PDA المساعد الشخصي الرقمي

عرض كامل الموضوع : " نص ضحكة " ... قصة قصيرة .. بقلم مصطفى جبر



gabr_mogahed
29-08-2008, 18:35
نص ضحكة

إنه أسعد يوم في حياته ..... و قد علم أن الجحيم الذي عاش فيه طويلا انتهى , وداعا لتلك الليالي السوداء التي كان يقضيها لا يرى فيها إلا الضياع .... فاليوم أطلقوا سراحه من مستشفى الأمراض النفسية التي احتجزوه فيها كثيرا .... لأنه لا يصدق موت أقرب الناس إليه , و دائما يشعر به بجواره يخاطبه و يتحرك معه , و يفعل كل شيء , .... و طيلة هذه السنين حاول الأطباء إقناعه بأن الموت أمر حتمي في نهاية الحياة ..... و يجب أن نستمر بعده و لا نجعله محطة تتوقف عندها كل صور الحياة و أشكالها .


و في كل نفس يرى صورتها أمامه .... لا تمر لحظة حزن إلا تكون أول من يحتضنه ... لم يعرف الدمع إلا في حضنها .... و لم يعرف الفرح إلا في ضحكتها .... كان لا يرى الحياة إلا بعينيها ..... كثيرا ما حاول الأطباء أن يطلبوا منه أن يتذكر حياته السابقة كيف كانت ؟ و هل يحلم بإستعادة هذه الحياة مرة أخرى أم لا؟...... و لكن لم يذكر مما مضى إلا ما كان معها و لن يرضى في ما بقي له من عمره إلا أن تكون معه.


و انتهى العلاج بعد 15 سنة أو أكثر .... و بإجماع الأطباء قد شفي تماما من التوهم .... و ها هو قد اقتنع أن الموت لا عودة فيه , و أن الحياة تمضي و لا تتوقف.... و قد ودع كل الأطباء و الممرضين في يوم رحيله ... بعد أن تعبوا معه طيلة هذه السنين حتى أكرمه الله بالشفاء .... كم هو سعيد بأن يعود إلى حياته الطبيعية .


و هو منتظر في غرفة الإستراحة حتى حضرت أمه و أخذته معها .... و فرحته بها فوق كل الحدود .... فزياراتها له لم تنقطع طيلة هذه السنين ..... و كثيرا ما أوصت عليه الأطباء .


سألها : هل أوصلتك حنان أختي إلى هنا ؟ ... فردت : طبعا فأنت تعلم أني لا أجيد القيادة ..... ولكنها سافرت مرة أخرى لأني أردت أن أمضي معك هذا النهار وحدي ... نحتفل بعودتك سويا ..... فرد عليها محمد: فرحتي اليوم لا تقدر.


و انطلقا معا في حديقة خضراء جميلة ..... قد أشرقت فيها الزهور ... و تلونت السماء .... ولكن شيئا ما أقلق محمد كثيرا ... فقد تعود من أمه على ضحكة كبيرة تنير له الدنيا ... أما اليوم فضحكتها له نص ضحكة .... كأنما هناك ما يقلقها .... أو هناك ما يمنع الفرحة عن قلبها و يمنع الضحكة عن فمها..... و ظلت هذه الضحكة المنقوصة تقلقه .... لكنه انتهى إلى عدم أهمية هذا الأمر ... المهم أنه معها ... وغدا تعود ضحكتها الكاملة.


و عندما تعبا استراحا قليلا في ظل شجرة كبيرة ... حتى شعر محمد أن الوقت قد تأخر ... فقرر الإتصال بأخته حنان لتحضرهما ... و لم يجد مع أمه نقود ... ففتش في جيبه حتى وجد جنيها واحدا ... فأسرع إلى التليفون و اتصل بأخته حنان , و خاطبها غاضبا : لقد تأخرت كثيرا ..... ألن تحضرينا ؟؟؟ ... قالت حنان : إن سكة السفر طويلة ... و أنا مشغولة جدا اليوم .... فرد محمد : إن الطريق ساعة واحدة .. ماذا سنفعل أنا و أمي ...... صمتت حنان قليلا ثم قالت : حاول أن تنام الليلة في أي فندق و سوف آتي في الصباح لأحضرك و سأدفع للفندق و لا تقلق .


أغلقت حنان السماعة دون أن تنتظر حتى رد أخيها .... علم أنه لا مفر من هذا الحل ...فالوقت قد تأخر فعلا .....و هو لا يعرف كيف يسافرإليها ؟.... و قضى الليلة كلها يبحث عن فندق .


حتى وجد فندق صغير .... دخله ليجد فيه دفئا و سلاما و هرع إلى موظف الإستقبال يسأله غن غرفة لليلة واحدة ... فأجابه : حظك جيد ... بالصدفة عندي غرفة لشخص واحد فارغة هذه الليلة فقط ..... و هذا نادرا ما يحدث .... أظنها مناسبة لك .


صمت محمد قليلا .... و شعر بإنقباض في صدره .. ثم همس إلى الموظف : نعم أظنها مناسبة لي ..... و صعد محمد إلى غرفته ليمضي بها الليلة.... على أمل ألا تخذله حنان كما خذلته أمه .



مصطفى جبر