Kikumaru Eiji
05-03-2011, 15:11
بقعة ضوء في ظلمة بئر
كل يوم يمر علي ألوم فيه نفسي، لأن قدمي وطئت أعتاب هذه القرية اللعينة، رغم صغرها وقلة عدد سكانها، إلا أنها لا تخلو من الحاقدين الأشرار الذين يطاردونني منذ ولادتي، لم يقدموا لي حتى غرفة أدفئ فيها جسدي النحيل من برد الشتاء القارص، كل ذلك لأنني أحمل قطة صغيرة، وجدتها ترتجف قرب مدخل القرية، وهي تنتظر الشفقة من أحدهم، لم أستطع منع نفسي من الابتسام فور رؤيتي لها، شعرت بأنها تنادي باسمي، متوسلةً إلي كي آخذها بين أحضاني، بدت لي كطفلِ رضيع فقد حنان والدته بسنِ مبكرة، مددت يدي إليها لأفرك رأسها المغطى بالفرو الأبيض الناعم، فور ملامستي لها انتقلت مشاعرها نحو قلبي مخترقة صدري، شعرت بمدى وحدتها وحاجتها للدفء والأمان، فعانقتها بذراعي اللتين كادتا أن تتجمدا من شدة البرد ليلاً، لكن ويا للأسف لم يكن جسدي كفيلاً بتدفئتها، فلا يغطيه سوى ثوب رمادي قصير ممزق الأطراف مع حزام يلتف حول خصري يكاد يقع من شدة ضعفي، نعم هذا صحيح.. فلم يدخل إلى جوفي أي طعام منذ أسبوع كامل، رغم ذلك لا أستسلم مطلقاً، فكلي أمل بأن حياتي ستصبح أفضل ذات يوم لا محالة.
سرت بمنتصف ذلك الشارع الضيق الذي تحيط به المنازل الخشبية من كل جانب، حاملةً القطة بين ذراعي، والابتسامة لا تفارق شفتي المتوردتين، فأنا لم أكن وحيدة على أية حال، بقيت أتبادل أطراف الحديث مع صديقتي الجديدة التي قدر لي الالتقاء بها، إنها القطة (إيري) فلقد قررت تسميتها بهذا الاسم وقد يتعجب البعض مني .. لكنها الحقيقة، إنه السبب الذي جعل الناس يتحاشونني ويتخلون عني كذلك.
قدرتي على فهم هذه المخلوقات الضعيفة جعلت مني شخصاً منبوذاً في المجتمع، لكني لا أهتم، سأواجه مصيري أياً كان.
توقفت عن السير عند هبوب ريح قوية جعلت خصلات شعري الذهبية الذابلة تتطاير في الهواء، ماءت (إيري) لي عند شعورها بمدى ضعفي، فقلت لها بصوتٍ مسموع:
ـ لا تقلقي، سنكون بخير ما دمنا معاً، أعدك بذلك.. سوف أوفر لكِ مكاناً آمناً تعيشين فيه يا صغيرتي.
حينها، لمعت عيناها الزرقاوات الجميلة بسعادة، رافقها مواءٌ جذاب مع ابتسامتها، دمعت عيناي للمرة الأولى أمامها وقلت بنبرة مرتجفة:
ـ أشكرك (إيري)، أشكركِ كثيراً على شعوركِ بي، لم أشعر بذلك منذ زمن طويل.
فركت عيني اليسرى بيدي محاولةً إيقاف دموعي، لكن دون جدوى فقد بدأت أجهش بالبكاء دون توقف، مع استمراري بالحديث معها:
ـ اسمعيني جيداً (إيري)، حتى لو تخلى كل العالم عنكِ، لا تضعفي أبداً.. عليكِ أن تكوني قوية، سوف تكبرين بالتأكيد وتنجبين العديد من الأطفال، من الآن وحتى ذلك الحين، ستفهمين إلى أي مدى هذه الحياة قاسية، لكن لا تهتمي حتى إن افترقنا أو مت أنا، تذكري كلماتي التي زرعتها بقلبكِ يا صغيرتي..و..
توقف لساني عن النطق عند تناثر الدماء من كتفي جراء طلقة نارية جاءت من الخلف، أعاقت حركتي لتسقط (إيري) أرضاً، بينما جثيت بركبتي على الأرض، وأنا أسمع صوت رجل يصرخ بعنف قائلاً بنبرة قاسية اعتدت عليها:
ـ أمازلتِ هنا أيتها الفتاة اللعينة؟ .. ارحلي حالاً وإلا قمنا باستدعاء الشرطة.
ـ لمَ لا تفعل ذلك إذن؟!
أدرت رأسي للوراء لأرى رجال ونساء القرية يجتمعون خلف ذلك الرجل الذي يحمل بندقيته مصوباً فوهتها نحوي، أغمضت عيني بعدما أخفضت رأسي لتنسدل خصلة من شعري على وجهي، مع ابتسامة رسمتها على شفتي وأنا أقول واضعةً كفي على كتفي الغارق بالدماء:
ـ أعلم بأنكم هنا، لا داعي للاختباء كالجبناء خلف مجموعة من الضعفاء الذين لا حول لهم ولا قوة.
تغيرت نبرتي الهادئة إلى متوحشة غاضبة، مع اتساع عيناي لأقصى حدودها، وصراخي بألم:
ـ عرفت أنكم لن تتركونني وشأني ما دمت على قيد الحياة، لماذا لا تقومون بقتلي إذن؟ ألم تملوا من مطاردتي أينما ذهبت؟!
صككت على أسناني بشدة حين خرج رجلان من بين الحشود، يغطيهما السواد من رأسيهما لأخمص أقدامهم، لم أرى ملامحهم قط لكنني حفظت مظهرهم جيداً، فمنذ أن كنت بالسادسة من عمري لم يكفا عن مطاردتي من مكانِ لآخر ليحققوا ما يريدونه، اهتز حاجباي بانزعاج وقلت عاقدةُ قبضتي اليمنى:
ـ ما الذي تريدان مني فعله؟
نطق أحدهم بعبارات كثيرة كأنه آلة كانت تنتظر الأمر بالكلام، حيث قال بحزم وهو يقف باستقامة:
ـ لن نقوم بقتلك طبعاً، فنحن نريد إجراء بعض الاختبارات عليكِ أولاً، لذا تعالي معنا دون مقاومة وإلا سنضطر إلى قتل أحد الأطفال المتواجدين هنا.
صرخت عليه دون أن أشعر بما نطق به لساني:
ـ إياك أن تفعل ذلك، سوف آتي معكم إلى أي مكان شرط أن تكفوا عن إيذاء الآخرين لأسباب سخيفة كهذه أيها المجرمون الأوغاد.
أرجع ذراعيه خلف ظهره وقال بنفس النبرة السابقة:
ـ حسناً، أسرعي من فضلك.
تذكرت في تلك اللحظة (إيري) التي تقف خلفي، التفت إليها لأرى حزن العالم بأكمله في عينيها، عرفت أنها تبكي بعمق من أجلي، رغم تلك الظروف ابتسمت لها بمرح وقلت:
ـ سأكون بخير، بالتأكيد.
فجأة، قفزت نحوي متشبثة بملابسي المهترئة، لعقت وجنتي بلطف لتمحو تلك الابتسامة كلياً، احتل الحزن مكانها، رفعت يدي إليها لأمسح على ظهرها هامسة:
ـ إنه وقت الفراق، لن أتمكن من أخذكِ معي، سامحيني لأنني لم أفي بوعدي... (إيري).. غادري هذه القرية حالاً، واهتمي بنفسكِ جيداً.
ما إن أنهيت كلماتي تلك حتى وضعتها على الأرض، والدموع تغرق عيني، انتصبت واقفة على قدمي مديرةً ظهري لها، سرت بخطوات متقاربة متأملة أن يتوقف الزمن، أو تنتهي حياتي قبل وصولي إليهم، لكن مواء (إيري) لي كان يزيد من عزيمتي مع مرور كل ثانية، فور وقوفي أمام أولئك الرجال ركضت القطة نحوي طالبةً مني عدم الرحيل وتركها وحيدة، قلت بتلك اللحظة بأعلى صوتي:
ـ لا تقتربي أكثر، ألا تفهمين ما قلته لكِ؟
أدرت رأسي إليها لترى اشتعال الغضب في عيني، تابعت قولي محركةً ذراعي بانفعال عندما توقفت عن الركض:
ـ ارحلي.. قلت لكِ ارحلي حالاً من هذه القرية، عيشي حياتك دون تراجع، أرجوكِ (إيري).
تراجعت للخلف مع ارتجاف جسدها، ولم تمر إلا بضع ثوانٍ حتى ركضت مغادرة بعيداً عني، الصديقة الوحيدة التي وقفت بجانبي، وأحست بمشاعري ونبض قلبي قد ذهبت الآن، شعرت بألم يعتصر صدري و كأن خنجراً حاداً يجتث أوردتي و ينغرس بداخلي، مسحت علامات الحزن عن ملامحي وبدلتها بملامح جادة أمام أولئك الرجال، حين أوشكت على الكلام صفق أحدهم بحرارة وقال بحماس:
ـ هذا ما توقعته من الفتاة الملعونة، ستكونين ثروة كبيرة للرئيس بالتأكيد.
انتكس رأسي للأسفل وقلت بهدوء:
ـ خذني إلى حيث تريد أرجوك، فلم أعد أطيق البقاء هنا أكثر.
طلبت ذلك لأنني لم أعد قادرة على تحمل نظرات الآخرين المتسلطة علي، عيون حاقدة حتى من الأطفال، بدأت أتسائل حقاً..(لماذا لم تغادر روحي هذا العالم يوم ولدتني أمي؟)..
انغمست في ظلام تلك العصبة التي ربطوها على عيني، قدمي كانت تسير حسب إرادتهم هم لا إرادتي أنا، لم أشعر بالخوف مطلقاً وكأن المشاعر قد انتشلت من قلبي تاركة إياه ينبض في برود مطلق ويتجمد ببطء، كنت على أتم الاستعداد لمجابهة قدري المحتوم، كل ما قدر لي منذ ولادتي، سيحدث الآن، لن أندم للحظة على ما فعلته بحياتي، ها قد وصلت لربيعي الثامن عشر، ولن أخشى شيئاً بعد الآن..
أوقفوني عن متابعة السير بعد لحظات ثم أدخلوني إلى قفص استشعرت صغر حجمه بعدما ضاقت أركانه على جسدي النحيل ، وفهمت من خلاله مشاعر تلك المخلوقات الضعيفة التي تُحبس هنا، يبدو أنني لم أعد أختلف عنهم في شيء، لا أدري لماذا انتابتني رغبة في الضحك، ضحكت بصوتٍ غير مسموع يجعل البعض يظن أنني غريبة الأطوار لكني لست كذلك، أنا سعيدة، لن أهرب بعد الآن، مطلقاً..
احتضنت ساقي بين ذراعي متذكرةً برودة (إيري) اللطيفة، ترى ما الذي تفعله صغيرتي في هذا الوقت؟!
تنهدت بعمق وقررت الخلود للنوم، لربما أتمكن من رؤية حياة سعيدة بداخل أحلامي، بدلاً من مواصلة الكابوس الذي أشاهده يومياً في حياتي الواقعية، ما زلت أجهل حقاً ما سيفعلونه بي أولئك الأشخاص، ولا ارغب بمعرفته أيضاً، غفوت لا شعورياً من شدة الإعياء، نمت وأنا أهمس لنفسي:
ـ ليتها تكون الأخيرة.
فتحت عيني على اهتزاز القفص الذي أمكث فيه، فرفعت رأسي لعلي أعرف ما يجري، لكن لا جدوى من ذلك، عيناي لا تزالان على حالها، و قد تم ربط حبل غليظ حول معصمي يمتد منه حبل آخر ملتفٌ حول عنقي، ربما فعلوا ذلك أثناء نومي ولم أشعر بهم، ترى ما الذي يحدث لي؟..! نبضات قلبي بدأت تتسارع وكأنه يحاول الهرب بعيداً عني ! حتى أعضائي ترغب بالتخلي عني؟.. من يريدني إذاً؟.. كانت تلك هي المرة الأولى التي أندم فيها على العيش، إحساس قاتل أن تحيا كشخص منبوذ بين الجميع ، أليس من المفترض أن أعتاد عليه! عضضت شفتي السفلى بقوة حتى نزفت دماً، رافقتها دموعي التي بدأت تنهمر دون توقف..
أنا خائفة، لماذا أنا خائفة؟!.. جسدي يرتعش بصورة غريبة، أريد الموت.. أرغب بالموت في هذه اللحظة..
كل يوم يمر علي ألوم فيه نفسي، لأن قدمي وطئت أعتاب هذه القرية اللعينة، رغم صغرها وقلة عدد سكانها، إلا أنها لا تخلو من الحاقدين الأشرار الذين يطاردونني منذ ولادتي، لم يقدموا لي حتى غرفة أدفئ فيها جسدي النحيل من برد الشتاء القارص، كل ذلك لأنني أحمل قطة صغيرة، وجدتها ترتجف قرب مدخل القرية، وهي تنتظر الشفقة من أحدهم، لم أستطع منع نفسي من الابتسام فور رؤيتي لها، شعرت بأنها تنادي باسمي، متوسلةً إلي كي آخذها بين أحضاني، بدت لي كطفلِ رضيع فقد حنان والدته بسنِ مبكرة، مددت يدي إليها لأفرك رأسها المغطى بالفرو الأبيض الناعم، فور ملامستي لها انتقلت مشاعرها نحو قلبي مخترقة صدري، شعرت بمدى وحدتها وحاجتها للدفء والأمان، فعانقتها بذراعي اللتين كادتا أن تتجمدا من شدة البرد ليلاً، لكن ويا للأسف لم يكن جسدي كفيلاً بتدفئتها، فلا يغطيه سوى ثوب رمادي قصير ممزق الأطراف مع حزام يلتف حول خصري يكاد يقع من شدة ضعفي، نعم هذا صحيح.. فلم يدخل إلى جوفي أي طعام منذ أسبوع كامل، رغم ذلك لا أستسلم مطلقاً، فكلي أمل بأن حياتي ستصبح أفضل ذات يوم لا محالة.
سرت بمنتصف ذلك الشارع الضيق الذي تحيط به المنازل الخشبية من كل جانب، حاملةً القطة بين ذراعي، والابتسامة لا تفارق شفتي المتوردتين، فأنا لم أكن وحيدة على أية حال، بقيت أتبادل أطراف الحديث مع صديقتي الجديدة التي قدر لي الالتقاء بها، إنها القطة (إيري) فلقد قررت تسميتها بهذا الاسم وقد يتعجب البعض مني .. لكنها الحقيقة، إنه السبب الذي جعل الناس يتحاشونني ويتخلون عني كذلك.
قدرتي على فهم هذه المخلوقات الضعيفة جعلت مني شخصاً منبوذاً في المجتمع، لكني لا أهتم، سأواجه مصيري أياً كان.
توقفت عن السير عند هبوب ريح قوية جعلت خصلات شعري الذهبية الذابلة تتطاير في الهواء، ماءت (إيري) لي عند شعورها بمدى ضعفي، فقلت لها بصوتٍ مسموع:
ـ لا تقلقي، سنكون بخير ما دمنا معاً، أعدك بذلك.. سوف أوفر لكِ مكاناً آمناً تعيشين فيه يا صغيرتي.
حينها، لمعت عيناها الزرقاوات الجميلة بسعادة، رافقها مواءٌ جذاب مع ابتسامتها، دمعت عيناي للمرة الأولى أمامها وقلت بنبرة مرتجفة:
ـ أشكرك (إيري)، أشكركِ كثيراً على شعوركِ بي، لم أشعر بذلك منذ زمن طويل.
فركت عيني اليسرى بيدي محاولةً إيقاف دموعي، لكن دون جدوى فقد بدأت أجهش بالبكاء دون توقف، مع استمراري بالحديث معها:
ـ اسمعيني جيداً (إيري)، حتى لو تخلى كل العالم عنكِ، لا تضعفي أبداً.. عليكِ أن تكوني قوية، سوف تكبرين بالتأكيد وتنجبين العديد من الأطفال، من الآن وحتى ذلك الحين، ستفهمين إلى أي مدى هذه الحياة قاسية، لكن لا تهتمي حتى إن افترقنا أو مت أنا، تذكري كلماتي التي زرعتها بقلبكِ يا صغيرتي..و..
توقف لساني عن النطق عند تناثر الدماء من كتفي جراء طلقة نارية جاءت من الخلف، أعاقت حركتي لتسقط (إيري) أرضاً، بينما جثيت بركبتي على الأرض، وأنا أسمع صوت رجل يصرخ بعنف قائلاً بنبرة قاسية اعتدت عليها:
ـ أمازلتِ هنا أيتها الفتاة اللعينة؟ .. ارحلي حالاً وإلا قمنا باستدعاء الشرطة.
ـ لمَ لا تفعل ذلك إذن؟!
أدرت رأسي للوراء لأرى رجال ونساء القرية يجتمعون خلف ذلك الرجل الذي يحمل بندقيته مصوباً فوهتها نحوي، أغمضت عيني بعدما أخفضت رأسي لتنسدل خصلة من شعري على وجهي، مع ابتسامة رسمتها على شفتي وأنا أقول واضعةً كفي على كتفي الغارق بالدماء:
ـ أعلم بأنكم هنا، لا داعي للاختباء كالجبناء خلف مجموعة من الضعفاء الذين لا حول لهم ولا قوة.
تغيرت نبرتي الهادئة إلى متوحشة غاضبة، مع اتساع عيناي لأقصى حدودها، وصراخي بألم:
ـ عرفت أنكم لن تتركونني وشأني ما دمت على قيد الحياة، لماذا لا تقومون بقتلي إذن؟ ألم تملوا من مطاردتي أينما ذهبت؟!
صككت على أسناني بشدة حين خرج رجلان من بين الحشود، يغطيهما السواد من رأسيهما لأخمص أقدامهم، لم أرى ملامحهم قط لكنني حفظت مظهرهم جيداً، فمنذ أن كنت بالسادسة من عمري لم يكفا عن مطاردتي من مكانِ لآخر ليحققوا ما يريدونه، اهتز حاجباي بانزعاج وقلت عاقدةُ قبضتي اليمنى:
ـ ما الذي تريدان مني فعله؟
نطق أحدهم بعبارات كثيرة كأنه آلة كانت تنتظر الأمر بالكلام، حيث قال بحزم وهو يقف باستقامة:
ـ لن نقوم بقتلك طبعاً، فنحن نريد إجراء بعض الاختبارات عليكِ أولاً، لذا تعالي معنا دون مقاومة وإلا سنضطر إلى قتل أحد الأطفال المتواجدين هنا.
صرخت عليه دون أن أشعر بما نطق به لساني:
ـ إياك أن تفعل ذلك، سوف آتي معكم إلى أي مكان شرط أن تكفوا عن إيذاء الآخرين لأسباب سخيفة كهذه أيها المجرمون الأوغاد.
أرجع ذراعيه خلف ظهره وقال بنفس النبرة السابقة:
ـ حسناً، أسرعي من فضلك.
تذكرت في تلك اللحظة (إيري) التي تقف خلفي، التفت إليها لأرى حزن العالم بأكمله في عينيها، عرفت أنها تبكي بعمق من أجلي، رغم تلك الظروف ابتسمت لها بمرح وقلت:
ـ سأكون بخير، بالتأكيد.
فجأة، قفزت نحوي متشبثة بملابسي المهترئة، لعقت وجنتي بلطف لتمحو تلك الابتسامة كلياً، احتل الحزن مكانها، رفعت يدي إليها لأمسح على ظهرها هامسة:
ـ إنه وقت الفراق، لن أتمكن من أخذكِ معي، سامحيني لأنني لم أفي بوعدي... (إيري).. غادري هذه القرية حالاً، واهتمي بنفسكِ جيداً.
ما إن أنهيت كلماتي تلك حتى وضعتها على الأرض، والدموع تغرق عيني، انتصبت واقفة على قدمي مديرةً ظهري لها، سرت بخطوات متقاربة متأملة أن يتوقف الزمن، أو تنتهي حياتي قبل وصولي إليهم، لكن مواء (إيري) لي كان يزيد من عزيمتي مع مرور كل ثانية، فور وقوفي أمام أولئك الرجال ركضت القطة نحوي طالبةً مني عدم الرحيل وتركها وحيدة، قلت بتلك اللحظة بأعلى صوتي:
ـ لا تقتربي أكثر، ألا تفهمين ما قلته لكِ؟
أدرت رأسي إليها لترى اشتعال الغضب في عيني، تابعت قولي محركةً ذراعي بانفعال عندما توقفت عن الركض:
ـ ارحلي.. قلت لكِ ارحلي حالاً من هذه القرية، عيشي حياتك دون تراجع، أرجوكِ (إيري).
تراجعت للخلف مع ارتجاف جسدها، ولم تمر إلا بضع ثوانٍ حتى ركضت مغادرة بعيداً عني، الصديقة الوحيدة التي وقفت بجانبي، وأحست بمشاعري ونبض قلبي قد ذهبت الآن، شعرت بألم يعتصر صدري و كأن خنجراً حاداً يجتث أوردتي و ينغرس بداخلي، مسحت علامات الحزن عن ملامحي وبدلتها بملامح جادة أمام أولئك الرجال، حين أوشكت على الكلام صفق أحدهم بحرارة وقال بحماس:
ـ هذا ما توقعته من الفتاة الملعونة، ستكونين ثروة كبيرة للرئيس بالتأكيد.
انتكس رأسي للأسفل وقلت بهدوء:
ـ خذني إلى حيث تريد أرجوك، فلم أعد أطيق البقاء هنا أكثر.
طلبت ذلك لأنني لم أعد قادرة على تحمل نظرات الآخرين المتسلطة علي، عيون حاقدة حتى من الأطفال، بدأت أتسائل حقاً..(لماذا لم تغادر روحي هذا العالم يوم ولدتني أمي؟)..
انغمست في ظلام تلك العصبة التي ربطوها على عيني، قدمي كانت تسير حسب إرادتهم هم لا إرادتي أنا، لم أشعر بالخوف مطلقاً وكأن المشاعر قد انتشلت من قلبي تاركة إياه ينبض في برود مطلق ويتجمد ببطء، كنت على أتم الاستعداد لمجابهة قدري المحتوم، كل ما قدر لي منذ ولادتي، سيحدث الآن، لن أندم للحظة على ما فعلته بحياتي، ها قد وصلت لربيعي الثامن عشر، ولن أخشى شيئاً بعد الآن..
أوقفوني عن متابعة السير بعد لحظات ثم أدخلوني إلى قفص استشعرت صغر حجمه بعدما ضاقت أركانه على جسدي النحيل ، وفهمت من خلاله مشاعر تلك المخلوقات الضعيفة التي تُحبس هنا، يبدو أنني لم أعد أختلف عنهم في شيء، لا أدري لماذا انتابتني رغبة في الضحك، ضحكت بصوتٍ غير مسموع يجعل البعض يظن أنني غريبة الأطوار لكني لست كذلك، أنا سعيدة، لن أهرب بعد الآن، مطلقاً..
احتضنت ساقي بين ذراعي متذكرةً برودة (إيري) اللطيفة، ترى ما الذي تفعله صغيرتي في هذا الوقت؟!
تنهدت بعمق وقررت الخلود للنوم، لربما أتمكن من رؤية حياة سعيدة بداخل أحلامي، بدلاً من مواصلة الكابوس الذي أشاهده يومياً في حياتي الواقعية، ما زلت أجهل حقاً ما سيفعلونه بي أولئك الأشخاص، ولا ارغب بمعرفته أيضاً، غفوت لا شعورياً من شدة الإعياء، نمت وأنا أهمس لنفسي:
ـ ليتها تكون الأخيرة.
فتحت عيني على اهتزاز القفص الذي أمكث فيه، فرفعت رأسي لعلي أعرف ما يجري، لكن لا جدوى من ذلك، عيناي لا تزالان على حالها، و قد تم ربط حبل غليظ حول معصمي يمتد منه حبل آخر ملتفٌ حول عنقي، ربما فعلوا ذلك أثناء نومي ولم أشعر بهم، ترى ما الذي يحدث لي؟..! نبضات قلبي بدأت تتسارع وكأنه يحاول الهرب بعيداً عني ! حتى أعضائي ترغب بالتخلي عني؟.. من يريدني إذاً؟.. كانت تلك هي المرة الأولى التي أندم فيها على العيش، إحساس قاتل أن تحيا كشخص منبوذ بين الجميع ، أليس من المفترض أن أعتاد عليه! عضضت شفتي السفلى بقوة حتى نزفت دماً، رافقتها دموعي التي بدأت تنهمر دون توقف..
أنا خائفة، لماذا أنا خائفة؟!.. جسدي يرتعش بصورة غريبة، أريد الموت.. أرغب بالموت في هذه اللحظة..