امنعها ملذوذ مُباحها.. حتي يَقع الصلحُ علي ترك الحرام..
بواسطة
في 18-08-2016 عند 23:22 (3201 الزيارات)
أذكر أنه كانت لدينا معلمة في المدرسة الابتدائية اسمها "أسماء" و كنا نطلق عليها لقب "أسماء جريندايزر،" كانت معلمة قاسية الطبع، متوحشة المنظر، عصبية ، نادراً ما تبتسم و اذا ابتسمت ، كشرت عن أنيابها التي تشابه أنياب دراكولا، و مع سوء الحظ كانت معلمة للقراءن،
كان الكل يهابها، و لا يخالف ما فرضته علينا من واجبات مع صعوبة ما تطلب منا و صغر سننا في هذا الوقت، و في مرة من المرات دخلت علينا، و قام الجميع ليرد السلام الكعادة، و تبادر هي بالرد "اتنيلو اقعدو"..
ثم بعد تحيتها الخاصة، أخبرتنا بأنه منذ اليوم، سوف يتضاعف علينا الحفظ و المراجعة ثلاثة أضعاف، كنا نأخذ صفحة في اليوم، فاصبحت ثلاثة صفحات، و أخبرتنا أننا سنكتب كل صفحة ثلاثة مرات بدلا من واحدة..
الكل يتلفت الي بعضه و لا أحد يستطيع أن يرد علي الجريندايزر، ما عدا زميلنا حسام كنا نسميه "حسام سوسو"، الذي رد عليها " ده كثير جدا يا ابلة مش هنلحق نحفظه" ، لا أريد أن أسرد ماذا حصل لحسام رحمه الله، فالمهم لم يقدر أحد علي الرد عليها..
بعد انتهاء اليوم الدراسي قلنا لبعضنا ماذا سنفعل لا مفر من اداء ما فرضته علينا، المهم اليوم التالي جاءت أسماء جريندايزر لتخبرنا بأنها سوف تخفف عنا الحمل ليصبح الحفظ صفحتين فقط و الكتابة مرتين أيضا بدلا من ثلاثة،
الجميع كان في فرحة لا يصدقها، الحمد لله سنكتب صفحتين فقط!، ليست النقطة فقط أننا نسينا ان الحفظ منذ يومين كان صفحة، و لكن فرحتنا كانت غير طبيعية، أسلوب التنزل من الأعلي للادني، أن تفرض علينا ثلاثة صفحات حتي تجعلنا نرضي بالاثنين،
خطة لطيفة و ذكية جداً.. !!
الأستاذ سيد و الشهرة سيد "سِنبه" ، سبب تسميته بهذا الاسم أنه كان يقول لنا " تعرفو حاجة بتلبسوها في الأيد و بتصحيك من النوم ؟ " المفترض أن الاجابة ساعة، لكن الاستاذ سيد كان يجيب بمزاح" سنبه "، كان الاستاذ سنبه مدرسا للغة العربية،
و كان يعطينا الكثير من الواجبات الدراسية، و كانت عقوبة من يخطئ في الواجب، " الجميع كان يخطئ"، أربعين ضربة علي اليد، عقوبة قاسية كان يفاجئ الاستاذ سنبه الجميع عند تنفيذ العقوبة،بان العقوبة فقط 10 ضربات!!
تم تخفيف العقوبة من أربعين ضربة الي عشر ضربات، فرحة تخفيف العقوبة كانت تنسينا لماذا نعاقب أصلاً، كانت تنسينا أن عشر ضربات نفسه رقم كبير، و المهم في ذلك أن الجميع كان يخطئ في الواجب، فلما العقوبة اذǿ
نفس أسلوب المعلمة أسماء جريندايزر مع اختلاف الطريقة، فهي كانت تستخدمه في الواجبات، أما هو كان يستخدمه في العقوبة.
التنزل من الأعلي الي الأدني
امنعها ملذوذ مباحها
كانت هنالك مدرسة شرعية أسسها احد المشايخ يذهب اليها كل من قصرت نفسه في الصلوات، و استشكل عليه القيام بخمس صلوات يومياً، و كان عندي بعض الأصدقاء أخبرني بكم أن هذه المدرسة ممتازة،
و حكي لي عن صديق له كان لا يصلي، و ذهب الي هذه المدرسة ، و أصبح عابدا قويا في الاتيان بالفروض و النوافل، يصلي الصلوات الخمس و السنن بكل سهولة، و بدون أن تجزع نفسه أو تشتكي..
فلما حكي لي عن طريقة الشيخ في علاج مشكلة الصلاة، عرفت السر، كان يجعل الطلاب يصلون الصلاة الواحدة بجزء او أكثر من القراءن
كل من يأتي الي المدرسة كان نفسه تشتكي من أول يوم، الصلاة يوميا قد تستغرق خلف الشيخ ساعة او أكثر، و كان الجميع يلتزم رغما عنه لشدة الشيخ و لأن من قدم فيها لا يخرج من المدرسة الي بعد انتهاء المدة المحددة " شهرا"
فلما خرج من المدرسة الشرعية و مع تعوده علي هذا الكم من الصلوات، أصبح يذهب للمساجد المعتادة التي لا تستغرق فيها الصلاة،
الا عشرة دقائق أو ربع ساعة علي الأكثر، فيخرج من الصلاة مستشعراً أنه لم يصل، فيقوم فيأت بالسنن و يزيد و لم يشعر بعد بثقل الصلاة عليه.. فأصبح يداوم و يزيد ..
نفس الأسلوب.. التنزل من الأعلي الي الأدني، الصعود بأصعب ما تجده النفس من مشقة ثم التخفيف عنها بشرط أن تأتي بما فُرض عليها أو حرمان النفس من ما تشتهي ثم يتم الصلح النفسي أن تنال ما حرمته منها مقابل ترك الحرام..
قال الامام بن الجوزي [ امنعها ملذوذ مباحها حتي يقع الصلح علي ترك الحرام ] (1)
و قال أحد العلماء : النفس لاتُعطى مُناها حتى تصل إلى مولاها ولن تصل إلي مولاها حتى تكون صحيحة سليمه ولن تكون صحيحة سليمه حتى تكون داؤها هو دواؤها
داؤك هواك ودواؤك مخالفتك هواك..(2)
و قال بن القيم: "السالك في أول الأمر يجد تعب التكاليف ومشقة العمل لعدم أنس قلبه بمعبوده، فإذا حصل للقلب روح الأنس زالت عنه تلك التكاليف والمشاق فصارت قرة عين له وقوة ولذة".(3)
الصيام
" النظام التطبيقي للصلح"
لا يخفي علي أحد حب أنفسنا للشهوات من المأكل و المشرب و متاع الدنيا، و لعل من حكم الخفية المنسية، التي يقوم عليها الصيام هي أن يتم حرمان النفس مما تشتهي لفترة مؤقتة في اليوم،
ثم بعد صبر و جهاد، تنال النفس ما تشتهي..
التنزل من الأعلي الي الأدني هو أسلوب الصيام الذي لو فهمته علمت كيف تجاهد نفسك..
فحرمانها مما تشتهي و فرض الصبر عليها، كفيل بأن تستسلم لك نفسك في محاربة المحرمات، علي شرط أن تعطيها ما تحب من حلال كعوض ....
[ ولذلك أرشد النبي صلي الله عليه و سلم في الحديث الصحيح الصيام كعلاج للشهوة، [ يا مَعْشَرَ الشَّبَابِ مَنْ اسْتَطَاعَ منكُم الْبَاءَةَ فَلْيَتَزَوَّجْ ، فَإِنَّهُ أَغَضُّ لِلْبَصَرِ ، وَأَحْصَنُ لِلْفَرْجِ ، وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَعَلَيْهِ بِالصَّوْمِ فَإِنَّهُ لَهُ وِجَاءٌ ]
بحرمان النفس مما تشتهي خلال فترة محددة، تساوم فيه النفس أن تترك خواطر النفس الداخلية، و الشهوة النفسية و الحسية ،ثم تحرمها مما تحب من حلال، تجعلها تقبل بترك الحرام كحل وسط حتي تنال مرادها من المأكل و المشرب، فترضي النفس بهما و تنسي ثوران الشهوة و طغيانها..
فالصوم وجاء أي قاطع للشهوة و عازل عن أن تنفلت الشهوة من الهم الي العزم علي الفعل،فتصير لها قائداً, بدل من أن تكون كما كان الذي " فطوعت له نفسه".
-قال مالك بن دينار: [ رحم الله عبدا قال لنفسه النفيسة : ألست صاحبة كذا ؟ ألست صاحبة كذا ؟ ثم ذمها ثم خطمها ، ثم ألزمها كتاب الله ؛ فكان لها قائدا ] (4)
و قال حذيفة المرعشي عن نفسه : [ ما في الأرض نفس أبغض إليّ منها فكيف أُعطيها شهوتها ] (5)
إذا المرء لم يَغْلِبْ هواه أقامهُ : بمنزلةٍ فيها العزيز ذليلُ ..
__________________________________________________ _____________________________________
1- من كتاب صيد الخاطر.
2- من محاضرة عجائب القلوب- للشيخ محمد حسين يعقوب.
3- مدارج السالكين لابن القيم
4- حديث موقوف علي التابعي.
5- حذيفة بن قتادة المرعشي،صاحب سفيان الثوري، من كتاب حلية الأولياء.