أنـس
30-03-2010, 21:02
رويـدكِ يـا عـقـارب ~
http://www.mexat.com/vb/attachment.php?attachmentid=963497&d=1254679550
.
[ ... وها أنا ذا أقف أمامكِ وقفة الذّاهل المشدوه ، أرفع رأسي أتأملكِ خاشعاً ، وليس في مجال بصري غيركِ ، وجدار .. !
أصغي لصوتك الرتيب يزعج أذنيّ ، ويزيدني خوفاً على خوف ، شكلكِ التاريخي لم يفقد أناقته حتى الآن ، وأرقامكِ القديمة لا يبليها تعاقب الأيام والسنين ، وأنتِ شاهدة عليها ! جرسك الطويل يتدلى مترنحاً يمنة ويسرة كأداة تنويم مغناطيسي ، لكن حقيقتك المخادعة هي كما كانت ، لم تتغير !
يا عقارب ... ]
.
تيت ، تاك ، تيك ، تاك ...
ألا يمل عدّاد الثواني من دورانه الدائم حول نفسه ؟! ألا يمل عدّادا الدقائق والساعات من مطاردتهما له إلى الأبد ، ماذا لو علمت تلك العقارب عن حالها المضحك هذا ؟! ربما توقفت عن الدوران ! وقدمت استقالتها من مهمة حراسة الزمن ..
وليتها فعلت ...
.
مذ كنت صغيراً وعقارب الساعات تثير اهتمامي ، ويثير اهتمامي صمودها الشامخ ، وعنادها المستميت ، وثباتها الذي لا تزحزحه عقول المصممين ، وأيدي الصانعين ، مهما تحايلت على أنماطها وأشكالها ، ومهما اجتهدت لإسكات أصواتها إلا أنهم يخضعون أمام سرعة دورانها ، ثابتة هي لا تتغير أبد الدهر ! وبها تظل قيمة الساعات ثابتة أيضاً لا تغير فيها براعة الشكل ولا بساطته شيئاً ..
قديماً راودني شعور بأن بعض العقارب الحديثة ، تلك التي يدور عداد ثوانيها بشكل مستمر غير متقطع كطاشرة تحلق في السماء ، هي أسرع من تلك التقليدية التي يكسر فيها العقرب الطويل ثواني حياتنا ثانية ثانية ، عبر طرقات تشبه قرع المطرقة ، ومع صوتٍ يذكرني بالقطارات البخارية القديمة وهي تطوي الأرض طياً .. كنت أتأملها طويلاً وأنا أستغرب وأتساءل ، كيف للزمن الذي تخبرنا به العقارب الأولى أن يكون مطابقاً للذي تخبرنا به العقارب الثانية ؟!
هل بِوُسع عقارب الساعة أن تكون مخادعة هي أيضاً ؟ وهل مرور الزمن شيء يُعبر عنه بالأرقام ؟!!
لماذا إذاً نحس بأن الزمن مفهوم نسبي غير ثابت ، وتيرته عبارة عن دالة تناسب عكسي مع مشاعرنا المدللة ! لماذا تمر أوقات السعادة والفرح سريعة كما البرق ، لا نفطن إليها إلا بعد انقضائها ، ولا يبقى لنا منها سوى دهشة واستغراب ! في حين تمر أوقات الحزن والضجر والانتظار طويلة جداً وبطيئة ، ينوء صبرنا بتحمّلها ، ولا تنقضي إلا وقد أحرقت من أعصابنا ما أحرقت ، وتبقى دهشة المقارنة ، ومرارة التساؤل ، لماذا لا يكون العكس ؟ ولماذا لا نحس بساعات الفرح تمر أبطأ من ساعات الحزن والانتظار !
كم هي مخادعة تلك العقارب !
.
وقفت أمام تلك الساعة الجدارية المعلقة بشموخ في ناحية من نواحي البيت ، وبدأت تخامرني هواجس زمنية فقدت على إثرها وعيي بمرور الوقت ، اختفت كل الموجودات الأخرى من حولي ، ومن ذاكرتي ، وتلاشت كل أفكاري ، وضاق مجال بصري حتى لم أعد أرى سواها ، والجدار !
تأملت شكلها التاريخي القديم بانحناءاته وتكسّراته ، وتأملت الزخرفات المحيطة بدائرة الأرقام ، وأصغيت لصوت جرسها المدلى وهو ينومني مغناطيسياً ويفقدني وعيي شبهَ كامل ، وإذا به ينتشلني من واقعي ، ويغلق ورائي بوابة الطبيعة ، وينقلني إلى عالم أثيري ، حيث تبدأ خطرات النفس بالتوهج ...
لم أعد أرى أمامي سوى دائرة الأرقام ، وعقارب ثلاثة يطارد بعضها بعضاً في مضمار دائري ، وتقضم من لحظات عمرنا ما لن تعيده لنا يوماً ، خطر لي أن شيفرة الزمن هي الأكثر تعقيداً من بين كل شيفرات العالم ، ذلك لأنها لا تتكرر أبداً ، كل رقم زمني هو رقم وحيد ، سريع ، لا يعود ، ولا يتكرر أبداً ..
ارتعد مؤشر الخوف في داخلي إثر تفكيري في هذا ، وتمنيت لو أن تلك العقارب توقفت عن الدوران ، أو أنها - على الأقل - خففت من سرعتها قليلاً !
همست لها ..
رويدكِ يا عقارب .. !
.
* * *
.
رويدكِ فإنّيَ أرى الناس يستيقظون صباحاً على الرنين طلبوه منك قبل نومهم ، ثم يقابلون وفاءك لهم بالانكار وعبارات الاستياء والضجر ، وأراهم يهدرون عملتك الصعبة في غير طائل ، ويحتقرونكِ وأنتِ لصيقة بهم في ساعات معاصمهم ، يستعجلون دورانكِ ، وأعمارهم ! ويشغلون أنفسهم عنكِ بما ينسيهم إياك ، وأنتِ تتربصين بهم ، وتُمْلين لهم ، تُنسينهم نفسك وتُفقدينهم الوعي بك ، حتى إذا انتبهوا فجأة .. وجدوا قطارك قد رحل عنهم ، وجداولهم الزمنية المبرمجة مسبقاً قد صارت حبيسة الماضي ، فيهبّون مسرعين باللحاق بكِ ، ويستجدونك أن تبطئي عليهم بضع دقائق ، بضع ثوانٍ ، لكن هيهات ...
رفقاً بهم فإنك تعاملينهم بالمثل وهم ضعاف عقول ، ومرضى قلوب ، وأسرى غواية ، وتتربصين بهم الدوائر وهم عنك في مَغْفل ، تعاندينهم في حمقهم وهم يطيلون بك الأمل ويؤجلون صحوهم إلى محطات لاحقة في قطارك المتسارع ذي الوجهة الواحدة ! مساكين هم ، وماكرة أنتِ !
يا عقارب ...
.
.
رويدك ، فإنني أتأمل سهامك وهي تعدّ نفسها للانطلاق نحو حياة ما ، أو قلب ما ، أو حزن ما ... أشاهدها وهي تكمل دورتها أخيراً ، وتنطبق على نفسها سهماً فوق سهم ، وكأنها تعقد اجتماعاً سرياً ، أو كأنها مقص ماضٍ في الاقتطاع من أعمارنا ..
ها أنت تتموضعين على الثالثة والربع ، قضمة جديدة من مقصك الصارم ، وها أنت تفترقين ناوية شراً ، وقضمةً جديدة موعدها الرابعة وعشرون دقيقة ... إلى متى يا مقص ؟! وأي قضمة من قضماتك ستكون الأخيرة في وجودنا ؟
في أي رقم من رقم سنواتكِ وشهوركِ وأيامكِ وساعاتكِ ودقائقكِ وثوانيك ؟ سيكون ملَك الموت محلقاً فوق رؤوسنا ، منفذاً أمر الله فينا ؟ وعلى أي حال سنكون لحظتئذ ؟!
رويدكِ ! فإني أرى سهمك الأطول يتجول مسرعاً حول ثوانيك ، وكأنه رئيس يتفقد مرؤوسيه ، أو كأنه مؤشر تحميل لملفات القدر ، تلك البرامج التي سوف يتم تشغيلها في حياتنا فور انتهاء تحميلها ، مهاماً مجدولة في ألواح أقدارنا .. ها أنا ذا أراه يحمّل برامجي وملفات قدري ، من أصغر تفصيل في حياتي اليومية إلى أكبر منعطفات حياتي خطورة ، دون أن أعرف ماذا يحمل ، وما حجم الملف ، وما طبيعة البرنامج ، ومتى سوف يتم تشغيله ، وكيف ستكون نتائجه على نظام تشغيلي ... كل ما أراه أنه يدور ، ويدور ، يحمّل ، ويحمّل ، ولن أعرف ما الذي يحمّله إلا بعد حدوثه !
كم بقي من دوراتكِ على أقرب حدثٍ كبير في حياتي ؟ وكم وصلت النسبة المئوية لتحميل ملف [ الموت ] ؟ آخر ملف في قائمتك ، والأكبر حجماً .. هل سأعود إلى هنا من جديد بعد إصدارات عديدة من تقويماتكِ السنوية ، ثم أقول : '' أنظروا ماذا كنت أكتب في الماضي '' ... أم أن نسبة تحميله قد شارفت على الاكتمال ، ليقال عني بعد أمد قصير : '' كان هذا آخر ما كتبه ، سبحان الله ، وكأنه تنبأ بوفاته ! '' ..
إنني لا محالة بين واحد من هذين الاحتمالين ، عندما تكتشف أن حياتك رهينة بواحد من احتمالين ، تعرف كم الموت قريب منك ، وكم هو مجاور لك يختبئ خلف غفلتك ...
.
رويدكِ يا عقارب .. فإنني لم أفكّ رموزكِ كاملةً بعد ، ولم أتمكن بعد من قراءة كل أوضاعك المستفزة ..
أراك على الساعة الثانية عشرَ تشيرين إلى الأعلى ، تذكريننا بالأعلى ، دلالة عزة ، دلالة شموخ ودلالة طموح ، منتصفَ كل نهار ومنتصفَ كل ليل ، في عزّ النور وعزّ الظلمة ، وأراك تسجدين كل سادسة ونصف ، منتصف كل صباح ومنتصف كل مساء .. حُوَيْلَ الشروق وحويل الغروب ...
أرى ابتسامتكِ الجميلة كل عاشرةٍ وعشرِ دقائق ، وأرى كم هي كاذبة ، وخالية من الاحساس عندما يجبرونك على تصنّعها إذ يحنّطونك في واجهات المحلاّت بعد أن يقتلعوا قلبك ، وفي صفحات المجلات بعد أن يجرّدوك من مادّتك ويحبسونك في ظل ولون وورق فاخر .. ويظنّون أن ابتسامتك تلك فأل خير لهم ...
وأرى حزنك كل ثامنة وعشرين دقيقة ، نذيرَ شؤم لكل من تُصادف عيناه حالتك هذه ذات انتباه ، وأراكِ أسهماً تشير نحو الزمان وتدل عليه ، وآياتٍ نمرّ عليها ونحن عنها معرضون ..
.
رويدكِ يا عقارب .. فإنني لم أملأ رئتيّ بما يكفي من الهواء ، وذاكرتي بما يكفي من التجارب ، وعقلي بما يكفي من المعرفة ، وقلبي بما يكفي من الحب ..
رويدكِ فإن هذه اللحظات التي مرت عليّ خلف بوابة الطبيعة مخصومة من حساب عمري ، وأنا الآن لست في صلاة ولست في حالة ذِكر ، رويدكِ فإنني الآن لا أقرأ كتاباً ! ولا أتناول طعاماً لذيذاً ، ولا أركض مسرعاً في مرج أخضر وليس في مجال رؤيتي غيره والسماء !
رويدكِ فإنني الآن لست نائماً ، ولست أحلم بأنني أطير فوق الجبال بجناحين وأدور حول كوكب الأرض ، ثم أصعد لآخذ غفوة على سطح القمر ! مهلاً فإنني الآن لا أتأمل الشمس شروقاً أو غروباً ، والقمر هلالاً أو بدراً ، والبحر ركوداً أو هيجاناً ، والريح نسيماً أو عاصفة ...
رويدكِ فإنني الآن لا أعيش حالة ضحكٍ أو حالة بكاء ، حالة فرحٍ أو حالة حزن ، حالة لقاءٍ أو حالة فراق ، حالة ألفة أو حالة اشتياق ، مهلاً فإنني الآن لست وحدي فآنس بنفسي وأطرب بأفكاري وخلجات نفسي ، ولست مع أحبتي فآنس بوجوههم وأطرب لمزاحهم وضحكاتهم ، مهلاً ... فإنني الآن لا أعيش لحظة حب ! ...
.
رويدكِ مرة أخرى ، ثم رويدك ! فلست الآن أبحر متأملاً برج الحرية ، ولست أقف على جسرِ متأملاً ساعة بيغ بين ، ولست واقفاً أعلى برج إيفيل أضبط عدستي لأصوّر باريس ، مهلاً فإنني الآن لا أطلّ مائلاً من أعلى برج بيزا .. ولستُ أرفع رأسي مدهوشاً برؤية أهرام مصر ..
رويدكِ ، فإنني الآن لست ساجداً قبالة الكعبة على بعد أمتار ، وليس بيني وبينها حجاب ...
.
ما أشدّ لدغتك يا عقارب ! وكم هو قوي ذلك الخدَر الذي تصيبينا به قبيل لدغنا لنفقد الإحساس بالألم ، أو ، ليتأجل إحساسنا به وقتاً لاحقاً حتى عندما يأتي يأتي دفعة واحدة يكون فيها هلاكنا .. حين لا ينفع الندم !
.
.
* * *
تيك .. تاك .. تيك .. تاك ...
أمازلت تركضين يا عقارب ؟!
فيمَ العجب ؟ وأنت لم تمتثلي لأمر أحد من قبل ، حتى صانعوك ليس بوسعهم أن يغيروا من سرعة دورانك أو يوقفوك لبعض الوقت ، وليس أمامهم سوى الخضوع لقانونك الكوني ، والاكتفاء بضبط شكلك حسب مكانك من الكرة الأرضية ، ثم ينصّبونك شاهدة على أعمارهم ...
وها أنتِ أمامي تواصلين حركتك وكأنكِ لا تستمعين إليّ ! حيادك هذا بدأ يزعجني .. وما الذي بوسعه أن يوقفك عند حدّك ، وهل لك حدّ إلا أن تتوقف الأرض عن الدوران ! أو أن تطلع الشمس من مغربها .. وماذا تُراكِ فاعلة إذّاك يا عقارب ؟ هل ستتوقفين عن العمل من تلقاء نفسك ، وتستسلمين للمشيئة ؟ أم أنك ستبدئين الدوران بشكل عكسي من اليمين إلى اليسار ؟ ...
مهما يكن !
لن أكون حياً آنذاك .. ويكفي منكِ ما أنتِ شاهدة عليه الآن من وقوفي أمامكِ ومخاطبتي لك .. ويكفي ما ستشهدين به عليّ غداً يوم قيامتي ، من تفريطي في حقك وغفلتي عنك .. ورجائي في الله أن يكون أرحم بي منك ، وهو كذلك ...
http://www.mexat.com/vb/attachment.php?attachmentid=963497&d=1254679550
.
[ ... وها أنا ذا أقف أمامكِ وقفة الذّاهل المشدوه ، أرفع رأسي أتأملكِ خاشعاً ، وليس في مجال بصري غيركِ ، وجدار .. !
أصغي لصوتك الرتيب يزعج أذنيّ ، ويزيدني خوفاً على خوف ، شكلكِ التاريخي لم يفقد أناقته حتى الآن ، وأرقامكِ القديمة لا يبليها تعاقب الأيام والسنين ، وأنتِ شاهدة عليها ! جرسك الطويل يتدلى مترنحاً يمنة ويسرة كأداة تنويم مغناطيسي ، لكن حقيقتك المخادعة هي كما كانت ، لم تتغير !
يا عقارب ... ]
.
تيت ، تاك ، تيك ، تاك ...
ألا يمل عدّاد الثواني من دورانه الدائم حول نفسه ؟! ألا يمل عدّادا الدقائق والساعات من مطاردتهما له إلى الأبد ، ماذا لو علمت تلك العقارب عن حالها المضحك هذا ؟! ربما توقفت عن الدوران ! وقدمت استقالتها من مهمة حراسة الزمن ..
وليتها فعلت ...
.
مذ كنت صغيراً وعقارب الساعات تثير اهتمامي ، ويثير اهتمامي صمودها الشامخ ، وعنادها المستميت ، وثباتها الذي لا تزحزحه عقول المصممين ، وأيدي الصانعين ، مهما تحايلت على أنماطها وأشكالها ، ومهما اجتهدت لإسكات أصواتها إلا أنهم يخضعون أمام سرعة دورانها ، ثابتة هي لا تتغير أبد الدهر ! وبها تظل قيمة الساعات ثابتة أيضاً لا تغير فيها براعة الشكل ولا بساطته شيئاً ..
قديماً راودني شعور بأن بعض العقارب الحديثة ، تلك التي يدور عداد ثوانيها بشكل مستمر غير متقطع كطاشرة تحلق في السماء ، هي أسرع من تلك التقليدية التي يكسر فيها العقرب الطويل ثواني حياتنا ثانية ثانية ، عبر طرقات تشبه قرع المطرقة ، ومع صوتٍ يذكرني بالقطارات البخارية القديمة وهي تطوي الأرض طياً .. كنت أتأملها طويلاً وأنا أستغرب وأتساءل ، كيف للزمن الذي تخبرنا به العقارب الأولى أن يكون مطابقاً للذي تخبرنا به العقارب الثانية ؟!
هل بِوُسع عقارب الساعة أن تكون مخادعة هي أيضاً ؟ وهل مرور الزمن شيء يُعبر عنه بالأرقام ؟!!
لماذا إذاً نحس بأن الزمن مفهوم نسبي غير ثابت ، وتيرته عبارة عن دالة تناسب عكسي مع مشاعرنا المدللة ! لماذا تمر أوقات السعادة والفرح سريعة كما البرق ، لا نفطن إليها إلا بعد انقضائها ، ولا يبقى لنا منها سوى دهشة واستغراب ! في حين تمر أوقات الحزن والضجر والانتظار طويلة جداً وبطيئة ، ينوء صبرنا بتحمّلها ، ولا تنقضي إلا وقد أحرقت من أعصابنا ما أحرقت ، وتبقى دهشة المقارنة ، ومرارة التساؤل ، لماذا لا يكون العكس ؟ ولماذا لا نحس بساعات الفرح تمر أبطأ من ساعات الحزن والانتظار !
كم هي مخادعة تلك العقارب !
.
وقفت أمام تلك الساعة الجدارية المعلقة بشموخ في ناحية من نواحي البيت ، وبدأت تخامرني هواجس زمنية فقدت على إثرها وعيي بمرور الوقت ، اختفت كل الموجودات الأخرى من حولي ، ومن ذاكرتي ، وتلاشت كل أفكاري ، وضاق مجال بصري حتى لم أعد أرى سواها ، والجدار !
تأملت شكلها التاريخي القديم بانحناءاته وتكسّراته ، وتأملت الزخرفات المحيطة بدائرة الأرقام ، وأصغيت لصوت جرسها المدلى وهو ينومني مغناطيسياً ويفقدني وعيي شبهَ كامل ، وإذا به ينتشلني من واقعي ، ويغلق ورائي بوابة الطبيعة ، وينقلني إلى عالم أثيري ، حيث تبدأ خطرات النفس بالتوهج ...
لم أعد أرى أمامي سوى دائرة الأرقام ، وعقارب ثلاثة يطارد بعضها بعضاً في مضمار دائري ، وتقضم من لحظات عمرنا ما لن تعيده لنا يوماً ، خطر لي أن شيفرة الزمن هي الأكثر تعقيداً من بين كل شيفرات العالم ، ذلك لأنها لا تتكرر أبداً ، كل رقم زمني هو رقم وحيد ، سريع ، لا يعود ، ولا يتكرر أبداً ..
ارتعد مؤشر الخوف في داخلي إثر تفكيري في هذا ، وتمنيت لو أن تلك العقارب توقفت عن الدوران ، أو أنها - على الأقل - خففت من سرعتها قليلاً !
همست لها ..
رويدكِ يا عقارب .. !
.
* * *
.
رويدكِ فإنّيَ أرى الناس يستيقظون صباحاً على الرنين طلبوه منك قبل نومهم ، ثم يقابلون وفاءك لهم بالانكار وعبارات الاستياء والضجر ، وأراهم يهدرون عملتك الصعبة في غير طائل ، ويحتقرونكِ وأنتِ لصيقة بهم في ساعات معاصمهم ، يستعجلون دورانكِ ، وأعمارهم ! ويشغلون أنفسهم عنكِ بما ينسيهم إياك ، وأنتِ تتربصين بهم ، وتُمْلين لهم ، تُنسينهم نفسك وتُفقدينهم الوعي بك ، حتى إذا انتبهوا فجأة .. وجدوا قطارك قد رحل عنهم ، وجداولهم الزمنية المبرمجة مسبقاً قد صارت حبيسة الماضي ، فيهبّون مسرعين باللحاق بكِ ، ويستجدونك أن تبطئي عليهم بضع دقائق ، بضع ثوانٍ ، لكن هيهات ...
رفقاً بهم فإنك تعاملينهم بالمثل وهم ضعاف عقول ، ومرضى قلوب ، وأسرى غواية ، وتتربصين بهم الدوائر وهم عنك في مَغْفل ، تعاندينهم في حمقهم وهم يطيلون بك الأمل ويؤجلون صحوهم إلى محطات لاحقة في قطارك المتسارع ذي الوجهة الواحدة ! مساكين هم ، وماكرة أنتِ !
يا عقارب ...
.
.
رويدك ، فإنني أتأمل سهامك وهي تعدّ نفسها للانطلاق نحو حياة ما ، أو قلب ما ، أو حزن ما ... أشاهدها وهي تكمل دورتها أخيراً ، وتنطبق على نفسها سهماً فوق سهم ، وكأنها تعقد اجتماعاً سرياً ، أو كأنها مقص ماضٍ في الاقتطاع من أعمارنا ..
ها أنت تتموضعين على الثالثة والربع ، قضمة جديدة من مقصك الصارم ، وها أنت تفترقين ناوية شراً ، وقضمةً جديدة موعدها الرابعة وعشرون دقيقة ... إلى متى يا مقص ؟! وأي قضمة من قضماتك ستكون الأخيرة في وجودنا ؟
في أي رقم من رقم سنواتكِ وشهوركِ وأيامكِ وساعاتكِ ودقائقكِ وثوانيك ؟ سيكون ملَك الموت محلقاً فوق رؤوسنا ، منفذاً أمر الله فينا ؟ وعلى أي حال سنكون لحظتئذ ؟!
رويدكِ ! فإني أرى سهمك الأطول يتجول مسرعاً حول ثوانيك ، وكأنه رئيس يتفقد مرؤوسيه ، أو كأنه مؤشر تحميل لملفات القدر ، تلك البرامج التي سوف يتم تشغيلها في حياتنا فور انتهاء تحميلها ، مهاماً مجدولة في ألواح أقدارنا .. ها أنا ذا أراه يحمّل برامجي وملفات قدري ، من أصغر تفصيل في حياتي اليومية إلى أكبر منعطفات حياتي خطورة ، دون أن أعرف ماذا يحمل ، وما حجم الملف ، وما طبيعة البرنامج ، ومتى سوف يتم تشغيله ، وكيف ستكون نتائجه على نظام تشغيلي ... كل ما أراه أنه يدور ، ويدور ، يحمّل ، ويحمّل ، ولن أعرف ما الذي يحمّله إلا بعد حدوثه !
كم بقي من دوراتكِ على أقرب حدثٍ كبير في حياتي ؟ وكم وصلت النسبة المئوية لتحميل ملف [ الموت ] ؟ آخر ملف في قائمتك ، والأكبر حجماً .. هل سأعود إلى هنا من جديد بعد إصدارات عديدة من تقويماتكِ السنوية ، ثم أقول : '' أنظروا ماذا كنت أكتب في الماضي '' ... أم أن نسبة تحميله قد شارفت على الاكتمال ، ليقال عني بعد أمد قصير : '' كان هذا آخر ما كتبه ، سبحان الله ، وكأنه تنبأ بوفاته ! '' ..
إنني لا محالة بين واحد من هذين الاحتمالين ، عندما تكتشف أن حياتك رهينة بواحد من احتمالين ، تعرف كم الموت قريب منك ، وكم هو مجاور لك يختبئ خلف غفلتك ...
.
رويدكِ يا عقارب .. فإنني لم أفكّ رموزكِ كاملةً بعد ، ولم أتمكن بعد من قراءة كل أوضاعك المستفزة ..
أراك على الساعة الثانية عشرَ تشيرين إلى الأعلى ، تذكريننا بالأعلى ، دلالة عزة ، دلالة شموخ ودلالة طموح ، منتصفَ كل نهار ومنتصفَ كل ليل ، في عزّ النور وعزّ الظلمة ، وأراك تسجدين كل سادسة ونصف ، منتصف كل صباح ومنتصف كل مساء .. حُوَيْلَ الشروق وحويل الغروب ...
أرى ابتسامتكِ الجميلة كل عاشرةٍ وعشرِ دقائق ، وأرى كم هي كاذبة ، وخالية من الاحساس عندما يجبرونك على تصنّعها إذ يحنّطونك في واجهات المحلاّت بعد أن يقتلعوا قلبك ، وفي صفحات المجلات بعد أن يجرّدوك من مادّتك ويحبسونك في ظل ولون وورق فاخر .. ويظنّون أن ابتسامتك تلك فأل خير لهم ...
وأرى حزنك كل ثامنة وعشرين دقيقة ، نذيرَ شؤم لكل من تُصادف عيناه حالتك هذه ذات انتباه ، وأراكِ أسهماً تشير نحو الزمان وتدل عليه ، وآياتٍ نمرّ عليها ونحن عنها معرضون ..
.
رويدكِ يا عقارب .. فإنني لم أملأ رئتيّ بما يكفي من الهواء ، وذاكرتي بما يكفي من التجارب ، وعقلي بما يكفي من المعرفة ، وقلبي بما يكفي من الحب ..
رويدكِ فإن هذه اللحظات التي مرت عليّ خلف بوابة الطبيعة مخصومة من حساب عمري ، وأنا الآن لست في صلاة ولست في حالة ذِكر ، رويدكِ فإنني الآن لا أقرأ كتاباً ! ولا أتناول طعاماً لذيذاً ، ولا أركض مسرعاً في مرج أخضر وليس في مجال رؤيتي غيره والسماء !
رويدكِ فإنني الآن لست نائماً ، ولست أحلم بأنني أطير فوق الجبال بجناحين وأدور حول كوكب الأرض ، ثم أصعد لآخذ غفوة على سطح القمر ! مهلاً فإنني الآن لا أتأمل الشمس شروقاً أو غروباً ، والقمر هلالاً أو بدراً ، والبحر ركوداً أو هيجاناً ، والريح نسيماً أو عاصفة ...
رويدكِ فإنني الآن لا أعيش حالة ضحكٍ أو حالة بكاء ، حالة فرحٍ أو حالة حزن ، حالة لقاءٍ أو حالة فراق ، حالة ألفة أو حالة اشتياق ، مهلاً فإنني الآن لست وحدي فآنس بنفسي وأطرب بأفكاري وخلجات نفسي ، ولست مع أحبتي فآنس بوجوههم وأطرب لمزاحهم وضحكاتهم ، مهلاً ... فإنني الآن لا أعيش لحظة حب ! ...
.
رويدكِ مرة أخرى ، ثم رويدك ! فلست الآن أبحر متأملاً برج الحرية ، ولست أقف على جسرِ متأملاً ساعة بيغ بين ، ولست واقفاً أعلى برج إيفيل أضبط عدستي لأصوّر باريس ، مهلاً فإنني الآن لا أطلّ مائلاً من أعلى برج بيزا .. ولستُ أرفع رأسي مدهوشاً برؤية أهرام مصر ..
رويدكِ ، فإنني الآن لست ساجداً قبالة الكعبة على بعد أمتار ، وليس بيني وبينها حجاب ...
.
ما أشدّ لدغتك يا عقارب ! وكم هو قوي ذلك الخدَر الذي تصيبينا به قبيل لدغنا لنفقد الإحساس بالألم ، أو ، ليتأجل إحساسنا به وقتاً لاحقاً حتى عندما يأتي يأتي دفعة واحدة يكون فيها هلاكنا .. حين لا ينفع الندم !
.
.
* * *
تيك .. تاك .. تيك .. تاك ...
أمازلت تركضين يا عقارب ؟!
فيمَ العجب ؟ وأنت لم تمتثلي لأمر أحد من قبل ، حتى صانعوك ليس بوسعهم أن يغيروا من سرعة دورانك أو يوقفوك لبعض الوقت ، وليس أمامهم سوى الخضوع لقانونك الكوني ، والاكتفاء بضبط شكلك حسب مكانك من الكرة الأرضية ، ثم ينصّبونك شاهدة على أعمارهم ...
وها أنتِ أمامي تواصلين حركتك وكأنكِ لا تستمعين إليّ ! حيادك هذا بدأ يزعجني .. وما الذي بوسعه أن يوقفك عند حدّك ، وهل لك حدّ إلا أن تتوقف الأرض عن الدوران ! أو أن تطلع الشمس من مغربها .. وماذا تُراكِ فاعلة إذّاك يا عقارب ؟ هل ستتوقفين عن العمل من تلقاء نفسك ، وتستسلمين للمشيئة ؟ أم أنك ستبدئين الدوران بشكل عكسي من اليمين إلى اليسار ؟ ...
مهما يكن !
لن أكون حياً آنذاك .. ويكفي منكِ ما أنتِ شاهدة عليه الآن من وقوفي أمامكِ ومخاطبتي لك .. ويكفي ما ستشهدين به عليّ غداً يوم قيامتي ، من تفريطي في حقك وغفلتي عنك .. ورجائي في الله أن يكون أرحم بي منك ، وهو كذلك ...