مشاهدة تغذيات RSS

Black Legend

عامٌ جديد . . .

تقييم هذا المقال


عامٌ جديد
(كتاب: صور وخواطر – علي الطنطاوي)
(نُشِرَت

0888dfcbf7fdb458cfa0004ee406e694

لما قعدت أكتب هذا الفصل، لم يكن في ذهني شيء عن الموضوع الذي أكتب فيه، ولكني نظرت في التقويم المعلق بالجدار فوجدت الموضوع. الموضوع (أول المحرَّم).
أفيمر بكم أول المحرم، كما يمر غيره من الأيام، وفي صبيحته ولد عام، وفي ليلته قضى عام؟
يجتاز المسافر مرحلة من الطريق فيحطّ الرحال، ويقف ليستريح، فيتلفت وراءه ليرى كم قطع، وينظر أمامه ليبصر كم بقي !؟
والتاجر تتهي سنته، فيقيم موازينه ويحسب غلته، ليعلم ماذا ربح وماذا خسر!؟
وهذه (محطة) جديدة، نقف فيها ونحن نسير على طريق الحياة وسنة أخرى تمضي من العمر، أفلا نقف ساعة نفكر ونذكر ونحسب ونعتبر؟
نحن اليوم في أول المحرم من سنة ست وثمانين وثلاث مئة وألف، ننظر إليه في الفجر، فنراه يوماً طويلاً يمتد أمامنا، نستطيع أن نعمل فيه ما نشاء، نستمتع فيه (إن أردنا) بدنيانا، ونحمله ما نريد حمله من الزاد إلى أُخرانا، فإذا أمسى المساء وذهب اليوم لم نعد نستطيع أن نستفيد منه ولا أن نستمتع فيه.
نظنه باقياً لنا ، فـ (نُبَذِّر) في دقائقه ، كما يبذر المسرف في ماله ، ونضيع ساعاته، ولكننا لا نجده حتى نفقده. إنه لا يكاد يبدأ حتى ينتهي ثم يمضي، فلا يعود أبداً.
اذكروا الآن أول يوم من المحرّم سنة خمس وثمانين، لقد كنا نراه ونحن نستقبله طويلاً، وكنا نقدر أن نصنع فيه خيراً كثيراً، فأين هو منا اليوم؟ وأين الأول من المحرم سنة ربع وثمانين؟
وأين أوائل المحرمات التي مرت بنا، أو مررنا نحن بها من قبل؟ ماذا بقي منها في أيدينا؟
تمضي السنة وتجيء أخرى بعدها، فمن لم يعمل خيراً فيها، عمله في التي تليها.
إن فاتك عمل الخير في النهار، فعندك الليل (خِلْفَةٌ) منه، فاعمل الخير فيه. مواسم متتابعة، إن أضعت الموسم فلم تزرع فيه، فازرع الذي يليه .
وإن رسبت في الامتحان في دورة حزيران، فعندك دورة أيلول.
هي خِلْفَةٌ لك ما بقيت حياً، ولكن هل تعلم كم تبقى حياً؟


* * * * * * * * *


ينقضي العام فتظن أنك عشته، وأنت في الحقيقة قد مِتّه، لا تعجبوا من هذا المقال ودعوني أوضح الفكرة بالمثال.
أنت كالموظف الذي منح إجازته السنوية، شهراً كاملاً، إذا قضى فيها عشرة أيام يكون قد خسر منها عشرة أيام فصار الشهر عشرين، فإذا مر عشرون صار الشهر عشراً، فإذا تم الشهر انقضت الإجازة فكأنها لم تكن.
أتظنون أني (أتفلسف)؟ لا والله، بل أصف الواقع.
نحن كلما ازداد عمر الواحد منا سنة في العدِّ، نقصت من عمره سنة في الحقيقة، حتى ينفد العمر، ويأتي الأجل، ونستقبل حياة أخرى تبدأ بالموت.
فتحت كتابي (من حديث النفس) فقرأت فيه فصلاً نشرته في العدد الممتاز من مجلة الرسالة في مطلع سنة 1938، عنوانه (على أبواب الثلاثين)، لو تصورت يومئذ أني سأقرأه في مطلع سنة 1966، لتراءى لعيني دهر طويل ثمان وعشرون سنة، أنظر إليها الآن، بعد ما مرّت، فأراها كأنها يوم وليلة.
ولو نظرت الآن إلى ما بعد ثمان وعشرين سنة إلى سنة (1994) لرأيتها بعيد جداً، ولكن من يقرأ هذا الفصل يومئذ سيرى سنتنا هذه كأنما كانت بالأمس.
فنحن نوسع المستقبل بالأمل.


* * * * * * * * *


وما هذا المستقبل الذي نسعى إليه، ونكدّ من أجله؟
لمّا كنت طالباً كان مستقبلي في نيل الشهادة، فلما نلتها صار المستقبل في الوصول إلى الوظيفة، فلما وصلت إليها صار المستقبل في بناء الأسرة وإنشاء الدار، وإنسال الولد، فلما صارت لي الزوجة والدار والأولاد والحفَدة، صار المستقبل في الترقيات والعلاوات والمال المدخر، وفي الشهرة والمجد والكتب والمقالات، فلما تم لي بفضل الله ذلك كله، لم يبق لي مستقبل أفكر فيه، إلاّ أن ينوِّر الله بصيرتي، ويريني طريقي، فأعمل للمستقبل الباقي، للآخرة، وإني لفي غفلة منها.
فالمستقبل في الدنيا شيء لا وجود له، إنه يوم لن يأتي أبداً لأنه إن جاء صار (حاضراً) وطفق صاحبه يفتش عن (مستقبل) آخر، يركض وراءه.
إنه (كما قلت مرة) مثل حزمة الحشيش المعلقة بخشبة مربوطة بسرج الفرس تلوح أمام عينيه فهو يعدو ليصل إليها، وهي تعدو معه فلا يدركها أبدا.ً
إن المستقبل الحق في الآخرة، فأين منا من يعمل له؟ بل أين من يفكر فيه؟



* * * * * * * * *



وقد يكون هذا الذي أقوله (فلسفة)، ولكنها فلسفة واقعية، إنها حقائق لا يفكر فيها أحد منها.
نحن كالمسافر في الباخرة أو في الطيارة، همُّه الغرفة الجميلة، أو المقعد المريح، يركب في الدرجة الأولى ويأكل أطيب الطعام، ويتصفح الجرائد والمجلات وينقل بصره فيما حوله أو تحته من المشاهد ولكن هذا كله لأيام في السفر، وأيام السفر معدودة، أفما كان خيراً له لو فكر فيما يريحه في إقامته في البلد الذي يمضي إليه؟
أما كان أنفع له لو تحمَّل بعض المتاعب في ليالي السفر القليلة، ووفر ماله ليشتري به الراحة في سنوات الإقامة الطويلة؟
أم قد شغلته متعة السفر عن التفكير في سبب السفر، وجمال الطريق عن غاية الطريق؟
الحياة سفر، فكم من الناس يسأل نفسه لِمَ السفر؟ وإلى أين الرحيل؟ كم منا من يسأل ما الحياة؟ ولماذا خلقنا؟ وإلامَ المصير؟
إننا نقطع الوقت من الصباح إلى المساء، في مشاغل نخترعها لننسى بها أنفسنا، ونبدد بها أعمارنا، من أحاديث تافهة، ومجالس فارغة، ومطالعات في كتب لا تنفع، أو نظرات في مجلات لا تفيد، فإن خلا أحدنا بنفسه، ثقلت عليه صحبة نفسه، وحاول الهرب منها، كأن نفسه عدو له لا يطيق مجالسته، فهو يضيق بها، ويفتش عما يشغله عنها، وكأن عمره عبء عليه، فهو يحاول أن يلقيه عن عاتقه، وأن يتخلص منه.




* * * * * * * * *



نفرّ من نفوسنا ونبدد أعمارنا، في لذائذ نتوهمها، ونسعى وراءها ولكننا لا ننالها.
ولما كنت أشرف على طبع كتاب ابن الجوزي (صيد الخاطر) الذي قدمت له وعلقت عليه، وجدت فيه كلمة عظيمة، يقول فيها: (إن لذائذ الدنيا نماذج تعرض ولا تقبض).
نماذج (ريكلامات) للعرض والإعلان، لا للبيع والاقتناء، فأنت تسر برؤيتها، ولكن لا تقدر على امتلاكها.
خذوا أكبر لذات الدنيا، (اللذة المعروفة …) تروا أنها ليست في الحقيقة إلاّ لحظة، دقيقة أو دقيقتين، لا تكاد تحس بأنك قد وصلت إليها، حتى تجد أنك قد فقدتها.
إنها ليست إلاّ (نموذجاً) مصغراً للذة الآخرة، فما يستمر هنا دقيقة فقط، يدوم هناك إلى الأبد.
إنك فيها كمن يعطى ملعقة من الطعام ليذوقه ويجد طعمه في حلقه، فإذا ارتضاه اشترى منه فأكل حتى شبع.
فالذواق في الدنيا، والشبع في الآخرة.
لذلك ترى الرجل الفاسق، يشكو (الجوع الجنسي) مهما (ذاق) من الحرام. يعرف مئة من النساء، ثم يرى الواحدة بعد المئة فتطلبها نفسه، كأنه ما عرف امرأة قط، ولا يزال كذلك حتى يعجز جسده، ولا تكل رغبته، فهو كالعطشان الذي يشرب من ماء البحر، وكلما ازداد شرباً، ازداد عطشاً. وما عهد فاروق ببعيد!.
ومثلها لذة المال.
إن الفقير الذي ينام في كوخ الطين، ويأكل خبز الشعير ويمشي بالحذاء البالي، أو يركب عربة النقل، التي يجرها الحمار، يتصور لو أنه نام يوماً على فراش الغني، أو أكل على مائدته، أو ركب في سيارته، لنال اللذائذ كلها، ولكن الغني الذي أَلِفَ ذلك لم يعد يجد فيه لذة، بل يجد الألم إن فقد منه شيئاً.
والشاب المغمور يتمنى أن يكون علَماً مشهوراً، تردِّد الإذاعات اسمه، وتنشر الصحف رسمه، ويتحدث الناس عنه، ولكن العالم المشهور الذي أَلِفَ ذلك لم يعد يهتم به ولا يباليه.
إن لذّات الدنيا مثل السراب، ألا تعرفون السراب؟ تراه من بعيد غديراً، فإذا جئته لم تجد إلاّ الصحراء. فهو ماء ولكن من بعيد!.
عفواً يا سادتي القراء! إن جئت أعظكم وأزهدكم، فما أردت وعظاً ولا تزهيداً، وما أنا من الوعاظ الزهاد، ولكنها خواطر أثارها في نفسي أننا في اليوم الأول من المحرَّم، وإني وقفت كما يقف المسافر، وقعدت أحسب كما يحسب التاجر.
إني أنظر إلى حياتنا هذه التي نعيشها، فأرانا كموكب من السيارات، تمضي مجنونة مسرعة، متسابقة، همّ كل واحدة أن تسبق الأخرى، وتخلفها وراءها، ولكن لو سألت سواقها: إلى أين يسيرون؟ ولماذا يسرعون؟ لما وجدت عندهم جواباً.
سباق إلى المال، سباق إلى اللذات، سباق إلى الوظائف، سباق في كل طريق من طرق الحياة.
ثم ينتهي العمر، فنترك كل ما استبقنا إليه، ونمضي! فلنقف لحظات في مطلع كل عام، لنسائل أنفسنا: ما الذي نربحه من هذا السباق؟ أو ليس الربح الحق من جهة أخرى، غير الجهة التي يتجه الناس كلهم إليها، ويحسبون أن الربح المقصود فيها؟
إن هذا اليوم نذير لنا، بأن السنة المقبلة ستمضي كما مضت السنة المودعة، وإن كل واحدة منها تحمل معها جزءاً من أعمارنا، حتى تنفد أعمارنا فلنتدارك ما بقي، ولنكن يوماً واحداً في السنة من المتناصحين ومن المتواصين بالحق، والمتواصين بالصبر.
إنكم تقرؤون في المجلات كلاماً جليلاً يزيد عقولكم ثقافة، وكلاماً جميلاً يدخل البهجة على قلوبكم، وكل هذا خير، ولكن خيراً منه أن تسمعوا كلمة تذكركم أخراكم، وتنفعكم يوم العرض على ربكم.
وما أصلح والله لأن أقول أنا هذه الكلمة، وأنا إلى أن أُوعظَ فأتَّعظ، أحوج مني إلى أن أَعِظَ، ولكن (على مدير الكاس أن ينهى الجُلاس!).
لمّا أردت أن أسافر إلى جدة، من بيروت، قعدت في مطعم المطار، أفطر وأنتظر، وكان المطعم ممتلئاً، وكل من فيه يأكل ويشرب ويتحدث، مثلما كنت آكل وأشرب وأتحدث، تراهم فتحسبهم أصدقاء متلازمين لا يفترقون. وأنّ شملهم جميع لا يتشتت، ولكن مطار بيروت الذي تحط فيه كل ربع ساعة طيارة، وتقوم منه طيارة، لا يلبث الصوت أن يخرج منه ينادي من (المكبّر):
– ركاب طائرة (boac) المسافرة إلى لندن، يتوجهون إلى أرض المطار. فتترك أكلها وشربها جماعة من الحاضرين، وتقوم!.
ثم ينادي:
- ركاب طائرة (klm) المسافرة إلى جاكرتا.
فيترك ناس أكلهم وشربهم ويقومون!.
وطائرة إلى أمريكا، وأخرى إلى الكونغو، وثالثة إلى إيران، ورابعة إلى موسكو!.
فنظرت إلى الناس وقلت لأخي، وكان معي: هذه حياتنا..!
نعكف على طعامنا وشرابنا، ومشاغل حياتنا، وإذا بالنداء يدعو من (جاء دوره) ليذهب إلى حيث يحمل، إما إلى غابات أفريقية، وإما إلى ثلج سيبيريا، وإما إلى ملاهي باريز ومشاهد نيويورك..
فمن كان مستعداً للسفر، حاجاته مقضية، وحقائبه معدة، وحمله خفيف، مضى مستريح البال، ومن (جاء دوره)، وهو لم يعد متاعه، ولم يقض حاجته ذهب بلا زاد، ومضى على غير استعداد.
أفلا نستعد للسفرة التي لا بد منها، ونتزود لها الزاد الذي لا ينفع غيره فيها؟
أم نحن نتناسى الموت وهو أمامنا نظنه أبعد شيء عنا، وهو أقرب الأشياء منا، نصلي على الأموات ونشيع الجنائز، ونحن نفكر في أمور الدنيا، كأنا مخلدون فيها، وكأن الموت كتب على الناس كلهم إلاّ علينا؟
يا إخوتي القراء!..
إننا نعيش الأيام كلها في غفلة، فلننتبه اليوم، ولنقف كما يقف المسافر على المحطة، ينظر كم قطع من الطريق، وكم بقي عليه منه؟ ولنفتح دفاترنا كما يفتح دفاتره التاجر، لنرى ماذا ربحنا في سنتنا التي مضت وماذا خسرنا؟ ولنمد أيدينا، فنقول: يا ربنا، اغفر لنا ما سلف، ووفقنا فيما بقي.
اللهم إذا كتبت لنا، أن نعيش إلى مثل هذا اليوم من قابل، فاجعل ما يأتي خيراً لنا، وللمسلمين مما ذهب، وإلا، فاكتب لنا بفضلك وكرمك حسن الخاتمة، واغفر لنا ذنوبنا، وكفر عنا سيئاتنا، وتوفنا مع الأبرار.


أرسل "عامٌ جديد . . ." إلى Facebook أرسل "عامٌ جديد . . ." إلى del.icio.us أرسل "عامٌ جديد . . ." إلى StumbleUpon أرسل "عامٌ جديد . . ." إلى Google

الكلمات الدلالية (Tags): غير محدد تعديل الدالاّت
التصنيفات
غير مصنف

التعليقات

  1. avatar7297_61
    ملاحظة : المقالة نُشِرَت عام 1966م
كتابة تعليق كتابة تعليق

مكسات على ايفون  مكسات على اندرويد  Rss  Facebook  Twitter