أنـس
12-07-2010, 23:46
.
مدينـة السعـادة
.
واقفاً على تلك الربوة الخضراء ساعةَ الفجر الأولى، أشرفت على منظر بديع، لم أعلم لفرط جماله أفي يقظة أنا أم في حلم ! كانت مدينة شاسعة مترامية الأطراف، بسيطة البناء أنيقة العمران، تبدو من الناظر إليها من بعيد جنة خضراء تتناثر فيها الأبنية والصروح، ويحيط بها سور عظيم تتوسطه بوابة عملاقة، لمحت من فوق الربوة بيوتها الواسعة مساحةً، البسيطة بناءً والبديعة إتقاناً وفناً، ولمحت بينها أفنية واسعة تحدها بواسق الأشجار وتظللها روائع الأغصان، وبين أحيائها مساحات خضراء وساحات وحدائق ذات بهجة فيها من كل أصناف الأشجار والأعشاب والزهور الملونة التي تسلب الألباب بنضارة ألوانها واختلاف أشكالها وأحجامها، وتتخلل جوانب الحدائق مقاعد رخامية مبتكرة الشكل تفتن العقول في تقوّس حوافها ورونق ألوانها وجمال بنائها، وكان فيما لمحت وأنا مطل على ذلك المنظر الفتان بناءً عظيماً شاسع المساحة يتوسط المدينة، وتتوسط البناء ساحة وسيعة تحيط بها الأقواس الرخامية والعاجية المزخرفة من كل الجهات، وعلى يمين البناء منارة أشبه بالصرح الشامخ منحازة جهة الشرق، ويعلوها شكل أشبه بالهلال ...
انحدرت متلهفاً وبي شوق لزيارة هذه المدينة التي لم أر لها مثيلاً حتى فيما تقع عليه الأوهام، ومشيت قاصداً بوابتها العملاقة كأنها قوس مصوّب نحو السماء، متوسطاً سور المدينة الحجري الذي تزين أسافله خصلات الأعشاب، دخلت المدينة وقد أشرقت شمس الصباح تواً وانبعث بصيص النور يوقظ مكامن الجمال في كل شبر منها، ويطرد عنها ظلمة الليل لا ليتخلص منه، بل لينتقل بالمدينة من جمال الليل إلى رونق النهار. أنشأت أتمشى في أزقتها وشوارعها الهادئة النظيفة، وأتأمل بيوتها الواسعة التي يتقدم كل منها فناء عشبي ترتفع أغصانه لتصل إلى شرفة البيت ونوافذه، وتكسو جدرانها الأوراق الخضراء المشذبة بعناية وإتقان، لمحت في بعض الأزقة عمال النظافة يكنسونها ويعتنون بها وهم سعداء يرددون أنشودة الصباح، وقفت أمام أحدهم وهممت بأن أسأله شيئاً، لكنه مر بجانبي ولم يتفطن لي وكأني غير موجود، فعلمت حينها أنني غير مرئي ! دلفت زقاقاً آخر، فلمحت مجموعة شباب يتمشون مستعجلين قاصدين وجهة ما، كانوا يحملون في أيديهم كتباً وقراطيس، مروا بجانبي ولم يروني، ووددت لو أسألهم عن وجهتهم لولا علمي بأن ذلك مستحيل ! وفجأة سمعت صوتاً من خلفي يقول :
- إنهم ذاهبون إلى الدرس، وهذه عادة شباب هذه المدينة لا يطلع صباح من صباحاتها حتى ييمموا وجوههم شطر المدرسة الكبيرة لتلقي العلوم والفنون بشتى أنواعها وكذا الصناعات والحرف كلّ حسب رغباته وأمياله.
التفتّ فإذا شيخ جليل حسن الصورة مهيب الطلعة نيّر الوجه، ابتسم لي وأكمل كلامه قائلاً وهو يرفع يده مشيراً إلى حديقة خضراء تقع بين حيّين :
- وهذه ومثلها ملاعب الأطفال ومراتع صباهم، فتفرّج عليهم ففي منظرهم ما يشرح الصدر ويريح النفس.
أعجبني ما قال الرجل، واستدرت إلى حيث أشار، فوجدت أطفالاً يلعبون ويركضون ويتقافزون فيما بينهم، وكان منهم من يلعب بالعصي رغبة في تعلم السيف، ومنهم من يصارع أصحابه ويبارزهم فيغلبهم أو يغلبونه، تفرجت عليهم بعض الوقت ثم التفتّ إلى الشيخ لأسأله مزيداً من أخبار هذه المدينة، فلم أجد له أثراً وكأنه ومضة اختفت، أو كأن لم يكن موجوداً قبل لحظة إلا في مخيلتي وأوهامي، فانصرفت ...
توسطت الشمس كبد السماء وأنا في تجوالي، بين الأحياء والحدائق، أتأمل نظافة المدينة ورونقها، وجمال بيوتها وروعة حدائقها ومساحاتها الخضراء، ولفتني أنني لم أدخل حياً ولم أنعطف في زقاق إلا ورأيت رجلاً غريباً ملتحفاً بسلهام، مخفياً وجهه بلثام، لم أتبين منه حقيقةً ولم أعرف له وجهةً ولا هدفاً، لكن أعجبني ما رأيت منه عندما ساعد بعد البنائين على حمل حجر ناء بحمله أصحاب السواعد المفتولة منهم، إذ كانوا منشغلين ببناء منزل أو مستشفىً أو غير ذلك ... قادني تجوالي إلى أحد الأسواق، فهالني ما رأيت من بدائع السلع وغرائب المبيعات من خضر وفواكه وأثواب وأغراض، وأعجبني منظر الحوانيت الكبيرة التي تدفقت مبيعاتها أمتاراً بعد أبوابها، وعلقت على أبوابها وأسقفها أثواب ورايات للزينة، أو للحماية من أشعة الشمس، ازدحم السوق فجأة وتوافد إليه التجار وعوام الناس، رجالاً ونساءً وأطفالاً، أعجبني من ملامح الرجال صلابة رسمها الكد والعمل، وبراءة رسمها الصفاء والنبل، فنمّت تقاسيم وجوههم الطاهرة عن نبل خلالهم وصفاء معادنهم، وأعجبني من النساء احتشامهن ووقارهن، فلم أجد منهن من كشفت ثوباً أو خضعت بقول، وأثلج صدري من الأطفال نباهتهم وبدارهم للاعتماد على النفس والالتحاق بمصاف الرجال. طال ممشاي في السوق فلم أصادف شجاراً ولم أسمع صراخاً، ولم أشاهد سوى أوجهاً صبوحة مبتسمة تحيي بعضها البعض بطيب القول، ومعاملات تجارية نظيفة يتسابق فيها البائع والمشتري أيّ منهما يحرز فضلاً على الآخر، ويتسابق أغنياء الناس أيهم يكون أكثر عطفاً على فقرائهم وإحساناً إليهم، ويجاهد الفقراء أنفسهم رغبةً في إخفاء ما بهم حتى لتحسبهم أغنياء من التعفف، لولا أن حقيقتهم لا تفوت شرفاء الناس ولا يفوتهم الاحسان إليهم والرأفة بهم. وصلت إلى نهاية السوق، فصادفت مرة أخرى ذلك الرجل الملثم المريب يساعد كهلاً وقعت عنه بغلته، وتناثر ما اشتراه من خضر وفواكه وأثواب، كان ينفض ثوبه له ويساعده على حمل ما تساقط من مشتريات، وقفت أتأمل مستغرباً هذا المشهد إلى أن قطع استغرابي صوت ذلك الشيخ الذي كلمني في الصباح، فإذا به واقفاً أمامي الآن :
- إن كنت جائعاً فهلمّ إلى المطعم لتناول الغداء، فإنما أنت عابر سبيل، في مدينتنا هذه يأكل الجميع من صنع يده وعرق جبينه، فعلى قدر اجتهادك في تعلم الحرف أو التجارة صغيراً يكون نصيبك من الرزق والمال كبيراً، غداً تأتي معي لأريك دور الصناعة ومنازل الحرف وأراضي الفلاحة، ولسوف يكون لك في رؤية كدح الكادحين وعمل العاملين ما ستنبذ معه الكسل وتهجر بعده الخمول ضناً بسمعتك أن يقال عاجز.
أومأت له برأسي، والتفتّ من جديد فهالني أن الصمت مطبق ! ولا أثر في السوق لأية حركة أوسكنة وكأن الأرض انشقت وابتلعت كل من كان حاضراً فيها، فتقدم الشيخ خطوات حتى صار أمامي ورفع يده مشيراً بسبابته إلى مكان عليّ، وهو يقول :
- هم الآن هناك فهذا وقت العبادة.
نظرت إلى حيث أشار فإذا هي تلك المنارة العالية التي رأيتها من على الربوة فجراً، أدرت وجهي من جديد في أزقة السوق ومحلاته المفتوحة على مصاريعها، فسمعت قهقهة الرجل وكأنه أُلهم ما قلت في نفسي وقال :
- هنا لا خوف من السرقة فالكل مكتفٍ، ولماذا يسرق من لا يعجزه أن يشتري شيئاً مما يحتاجه ؟!
التفتّ إليه مندهشاً، فإذا به قد اختفى كطرفة العين وومضة البرق، ووجدتني وحيداً يحيط بي صمت مدقع لا تتخلله سوى زقزقة العصافير، وخشخشة الأوراق تعابثها الرياح ...
الوقت عصر، وقد صرت الآن في ناحية من المدينة، أذهلني ذلك البناء الشامخ عظيم الأسوار، ولفت انتباهي ذلك الميزان العظيم المنقوش في أعلاه وكأنه تاج على جبين البناء، لمحت أشخاصاً داخلين وخارجين، ومنهم من يلبس ثياباً تشبه ما يلبسه القضاة والمحامون، وكان من الخارجين ذلك الرجل الملثم الغريب، وددت لو أكلمه لكن تذكرت أنني غير منظور ! وفجأة سمعت صوت ذلك الشيخ يقول :
- هذا قصر العدل، محكمة المدينة الكبرى، هنا تفض النزاعات وتُرد الحقوق إلى أصحابها، هنا تطبق القوانين التي صاغها الحاكم غير معتمد على مرجع عدا شريعة الله عز وجل في أرضه، هنا يُضرب على يد الظالمين ويخرج المظلومون وقد اقتُصّ لهم وردّت إليهم حقوقهم.
ابتسمت فرحاً لهذا، ولمحت من بعيد قوافل وجماعات قادمة من خارج المدينة لم أتبينها، فقال لي ذلك الشيخ :
- تلك قوافل التجار عائدة بعد رحلة تجارة أخالها ناجحة بإذن الله، فمن رجال المدينة من يتخصص في جمع ما شذّ وندر من غريب الحيوان وبديع النبات، فيبيعه للمدن الأخرى مقابل ما نحتاجه من مواد صناعة وطعام وثياب، وأولئك وراء التل علماء البلد عائدون من رحلاتهم الاستكشافية في جبال المدينة وسهولها، فهم لا ينقطعون عن البحث والتعلم والاستكشاف، ثم يدوّنون ما اكتشفوه في الكتب ويصرفون بعدها الليالي الطوال في الدراسة والبحث طلباً لقتل مرض أو صناعة دواء أو توصل إلى مستجد فيه راحة البلاد والعباد، وفي ضاحية المدينة الأخرى مستشفى كبير بناه الحاكم بنفسه في أنسب البقاع مناخاً وأقربها إلى منبع الماء، لا يدفع فيه المريض ديناراً ولا درهماً إلا أن يكون غنياً فيتفضل على المستشفى بما يصلحه ويصلح غيره من مرافق المدينة ومصالحها.
صمت الشيخ فلم ألتفت، لأني علمت أنه اختفى فجأة كعادته ...
انطفأت الشمس وراء الجبال وأنا أتأمل غروبها الجميل الذي صبغ الأفق بحمرة داكنة، تاركاً ورائي منازل المدينة وأحياءها، وبلغ سمعي فجأة أصوات غريبة استحسنتها، التفتّ فإذا الخيام منصوبة لم أعرف متى نُصبت ! واتجهت نحوها مستكشفاً، فعلمت أنها ساعة الأنس والطرب والتفكه، مررت بالخيام واحدة واحدة أراهم ولا يرونني، رأيت في الخيمة الأولى منصات متخمة بالكتب والمجلدات، وشباباً بعضهم منهمك في القراءة وبعضهم قد تحلق في مجموعات صغيرة تتناظر وتتجادل، ولمحت ذلك الرجل الملثم واقفاً يجادل مجموعة شباب وهم ينصتون لما يقول وكأنه معلمهم وهم تلاميذه، ورأيت في الثانية مجلس طرب اجتمع فيه أهل الموسيقى يوقعون على آلاتهم، وأمامهم موائد حَوَت كل ما لذ من الطعام واستُعذب من الشراب واستُحسن من الفاكهة، ورأيت في الثالثة مجلس أُنس تجمّع حاضروه على شكل حلقات يتسامرون ويتضاحكون ويلقون الطرف والنكات، أنست بمنظر الخيام وقد أوقدت فيها السرج وظللها النخيل الذي تتراقص سعفاته هوناً مع النسيم، فكرت أن حُق لهم ذلك بعد يوم من التعب والكد. ولم أشعر بمرور الوقت حتى حل الظلام، وأوقدت السرج والمصابيح في كل مكان من شوارع المدينة ومنازلها، وألقيت نظرة على بعض شوارع المدينة فلمحت رجال الشرطة يتجولون حاملين في أيديهم مصابيحاً، علمت أنها دوريتهم الليلية لحفظ الأمن وتفقد الأحوال، ولفت نظري فجأة بيت كبير رائع العمران، قد حُف بالمصابيح من كل جانب وزينت الشموع الملونة نوافذه وشرفه، وانبعثت من داخله موسيقى عذبة تتخللها ضحكات أكثر عذوبة، ورأيت بوابته مفتوحة عن آخرها وعندها يقف رجال في أجمل صورة وأبهى حلة يستقبلون الداخلين ويعانقونهم ويسلمون عليهم مستبشرين فرحين، علمت أنه عرس من الأعراس، ابتسمت وأنا واقف أمام باب البيت ولا يراني أحد، وقلت في نفسي :
- في مدينة كهذه ينمو الحب بسرعة !
ولم أكد أتم جملتي حتى وقف الشيخ أمامي وهو ينظر مثلي محدقاً إلى البيت ويقول :
- نعم هو ينمو بسرعة، لأن الناس هنا علموا حقيقته وفهموها، وتبينوا أمرها يوم قنعوا ببساطة العيش وتركوا عنهم الشره والطمع والضغائن والأحقاد، لقد أحبها مذ كان صغيراً، واضطرته تكاليف الحياة أن يهاجر في طلب التجارة وتحصيل العلم فقاسى لفراقها من الآلام ما الله به عليم، وقد عاد الآن رجلاً قادراً على تحمل تكاليف الحياة، بعد أن نجح في اكتساب العلوم والفنون والآداب، ولم يثنه ذلك عن تعلم التجارة والتميز فيها عن أقرانه حتى حصل له من المال والصيت الشيء الكثير، وها هو اليوم قد عاد إلى وطنه عريساً يستقبل من حياته سعادة تلحقه بركب الشرفاء وترفعه إلى مقام النبلاء.
مدينـة السعـادة
.
واقفاً على تلك الربوة الخضراء ساعةَ الفجر الأولى، أشرفت على منظر بديع، لم أعلم لفرط جماله أفي يقظة أنا أم في حلم ! كانت مدينة شاسعة مترامية الأطراف، بسيطة البناء أنيقة العمران، تبدو من الناظر إليها من بعيد جنة خضراء تتناثر فيها الأبنية والصروح، ويحيط بها سور عظيم تتوسطه بوابة عملاقة، لمحت من فوق الربوة بيوتها الواسعة مساحةً، البسيطة بناءً والبديعة إتقاناً وفناً، ولمحت بينها أفنية واسعة تحدها بواسق الأشجار وتظللها روائع الأغصان، وبين أحيائها مساحات خضراء وساحات وحدائق ذات بهجة فيها من كل أصناف الأشجار والأعشاب والزهور الملونة التي تسلب الألباب بنضارة ألوانها واختلاف أشكالها وأحجامها، وتتخلل جوانب الحدائق مقاعد رخامية مبتكرة الشكل تفتن العقول في تقوّس حوافها ورونق ألوانها وجمال بنائها، وكان فيما لمحت وأنا مطل على ذلك المنظر الفتان بناءً عظيماً شاسع المساحة يتوسط المدينة، وتتوسط البناء ساحة وسيعة تحيط بها الأقواس الرخامية والعاجية المزخرفة من كل الجهات، وعلى يمين البناء منارة أشبه بالصرح الشامخ منحازة جهة الشرق، ويعلوها شكل أشبه بالهلال ...
انحدرت متلهفاً وبي شوق لزيارة هذه المدينة التي لم أر لها مثيلاً حتى فيما تقع عليه الأوهام، ومشيت قاصداً بوابتها العملاقة كأنها قوس مصوّب نحو السماء، متوسطاً سور المدينة الحجري الذي تزين أسافله خصلات الأعشاب، دخلت المدينة وقد أشرقت شمس الصباح تواً وانبعث بصيص النور يوقظ مكامن الجمال في كل شبر منها، ويطرد عنها ظلمة الليل لا ليتخلص منه، بل لينتقل بالمدينة من جمال الليل إلى رونق النهار. أنشأت أتمشى في أزقتها وشوارعها الهادئة النظيفة، وأتأمل بيوتها الواسعة التي يتقدم كل منها فناء عشبي ترتفع أغصانه لتصل إلى شرفة البيت ونوافذه، وتكسو جدرانها الأوراق الخضراء المشذبة بعناية وإتقان، لمحت في بعض الأزقة عمال النظافة يكنسونها ويعتنون بها وهم سعداء يرددون أنشودة الصباح، وقفت أمام أحدهم وهممت بأن أسأله شيئاً، لكنه مر بجانبي ولم يتفطن لي وكأني غير موجود، فعلمت حينها أنني غير مرئي ! دلفت زقاقاً آخر، فلمحت مجموعة شباب يتمشون مستعجلين قاصدين وجهة ما، كانوا يحملون في أيديهم كتباً وقراطيس، مروا بجانبي ولم يروني، ووددت لو أسألهم عن وجهتهم لولا علمي بأن ذلك مستحيل ! وفجأة سمعت صوتاً من خلفي يقول :
- إنهم ذاهبون إلى الدرس، وهذه عادة شباب هذه المدينة لا يطلع صباح من صباحاتها حتى ييمموا وجوههم شطر المدرسة الكبيرة لتلقي العلوم والفنون بشتى أنواعها وكذا الصناعات والحرف كلّ حسب رغباته وأمياله.
التفتّ فإذا شيخ جليل حسن الصورة مهيب الطلعة نيّر الوجه، ابتسم لي وأكمل كلامه قائلاً وهو يرفع يده مشيراً إلى حديقة خضراء تقع بين حيّين :
- وهذه ومثلها ملاعب الأطفال ومراتع صباهم، فتفرّج عليهم ففي منظرهم ما يشرح الصدر ويريح النفس.
أعجبني ما قال الرجل، واستدرت إلى حيث أشار، فوجدت أطفالاً يلعبون ويركضون ويتقافزون فيما بينهم، وكان منهم من يلعب بالعصي رغبة في تعلم السيف، ومنهم من يصارع أصحابه ويبارزهم فيغلبهم أو يغلبونه، تفرجت عليهم بعض الوقت ثم التفتّ إلى الشيخ لأسأله مزيداً من أخبار هذه المدينة، فلم أجد له أثراً وكأنه ومضة اختفت، أو كأن لم يكن موجوداً قبل لحظة إلا في مخيلتي وأوهامي، فانصرفت ...
توسطت الشمس كبد السماء وأنا في تجوالي، بين الأحياء والحدائق، أتأمل نظافة المدينة ورونقها، وجمال بيوتها وروعة حدائقها ومساحاتها الخضراء، ولفتني أنني لم أدخل حياً ولم أنعطف في زقاق إلا ورأيت رجلاً غريباً ملتحفاً بسلهام، مخفياً وجهه بلثام، لم أتبين منه حقيقةً ولم أعرف له وجهةً ولا هدفاً، لكن أعجبني ما رأيت منه عندما ساعد بعد البنائين على حمل حجر ناء بحمله أصحاب السواعد المفتولة منهم، إذ كانوا منشغلين ببناء منزل أو مستشفىً أو غير ذلك ... قادني تجوالي إلى أحد الأسواق، فهالني ما رأيت من بدائع السلع وغرائب المبيعات من خضر وفواكه وأثواب وأغراض، وأعجبني منظر الحوانيت الكبيرة التي تدفقت مبيعاتها أمتاراً بعد أبوابها، وعلقت على أبوابها وأسقفها أثواب ورايات للزينة، أو للحماية من أشعة الشمس، ازدحم السوق فجأة وتوافد إليه التجار وعوام الناس، رجالاً ونساءً وأطفالاً، أعجبني من ملامح الرجال صلابة رسمها الكد والعمل، وبراءة رسمها الصفاء والنبل، فنمّت تقاسيم وجوههم الطاهرة عن نبل خلالهم وصفاء معادنهم، وأعجبني من النساء احتشامهن ووقارهن، فلم أجد منهن من كشفت ثوباً أو خضعت بقول، وأثلج صدري من الأطفال نباهتهم وبدارهم للاعتماد على النفس والالتحاق بمصاف الرجال. طال ممشاي في السوق فلم أصادف شجاراً ولم أسمع صراخاً، ولم أشاهد سوى أوجهاً صبوحة مبتسمة تحيي بعضها البعض بطيب القول، ومعاملات تجارية نظيفة يتسابق فيها البائع والمشتري أيّ منهما يحرز فضلاً على الآخر، ويتسابق أغنياء الناس أيهم يكون أكثر عطفاً على فقرائهم وإحساناً إليهم، ويجاهد الفقراء أنفسهم رغبةً في إخفاء ما بهم حتى لتحسبهم أغنياء من التعفف، لولا أن حقيقتهم لا تفوت شرفاء الناس ولا يفوتهم الاحسان إليهم والرأفة بهم. وصلت إلى نهاية السوق، فصادفت مرة أخرى ذلك الرجل الملثم المريب يساعد كهلاً وقعت عنه بغلته، وتناثر ما اشتراه من خضر وفواكه وأثواب، كان ينفض ثوبه له ويساعده على حمل ما تساقط من مشتريات، وقفت أتأمل مستغرباً هذا المشهد إلى أن قطع استغرابي صوت ذلك الشيخ الذي كلمني في الصباح، فإذا به واقفاً أمامي الآن :
- إن كنت جائعاً فهلمّ إلى المطعم لتناول الغداء، فإنما أنت عابر سبيل، في مدينتنا هذه يأكل الجميع من صنع يده وعرق جبينه، فعلى قدر اجتهادك في تعلم الحرف أو التجارة صغيراً يكون نصيبك من الرزق والمال كبيراً، غداً تأتي معي لأريك دور الصناعة ومنازل الحرف وأراضي الفلاحة، ولسوف يكون لك في رؤية كدح الكادحين وعمل العاملين ما ستنبذ معه الكسل وتهجر بعده الخمول ضناً بسمعتك أن يقال عاجز.
أومأت له برأسي، والتفتّ من جديد فهالني أن الصمت مطبق ! ولا أثر في السوق لأية حركة أوسكنة وكأن الأرض انشقت وابتلعت كل من كان حاضراً فيها، فتقدم الشيخ خطوات حتى صار أمامي ورفع يده مشيراً بسبابته إلى مكان عليّ، وهو يقول :
- هم الآن هناك فهذا وقت العبادة.
نظرت إلى حيث أشار فإذا هي تلك المنارة العالية التي رأيتها من على الربوة فجراً، أدرت وجهي من جديد في أزقة السوق ومحلاته المفتوحة على مصاريعها، فسمعت قهقهة الرجل وكأنه أُلهم ما قلت في نفسي وقال :
- هنا لا خوف من السرقة فالكل مكتفٍ، ولماذا يسرق من لا يعجزه أن يشتري شيئاً مما يحتاجه ؟!
التفتّ إليه مندهشاً، فإذا به قد اختفى كطرفة العين وومضة البرق، ووجدتني وحيداً يحيط بي صمت مدقع لا تتخلله سوى زقزقة العصافير، وخشخشة الأوراق تعابثها الرياح ...
الوقت عصر، وقد صرت الآن في ناحية من المدينة، أذهلني ذلك البناء الشامخ عظيم الأسوار، ولفت انتباهي ذلك الميزان العظيم المنقوش في أعلاه وكأنه تاج على جبين البناء، لمحت أشخاصاً داخلين وخارجين، ومنهم من يلبس ثياباً تشبه ما يلبسه القضاة والمحامون، وكان من الخارجين ذلك الرجل الملثم الغريب، وددت لو أكلمه لكن تذكرت أنني غير منظور ! وفجأة سمعت صوت ذلك الشيخ يقول :
- هذا قصر العدل، محكمة المدينة الكبرى، هنا تفض النزاعات وتُرد الحقوق إلى أصحابها، هنا تطبق القوانين التي صاغها الحاكم غير معتمد على مرجع عدا شريعة الله عز وجل في أرضه، هنا يُضرب على يد الظالمين ويخرج المظلومون وقد اقتُصّ لهم وردّت إليهم حقوقهم.
ابتسمت فرحاً لهذا، ولمحت من بعيد قوافل وجماعات قادمة من خارج المدينة لم أتبينها، فقال لي ذلك الشيخ :
- تلك قوافل التجار عائدة بعد رحلة تجارة أخالها ناجحة بإذن الله، فمن رجال المدينة من يتخصص في جمع ما شذّ وندر من غريب الحيوان وبديع النبات، فيبيعه للمدن الأخرى مقابل ما نحتاجه من مواد صناعة وطعام وثياب، وأولئك وراء التل علماء البلد عائدون من رحلاتهم الاستكشافية في جبال المدينة وسهولها، فهم لا ينقطعون عن البحث والتعلم والاستكشاف، ثم يدوّنون ما اكتشفوه في الكتب ويصرفون بعدها الليالي الطوال في الدراسة والبحث طلباً لقتل مرض أو صناعة دواء أو توصل إلى مستجد فيه راحة البلاد والعباد، وفي ضاحية المدينة الأخرى مستشفى كبير بناه الحاكم بنفسه في أنسب البقاع مناخاً وأقربها إلى منبع الماء، لا يدفع فيه المريض ديناراً ولا درهماً إلا أن يكون غنياً فيتفضل على المستشفى بما يصلحه ويصلح غيره من مرافق المدينة ومصالحها.
صمت الشيخ فلم ألتفت، لأني علمت أنه اختفى فجأة كعادته ...
انطفأت الشمس وراء الجبال وأنا أتأمل غروبها الجميل الذي صبغ الأفق بحمرة داكنة، تاركاً ورائي منازل المدينة وأحياءها، وبلغ سمعي فجأة أصوات غريبة استحسنتها، التفتّ فإذا الخيام منصوبة لم أعرف متى نُصبت ! واتجهت نحوها مستكشفاً، فعلمت أنها ساعة الأنس والطرب والتفكه، مررت بالخيام واحدة واحدة أراهم ولا يرونني، رأيت في الخيمة الأولى منصات متخمة بالكتب والمجلدات، وشباباً بعضهم منهمك في القراءة وبعضهم قد تحلق في مجموعات صغيرة تتناظر وتتجادل، ولمحت ذلك الرجل الملثم واقفاً يجادل مجموعة شباب وهم ينصتون لما يقول وكأنه معلمهم وهم تلاميذه، ورأيت في الثانية مجلس طرب اجتمع فيه أهل الموسيقى يوقعون على آلاتهم، وأمامهم موائد حَوَت كل ما لذ من الطعام واستُعذب من الشراب واستُحسن من الفاكهة، ورأيت في الثالثة مجلس أُنس تجمّع حاضروه على شكل حلقات يتسامرون ويتضاحكون ويلقون الطرف والنكات، أنست بمنظر الخيام وقد أوقدت فيها السرج وظللها النخيل الذي تتراقص سعفاته هوناً مع النسيم، فكرت أن حُق لهم ذلك بعد يوم من التعب والكد. ولم أشعر بمرور الوقت حتى حل الظلام، وأوقدت السرج والمصابيح في كل مكان من شوارع المدينة ومنازلها، وألقيت نظرة على بعض شوارع المدينة فلمحت رجال الشرطة يتجولون حاملين في أيديهم مصابيحاً، علمت أنها دوريتهم الليلية لحفظ الأمن وتفقد الأحوال، ولفت نظري فجأة بيت كبير رائع العمران، قد حُف بالمصابيح من كل جانب وزينت الشموع الملونة نوافذه وشرفه، وانبعثت من داخله موسيقى عذبة تتخللها ضحكات أكثر عذوبة، ورأيت بوابته مفتوحة عن آخرها وعندها يقف رجال في أجمل صورة وأبهى حلة يستقبلون الداخلين ويعانقونهم ويسلمون عليهم مستبشرين فرحين، علمت أنه عرس من الأعراس، ابتسمت وأنا واقف أمام باب البيت ولا يراني أحد، وقلت في نفسي :
- في مدينة كهذه ينمو الحب بسرعة !
ولم أكد أتم جملتي حتى وقف الشيخ أمامي وهو ينظر مثلي محدقاً إلى البيت ويقول :
- نعم هو ينمو بسرعة، لأن الناس هنا علموا حقيقته وفهموها، وتبينوا أمرها يوم قنعوا ببساطة العيش وتركوا عنهم الشره والطمع والضغائن والأحقاد، لقد أحبها مذ كان صغيراً، واضطرته تكاليف الحياة أن يهاجر في طلب التجارة وتحصيل العلم فقاسى لفراقها من الآلام ما الله به عليم، وقد عاد الآن رجلاً قادراً على تحمل تكاليف الحياة، بعد أن نجح في اكتساب العلوم والفنون والآداب، ولم يثنه ذلك عن تعلم التجارة والتميز فيها عن أقرانه حتى حصل له من المال والصيت الشيء الكثير، وها هو اليوم قد عاد إلى وطنه عريساً يستقبل من حياته سعادة تلحقه بركب الشرفاء وترفعه إلى مقام النبلاء.