سوريا حرّة
01-03-2012, 17:41
http://www.mexat.com/vb/attachment.php?attachmentid=1672809&d=1336156535
حيى الله جميع الأعزاء في مكسات ...
أقف من الأحداث التي تجري في سوريا الحبيبة موقف المتفرج الأخرس , و لم ينقذي من حالة الإغماء الوجداني التي تلبستني في هذه الأيام - بعد الله بالتأكيد - سوى القلم , أمسكته و في القلب غصة , و في العين عبرة فجاد بغيض من فيض ...
بداية : أرجو من الجميع الترحم على موتى المسلمين في سوريا , نحسبهم شهداء عند الله و لا نزكي على الله أحدي .
اللهم رحماك رحماك في عبيدك المستضعفين في سوريا , اللهم غوثاك غوثاك في المسلمين المظلومين في سوريا , اللهم أنزل عليهم رحماتك تتلى , و أحط بغضبك و عذابك من ظلمهم من كل صوب و ناحية . اللهم من استقوى بقوته عليهم فإنّا نستقوي بقوتك عليه و أنت القوي العزيز , آمين ... آمين .
أترككم الآن مع حديث قلمي و أنينه ...
بسم الله الرحمن الرحيم
كان اسمها سوريا
- 60 -
أكتب الآن كلماتي , و ربما تكون الأخيرة , فلا أعلم متى قد تسقط فوق رأسي قذيفة هاون أو صاروخ أرض - جو , أو قنبلة مسمارية تحيل جسدي كشبكة الصيد , لكنني بت أشعر أنّ الكتابة لم تعد تلك الرفاهية التي نسلو بها أنفسنا أيام الشتاء , نكتب قرب المدفأة حيناً , ثم نرشف من كوب القهوة الدافئة حلوة المذاق حيناً آخر , أو نأخذ بضعاً من حبات الفستدق الممتلئ بها الصحن على الطاولة أمامنا التي رفعنا بقربها أقدامنا على مسندٍ غُطيَ بفراء ناعم و دافئ و نسترق النظر من وقت لأخر لشاشة التلفاز , فنضحك على مشهد كوميدي , أو نبكي على جزء محزن من الفلم أو ... نستهلك مشاعرنا في هراءٍ آخر .
لا لم تعد الكتابة في هذا الزمن الأغبر مهنة للامتاع و التسلية , لقد أصبحت شيئاً لا بد منه في وقت صُمَّت فيه الآذان و أُخرست الأفواه , لقد أصبحت فرضاً لا بد منه , أصبحت شهادة حق لا يسكت عنها إلّا شيطان أخرس .
الجدران من حولي ترتج الآن بقوة , يبدو أن القذيفة أو الصاروخ كان قريباً جداً هذه المرة , أكون كاذباً إن قلت أنني لست خائفاً , لكن ربما الشعور بالجوع و العطش لم يترك لغيره من المشاعر أيَّ مكان , حتى الحزن و الألم على موت والديّ و أخوتي الخمسة , الألم على شكل حمزة و ثامر , و الحزن القاتل على جثة الطفلة التي سُحبت مطحونة من تحت الأنقاض فأمضى من سحبوها الساعات لمعرفة كينونتها , هل هي يد مسحوقة ؟ , أم قطعة من رجل محترقة ؟ , حتى سمعنا أنين الأم المهشمة الأوصال : " هذه شيماء , رضيعتي شيماء ... " .
آهٍ يا بابا عمرو كيف تحولت مشاهد القتل فيك إلى روتين يتكلم عنه الجميع و هم يشاهدون مباريات كرة القدم كنوعٍ من إخلاء الضمير فحسب ؟ , مهلاً سأغير مكاني فالسقف من فوقي بدأ يتساقط فعلاً , حسناً سأجلس هنا , لا بأس برائحة الجثث المتكومة بجانبي بعد أن أصبح الخروج لدفن موتانا موتاً جديد , لقد أنتفخت و تغير لونها لكنني لا أزال أستطيع تميز وجه أخي الصغير " عمر " من بين الجثث , لقد بدأت دمعات بالنزول من عيني رغماً عني و دون إرادتي , ربما لأنني تذكرت وجهه الزاهي ورديّ الوجنتين , و عينيه العسليتين كأصفى عسل صنعته نحلة أبداً , شعره الأشقر الداكن و ضحكته البريئة التي تزول بها الآلآم و تبرئ لبرائتها المحضة الأوجاع , لحظة لقد بدأت الدمعات تمحي الحبر عن الورقة , أنتظروا لحظة لأمسحها بظاهر كفي المخضبة بدماء أمي , نعم لقد انتهيت الآن .
أريد أن أخبركم عن قصة الأب الذي مات طفله الذي لم يبلغ العاشرة قربه و هو جريح الرأس و الساق و الأذرع و لا يستطيع الوصول له حتى و لو زحفاً على دمائه , أريد أن أخبركم عن بيت جارنا " أبو أسعد " الذي دخلته شرذمة من تلك الكلاب الضالة ثلاثون أو يزيدون , كنت أريد أخبركم عن الصراخ الذي سمعناه من بيته رغم أختبائنا في قبو منزلنا , أستطعت أن أميز صوت " إبراهيم " , و " ثائر " و " لين " ذات الأربع أعوام , كنت أريد أن أخبركم عن الشباب اللذين أخذوهم من بيوتهم ليجد الأهالي جثثهم بعد أسبوعين ملقاة في أحد الخرب المهجورة , و قد تفحمت بعضها و تقطعت أجزاء بعضها و شوهت بعضها و ظهرت عليها آثار تعذيب تبكي لها العين دماً , فالصعق و الحرق و التقطيع و الثفب و نزع الأظافر و الحناجر و بقية الأساليب التي تقشعر لها أبدان مخبري محاكم التفتيش و المحققين النازيّن , كل ذلك أصبح اليوم حلالاً يمارس جهاراً نهاراً , فما أرحم سباع الأرض و وحوشها بعد ذلك ! .
كنت أريد أن أخبركم بكل تلك القصص و غيرها لولا أن ضباباً كثيفاً بدأ يحل على عيني , و لا أعلم أكان ذلك لأنني لم أكل شيئاً منذ حوالي خمسة أيام , أو بسبب البرد الشديد الذي نخر عظامي , أو ربما بسبب ذلك النزف المتواصل من الجرح الغائر الذي مزّق أحشائي ؟
- 6 -
" " حرية للأبد " ليكوا كتبا عالحيط غصب عن الأنّاصة اللي فوء كِل السطوح !"
" الله محيي شو رجّال "
" إشش دبابة , دبابة يا شباب ... عم تأصف , عم تأصف المسجد !!! , الله أكبر ... الله أكبر ... حسبنا الله و نعم الوكيل , حسبنا الله و نعم الوكيل , صوّرا , صوّرا صلاح صوّرا , حسبنا الله و نعم الوكيل "
" شو مطلعا الخالة هديك ؟ روح شوف شو بدا يزيد "
" يمكن بدا تشتري خبز ؟ "
" شو تشتري ما تشتري , روح عنّا و خليّا ترجع لبيتا , عم يخطفوا النسوان هالـ ... "
" لك مشان الله ياخالتي ارجعي لبيتك الله يخليك يا خالتي , أنا بروح بجيبلك ياللي بدك يا بس ارجعي انت , إحنا يدبحونا معليش بس إنتو ما يأربوا عليكن "
" اسحبوا ... اسحبوا ... من وين بينزف ؟ الله أكبر ... الله أكبر مات ... مات "
" عالجنة يا إمي ... يإبل الله يا إمي ... يا حبيبي أتلوك غدر ... يا الله يا الله ... انتأم منن يا الله ... عالجنة يا إمي عالجنة إن شا الله , و ين الإسلام ؟ ما ضل إسلام "
" يا الله يا جماعة أوموا صلاة العصر "
" هذه الآن طفلة تحتضر أمامي و لا أستطيع عمل شيء لها , المشفى يبعد عنّا أقل من مئة متر و لا نستطيع الوصول له , أكثر من ثلاثمئة قزيفة سقطت في ساعة واحدة , أناشد العرب أناشد الصليب الأحمر ... لم يبقى لنا إلّا الله ... حسبنا الله و نعم الوكيل ... حسبنا الله و نعم الوكيل "
" يا الله مالنا غيرك يا الله "
" هربنا من الدار لأنو ... لأنو كان ... كان أثف "
" معليش حِمْص معليش "
- 200 -
الصحفيَّة الحربيّة الأمريكية التي تنتعل حذاءً طويل الرقبة و تدوس به الحطام الذي امتد على طول البصر .
" كيث ... كيث ... لقد وجدنا هذه الورقة , أظن أن شيئاً كُتب عليها , لربما استطعنا قراءتها إن أخذناها للمعمل في كاليفورنيا "
وقفت قرب الرجل الذي ارتدى سترة كُتبت على منتصفها كلمة " press " , ناولته الورقة فأخذها و حدّق فيها قليلاً .
قالت له و هي تعيد ربط شعرها الأشقر الباهت و ترفع غرتها عن عينيها بدبوس شعر أسود : " سنأخذها هي و تلك الكاميرا , متأكدة أن بهما الكثير من الدلائل على جرائم ضد الإنسانية ارتكبت هنا , سنجعل الـ ... مهلاً كي ما الذي تفعله ؟ "
كان الرجل قد انتهى من تمزيق الورقة قطعاً صغيرة أمام عيني المرأة المصدومة , أخرج من جيبه الكاميرا و ألقى بها أرضاً , و نزل بحذائه الثقيل عليها يحطمها .
قالت و هي تصرخ و تحاول عبثاً ثنيه عن الذي يقوم به : " كيث توقف ... توقف أيها الأحمق هل جننت ؟ , توقف عن تحطيم الأدلة التي جئنا من أجلها , توقف أيها المعتوه ...
" مسكينة أنت يا باريس ... مسكينة ... "
رفع عينيه نحوها بعد أن توقف عن تحطيم الكاميرة التي استحالت ملايين القطع , ثم قال و في صوته الكثير من الخزي و الاشمئزاز : " أوتظنين أنهم لا يعلمون ؟ , هل تعتقدين أنهم لا يعلمون عن تلك القطة التي تموء هناك ؟ , بل عن تلك النملة على ذاك الحائط ؟ , مسكينة أنت يا عزيزتي , نحن هنا فقط ... لتكتمل المسرحية الهزلية الوضيعة ... "
ثم أخذ يمشي مثقلاً , متمنياً لو أن الأرض تنشق و تبتلعه ...
- 10 -
عزيزتي ...
لا أعلم كم من الوقت تبقى , لا أعلم حتى إن كان يتطلب عشرات أضعاف ما بُذل , لكن ألا ترين معي أن أمراً نبيلاً كهذا يستحق الكثير ؟
أعرف ... أعرف أنني لا أفقه حقيقة الأمر برمته , و أنني أتكلم من بعد آخر , و أن كلماتي أصبح يرددها الجميع كالببغان , أعلم كم أصبحت تشمئزين مني و من الأخرين أمثالي , أعلم كل هذا و لا ألومك , و ربما الآن قمتِ بتمزيق الرّسالة و دوسها أرضاً , فأنا في النهاية تركتكِ و أنت في أمسِّ حاجة لي , إن لم تكوني قد مزقت الورقة للآن , هل تأذنين أن تستمعي لآخر شيءٍ عندي , و بعد ذلك يمكنك تمزيق الورقة أو إشعالها و التدفئة عليها في الجو الزمهرير الذي أنت فيه ؟ ...
أنا أحبكِ , نعم رغم تخليَّ عنك أقسم أنني أحبك و لا أستطيع النوم ليلاً من شدة شوقي لك , و أعلمي أن الله قد أخذ بثأرك مني أضعافاً , فأنا ...
أموت في اليوم ألف ألف مرة ...
- 1 -
بالقرب من شجرة جوز ضخمة الجذع وجدتها ...
كانت تدلي أقدامها الصغيرة في الجدول هادئ الجريان و قد تحول لونهما للزهري الفاتح بسبب برودته المريحة , و ترفع فستانها الأبيض ذا الطبقات " الدانتيل " الكثيرة , ترفعه قليلاً حتى لا يبتل , و قد أخذت تهز أقدامها روحاً و إياباً فثير بذلك من حولها قطرات ماء كثيرة و تبلل العشب الأخضر الذي أحاط بها .
تشم الوردة الحمراء كلون خديها حيناً , و تحدق في أسراب الطيور التي تعمر السماء حيناً آخر , فبدت كإحدى الأميرات في القصص السرمديّة الأسطورية .
لم يكن يبدو عليه الحزن بتاتاً , و لا كأن مما كان قبل سنواتٍ قليلة قد حدث , نعم هي شاردة بعض الشيء , هي حزينة بعض الشيء , هي منهارة و تعبة بعض الشيء , هي خرجت كليّة من هذا العالم بعض الشي , لكنها بخيرٍ تماماً !! .
أقتربت منها و جلست إلى جانبها , لم تنتبه لي طويلاً , كانت تترنم بأغنية بصوتٍ خفيض فلم أستطع تميزها , قرابة الساعة نعم , بقيت قربها قرابة الساعة و هي لاتزال تعتكف في صومعة سكونها المشوب بتلك الدندنة الباهتة المشوشة .
حرّكت رأسها بعد ذلك نحوي ببطءٍ شديد , و قالت بصوتها الطفولي :
" هل أخبركِ بقصة ؟ " .
و كأن لساني عقد من رهبة صوتها المعجون بكل أحداث ما مضى من عمرها الصغير , حرّكتُ رأسي موافقة , فابتسمت ابتسامة مؤلمة ثم قالت و هي تعاود النظر لما تبقى من أسراب الطيور الذي رحل معظمها :
" حسناً سأخبرك تلك القصة ... قصةٌ ... كان اسمها ... سوريا " .
نظرت للوردة ثانية بكثير من الوجع , ثم أبعدت وجهها عنها لتكمل تحديقها في السماء الفارغة , و أكملت دندنتها لكن هذه المرّة بصوت أعلى ...
" سكابا يا دموع العين سكابا ...
على أحرار سوريا و شبابا ... "
- انتهى -
277
أسماء شاهر 2/29/2012
حيى الله جميع الأعزاء في مكسات ...
أقف من الأحداث التي تجري في سوريا الحبيبة موقف المتفرج الأخرس , و لم ينقذي من حالة الإغماء الوجداني التي تلبستني في هذه الأيام - بعد الله بالتأكيد - سوى القلم , أمسكته و في القلب غصة , و في العين عبرة فجاد بغيض من فيض ...
بداية : أرجو من الجميع الترحم على موتى المسلمين في سوريا , نحسبهم شهداء عند الله و لا نزكي على الله أحدي .
اللهم رحماك رحماك في عبيدك المستضعفين في سوريا , اللهم غوثاك غوثاك في المسلمين المظلومين في سوريا , اللهم أنزل عليهم رحماتك تتلى , و أحط بغضبك و عذابك من ظلمهم من كل صوب و ناحية . اللهم من استقوى بقوته عليهم فإنّا نستقوي بقوتك عليه و أنت القوي العزيز , آمين ... آمين .
أترككم الآن مع حديث قلمي و أنينه ...
بسم الله الرحمن الرحيم
كان اسمها سوريا
- 60 -
أكتب الآن كلماتي , و ربما تكون الأخيرة , فلا أعلم متى قد تسقط فوق رأسي قذيفة هاون أو صاروخ أرض - جو , أو قنبلة مسمارية تحيل جسدي كشبكة الصيد , لكنني بت أشعر أنّ الكتابة لم تعد تلك الرفاهية التي نسلو بها أنفسنا أيام الشتاء , نكتب قرب المدفأة حيناً , ثم نرشف من كوب القهوة الدافئة حلوة المذاق حيناً آخر , أو نأخذ بضعاً من حبات الفستدق الممتلئ بها الصحن على الطاولة أمامنا التي رفعنا بقربها أقدامنا على مسندٍ غُطيَ بفراء ناعم و دافئ و نسترق النظر من وقت لأخر لشاشة التلفاز , فنضحك على مشهد كوميدي , أو نبكي على جزء محزن من الفلم أو ... نستهلك مشاعرنا في هراءٍ آخر .
لا لم تعد الكتابة في هذا الزمن الأغبر مهنة للامتاع و التسلية , لقد أصبحت شيئاً لا بد منه في وقت صُمَّت فيه الآذان و أُخرست الأفواه , لقد أصبحت فرضاً لا بد منه , أصبحت شهادة حق لا يسكت عنها إلّا شيطان أخرس .
الجدران من حولي ترتج الآن بقوة , يبدو أن القذيفة أو الصاروخ كان قريباً جداً هذه المرة , أكون كاذباً إن قلت أنني لست خائفاً , لكن ربما الشعور بالجوع و العطش لم يترك لغيره من المشاعر أيَّ مكان , حتى الحزن و الألم على موت والديّ و أخوتي الخمسة , الألم على شكل حمزة و ثامر , و الحزن القاتل على جثة الطفلة التي سُحبت مطحونة من تحت الأنقاض فأمضى من سحبوها الساعات لمعرفة كينونتها , هل هي يد مسحوقة ؟ , أم قطعة من رجل محترقة ؟ , حتى سمعنا أنين الأم المهشمة الأوصال : " هذه شيماء , رضيعتي شيماء ... " .
آهٍ يا بابا عمرو كيف تحولت مشاهد القتل فيك إلى روتين يتكلم عنه الجميع و هم يشاهدون مباريات كرة القدم كنوعٍ من إخلاء الضمير فحسب ؟ , مهلاً سأغير مكاني فالسقف من فوقي بدأ يتساقط فعلاً , حسناً سأجلس هنا , لا بأس برائحة الجثث المتكومة بجانبي بعد أن أصبح الخروج لدفن موتانا موتاً جديد , لقد أنتفخت و تغير لونها لكنني لا أزال أستطيع تميز وجه أخي الصغير " عمر " من بين الجثث , لقد بدأت دمعات بالنزول من عيني رغماً عني و دون إرادتي , ربما لأنني تذكرت وجهه الزاهي ورديّ الوجنتين , و عينيه العسليتين كأصفى عسل صنعته نحلة أبداً , شعره الأشقر الداكن و ضحكته البريئة التي تزول بها الآلآم و تبرئ لبرائتها المحضة الأوجاع , لحظة لقد بدأت الدمعات تمحي الحبر عن الورقة , أنتظروا لحظة لأمسحها بظاهر كفي المخضبة بدماء أمي , نعم لقد انتهيت الآن .
أريد أن أخبركم عن قصة الأب الذي مات طفله الذي لم يبلغ العاشرة قربه و هو جريح الرأس و الساق و الأذرع و لا يستطيع الوصول له حتى و لو زحفاً على دمائه , أريد أن أخبركم عن بيت جارنا " أبو أسعد " الذي دخلته شرذمة من تلك الكلاب الضالة ثلاثون أو يزيدون , كنت أريد أخبركم عن الصراخ الذي سمعناه من بيته رغم أختبائنا في قبو منزلنا , أستطعت أن أميز صوت " إبراهيم " , و " ثائر " و " لين " ذات الأربع أعوام , كنت أريد أن أخبركم عن الشباب اللذين أخذوهم من بيوتهم ليجد الأهالي جثثهم بعد أسبوعين ملقاة في أحد الخرب المهجورة , و قد تفحمت بعضها و تقطعت أجزاء بعضها و شوهت بعضها و ظهرت عليها آثار تعذيب تبكي لها العين دماً , فالصعق و الحرق و التقطيع و الثفب و نزع الأظافر و الحناجر و بقية الأساليب التي تقشعر لها أبدان مخبري محاكم التفتيش و المحققين النازيّن , كل ذلك أصبح اليوم حلالاً يمارس جهاراً نهاراً , فما أرحم سباع الأرض و وحوشها بعد ذلك ! .
كنت أريد أن أخبركم بكل تلك القصص و غيرها لولا أن ضباباً كثيفاً بدأ يحل على عيني , و لا أعلم أكان ذلك لأنني لم أكل شيئاً منذ حوالي خمسة أيام , أو بسبب البرد الشديد الذي نخر عظامي , أو ربما بسبب ذلك النزف المتواصل من الجرح الغائر الذي مزّق أحشائي ؟
- 6 -
" " حرية للأبد " ليكوا كتبا عالحيط غصب عن الأنّاصة اللي فوء كِل السطوح !"
" الله محيي شو رجّال "
" إشش دبابة , دبابة يا شباب ... عم تأصف , عم تأصف المسجد !!! , الله أكبر ... الله أكبر ... حسبنا الله و نعم الوكيل , حسبنا الله و نعم الوكيل , صوّرا , صوّرا صلاح صوّرا , حسبنا الله و نعم الوكيل "
" شو مطلعا الخالة هديك ؟ روح شوف شو بدا يزيد "
" يمكن بدا تشتري خبز ؟ "
" شو تشتري ما تشتري , روح عنّا و خليّا ترجع لبيتا , عم يخطفوا النسوان هالـ ... "
" لك مشان الله ياخالتي ارجعي لبيتك الله يخليك يا خالتي , أنا بروح بجيبلك ياللي بدك يا بس ارجعي انت , إحنا يدبحونا معليش بس إنتو ما يأربوا عليكن "
" اسحبوا ... اسحبوا ... من وين بينزف ؟ الله أكبر ... الله أكبر مات ... مات "
" عالجنة يا إمي ... يإبل الله يا إمي ... يا حبيبي أتلوك غدر ... يا الله يا الله ... انتأم منن يا الله ... عالجنة يا إمي عالجنة إن شا الله , و ين الإسلام ؟ ما ضل إسلام "
" يا الله يا جماعة أوموا صلاة العصر "
" هذه الآن طفلة تحتضر أمامي و لا أستطيع عمل شيء لها , المشفى يبعد عنّا أقل من مئة متر و لا نستطيع الوصول له , أكثر من ثلاثمئة قزيفة سقطت في ساعة واحدة , أناشد العرب أناشد الصليب الأحمر ... لم يبقى لنا إلّا الله ... حسبنا الله و نعم الوكيل ... حسبنا الله و نعم الوكيل "
" يا الله مالنا غيرك يا الله "
" هربنا من الدار لأنو ... لأنو كان ... كان أثف "
" معليش حِمْص معليش "
- 200 -
الصحفيَّة الحربيّة الأمريكية التي تنتعل حذاءً طويل الرقبة و تدوس به الحطام الذي امتد على طول البصر .
" كيث ... كيث ... لقد وجدنا هذه الورقة , أظن أن شيئاً كُتب عليها , لربما استطعنا قراءتها إن أخذناها للمعمل في كاليفورنيا "
وقفت قرب الرجل الذي ارتدى سترة كُتبت على منتصفها كلمة " press " , ناولته الورقة فأخذها و حدّق فيها قليلاً .
قالت له و هي تعيد ربط شعرها الأشقر الباهت و ترفع غرتها عن عينيها بدبوس شعر أسود : " سنأخذها هي و تلك الكاميرا , متأكدة أن بهما الكثير من الدلائل على جرائم ضد الإنسانية ارتكبت هنا , سنجعل الـ ... مهلاً كي ما الذي تفعله ؟ "
كان الرجل قد انتهى من تمزيق الورقة قطعاً صغيرة أمام عيني المرأة المصدومة , أخرج من جيبه الكاميرا و ألقى بها أرضاً , و نزل بحذائه الثقيل عليها يحطمها .
قالت و هي تصرخ و تحاول عبثاً ثنيه عن الذي يقوم به : " كيث توقف ... توقف أيها الأحمق هل جننت ؟ , توقف عن تحطيم الأدلة التي جئنا من أجلها , توقف أيها المعتوه ...
" مسكينة أنت يا باريس ... مسكينة ... "
رفع عينيه نحوها بعد أن توقف عن تحطيم الكاميرة التي استحالت ملايين القطع , ثم قال و في صوته الكثير من الخزي و الاشمئزاز : " أوتظنين أنهم لا يعلمون ؟ , هل تعتقدين أنهم لا يعلمون عن تلك القطة التي تموء هناك ؟ , بل عن تلك النملة على ذاك الحائط ؟ , مسكينة أنت يا عزيزتي , نحن هنا فقط ... لتكتمل المسرحية الهزلية الوضيعة ... "
ثم أخذ يمشي مثقلاً , متمنياً لو أن الأرض تنشق و تبتلعه ...
- 10 -
عزيزتي ...
لا أعلم كم من الوقت تبقى , لا أعلم حتى إن كان يتطلب عشرات أضعاف ما بُذل , لكن ألا ترين معي أن أمراً نبيلاً كهذا يستحق الكثير ؟
أعرف ... أعرف أنني لا أفقه حقيقة الأمر برمته , و أنني أتكلم من بعد آخر , و أن كلماتي أصبح يرددها الجميع كالببغان , أعلم كم أصبحت تشمئزين مني و من الأخرين أمثالي , أعلم كل هذا و لا ألومك , و ربما الآن قمتِ بتمزيق الرّسالة و دوسها أرضاً , فأنا في النهاية تركتكِ و أنت في أمسِّ حاجة لي , إن لم تكوني قد مزقت الورقة للآن , هل تأذنين أن تستمعي لآخر شيءٍ عندي , و بعد ذلك يمكنك تمزيق الورقة أو إشعالها و التدفئة عليها في الجو الزمهرير الذي أنت فيه ؟ ...
أنا أحبكِ , نعم رغم تخليَّ عنك أقسم أنني أحبك و لا أستطيع النوم ليلاً من شدة شوقي لك , و أعلمي أن الله قد أخذ بثأرك مني أضعافاً , فأنا ...
أموت في اليوم ألف ألف مرة ...
- 1 -
بالقرب من شجرة جوز ضخمة الجذع وجدتها ...
كانت تدلي أقدامها الصغيرة في الجدول هادئ الجريان و قد تحول لونهما للزهري الفاتح بسبب برودته المريحة , و ترفع فستانها الأبيض ذا الطبقات " الدانتيل " الكثيرة , ترفعه قليلاً حتى لا يبتل , و قد أخذت تهز أقدامها روحاً و إياباً فثير بذلك من حولها قطرات ماء كثيرة و تبلل العشب الأخضر الذي أحاط بها .
تشم الوردة الحمراء كلون خديها حيناً , و تحدق في أسراب الطيور التي تعمر السماء حيناً آخر , فبدت كإحدى الأميرات في القصص السرمديّة الأسطورية .
لم يكن يبدو عليه الحزن بتاتاً , و لا كأن مما كان قبل سنواتٍ قليلة قد حدث , نعم هي شاردة بعض الشيء , هي حزينة بعض الشيء , هي منهارة و تعبة بعض الشيء , هي خرجت كليّة من هذا العالم بعض الشي , لكنها بخيرٍ تماماً !! .
أقتربت منها و جلست إلى جانبها , لم تنتبه لي طويلاً , كانت تترنم بأغنية بصوتٍ خفيض فلم أستطع تميزها , قرابة الساعة نعم , بقيت قربها قرابة الساعة و هي لاتزال تعتكف في صومعة سكونها المشوب بتلك الدندنة الباهتة المشوشة .
حرّكت رأسها بعد ذلك نحوي ببطءٍ شديد , و قالت بصوتها الطفولي :
" هل أخبركِ بقصة ؟ " .
و كأن لساني عقد من رهبة صوتها المعجون بكل أحداث ما مضى من عمرها الصغير , حرّكتُ رأسي موافقة , فابتسمت ابتسامة مؤلمة ثم قالت و هي تعاود النظر لما تبقى من أسراب الطيور الذي رحل معظمها :
" حسناً سأخبرك تلك القصة ... قصةٌ ... كان اسمها ... سوريا " .
نظرت للوردة ثانية بكثير من الوجع , ثم أبعدت وجهها عنها لتكمل تحديقها في السماء الفارغة , و أكملت دندنتها لكن هذه المرّة بصوت أعلى ...
" سكابا يا دموع العين سكابا ...
على أحرار سوريا و شبابا ... "
- انتهى -
277
أسماء شاهر 2/29/2012