Mr_LONDON
30-01-2008, 23:00
حسان عمر القالش
«عمـّـو..كتــّـوني ». بهاتين الكلمتين وبلهجة آمرة تصبـّحني شـام، ابنة أخي الصغيرة التي لم تتجاوز سنتها الثانية في الحياة، ممسكة بيدها عصاها السحرية الـ«ريموت كونترول» الذي لم تتعلم قيادته بعد، تريد الفرجة على الرسوم المتحركة. فلا مجال بعدها لصباح فيروزي عبر راديو الريسفير الذي يأتينا باذاعاتنا المشرقية ونحن في دول الخليج. وفي زمننا السريع حيث تزداد أعباء وأوزان كتب وحقائب التحصيل المدرسي لأطفالنا، ونحن لسنا بأفضل منهم حالا مع ركضنا ركض الوحوش لنلحق بلقمة عيش «غيرها لن نحوش» كما يقول المثل الشعبي المصري، تأتي محطات الرسوم المتحركة الفضائية لتكون الجوكر الذي «يقـش» أطفالنا ويكسبهم في عالمه الذي لا دخل لنا فيه. وحيث ما علينا الا السمع والطاعة لتعاليمها وأدبياتها وطلباتها التي تغوي بها عقول الأطفال.
وليكون التواصل أسرع وأكثر مباشرة بين مواطني جمهورية هذه الفضائيات ومراكز القرار فيها، تم ادخال تقنية الرسائل النصيّة الهاتفية «sms» اليها ! مع أنهم يقولون «استشر والديك وأرسل»، واضعين الأهل في موقع القابلين بالأمر أشاؤوا أم أبوا، بدل «استأذن والديك» التي تحتمل القبول أو الرفض.
المهم، بعد أن تمر في أسفل احدى هذه الشاشات رسالة القيادة/الكونترول، تعلن أنه «يتم حالياً البث المباشر للرسائل»، وبعد أن تتكرر لمئة مرة متتالية، نبدأ القراءة، فهذا صبي يكتب «لا تنسي الله وسبحان الله والله أكبر ولا إله الا الله@اذكروا الله» ويوقع اسمه بـ«الشبح»، وهذه «آية» تقول: أهنئ للعالم الإسلامي بحلول عيد الأضحى المبارك، وآخر يقول: أشكر (اسم القناة) على نشيد الحج، وآخرون يعترفون أنهم «بـحبـوا» القناة وشخصياتهم المفضلة. فشركات الاتصالات التي لها في كل عرس قرص وفي كل اعلام حصة أقلها هذا الشريط الصغير أسفل الشاشة، وصلت الى هنا حيث لا مهرب من دفع أتاوات الحداثة لها وشكرها على إمتاعنا وأطفالنا بالتواصل مع... ذواتنا.
وكثير من «دراما» و«أكشن» الرسوم المتحركة التي تعرضها هذه المحطات غريبة عن تلك «الحميمية» التي نشأ جيلنا عليها كـ«سالي» و«جورجي» و«الأمير الصغير» و «أوسكار». أو تلك المعرفية المشوقة كـبرامج «لبيبة» و«كان ياما كان الحياة» و« حكايات عالمية»، والتي ما زالت محفورة في الذاكرة. فجرعة العنف اللفظي والسلوكي تمتزج بما لا يستطيع العقل الغض الصغير استيعابه من مصطلحات ومفاهيم تكنولوجية، مع بعض البهارات الفكاهية التي تبدو مستعجلة ومقيتة في أداء أصوات الممثلين. ولعل السمـة الأخطر لهذه الدراما هي الوتيرة السريعة والنبض المستعجل، ما يسرق من الطفل هدوء الخيال ويؤدي الى «سـلق» الوقت الذي يحتاجه فكره للنضوج وامتلاك آلية الإدراك. فنرى الأطفال يعانون الشرود وعدم التركيز على دروسهم، وازدياد شكاوى الأهالي من الوقت الطويل والطاقة في استيعاب الأطفال علومهم يصب في هذا المنحى.
وهذه المحطات من جهة أخرى، هي العنصر القوي غير محسوب الحساب، الذي بات يستنزف الأسرة العربية اقتصاديا. فلم يكتفِ تلفزيون الأطفال باختراع شخصيات أبطال ليسوا بأبطال، بل اتجه نحو الاستثمار في صناعات الأطفال، وقام بكثير من الانتاج غير الفني بل الاستهلاكي، وأخذ يبهر زبائنه الصغار في مساحاته الاعلانية بألعاب وحلوى و«تشيبس» وقرطاسية تحمل أسماء أبطالهم وشخصياتهم التي فرضها عليهم. ولا تسأل هنا عن الأسعار.
ها هو الاعلام يبرهن من جديد على قدرته في التأثير على كل المستويات العمـُرية، وعلى قابليته للاستغلال وجني المنافع والتخريب أيضاً. فعبر هذه المحطات يتم إعداد أجيال من المستهلكين بدل جيل من المبدعين، ضاحكين على ذقون الأهالي بلسان عربي تارة وقناع إسلامي تارة اخرى. فلتتنازل وزارات «التربية» والتعليم، والشؤون الاجتماعية، والاعلام، وتدعو الأجهزة التعليمية لتقيم ورشات عمل مع مختصين في الاعلام والصحافة، وتناقش أثر هذا النوع من «الميديا» على الأجيال القادمة، علـّنـا ولو لمرة، نخفف من خوفنا من القادم... المجهول.
مـــــنقـــــــــــــــــــــــــــــول
المصدر : السفير اللبنانية (http://www.assafir.com/Article.aspx?EditionId=850&ChannelId=19165&ArticleId=2899&Author=حسان%20عمر%20القالش)
«عمـّـو..كتــّـوني ». بهاتين الكلمتين وبلهجة آمرة تصبـّحني شـام، ابنة أخي الصغيرة التي لم تتجاوز سنتها الثانية في الحياة، ممسكة بيدها عصاها السحرية الـ«ريموت كونترول» الذي لم تتعلم قيادته بعد، تريد الفرجة على الرسوم المتحركة. فلا مجال بعدها لصباح فيروزي عبر راديو الريسفير الذي يأتينا باذاعاتنا المشرقية ونحن في دول الخليج. وفي زمننا السريع حيث تزداد أعباء وأوزان كتب وحقائب التحصيل المدرسي لأطفالنا، ونحن لسنا بأفضل منهم حالا مع ركضنا ركض الوحوش لنلحق بلقمة عيش «غيرها لن نحوش» كما يقول المثل الشعبي المصري، تأتي محطات الرسوم المتحركة الفضائية لتكون الجوكر الذي «يقـش» أطفالنا ويكسبهم في عالمه الذي لا دخل لنا فيه. وحيث ما علينا الا السمع والطاعة لتعاليمها وأدبياتها وطلباتها التي تغوي بها عقول الأطفال.
وليكون التواصل أسرع وأكثر مباشرة بين مواطني جمهورية هذه الفضائيات ومراكز القرار فيها، تم ادخال تقنية الرسائل النصيّة الهاتفية «sms» اليها ! مع أنهم يقولون «استشر والديك وأرسل»، واضعين الأهل في موقع القابلين بالأمر أشاؤوا أم أبوا، بدل «استأذن والديك» التي تحتمل القبول أو الرفض.
المهم، بعد أن تمر في أسفل احدى هذه الشاشات رسالة القيادة/الكونترول، تعلن أنه «يتم حالياً البث المباشر للرسائل»، وبعد أن تتكرر لمئة مرة متتالية، نبدأ القراءة، فهذا صبي يكتب «لا تنسي الله وسبحان الله والله أكبر ولا إله الا الله@اذكروا الله» ويوقع اسمه بـ«الشبح»، وهذه «آية» تقول: أهنئ للعالم الإسلامي بحلول عيد الأضحى المبارك، وآخر يقول: أشكر (اسم القناة) على نشيد الحج، وآخرون يعترفون أنهم «بـحبـوا» القناة وشخصياتهم المفضلة. فشركات الاتصالات التي لها في كل عرس قرص وفي كل اعلام حصة أقلها هذا الشريط الصغير أسفل الشاشة، وصلت الى هنا حيث لا مهرب من دفع أتاوات الحداثة لها وشكرها على إمتاعنا وأطفالنا بالتواصل مع... ذواتنا.
وكثير من «دراما» و«أكشن» الرسوم المتحركة التي تعرضها هذه المحطات غريبة عن تلك «الحميمية» التي نشأ جيلنا عليها كـ«سالي» و«جورجي» و«الأمير الصغير» و «أوسكار». أو تلك المعرفية المشوقة كـبرامج «لبيبة» و«كان ياما كان الحياة» و« حكايات عالمية»، والتي ما زالت محفورة في الذاكرة. فجرعة العنف اللفظي والسلوكي تمتزج بما لا يستطيع العقل الغض الصغير استيعابه من مصطلحات ومفاهيم تكنولوجية، مع بعض البهارات الفكاهية التي تبدو مستعجلة ومقيتة في أداء أصوات الممثلين. ولعل السمـة الأخطر لهذه الدراما هي الوتيرة السريعة والنبض المستعجل، ما يسرق من الطفل هدوء الخيال ويؤدي الى «سـلق» الوقت الذي يحتاجه فكره للنضوج وامتلاك آلية الإدراك. فنرى الأطفال يعانون الشرود وعدم التركيز على دروسهم، وازدياد شكاوى الأهالي من الوقت الطويل والطاقة في استيعاب الأطفال علومهم يصب في هذا المنحى.
وهذه المحطات من جهة أخرى، هي العنصر القوي غير محسوب الحساب، الذي بات يستنزف الأسرة العربية اقتصاديا. فلم يكتفِ تلفزيون الأطفال باختراع شخصيات أبطال ليسوا بأبطال، بل اتجه نحو الاستثمار في صناعات الأطفال، وقام بكثير من الانتاج غير الفني بل الاستهلاكي، وأخذ يبهر زبائنه الصغار في مساحاته الاعلانية بألعاب وحلوى و«تشيبس» وقرطاسية تحمل أسماء أبطالهم وشخصياتهم التي فرضها عليهم. ولا تسأل هنا عن الأسعار.
ها هو الاعلام يبرهن من جديد على قدرته في التأثير على كل المستويات العمـُرية، وعلى قابليته للاستغلال وجني المنافع والتخريب أيضاً. فعبر هذه المحطات يتم إعداد أجيال من المستهلكين بدل جيل من المبدعين، ضاحكين على ذقون الأهالي بلسان عربي تارة وقناع إسلامي تارة اخرى. فلتتنازل وزارات «التربية» والتعليم، والشؤون الاجتماعية، والاعلام، وتدعو الأجهزة التعليمية لتقيم ورشات عمل مع مختصين في الاعلام والصحافة، وتناقش أثر هذا النوع من «الميديا» على الأجيال القادمة، علـّنـا ولو لمرة، نخفف من خوفنا من القادم... المجهول.
مـــــنقـــــــــــــــــــــــــــــول
المصدر : السفير اللبنانية (http://www.assafir.com/Article.aspx?EditionId=850&ChannelId=19165&ArticleId=2899&Author=حسان%20عمر%20القالش)