glass lady
04-09-2011, 07:17
.
.
.
http://m7ml.com/uploads7/d95d2dcd9b.gif
.
.
.
دقَ جرسُ المدرسةِ في تمام الساعة الثامنة , سارت الخطواتُ بينَ مُسرِعَةٍ وبطيئة .. تَرتبت الفتياتُ في صفوفٍ منتظمة , واخيراً استَقَرَ الجميعُ في الباحةِ الكبيرة ..
الجميع قد حَضَرن, فالتجمع في باحة المدرسةِ صباحَ كُلِ يَومٍ هو من عادات تلك المدرسة الثانوية الشهيرة ولعله يُعتَبَرُ نَوعَاً من الدروسِ فيها ..
وكما في كل يوم تتقدم الناظرة ذات الاثنين وخمسين عاماً لـ تُلقي كَلمتها التي تختص بموضوعٍ مُحدد..وكان موضوع صبيحة يوم الخميس هو موضوعٌ عامٌ شهير .. موضوع ما اكثر من تحدثَ به وكتب عنه .. أنه ~الوطن ..
أخذت الناظرة تتحدث بكلمةٍ موجزةٍ عن الوطن ولم تُطِل كثيراً حتى تَرَكت الفرصة لـ طالباتها عَلَ أحداهُنَ تتقدمُ بِبِضعِ كلماتٍ لـ تَلتَمِسَ الناظرة ثقافةَ تلاميذاتها ومدى المستوى العلمي الذي وَصَلنَ اليه ..
علا صوتُ الهَمس .. ليملئَ الباحة ..!
الموضوع لم يَكُن بتلكَ الصعوبة.. فالجميع كتبَ عنهُ في دروس التعبير وقرأوا عليهِ في الأدب والشعر وحتى في اللغات , لم يَكَد درسٌ يخلوا من ذِكرِ ~الوطن
التاريخ يصف امجادَ ~ الوطن والحضارة
الجُغرافية تَصِفُ موقعَ ~ الوطن وأهميتهُ
وما اكثر الشعراء والكتاب الذين تغزلوا بأوطانهم في الأدبِ والشعر ..
لكن طالبةٌ واحدة خَرَجَت من بينِ صفوف الأُخريات الكثيرة ..طالبة سَبَقَت كل الفتيات..!
بعدها فقط لَم يُسمَع سِوا قَرعِ حِذاءِها الجِلدي الأَسود وهي تَتَحركُ صَوبَ مُكَبِرِ الصَوت ..
كانت تلك الفتاةُ غَريبَةً عن هذهِ البلاد , غَامِضة هي أبرز صفاتها , هَادِئة بعيدة بشخصيتها كُلَ البُعد عن المشاركة بأيةِ فَعالية ..
فقد كانت مُنعَزِلَةً عن الاخرين إنعزالاً تَاماً .. وهذا ما دَفَعَ عَلاماتِ الدَهشة لـ تَرتَسِمَ على وجوهِ المُدَرِساتِ قَبلَ الطالبات ..
اذ لم يسبق لتلكَ الطالبة أَن وَقَفَت في باحةِ المدرسةِ وتَحدثت أَمامَ الجميعِ يَوماً ..!
وبَقَدَرِ علامات الدهشة غَمرَ الجميع حماسٌ واضح ,اذ ان الفضولَ أَشبَعَ تلكَ العيون التي تَلَئلَئَت رَغبةً في مَعرفةِ كلمات الطالبة وما سَتجودُ بِهِ قَريحَتِها من اوصافٍ عَن ~موطنها ذلكَ الموطِنُ الذي لم تعرفهُ الفتيات او يرينه..!
اخيراً وَصَلَت الى المنصة , سَحَبَت مكبرَ الصوت ولم تكُن قَد حَمَلت بين يديها أَيةَ أَوراق.. لم تُحَضِر لذلك الموضوعِ حَتى ..!
لكنها خرجَت بجرأَةٍ نادرة ووقفت أمام أكثَرِ مِن خمسَمِئَةِ طَالبة , فتحت عينيها الفيروزيتين بعد أَن استقرت مُنتَصِبَةَ القامة ونَسيمُ نَيسانَ العليلَ يُداعِبُ خِصلاتِ شَعرِها الأَسودِ النَاعِمِ والطويل ..
.
.
.
http://m7ml.com/uploads7/674af69efe.jpg
في المساءِ المُتَقِد أَسمَعُ صَوتَ صافرة .. صافرةُ آخِرِ قِطارٍ غَادَرَ المَحطة ..حَيثُ رَكِبتُ فِيهِ ..وَجَلست انتظرَ
وِعندما حَلَ الظلام ..
جَلَست ايضاً..
جَلستُ وَحدي حَزينة وأَنا في طريق عَودَتي الى بلادي ..
ثَانِيةً ..!
سَمِعتُ صَوتَ صَافِرَةٍ مِن بَعيد ..!
انتظرتُ طَويلاً
لكني
لم أصل ..!
لم أركب..!
كَانَ ذَلك َتَخيُلاً ..
لَقد تَخيلتُ القِطار ..
نَعم تَخيلتُ بلادي ..
تِلكَ الكلمة الدافئة كـَ شَمسِ حُزيران , النَقية كـَ مَطَرِ يناير , بلادي كانت واحةٌ غَناء .. أَشجارٌ وارفَة الظِلال.. أحاسيسُ مُرهَفةٌ وسماءُ زَرقاء..اناس بأيدٍ وَجَسَدٍ بَناء..
بلادي عصافيرٌ مُغَرِدَة ومصابيحُ نَيرَة..
إن سَألتني عن صَباحٍ فَـ صباحُها شَمسُ بَاسِمَة وإن أردتَ أن تسمعَ مني عن ليلها فهو كحُلُ عينٍ حانية..
بلادي بلادي بلادي أَجدوا وأُغَني بلادي بلادي..
كَـ رحيقِ زَهرَةٍ والناسُ مِن حَولها نَهَلوا.. بلادي جَنَةٌ مُخضَرَةٌ والفراشاتُ بها تَتَجوَلُ.. بلادي اشجارُ زَيتون.. نَهرٌ وَعُيون ..ماءُها صَافٍ حُلوٌ كَـ العَسَلِ المُصَفى إن شَربتهُ لا تلبَثُ حتى تَشفى..
~ كُلُ تلكَ الكلمات أَجدُتُ كِتابَتها لـِ بلادي .. وكم مرةً كَرَرتُها .. رُحتُ أُدونُها غَزَلَاً وأرسُمها زَهرَةً وأَحكيها شِعراً .. سَمعتها مُنذُ اجدادي وتناقلتها عَنهم .. كَم مَرةً نَطَقَ بِها لساني ..!..كَم مرةً حاكتها شِفاهي..!
أَنا أَقِفُ أَمامَكُم بعدَ أن خَرجتُ دُونَ تَردد لأَصِفَ بلادي وأُنشِدَ عَنها الابيات ..وأَملئ الساحات والصفحات ..
لكن لو كانَ الموضوعُ عَن الصِدقِ اليوم لَكُنتُ آخِرَ مَن يَخرُج .. لأنِي بِكُلِ مَا قُلتُهُ الآن لَستُ إلا ~ كَاذِبَة ..!
وها أَنا أواجِهُ نَفسي أمامكم وأَعرِفُ الخَطأَ والصَواب ..لقد اخطأت حينَ كتبت وكتبت حباً وغزلا في الوطن أنا نادمةٌ فِعلاً ما كان يجب أن أَكذِب .. كَم أُحِسُ بتأنيب الضمير لن اعود الى الزييف ثانيةً..
فما وصفتها لم تكن بلادي بل بلادُ أجدادي ..!
فلو كَانت بلادي بروعةِ كلماتي التي أَصِفُها .. لما غادرتُها الآن وكُنتُ بَينكم..!
لم اعرف لم الجميع يتَغنى بها مُنذُ صِغَري..!.. كم شَاعِراً كَتَبَ عنها حُبَاً وحياةً حَتى غَدَت كلماتهم أَغاني تُغَنَى
بـــلادي بــــلادي بــــــــــلادي ... لكِ حـــــُبي وحـــــــياتي
لكن إن أردُتُ أَن أَقِفَ أمامَ المِرآة وأَواجِهَ نَفسي فَـ بلادي اليوم بالنسبةِ لي لَن أُهديها ~حُبي لأَنَ الحُبَ كَلمةٌ مُبهَمَةٌ فِيها لن تجدها حتى في المنزل الواحد ولن تعثُرَ عليها حتى بين أفراد الاسرة الواحدة ..
فالجميعُ هناك مُنشَغِلونَ بِـ كُرهِ بعضهم البعض وقتلِ بعضم البعض ..حتى باتوا اليومَ أَحاديثَ تتناقَلُها الصُحُفُ وسَبقٌ تتسابق عليهِ قنواتُ الصحفين والأخبار ..
فـَكيفَ أُهديها حباً والحُبُ فيها معدوم ..!
وأما عن ~ حياتي فلا ضرورةِ ان اهديها لـ بلادي لأنها ليستَ ثمينةً فِيها.. إذ إنَ حَياةَ الكلابِ مُقَدَسَةٌ فِي بلادي أَكثَرُ من حياة البشر ..
وإن سَألتني عن ~الأخلاصِ والإخاء فَهو اليومَ تَقتيلٌ وإجلاء ..
ستقولونَ لِي والحضارةُ والأَمجاد ..؟!
فدعوني أُخبركم إذن اينَ هِيَ الآن .. !
إنها في مَتحَفِ اللوفَر ..
وهل تعرفون أَينَ مَتحَفُ اللوفَر .. ؟
إنهُ في باريس ..
وهل باريس في بلادي ..؟
أبداً ..
لَم يُدافِع أَهلُ بِلادي اليومَ حَتى عن تُراثِهم ..!
ان اراد السُياحُ أَن يَروا أَمجادَ بلادي فَهل سيأتونَ إليها ..؟
كلا .. لأنَها حَربٌ تَستَعِر ..
سيذهبونَ هُناكَ الى باريس .. لـ يجدونَ أَمجادَ أجدادي مُعَلَقةً هُناكَ وقد نُسِبت لقومٍ ليسوا بأحفادهم أبداً .. !
وأَما أَهلُ بِلادي فَلَم يُجيدوا سِوا هَدمِ مَا بَنى الأجداد ..الناسُ في بلادي لم يُعودوا بَشراً .. بل إنَ قَوانِينَ الغابة أَرحَمٌ مِن القَوانينِ التي تحكُم بِلادي في هذا الزَمن ..!
اذ إنَ الحيواناتِ في الغابة من ذوات نَفسِ الجِنس تُدافِعُ عَن بعضها تَحمي بَعضها وتتعاونُ فيما بينها من أَجلِ البَقاء ..
لكنَ الناس في بلادي يَذبحونَ بعضهم الآخر وهم في نفسِ البيت تَظِلُهم سَماءٌ واحِدَة ..تَسقِيهِم أَرضٌ واحِدَة ..يَتناسَونُ فِي لَحظةٍ كُلَ أَيامَ الصفاءِ والإخاء ومشاعرَ الأخلاصِ والمحبة بَينهم ويهدمونها بـ طَرفَةِ عَين ..يقتلونها دُونَ تَردُد ..
الناسُ هُناك تَحولوا الى قناعٍ مُصطَنَعُ اللونِ كذوب .. خلفَ وداعتهِ إختَبَئَ الحِقد المشبوب .. والمجتمع البشري أضحى أسير أحلام الكبووس ..والرحمةُ باتت كلمةً تُقرأُ فقط في القاموس ..
ان أجادوا شيئاً فهو إنهم يُعيبُونَ زَمانَهم والعيبُ فِيهم مُتَشَعِبٌ ..لَو غَيرُوا ما في نُفوسِهم قَليلًا لـَ تَغيروا ..
لكنهم آثروا الطَمَعَ والجَشَع وبدلاً من إعمارِ بُلدَانِهم.. إقتَتَلوا بينهم وَظَلت بلادي شَمعةً تَحتَرِقُ وَتَحتَرق ..
لا تتعجبنَ مما أقول .. إنها الحقيقية ولماذا نَسرَحُ فِي خَيالِ الكلماتِ إن لَم نَنقُلَ الواقِعَ والحقيقة ..
بلادي ليست واحَةً غَناء.. بَل غَابَةٌ جَرداء ..
مَياهُهَا لم تَعُد صافيةَ ..بل باتت مالحةً..
لَانها من دُموعِ المظلومينَ إرتوت حتى فاضَت ..
بلادي أَميرَةٌ جُثةَ ..!
بل إنها جثمانٌ في ثياب عروس .. زُفَت فِي مراسيمِ تَتويجِها على أَصواتِ أَنينِها .. ثُمَ أُقتيتَت للمَقبَرةِ واستَقرت فَيها ..
وُئِدَت هُناكَ وَهيَ بِنتُ العِشرين .. وُئِدَت فِي ثَوبِ زِفافِها ..
فلِما أُغازِلُها زوراً فَهل سَمِعتَ يَوماً عاشِقَاً وَقَعَ فِي غَرامِ
جُثَمان ..!
يؤلمني أن أتحدثَ عن أجمل أيامِ حياتي لأنَ أجملها هو يومَ تَركتُها ..!
اجل لم أَعُد راغِبةً بأن أَعودَ اليها .. فَتـلكَ البلادُ لَم تعد بلادَ هارونَ الرشيد الذهبية .. ولم تَعُد بِلادَ الإخاءِ القوية .. سَكنها الأَغرابُ وَعشعَشَت عَلى شُرُفَاتِها الغِربان ..
تركوا سِيرةَ الانبياءِ فَضعُفوا وهَانوا ومُلوكُ العالمِ فِي الماضي قَد كانوا ..
لم أَقتُل الأمَلَ بِكلماتي هَذهِ.. بَل هُم مَن قتلوهُ بشعلةٍ من بارود.. ثمَ نثروا فوقها أشلاء ورود
.
.
.
http://m7ml.com/uploads7/ba88304649.jpg
.
.
.
لكن تَبقى في القلبِ تِلكَ الشَمعةُ المُضيئة ~ شمعةُ الايمان
لعلها تتوقد في قلوبِ العبادِ لتُنيرَ من جديدٍ كل فؤاد .. لَعلَها تُوقِضُ النَفسَ وتُعيدُ الروحَ لِـ صَدرِ تِلكَ العَروس .. عَلها تَنهضُ يَوماً وتُمسكَ زِمامَ الأَمور .. عَلَ مَن حَولها من البلدان الجيران تَصحوا ضَماءِرُهم النَائِمة لـ يَمُدوا أيدِيهم اليها لَيسَ لِرجمِهَا كَما فَعلوا وليس لِوئدها كما إعتادوا ..
بَل لـ سَندِها والأَخذِ بَيمينها ..عِندها فَقط سَتــــعود ..ونعـــود..
الالم ضَروري .. أَجل ضروري ..حَتى نُصَحِحَ أخطائَنا ونعودَ للصواب ..فالإنسانُ السَوي يَحُسُ بَتأنيبِ الضمير ويشعُرُ بالندم أيضاً.. فَيحاولِ جَاهِداً أَن يَبتَعِدَ عَما بَدَر مِنهُ وَيواجِهَ الحقيقةَ بشجاعة ..فمواجَهةُ الحقيقةِ أَفضلُ مِنَ الهروبِ مِنها الى نَسجِ خَيالٍ لا صِلَةِ لَهُ بالواقع ..
أَلســــتُم مَـــــعي فِــــي ذَلــــك ..!
فكوني يا بلادي قوية .. وأَنهضي كما عَرَفَكِ التاريخ وكما حَلَمتُ بِكِ في كُلِ لَيلة ..
كُوني كَذلك
أو
لا تَكوني ..!
.
.
.
يُسمَعُ قَرعُ الحِذاءِ العائِدِ مِن جَديد .. تَتجاوز الصُفوفَ لـِ تَقِفَ فِي الرُكنِ البعيد .. وَيخيمُ عَليها الهدوء ..
يعلوا بعدها دَويُ تصفيقٍ حار .. عَلى مَشاعرَ زُجاجيةً مُحطمةً وَقلبٍ مِن نار ..
لـِ تُسدَلَ السِتار ..!
.
.
http://m7ml.com/uploads7/d95d2dcd9b.gif
.
.
.
دقَ جرسُ المدرسةِ في تمام الساعة الثامنة , سارت الخطواتُ بينَ مُسرِعَةٍ وبطيئة .. تَرتبت الفتياتُ في صفوفٍ منتظمة , واخيراً استَقَرَ الجميعُ في الباحةِ الكبيرة ..
الجميع قد حَضَرن, فالتجمع في باحة المدرسةِ صباحَ كُلِ يَومٍ هو من عادات تلك المدرسة الثانوية الشهيرة ولعله يُعتَبَرُ نَوعَاً من الدروسِ فيها ..
وكما في كل يوم تتقدم الناظرة ذات الاثنين وخمسين عاماً لـ تُلقي كَلمتها التي تختص بموضوعٍ مُحدد..وكان موضوع صبيحة يوم الخميس هو موضوعٌ عامٌ شهير .. موضوع ما اكثر من تحدثَ به وكتب عنه .. أنه ~الوطن ..
أخذت الناظرة تتحدث بكلمةٍ موجزةٍ عن الوطن ولم تُطِل كثيراً حتى تَرَكت الفرصة لـ طالباتها عَلَ أحداهُنَ تتقدمُ بِبِضعِ كلماتٍ لـ تَلتَمِسَ الناظرة ثقافةَ تلاميذاتها ومدى المستوى العلمي الذي وَصَلنَ اليه ..
علا صوتُ الهَمس .. ليملئَ الباحة ..!
الموضوع لم يَكُن بتلكَ الصعوبة.. فالجميع كتبَ عنهُ في دروس التعبير وقرأوا عليهِ في الأدب والشعر وحتى في اللغات , لم يَكَد درسٌ يخلوا من ذِكرِ ~الوطن
التاريخ يصف امجادَ ~ الوطن والحضارة
الجُغرافية تَصِفُ موقعَ ~ الوطن وأهميتهُ
وما اكثر الشعراء والكتاب الذين تغزلوا بأوطانهم في الأدبِ والشعر ..
لكن طالبةٌ واحدة خَرَجَت من بينِ صفوف الأُخريات الكثيرة ..طالبة سَبَقَت كل الفتيات..!
بعدها فقط لَم يُسمَع سِوا قَرعِ حِذاءِها الجِلدي الأَسود وهي تَتَحركُ صَوبَ مُكَبِرِ الصَوت ..
كانت تلك الفتاةُ غَريبَةً عن هذهِ البلاد , غَامِضة هي أبرز صفاتها , هَادِئة بعيدة بشخصيتها كُلَ البُعد عن المشاركة بأيةِ فَعالية ..
فقد كانت مُنعَزِلَةً عن الاخرين إنعزالاً تَاماً .. وهذا ما دَفَعَ عَلاماتِ الدَهشة لـ تَرتَسِمَ على وجوهِ المُدَرِساتِ قَبلَ الطالبات ..
اذ لم يسبق لتلكَ الطالبة أَن وَقَفَت في باحةِ المدرسةِ وتَحدثت أَمامَ الجميعِ يَوماً ..!
وبَقَدَرِ علامات الدهشة غَمرَ الجميع حماسٌ واضح ,اذ ان الفضولَ أَشبَعَ تلكَ العيون التي تَلَئلَئَت رَغبةً في مَعرفةِ كلمات الطالبة وما سَتجودُ بِهِ قَريحَتِها من اوصافٍ عَن ~موطنها ذلكَ الموطِنُ الذي لم تعرفهُ الفتيات او يرينه..!
اخيراً وَصَلَت الى المنصة , سَحَبَت مكبرَ الصوت ولم تكُن قَد حَمَلت بين يديها أَيةَ أَوراق.. لم تُحَضِر لذلك الموضوعِ حَتى ..!
لكنها خرجَت بجرأَةٍ نادرة ووقفت أمام أكثَرِ مِن خمسَمِئَةِ طَالبة , فتحت عينيها الفيروزيتين بعد أَن استقرت مُنتَصِبَةَ القامة ونَسيمُ نَيسانَ العليلَ يُداعِبُ خِصلاتِ شَعرِها الأَسودِ النَاعِمِ والطويل ..
.
.
.
http://m7ml.com/uploads7/674af69efe.jpg
في المساءِ المُتَقِد أَسمَعُ صَوتَ صافرة .. صافرةُ آخِرِ قِطارٍ غَادَرَ المَحطة ..حَيثُ رَكِبتُ فِيهِ ..وَجَلست انتظرَ
وِعندما حَلَ الظلام ..
جَلَست ايضاً..
جَلستُ وَحدي حَزينة وأَنا في طريق عَودَتي الى بلادي ..
ثَانِيةً ..!
سَمِعتُ صَوتَ صَافِرَةٍ مِن بَعيد ..!
انتظرتُ طَويلاً
لكني
لم أصل ..!
لم أركب..!
كَانَ ذَلك َتَخيُلاً ..
لَقد تَخيلتُ القِطار ..
نَعم تَخيلتُ بلادي ..
تِلكَ الكلمة الدافئة كـَ شَمسِ حُزيران , النَقية كـَ مَطَرِ يناير , بلادي كانت واحةٌ غَناء .. أَشجارٌ وارفَة الظِلال.. أحاسيسُ مُرهَفةٌ وسماءُ زَرقاء..اناس بأيدٍ وَجَسَدٍ بَناء..
بلادي عصافيرٌ مُغَرِدَة ومصابيحُ نَيرَة..
إن سَألتني عن صَباحٍ فَـ صباحُها شَمسُ بَاسِمَة وإن أردتَ أن تسمعَ مني عن ليلها فهو كحُلُ عينٍ حانية..
بلادي بلادي بلادي أَجدوا وأُغَني بلادي بلادي..
كَـ رحيقِ زَهرَةٍ والناسُ مِن حَولها نَهَلوا.. بلادي جَنَةٌ مُخضَرَةٌ والفراشاتُ بها تَتَجوَلُ.. بلادي اشجارُ زَيتون.. نَهرٌ وَعُيون ..ماءُها صَافٍ حُلوٌ كَـ العَسَلِ المُصَفى إن شَربتهُ لا تلبَثُ حتى تَشفى..
~ كُلُ تلكَ الكلمات أَجدُتُ كِتابَتها لـِ بلادي .. وكم مرةً كَرَرتُها .. رُحتُ أُدونُها غَزَلَاً وأرسُمها زَهرَةً وأَحكيها شِعراً .. سَمعتها مُنذُ اجدادي وتناقلتها عَنهم .. كَم مَرةً نَطَقَ بِها لساني ..!..كَم مرةً حاكتها شِفاهي..!
أَنا أَقِفُ أَمامَكُم بعدَ أن خَرجتُ دُونَ تَردد لأَصِفَ بلادي وأُنشِدَ عَنها الابيات ..وأَملئ الساحات والصفحات ..
لكن لو كانَ الموضوعُ عَن الصِدقِ اليوم لَكُنتُ آخِرَ مَن يَخرُج .. لأنِي بِكُلِ مَا قُلتُهُ الآن لَستُ إلا ~ كَاذِبَة ..!
وها أَنا أواجِهُ نَفسي أمامكم وأَعرِفُ الخَطأَ والصَواب ..لقد اخطأت حينَ كتبت وكتبت حباً وغزلا في الوطن أنا نادمةٌ فِعلاً ما كان يجب أن أَكذِب .. كَم أُحِسُ بتأنيب الضمير لن اعود الى الزييف ثانيةً..
فما وصفتها لم تكن بلادي بل بلادُ أجدادي ..!
فلو كَانت بلادي بروعةِ كلماتي التي أَصِفُها .. لما غادرتُها الآن وكُنتُ بَينكم..!
لم اعرف لم الجميع يتَغنى بها مُنذُ صِغَري..!.. كم شَاعِراً كَتَبَ عنها حُبَاً وحياةً حَتى غَدَت كلماتهم أَغاني تُغَنَى
بـــلادي بــــلادي بــــــــــلادي ... لكِ حـــــُبي وحـــــــياتي
لكن إن أردُتُ أَن أَقِفَ أمامَ المِرآة وأَواجِهَ نَفسي فَـ بلادي اليوم بالنسبةِ لي لَن أُهديها ~حُبي لأَنَ الحُبَ كَلمةٌ مُبهَمَةٌ فِيها لن تجدها حتى في المنزل الواحد ولن تعثُرَ عليها حتى بين أفراد الاسرة الواحدة ..
فالجميعُ هناك مُنشَغِلونَ بِـ كُرهِ بعضهم البعض وقتلِ بعضم البعض ..حتى باتوا اليومَ أَحاديثَ تتناقَلُها الصُحُفُ وسَبقٌ تتسابق عليهِ قنواتُ الصحفين والأخبار ..
فـَكيفَ أُهديها حباً والحُبُ فيها معدوم ..!
وأما عن ~ حياتي فلا ضرورةِ ان اهديها لـ بلادي لأنها ليستَ ثمينةً فِيها.. إذ إنَ حَياةَ الكلابِ مُقَدَسَةٌ فِي بلادي أَكثَرُ من حياة البشر ..
وإن سَألتني عن ~الأخلاصِ والإخاء فَهو اليومَ تَقتيلٌ وإجلاء ..
ستقولونَ لِي والحضارةُ والأَمجاد ..؟!
فدعوني أُخبركم إذن اينَ هِيَ الآن .. !
إنها في مَتحَفِ اللوفَر ..
وهل تعرفون أَينَ مَتحَفُ اللوفَر .. ؟
إنهُ في باريس ..
وهل باريس في بلادي ..؟
أبداً ..
لَم يُدافِع أَهلُ بِلادي اليومَ حَتى عن تُراثِهم ..!
ان اراد السُياحُ أَن يَروا أَمجادَ بلادي فَهل سيأتونَ إليها ..؟
كلا .. لأنَها حَربٌ تَستَعِر ..
سيذهبونَ هُناكَ الى باريس .. لـ يجدونَ أَمجادَ أجدادي مُعَلَقةً هُناكَ وقد نُسِبت لقومٍ ليسوا بأحفادهم أبداً .. !
وأَما أَهلُ بِلادي فَلَم يُجيدوا سِوا هَدمِ مَا بَنى الأجداد ..الناسُ في بلادي لم يُعودوا بَشراً .. بل إنَ قَوانِينَ الغابة أَرحَمٌ مِن القَوانينِ التي تحكُم بِلادي في هذا الزَمن ..!
اذ إنَ الحيواناتِ في الغابة من ذوات نَفسِ الجِنس تُدافِعُ عَن بعضها تَحمي بَعضها وتتعاونُ فيما بينها من أَجلِ البَقاء ..
لكنَ الناس في بلادي يَذبحونَ بعضهم الآخر وهم في نفسِ البيت تَظِلُهم سَماءٌ واحِدَة ..تَسقِيهِم أَرضٌ واحِدَة ..يَتناسَونُ فِي لَحظةٍ كُلَ أَيامَ الصفاءِ والإخاء ومشاعرَ الأخلاصِ والمحبة بَينهم ويهدمونها بـ طَرفَةِ عَين ..يقتلونها دُونَ تَردُد ..
الناسُ هُناك تَحولوا الى قناعٍ مُصطَنَعُ اللونِ كذوب .. خلفَ وداعتهِ إختَبَئَ الحِقد المشبوب .. والمجتمع البشري أضحى أسير أحلام الكبووس ..والرحمةُ باتت كلمةً تُقرأُ فقط في القاموس ..
ان أجادوا شيئاً فهو إنهم يُعيبُونَ زَمانَهم والعيبُ فِيهم مُتَشَعِبٌ ..لَو غَيرُوا ما في نُفوسِهم قَليلًا لـَ تَغيروا ..
لكنهم آثروا الطَمَعَ والجَشَع وبدلاً من إعمارِ بُلدَانِهم.. إقتَتَلوا بينهم وَظَلت بلادي شَمعةً تَحتَرِقُ وَتَحتَرق ..
لا تتعجبنَ مما أقول .. إنها الحقيقية ولماذا نَسرَحُ فِي خَيالِ الكلماتِ إن لَم نَنقُلَ الواقِعَ والحقيقة ..
بلادي ليست واحَةً غَناء.. بَل غَابَةٌ جَرداء ..
مَياهُهَا لم تَعُد صافيةَ ..بل باتت مالحةً..
لَانها من دُموعِ المظلومينَ إرتوت حتى فاضَت ..
بلادي أَميرَةٌ جُثةَ ..!
بل إنها جثمانٌ في ثياب عروس .. زُفَت فِي مراسيمِ تَتويجِها على أَصواتِ أَنينِها .. ثُمَ أُقتيتَت للمَقبَرةِ واستَقرت فَيها ..
وُئِدَت هُناكَ وَهيَ بِنتُ العِشرين .. وُئِدَت فِي ثَوبِ زِفافِها ..
فلِما أُغازِلُها زوراً فَهل سَمِعتَ يَوماً عاشِقَاً وَقَعَ فِي غَرامِ
جُثَمان ..!
يؤلمني أن أتحدثَ عن أجمل أيامِ حياتي لأنَ أجملها هو يومَ تَركتُها ..!
اجل لم أَعُد راغِبةً بأن أَعودَ اليها .. فَتـلكَ البلادُ لَم تعد بلادَ هارونَ الرشيد الذهبية .. ولم تَعُد بِلادَ الإخاءِ القوية .. سَكنها الأَغرابُ وَعشعَشَت عَلى شُرُفَاتِها الغِربان ..
تركوا سِيرةَ الانبياءِ فَضعُفوا وهَانوا ومُلوكُ العالمِ فِي الماضي قَد كانوا ..
لم أَقتُل الأمَلَ بِكلماتي هَذهِ.. بَل هُم مَن قتلوهُ بشعلةٍ من بارود.. ثمَ نثروا فوقها أشلاء ورود
.
.
.
http://m7ml.com/uploads7/ba88304649.jpg
.
.
.
لكن تَبقى في القلبِ تِلكَ الشَمعةُ المُضيئة ~ شمعةُ الايمان
لعلها تتوقد في قلوبِ العبادِ لتُنيرَ من جديدٍ كل فؤاد .. لَعلَها تُوقِضُ النَفسَ وتُعيدُ الروحَ لِـ صَدرِ تِلكَ العَروس .. عَلها تَنهضُ يَوماً وتُمسكَ زِمامَ الأَمور .. عَلَ مَن حَولها من البلدان الجيران تَصحوا ضَماءِرُهم النَائِمة لـ يَمُدوا أيدِيهم اليها لَيسَ لِرجمِهَا كَما فَعلوا وليس لِوئدها كما إعتادوا ..
بَل لـ سَندِها والأَخذِ بَيمينها ..عِندها فَقط سَتــــعود ..ونعـــود..
الالم ضَروري .. أَجل ضروري ..حَتى نُصَحِحَ أخطائَنا ونعودَ للصواب ..فالإنسانُ السَوي يَحُسُ بَتأنيبِ الضمير ويشعُرُ بالندم أيضاً.. فَيحاولِ جَاهِداً أَن يَبتَعِدَ عَما بَدَر مِنهُ وَيواجِهَ الحقيقةَ بشجاعة ..فمواجَهةُ الحقيقةِ أَفضلُ مِنَ الهروبِ مِنها الى نَسجِ خَيالٍ لا صِلَةِ لَهُ بالواقع ..
أَلســــتُم مَـــــعي فِــــي ذَلــــك ..!
فكوني يا بلادي قوية .. وأَنهضي كما عَرَفَكِ التاريخ وكما حَلَمتُ بِكِ في كُلِ لَيلة ..
كُوني كَذلك
أو
لا تَكوني ..!
.
.
.
يُسمَعُ قَرعُ الحِذاءِ العائِدِ مِن جَديد .. تَتجاوز الصُفوفَ لـِ تَقِفَ فِي الرُكنِ البعيد .. وَيخيمُ عَليها الهدوء ..
يعلوا بعدها دَويُ تصفيقٍ حار .. عَلى مَشاعرَ زُجاجيةً مُحطمةً وَقلبٍ مِن نار ..
لـِ تُسدَلَ السِتار ..!