمنى التفكير في كلامي مجددا..... وأرحب بأي حديث حول هذا الموضوع ...