PDA المساعد الشخصي الرقمي

عرض كامل الموضوع : جسر الموت



جون 444
21-04-2007, 06:47
الحاسة السادسة لم تخيّب ظني. كانت صادقة معي. ساعدتني على اكتشاف المجهول. فعندما أتصوّر أموراً غير مرئية، تتحرك أوتار السمع، تبدأ الصور تتقلبّ، والخيال يرسم الحوادث.
قالت لي: أحمل نفسك إلى البيت في إجازة، لأن الأيام القادمة ستكون صعبة، وتنبئ بحرب وشيكة. أجواؤها مشحونة بالبارود.
وهكذا حصلت على إجازة من قائد الكتيبة لعدة أيام. خلعت بذلتي العسكرية. خلعتها عن جسم، كجلد ثور جاف. قلبي يرفرف بجناحيه كطائر أُصيب بطلقة صياد.. لا أعرف من أين يأتي النزيف. أحياناً يدقّ باب الفرح، ومرات تجترع نفسي أنّات حزينة، ضباباً داخلياً مشحوناً.
عدت من إجازتي. بدأت أحزاني تتغلب على آمالي، عندما أقبلت صباحاً على باب الكتيبة، المفتوح للأرض والسماء. حركات غريبة تجاه قسم المهمات. مجندون يشكلون حلقات. تتصاعد قهقهات. ومجندون خرجوا متفرقين توّاً من مهاجعهم المتناثرة، يحملون أكياساً محشوة، وصرراً مربوطة، ممتلئة بالثياب والبذلات العسكرية، وبطانيات مستلقية براحة فوق الأكتاف. أحذية مربوطة بقوة. رؤوس تتحرك بين الدروب الترابية والصخرية. تتوزع في كل الاتجاهات أكواماً من الحجارة السود، وعلى الطريق المرصوفة، الواصلة بين ساحة الاجتماع الصباحي، ومقرّ القيادة، تظهر الفصائل متناثرة على جانبي الطريق، وأرتال من الجنود يسيرون على نحو غير منظّم.
وقفت فوق تلّة، ترتفع قليلاً خلف غرفتي. أبحرت ببصري في الجهات الأربع. رأسي يدور كأنه رشاش مثبّت على قاعدة متحركة. رافقتني في تلك اللحظات صور حَملْتها من المدينة التي تضجّ بالسيارات والباعة والجنود والمرضى والحرارة المرتفعة. هنا في هذا السهل، الهواء الجاف، تدفعه غيوم بيض، تنبض رطوبة وندى. رنَّ جرس الهاتف. بدأ يعزف موسيقا خشنة، مزعجة.
هل تصدق الحاسة السادسة؟هل ما أتوقعه سيحمله هذا الهاتف المفاجئ؟. لا.. لا شيء جديد! لقد تعودت دون أوقات محددة على رنين الهاتف، لكوني في قيادة الكتيبة. بدأت الاحتمالات تتوارد، والهاتف يستمر في رنينه، ويصطدم في جدران البلوكوس الأسمنتي.
أسرعتُ هابطاً من فوق التلّة.. ألو.. ألومين. ردّ المساعد أبو هشام : "وينْ أنت ياأخي. ساعة وأنا أعيّط عليك"
مالأمر يا أبا هشام! ماذا تريد في هذا الصباح الندي؟ لم يحن موعد الاجتماع الصباحي!
ذهبتْ الاجتماعات الصباحية يارقيب محمود دون رجعة. الوقت كان قصيراً، وأعشاش من الزنابير تئزّ فوق رأس المساعد وحول مكتبه الجنود وصف الضباط ينتظرون أدوارهم.
قال : أسرع حاملاً معك ثيابك العسكرية كي أبدّلها لك.
دخل رئيس القلم الرقيب الأول محمد. استقبلته بعينين واجمتين وسؤال:
ما الخبر؟
أجاب: الأمور طبيعية. هل من أوامر جديدة؟
كان محمد يخفي عني شيئاً. لايريد أن يعكر عليّ صباحي، وإنما استكمل جوابه بكلمة " الحمد لله على سلامتك". صحيح الإجازة قصيرة لكنها مفيدة. فيها راحة وسمر بين الزوجة والأولاد.
كان محمد فرحاً لقدومي، لأنه منذ فترة ينتظر دوره في الذهاب إلى مدينة حمص، وربما سيحصل على يوم زيادة عني.
دائماً كان يتحدث عن ابنه الوحيد. ينقل إليَّ حركاته، وكلماته المتقطعة... الآن أصبحت الإجازة في جيبه.
أسمع ضجيج الآلة الكاتبة. تتقاطع رنّات حروفها مع نبضات قلبي. الشمس ترتفع، وتنهض فوق كتف السماء، وقطرات الندى تمتصها الحرارة. تنحدر قطرات العرق منزلقة فوق جلد وجهي. حروف الآلة الكاتبة تنهض، وأخرى تلتوي بين أصابع أبي بسام " الرنكوسي".
تباشير فيها لحظة وداع، تحتضنها تجاعيد وجه "الرنكوسي"، لكنه لا يريد البوح بها. عِشْرة سنة ونصف لا يريد أن يطويها في دقيقة. هو ليس مسؤولاً عن ذلك. مجند حريص على حفظ الأسرار العسكرية.كأننا في لحظات الوداع، هكذا نطقت الحاسة السادسة. .. لا يا محمود! لم أصدّق أن أمراً إدارياً مازال في بطن الآلة. "ينقل الرقيب محمود من الكتيبة رقم. .. إلى الكتيبة رقم.. التابعة للواء. . ويأتي بدلاً عنه الرقيب عصام، دون أسباب مدوّنة في الأمر الإداري".
سبب النقل يحتفظ به قائد الكتيبة وحده، ومن حقّه، ولكن السؤال:
لماذا النقل يا ترى؟
في الوقت الذي تتحفز الكتيبة إلى جنوبي لبنان "صيدا" وتستعد لصد العدوان الصهيوني! ظلّ السؤال يؤرقني لماذا الأمر بنقلي. . أنا الرقيب محمود ؟!! وبقي يرافقني، وأنا في طريقي إلى مساعد المهمات، أحمل أمتعتي. أنتظر مع الجنود المجتمعين أمام غرفة المهمات. وضعت الكيس فوق كومة من الحجارة. جلست فوقه. مسحت العرق التموزي عن وجهي. أشعلت السيجارة العاشرة. حدقت مطّولاً أتأمل. تأكدت من الخبر، من خلال الكلمات المتقطعة بين فواصل ضحكات الجنود.. إلى صيدا. .. إلى جنوبي لبنان.. الناقورة. .. فلسطين. . العدو.. الأسلاك المكهربة.. الكيبوتسات!!..
تداخلت الأمور في ذهني، بل اختلطت! الأمر الإداري للرقيب محمود فقط، ماذا عن البقية؟
لم يحضر الجواب على الفور، لكنني تنبهتُ إلى أمر آخر، حَضَرتْ تفاصيله في لحظة غضب.. تذكرت "أنهم " طلبوا من الذاتية معلومات البطاقة الشخصية. . الأسم. الكنية. . تاريخ الولادة. . رقم المسكن.
أدرت وجهي باتجاه جندي يحمل الصمت والهدوء في بريق عينيه.
تذكرت اسمه من كثرة إجازاته المرضيّة، ونقاهاته الطبيّة. كاد أن ينهي خدمته الإلزامية. وهو يقيس الطرقات بين السهل والمدينة وبين الكتيبة والمشفى العسكري، معلول، يشكو من أمعائه.لايستطيع أن يأكل كما يشاء. يعيش على اللبن الحلو، والبطاطا المسلوقة. طال شرودي، وأنا أتمعّن في وجهه الأصفر، كالشوك اليابس.
تتداعى أفكاري. اقترب من معرفة أسمه، وكنيته "رياض شحادة"..
ارتحت قليلاً حينما سألته عن موعد الانطلاق إلى صيدا. تيقنت من الخبر، وبدأت أهذي هذياناً مشوباً بالغربة. احتقرت نفسي..
الوجع يعود إليّ وبصماتهم تلاحقني!.
ماذا يارياض بعد؟. . ألم تسمع بقوات الردع! أصبحنا من قوات الردع، وهذه الحواجز المنصوبة في أرض الكتيبة يتدرب عليها الجنود. . الرياضة صباحية، ومسائية. . القفز من فوق السطوح.. تدريبات مكثفة على القتال القريب.
البارحة كُسرت ساق بشار، عندما قفز من علو أربعة أمتار، وشُرطت يد آخر حينما كان يشدّ الحبل، وغيرهم يتلقون العلاج في مشفى المزّة العسكري. لقد سّماها بعضهم "مجزرة شد الحبل"..أرهقتنا التمارين السويدية، والجري، وسباق الضاحية، ولكن أجسامنا أصبحت تتألق، وأكثر أناقة. قطع حديثنا أبو هشام، عندما صرخ، ورفع يده " خلصوني منكما، لم يبق غيركما. هيّا أسرعا"
الوداع صعب يا أبا هشام. قلبي الذي كان يقفز على حدود الكتيبة، وفوق صخورها البازلتية، من الصعب أن يعود إلى مكانه.
الخبز والملح والسفر الطويل والعذابات الحلوة.. هل تذكر عندما تركنا دير الزور، وانطلقنا من أرض "المالحة " على طريق تدمر؟
يومان يا أبا هشام حتى وصلنا "إركيس" جنوب غربي دمشق. كيف أنسى هذه الفترة؟ من ينسى ذلك، يشبه نبتة تميد مترنحة في أرض رخوة! أرضنا صلبة يا أبا هشام، والخندق الذي يجمعنا، يقف خلفه شعب يسند ظهرنا، وسنداننا يتصلب من شدة الطرق عليه.. فلماذا اليوم تطرقون رأسي؟

يتبع...........................

اذا تريدون التكملة ردو على الموضوع

احباب الروح
22-04-2007, 12:32
..



شكـــل البدايـــه رووعــــه


يسلمــــووو جــــون ::جيد::



ناطـــره التكملــه



^_*




..

بلبل.نت
25-04-2007, 18:59
مشكووووووووووووووووووووور اخووي والله فله

بلبل

جون 444
25-04-2007, 21:01
يا أبا هشام على دفتري. أصبحتُ بريء الذمّة الآن. . أمهر خاتمك وتوقيعك هنا.
في طريق عودتي إلى قيادة الكتيبة شربت آخر كأس من الشاي صنعته يد "الرنكوسي"..
ودعتهم مع قبلات ودموع. . إلى اللقاء. . إلى اللقاء!!...

-2-

الأيام تتسارع، وتمضي الشهور. سنتان أو ثلاث ستمضي. العمر همزة وصل مكسورة. سطور ملونة، كسهول بلادي، مجعّدة كتلالها.
يكاد الدم ينفر من وجهي. لم أنظر خلفي، حينما ودعت أصدقائي. . بصري يمتد. يسوح في الربوع الواسعة. يقطع الخنادق الأمامية. أفكاري كالسواح تنتقل بين المناطق الأثرية. حملي ثقيل. في بطن كيس البحارة أحلام ووطن وربوع، ومياه آسنة، وهواء أكسدته الحروب، وفوارغ طلقات. في السلم يفتشون عني، في البيوت، وبين جدران الجامعة. يوقعون مع قسم اليمين أنهم شاهدوا ضوء بيتي، باليوم والتاريخ. وفي الحروب يحمّلونني كيسي وأمتعتي وحذائي.
قلبي جزء من هذا التراب. وصلة من هذه الطرق الطويلة. قسمة من السهول الممتدة حتى مشارف التلال. . أينما ذهبت سأغرد مع أحلامي، سأضرب أوتاد خيمتي فوق أية تلّة أو جبل، أو بجانب الوادي... الأحلام تتطاير من رأسي كعصافير الشتاء.
الحاسة السادسة بدأت تتكلّس. لم تَعُد صادقة. أصبحت تعكس الأمور. تكذب علّي. تحوّل الكذب الأبيض إلى كذب أسود. اصبح الذي يعمل يُعاقب. مكروهاً، انعزالياً ذليلاً، حقيراً، مثل كلب شارد يصطاد الذباب من قلّة الحيوانات النافعة.. أنا ذبابة أو حيوان نافق.. أَمُنافق الذي يصرخ في وجه الريح! أمتحايل الذي يفتح ذراعيه للعواصف! جبان مَنْ يسرق قوتي! مَنْ تعوّد على حبّ الناس تسمو نفسه. " لا تعود نفسك يا محمود على كرُه الناس، إكْراه الأمر القسري. إلعن التوقيع على أمر نقلك الرابع".
قلت هذه العبارات لنفسي.. ثقبت أمعائي كي تخرج آلامي الداخلية لوّنت بؤبؤي عينيّ، بلون السماء والأرض. كالعسل على قلبي أن تفتح الأودية بطونها للراقصين حُبّاً في خنادق المواجهة، التي تعكس خوذاتهم شمس الوطن. وتمتلئ قلوبهم من ألحان السنونو الهاربة من برد الشتاء.
أنهيت تداعياتي عندما قفز إلى محطة ذكرياتي شريط طويل من الصور. بدأت أتطلع إلى محطتي الجديدة.. إلى كتيبتي الرابضة خلف الوادي، تحتضن أرض الجولان. تطلّ عليها التلال والجبال.
ارتقت نفسي مع هذه القمم. انبسطت روحي. تزهو، والهواء القادم من التلال يمسح بأصابعه وجهي، يُضفي على جسدي ثوباً قاتم اللون، يحمل بقع الدماء الجافة.
قعقعت في دواخلي طلقات خلبيّة، ملونة، وتحوّل ضباب الشتاء القاسي إلى مطر.
مطر يغسل جسدي الذي أوهنته متعاعب الطريق، وتبلل حملي الثقيل. أصبح كثوب معصور.



-3-

بيروت تئنّ مجروحة. رقصت فوق مسرحها عشرات التنظيمات المسلّحة.
دوختها القذائف. لوّنت بحرها آلاف الطلقات، وآلاف المذبوحين والمدعوسين ليلاً ونهاراً.
جفّ نهر بيروت من كثرة الذبائح والولائم، ونحن نستمع إلى نشرات الأخبار، تعزّينا أحياناً الجمل الإخبارية من إذاعة " مونتي كارلو" تجذبنا في أحيان أخرى تصريحات القادة العرب.
بدأت الأحاديث والمناقشات تضيع في متاهات. أصبحت القرارت المكتوبة والشفوية تترافق مع الموت بالجملة.
سمعتُ في إحدى نشرات الأخبار الصباحية. " إن قوات الردع في جنوبي لبنان تعرّضت لقصف إسرائيلي.. وردّت قواتنا على العدو وأحدثت خسائر مادية في صفوفه".
بينما كنت متوجهاً إلى كتيبتي الجديدة، أحمل محفظة فيها أدوات الحلاقة، وغيارات داخلية، ومنشفة، وزوج جوارب احتياط، وراديو صغير. أكدّت إحدى المحطات الأجنبية صحة الخبر.
تتدحرج إلى مخيلتي صور أبي هشام، ومحمد، والرنكوسي، وغيرهم. ثم وقفتْ أمامي صور أخرى. . توابيت ملفوفة بعلم بلادي، وتوابيت ممتلئه بمواد مهرّبة..سيارات محطمة، وخنادق تضجّ بالجنود، ونهر " الأوّلي" يقطع المسافة من مرجعيون، يصل إلى البحر المتوسط، شاهد ٌ صادق على ماجرى، ومايجري. يغتسل فيه الجنود ويتركون عرق أجسادهم المالحة..
قطعت مسافة طويلة فوق طريق أسفلتي. الشمس تقذف حرارتها فوق رأسي. يضحك النسيم من الجهة الغربية، يجفف قطرات العرق الواقفة على أطراف حاجبّي. كلما اقتربت تفتش عيناي بين الحفر، والتراب المرتفع خلف الخنادق. لا وجود لبشر. لم ألمح الجنود الرّصاد، ولا المناظير، كانت التلال تقترب مني، وأنا اقترب منها، وتبقى المسافة طويلة‍.
ياإلهي ‍ ما أقرب الأفق الذي يشكل ستارة وراء الجبال.. بعيدة التلال. أمشي يا محمود. تنعّم بهذه التربة الذهبية، والأعشاب المتيبّسة جوانبها.
وصلت إلى "رسم خميس". الصيف في نهايته، وأيلول يحبل بالأمطار. وجوه الجنود ليست غريبة عني، مثل وجه الرنكوسي، ومحمد، وأبي هشام، آخر سلّمني بطانيات، ووسادة، وسرير صدئ وضَعْته في فم الخيمة، أسندته بالأحجار، وجعلت منها صينية للطعام. أتكئ عليها. أفتش في ثقوبها. أنكش الأتربة المتجمدة فيها. وتنبسط أمامي مناظر متباينة. . لا وجود للأشجار. قرية متناثرة البيوت، ورُعاة يسيرون خلف مواشيهم. أجراس تصدح، ونعاج تجتر. أنفاس العشب المهضوم، ورائحة البول، تنقلها الرياح كلما هبّت علينا.
ساعات الغروب في هذا اليوم تمرّبطيئة. المناوبة في آخرها، وسيحدث التبديل بعد شهر.
خلال هذا الشهر أصبحت أعرف كل عناصر السرّية، لكنني كنت أتحاشى قائدها...قرأت في ملامح وجهه قساوة الطبيعة. في صرامة أوامره المكروهة، خشونة وجفافاً. لا يحترم أحداً. حليق الرأس، يهتم بعضلاته وحمل الأثقال. يقضي اليوم يفتش عن الحجل والأفاعي. ومن خلال رحلة الصيد اليومية، يتفقد السرايا والفصائل. عندما تعرّف إليّ مساء، قال:
أترى تلك النقطة؟. توجد هناك جماعة، وقائد هذه الجماعة في إجازة.. مهمتك الآن، المبيت هناك، خلف النهر.
لم أتمكن من تسليم الأمر الإداري إلى قيادة الكتيبة. أمر جديد، ومهمة جديدة. ألا يحترمون الضيوف!!...
حصلت على بعض الإرشادات، منها : انتبه! ‍ الأرض ملغومة‍! أمامك نهر.. أسرع قبل أن يحلّ الظلام.
مشيت باتجاه النقطة، أتنقل بين الألغام. أقفز بحذر. أقطع الحقول المسوّرة بالحجارة المكوّرة. الشمس توزّع آخر حزمها الضوئية على مياه النهر. يمتد ظلّ التلال. استطعت بعد محاولات، ومعاناة، وحوارات، أن أجد بعض الحجارة التي ساعدتني للوصول إلى ضفة النهر الآخرى.
اختفت الشمس وراء الجبال، ولم يبقَ سوى بقعة حمراء تلامس حدود الليل.
صعدت، وأنا ألهث. ثيابي تعصر ماء. وبصري يتقدم نحو الأمام. أبحث عن مكان الجماعة‍
تتلاشى موجات التعب. . أخذ قلبي موقعه الصحيح، حينما اقتربتُ من حارس النقطة العسكرية.. أوقفني.. مَنْ أنت ‍ كلمة السرّ‍.
لم تنفع الابتسامة في مثل هذه الحالات. أصرّ الحارس على معرفة كلمة السرّ، وعندها قلت له " تفاحة" أشار بالأمان، ورّحب بالضيف الجديد.
نشرت ملابسي. ارتديت بذلة عمل من أحد الجنود. انتظرنا البطاطا المطبوخة مع البندورة. أكلنا، وشربنا الشاي.
كان الليل بعد العشاء يلفّ الأرض والسماء. يجثو بثقلة ورعبه فوق التلال المجاورة، وبين فترة وأخرى تظهر الأنوار الكاشفة، وأصوات جنازير الدبابات، وأنين السيارات والبلدوزرات، وقذائف مدفعية، كأنها تُعلن بداية حرب. . لم تتوقف طوال الليل !‍.
غسل الصباح تعب الليلة الفائتة. تسابقتُ مع زخات الأمطار الخريفية، متجهاً إلى خيمتي. لمحت قائد السرّية بلباس الصيد.. بارودة تستلقي فوق كتفه. يغطي رأسه الحليق بطاقية ذات رفٍّ ممدود للأمام.
استلقيت على سريري أبحث عن أسرار الأيام القادمة. مللتُ من اليوم الأول.. أكل ونوم ولعب ورق وشرب شاي.. أحاديث فارغة، وهواء نقي جاف، يختلف عن هواء المدينة الملوث. هدوءَ ونوم عميق. كسل مكروه. ابتسامات، وقهقهات يصدرها بعضهم، ملوثة كمياه بردى.
أفكار تدور في رؤوس فارغة دون معنى. تخرج تعليقات، وأحياناً أحلام، بالذهاب إلى لبنان. غنى وفقر. الفقير المتروك في الخنادق الخلفية، يصبح غنياً، وذا صحة جيدة إذا التحق بقوات الردع. مهمات ورواتب إضافية.
البحر نهب العقول، جعلها صغيرة كبيض السمك. البيع والشراء.. الأجساد المحروقة من شمس الشواطئ الرملية. . نفوس مطاطية يسيل لعابها بارداً على إيقاع وتموجات الأحاديث، عن البرج، والروشة، والبقاع، وساحل مدينة صيدا، عن الفتيات اللواتي يبحثن عن أزواج، عن العوانس والعاهرات.
مضى الشهر الأخير من فترة المناوبة على هذه الحال. أصبحت كروشنا تثقل أجسامنا، ووجوهنا موّردة، كالأغنام في ربيع دسم المرعى.
لفّتنا موجة العودة، وسيارات محمّلة بالأسرّة الحديدية، والخيم الكتّانية، والبطانيات، والأسلحة الفردية.
كانت رحلة قصيرة في الكتيبة الجديدة. وهل ستكون أوامر وتعليمات جديدة؟
كنّا نشاهد، ونرسم بيروت في أحلامنا، وهل تتحقق الأحلام؟ ومتى نذهب كقوات ردع إلى بيروت؟
اصطدمت أحلامنا بالمقرّ الجديد. أرض صخرية، وأشواك، ودروب ضيّقة رسمتها الحيوانات. ... حُمرٌ سائبة، وطريق أسفلتي يحمي حدود الكتيبة من جهة الغرب، وقرى متباعدة.
أصبحنا في أرض جرداء. . الهواء البارد، الجاف يحمل معه شتاء قاسياً كيف سنقضي هذا الشتاء، وأين؟

يتبع.................

Wakashimazu
27-04-2007, 09:21
يسلمووووووووووووووووووووووووووووووو

على المووضوع الحلووو



والله لا يحرمنا من مواضيعكم الشيقه والمثيره


اخوكم" الحارس رعد "

احباب الروح
02-05-2007, 18:37
يسلمـــووو جـــون ع التكملـــة


يعطيــك الــف عــــــــافيـــــه يارب ::جيد::


لا تتــــأخر علينـــا


ناطريــــن الباقــــي


:D


..