PDA المساعد الشخصي الرقمي

عرض كامل الموضوع : خريف البطريرك .. جابرييل جارسيا ماركيز



sakoora
02-08-2006, 03:58
بسم الله الرحمن الرحيم

الأخوة والأخوات الأفاضـل

أعضاء وزوار منتديات مكسات

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته

أترككم مع هذه المقدمة عن المؤلف أولاً


جابرييل جارسيا ماركيز


حيث البنادق تقتل الفلاحين.. يولد ماركيز..!

ولد غابرييل خوسيه غارسيا ماركيز في السادس من مارس عام 1928 في أراكاتاكا ، ولأن والديه كانا فقيرين ولا زالا يكافحان، فقد وافق جدّيه على مهمة تربيته، وهذه كانت عادة شائعة في ذلك الوقت.. لكن لا يمكن فهم التكوين الفكري والسياسي للكاتب دون التعرض لنبذة عن كولومبيا في ذاك الوقت وكيف عومل أجداده من قبل السلطات ...

حصلت كولومبيا على استقلالها من أسبانيا عام 1810، وكان العداء والكراهية يسودان العلاقة بين الأسبان والهنود بالبلاد، فالأسبان مزقوا الأراضي في بحثهم عن الذهب، والمرتدين عن الدين، والنفوذ السياسي، في النهاية أعلنت كولومبيا استقلالها عن أسبانيا عندما عزل نابليون الملك الإسباني عام 1810، نعمت البلاد بعدها بفترة قصيرة ببعض الحرية إلى أن غزاها ثانية الجنرال موريللو عام 1815 من خلال عدد من الحملات هي الأكثر دموية في تاريخ المنطقة. غير أن سيمون بوليفار أعاد تحرير البلاد عام 1820 وأصبح أول رئيس لها. في عام 1849 تماسكت البلاد وابتعدت عن الخلافات إلى درجة تكوين حزبين سياسيين، هما حزب الأحرار وحزب المحافظين اللذين لا يزالا قائمين حتى هذا التاريخ.

هذان الحزبان شكلا الإطار الرئيسي لمعظم ما كتبه غارسيا ماركيز في مجال أدب الخيال، ويمثل الحزبان أسلوبان مختلفان تماماً فكريا وطبقيا، وكلاهما حاول أن يكون حزباً قمعياً ومرتشياً، إضافة إلى أن البلاد انقسمت إلى إقليمين رئيسيين هما الكوستينوس لمنطقة ساحل الكاريبي، والكاتشاكوس لمنطقة المرتفعات الوسطى، وكلا المجموعتين استخدمتا تعبيرات تحتقر الأخرى، حيث يتميز الكوستينوس بتكوينهم من خليط عرقي صوته مسموع، يميل إلى الخرافات، وبشكل أساسي منحدرين من أصول تعود إلى القراصنة والمهربين، وفيهم خليط من العبيد السود، وهم من هواة الرقص وحب المغامرة، أما الكاتشاكوس فهم أكثر رسمية وأرستقراطية، انحدروا من أصول عرقية نقية، ويشعرون بالفخر بسبب التقدم الواضح في مدنهم مثل مدينة بوغوتا. إضافة إلى فخرهم بمقدرتهم على التحدث باللغة الإسبانية بطلاقة . ..وكان قد أشار غارسيا ماركيز مراراً إلى أنه يرى نفسه " كمستيزو " و " كوستينو"، أي هجين فيه خصائص الاثنين معاً مما مكنّه من تكوين نفسه وتطويرها ككاتب.

وعلى مدى القرن التاسع عشر كانت الثورات والحروب الأهلية على المستويين المحلي والقومي قد دمرت كولومبيا، ووصلت ذروتها في 1899 عندما بدأت حرب الألف يوم، انتهى هذا الصراع في أواخر 1902 بهزيمة حزب الأحرار. كانت هذه الحرب قد خلفت ما يزيد على 100 ألف قتيل غالبيتهم من الفلاحين البسطاء وأبنائهم. وقد خاض هذه الحرب جدّ غارسيا ماركيز.

عامل آخر أثر على أعماله هو مذبحة إضراب مزارع الموز عام 1928- أي سنة مولده - ، حيث كان الموز له أهميته الاقتصادية في البلاد في ذاك الوقت ، وشركة الفواكه المتحدة الأمريكية كان لها حق الاحتكار الفعلي لتجارة الموز التي كانت في تلك الفترة المصدر الوحيد لدخل العديدين من الكوستينو بما فيها أراكاتاكا وكانت الشركة مرتشية استغلت عمالها الكولومبيين بشكل بشع.

في أكتوبر من عام 1928 قام ما يزيد على 32 ألف عامل بالإضراب مطالبين بأوضاع عمل صحية، وعلاج طبي، ودفعات نقدية بدلاً من صكوك الشركة التي لا يمكن صرفها. وكان رد فعل الأمريكيين تجاه إضراب العمال واعتراضاتهم هو تجاهل مطالبهم، وبعد بداية الإضراب بفترة قصيرة احتلت الحكومة الكولومبية منطقة مزارع الموز، واستخدمت القوات المسلحة لمجابهة المضربين، حتى أنها أرسلت قواتها لإطلاق النار على العمال العزل حينما حاولوا التظاهر بالقرية مسقط رأس ماركيز ، وبذلك قتلت المئات منهم. وخلال الشهور القليلة التي تلت، كانت أعداد كبيرة من الناس قد اختفت، وفي النهاية أُنكرت الواقعة برمتها بشكل رسمي، ومسحت من كتب التاريخ تماماً. لكن غارسيا ماركيز أدرج هذه الأحداث ووثقّها فيما بعد في كتابه "مائة عام من العزلة".


الأساطير والكتب تملأ عالم غابيتو


كانت كنية ماركيز التي ينادى بها هي غابيتو "غابرييل الصغير"، كان صبياً هادئاً خجولاً، مفتون بقصص جدّه وخرافات جدته، وعداه هو وجده كان البيت بيت نساء، ذكر ماركيز فيما بعد أن معتقداتهن جعلته يخشى مغادرة مقعده، نصف رعبه كان من الأشباح التي كن يتحدثن عنها، ومع ذلك كانت هذه الحكايات هي بذور أعماله المستقبلية. قصص الحرب الأهلية، وقصة مذبحة الموز، وزواج والديه، والمزاولات اليومية للطقوس المتعلقة بالخرافات، إضافة إلى حضور ومغادرة الخالات، وبنات جّده غير الشرعيات كل هذه الأمور كتب عنها غارسيا ماركيز فيما بعد قائلاً: "أشعر أن كل كتاباتي كانت حول التجارب التي مررت بها وسمعت عنها وأنا برفقة جدي".

مات جده عندما كان لا يزال في الثانية عشرة من عمره ونتيجة لذلك ساءت حالة العمى لدى جدته، فذهب ليعيش مع والديه في سوكر، حيث يعمل والده كصيدلاني بعد أن وصل إلى سوكر بفترة وجيزة، قرر والداه أنه قد آن الأوان ليتلقى تعليمه بشكل رسمي، فأرسلا به إلى مدرسة داخلية في بارانكويللا، وهي مدينة تقع على ميناء نهر ماغدالينا، هناك اشتهر عنه قصائده الظريفة ورسومات الكاريكاتير وبشكل عام كان جاداً وغير رياضي إلى درجة أن أقرانه في الفصل أطلقوا عليه كنية " الرجل العجوز".

في عام 1940 عندما كان لا يزال في الثانية عشرة من العمر، حصل على بعثة دراسية لمدرسة ثانوية للطلبة الموهوبين، كان يدير المدرسة اليسوعيون المتدينون، وكانت هذه المدرسة التي تسمى الليسو ناسيونال في مدينة زيباكويرا التي تبعد 30 ميلاً إلى الشمال من العاصمة بوغوتا، كانت الرحلة إليها تستغرق أسبوعاً، وفي ذلك الوقت وصل إلى نتيجة وهي أنه لا يحب بوغوتا. كانت أول مرة يرى فيها العاصمة، وجدها كئيبة وظالمة، وتجربته هذه ساعدته على تأكيد هويته ككوستينو.

وجد نفسه في المدرسة مهتماً بدراسته إلى أقصى حد، وفي الأمسيات كان يقرأ على زملاؤه في السكن الداخلي محتوى الكتب بصوت مرتفع ,بعد تخرجه عام 1946 عندما كان في الثامنة عشرة من العمر حقق أمنية والديه بالالتحاق بجامعة يونيفيرسيداد ناسيونال في بوغوتا كطالب لدراسة القانون بدلاً من الصحافة.


مرسيدس .. رفيقة الحياة


خلال تلك الفترة التقى غارسيا ماركيز زوجة المستقبل أثناء زيارة لوالديه حيث تم تعريفه على فتاة في الثالثة عشرة من العمر تدعى مرسيدس بارتشا باردو. كانت شديدة السمرة وهادئة، انحدرت من أصول مصرية، يقول ماركيز إنه وجد أنها "أكثر إنسان ممتع قابله في حياته"، وبعد تخرجه من الليسيو ناسيونال، أخذ إجازة قصيرة مع والديه قبل الذهاب إلى الجامعة، أثناء تلك الفترة طلب يدها للزواج.


ماركيز مع زوجته مرسيدس و أحد أبنائه



وافقت على شرط أن تنهي دراستها أولاً، وقامت بتأجيل الخطوبة، ومع أنهم لم يكونوا ليتزوجوا قبل أربعة عشر عاماً .. المقربون من الكاتب يعرفون مدى أهميتها بالنسبة له؛ فهي التي تدير أمور العائلة، وهو يتحدث عنها باستمرار، ويقول "إن زوجتي وولدَي أهم ما في حياتي، وبفضلهم استطعت تخطي الصعاب التي واجهتني", ولماركيز ابنان "رودريجو" مخرج سينمائي يعيش في الولايات المتحدة، و"جونزالو" مصمم جرافيك ويعيش في المكسيك.

ولد ليكون أديبا.. وجد غارسيا ماركيز أنه لا يوجد لديه أي اهتمام في دراسته، وأصبح كسولاً إلى درجة كبيرة، فبدأ بالتخلف عن حضور المحاضرات، وأهمل دراسته، ونفسه كذلك، كان يفضّل التجول في بوغوتا، والتنقل في مواصلاتها، وقراءة الشعر بدلاً من دراسة القانون، تناول طعامه في المقاهي الرخيصة، ودخن السجائر، واختلط بالمشبوهين المعتادين مثل الاشتراكيين المثقفين، والفنانين المتضورين جوعاً، والصحفيين الواعدين، وفي يوم ما، تغيرت حياته بأكملها من خلال قراءة كتاب واحد بسيط ، اسمه "كافكا".. كان لهذا الكتاب أكبر الأثر على ماركيز، حيث جعله يدرك أنه لم يكن على الأديب أن يتحدث عن نفسه على شكل قصة تقليدية. يقول: "فكرت في نفسي.. لم أعرف إنساناً قط كان مسموحاً له بالكتابة بهذا الأسلوب، لو كنت أعرف لكنت بدأت الكتابة منذ زمن طويل" .." إن صوت كافكا كان له نفس الصدى الذي امتلكته جدتي، كانت هذه هي طريقتها التي استخدمتها في رواية القصص، حيث تحدثت عن أغرب الأحداث، بنبرة صوت طبيعية تماماً".

حاول بعدها أن يلحق بما فاته من الأدب الذي لم يكن قد اطلع عليه، بدأ بالقراءة بنهم شديد، وبدأ أيضاً بكتابة قصص الخيال، وتفاجأ هو شخصياً بقصته الأولى "الاستقالة الثالثة" عندما نشرت عام 1946 في صحيفة بوغوتا الليبرالية "الإسبكتيتور" ( حتى أن ناشره المتحمس مدحه وقال عنه "العبقري الجديد للكتابة الكولومبية" )، دخل بعدها ماركيز مرحلة الإبداع بكتابة عشرة قصص أخرى للصحيفة خلال السنوات القليلة اللاحقة.

sakoora
02-08-2006, 04:10
العنف يطارد ذاكرة الأديب


هناك فترة عايشها الأديب ماركيز وأثرت على كتاباته بشكل كبير يُطلق عليها " لا فايولينسيا" أي العنف، امتدت جذور هذا العنف إلى مذبحة الموز، في ذلك الوقت شخص واحد فقط من رجال السياسة امتلك الشجاعة إلى درجة الوقوف في وجه الحكومة وانتقاد فسادها، كان اسمه جورجي ايليسير غيتان، وهو شاب من أعضاء الكونجرس من الليبراليين، حيث نادى في اجتماعات الكونجرس بالتحقيق في الحادث , بدأت شهرة غيتان بعدها تنتشر كبطل للفلاحين والفقراء .

لكنه أصبح مصدر قلق لأعضاء الكونجرس من ذوي النفوذ من كلا الحزبين، وكان يبشر من خلال الإذاعة بحلول وقت التغيير الذي يجبر الشركات على التصرف بشكل مسئول , بحلول عام 1946 كان غيتان قد أصبح ذا نفوذ قوي لأن يتسبب بانشقاق في حزبه الذي كان قوياً وفي المرتبة الأولى منذ عام 1930 ، أدى هذا الانشقاق إلى عودة المحافظين إلى السلطة، وإلى الشعور بالخوف من ردة فعل انتقامية متوقعة، لذلك بدءوا بتنظيم جماعات برلمانية كان الغاية منها إشاعة الرعب في قلوب الناخبين الليبراليين، وهذا ما نجحوا في تحقيقه بشكل يثير الإعجاب عندما قاموا بقتل الآلاف منهم، في عام 1947 استطاع الليبراليون أن يسيطروا على الكونغرس، وبذلك نصبوا غيتان رئيساً للحزب وفي التاسع من أبريل عام 1948 اغتيل غيتان في بوغوتا وارتجـّت المدينة بحالات مميتة من الشغب لمدة ثلاثة أيام، هذه الفترة أطلق عليها اسم بوغوتازو وكانت حصيلتها 2500 قتيل، كما تم تنظيم فرق جيوش مقاتلة من كلا الحزبين، وساد الرعب أنحاء البلاد .. حرقت أثناءها المدن والقرى، وقتل الآلاف بشكل وحشي ، وصودرت المزارع، وهاجر أكثر من مليون فلاح إلى فنزويلا . وفي النهاية حلَّ المحافظون الكونجرس، وأعلنوا البلاد في حالة حصار، وتمت ملاحقة الليبراليين وحوكموا وأعدموا .

تقطّعت أوصال البلد في فترة العنف هذه التي كانت من نتائجها مقتل ما يزيد عن 150 ألف كولومبي حتى عام 1953 ، هذا العنف أصبح فيما بعد الخلفية الأساسية للعديد من روايات ماركيز وقصصه، خصوصاً ما كتبه في رواية "الساعة الشريرة".

وككاتب إنسانيات من عائلة متحررة، كان لاغتيال غيتان عام 1948 تأثير كبير على ماركيز، حتى أنه شارك في مظاهرات البوغوتازو ، أغلقت في تلك الفترة كلية اليونيفيرسيداد ناسيونال، مما عجّل بانتقاله إلى الشمال الأكثر أمناً، حيث انتقل إلى جامعة كاراتاغينا، هناك تابع دراسة القانون بفتور، وأثناء ذلك كان يكتب عموداً يومياً لصحيفة اليونيفيرسال، وهي صحيفة كارتاغينية محلية، في النهاية قرر أن يتخلى عن محاولاته في دراسة القانون عام 1950.

وقد كانت الصحافة مصدر إلهام كبير لماركيز في الكثير من أعماله حتى أن واحدة من أشهر أعماله "خريف البطريرك" قد اختمرت في رأسه بشكل كامل أثناء تغطية صحفية كان يقوم بها لمحاكمة شعبية لأحد الجنرالات المتهمين بجرائم حرب، ومن ناحية أخرى فان عمله الصحفي أتاح له نفوذا كبيرا في كثير من الأنظمة الحاكمة ومراكز السلطة في أمريكا اللاتينية بالإضافة إلى شبكة اتصالات واسعة بشخصيات سياسية ما كانت شخصيته كأديب ستسمح له بها.




"فولكنر" و "سوفوكليس".. إشارة البدء


" ان اكثر ما يهمني في هذا العالم هو عملية الإبداع . أي سر هو هذا الذي يجعل مجرد الرغبة في رواية القصص تتحول إلى هوى يمكن لكائن بشري أن يموت من اجله ، أن يموت جوعا ، أو بردا ، أو من أي شئ آخر لمجرد عمل هذا الشيء الذي لا يمكن رؤيته أو لمسه ، وهو شئ في نهاية المطاف ، إذا ما أمعنا النظر ، لا ينفع في أي شئ ؟ "

كرس ماركيز في الفترة اللاحقة نفسه للأدب حيث انتقل ليعيش في بارانكويللا، وبدأ بالاختلاط بالدائرة الأدبية التي يطلق عليها اسم إيل غروبو دي بارانكويللا، وتحت تأثيرها بدأ يقرأ أعمال همنجواي، وجويس، وولف، والأهم من كل هؤلاء فولكنر. كذلك وقعت يده على دراسة عن الروائع الأدبية وجد من خلالها الإلهام الكبير في أوديبوس ريكس التي كتبها سوفوكليس. أصبح كل من فولكنر، وسوفوكليس أكبر تأثير مرّ عليه في حياته خلال أواخر سنوات الأربعينات وبداية الخمسينات، بهره فولكنر في مقدرته على صياغة طفولته على شكل ماضٍ أسطوري، ومن كتاب أوديبوس ريكس، وأنتيجون لسوفوكليس وجد الأفكار لحبكة رواية تدور حول المجتمع، وإساءة استخدام السلطة فيه، علمه فولكنر أن يكتب عن أقرب الأشياء إليه وقد حدث.

عندما عاد برفقة والدته الى بيت جدته في أراكاتاكا، لتجهيز البيت من أجل بيعه، وجدوا البيت في حالة مزرية وبحاجة للكثير من الإصلاح، ومع ذلك، أثار هذا البيت في رأسه زوبعة من الذكريات كان يرغب في رواية بعنوان "لاكازا " البيت"، وعند عودته إلى بارانكويللا كتب أولى رواياته "عاصفة الورقة" بحبكة معدّلة عن أنتيجون، وأعاد نقلها إلى البلدة الأسطورية، ولكن في عام 1952، رفض الناشر عرض القصة إلى عام 1955 حين كانت الأجواء تهيأت لإخراجها من الدرج وأثناء وجود غارسيا ماركيز في أوروبا الشرقية وقد نشرت على يد أصدقاء ماركيز الذين أرسلوها للناشر.

كان في هذا الوقت لديه أصدقاء وعمل ثابت في كتابة أعمدة لصحيفة الهيرالدو، وفي المساء عمل على كتابة قصصه الخيالية، بعد ذلك عام 1953 حاصرته حالة من القلق، فجمع حاجياته، واستقال من عمله، وبدأ يبيع الموسوعات في لاغواجيرا مع صديق له، ثم خطب مرسيدس بارتشا بشكل رسمي، انتقل بعدها في 1954 مرة أخرى الى بوغوتا، وقبل بالعمل ككاتب للقصص والمقالات عن الأفلام في صحيفة السبيكتاتور.



نحو تحرر الشعوب..


هناك بدأ بمغازلة الاشتراكية، محاولاً أن يفلت من انتباه الدكتاتور غوستافو روجاز بينيللا في ذلك الوقت، وكان يفكر كثيراً في واجباته ككاتب في فترة العنف , وفي عام 1955 حصلت حادثة أعادته إلى طريق الأدب، وأدت بشكل ما إلى نفيه المؤقت من كولومبيا، حينما غرقت المدمرة الكولومبية الصغيرة "الكاداس" في مياه البحر العالية أثناء عودتها من كارتاغينا، وجرف العديد من البحارة عن ظهر المركب وماتوا جميعاً، عدا رجل واحد هو لويس اليخاندرو فيلساكو.




ماركيز يدعو لتحرر الشعوب




الذي استطاع أن يعيش لمدة عشرة أيام في البحر متمسكاً بقارب نجاة , وعندما جرفته الأمواج إلى الشاطئ ، أصبح بسرعة مذهلة بطلاً قومياً، فاستخدمته الحكومة في الدعاية لها، قام فيلاسكو بعمل كل شيء، من إلقاء الخطب إلى الدعاية لساعات اليد والأحذية، وفي النهاية قرر أن يقول الحقيقة.. كانت سفينة الكالداس تحمل بضائع غير مشروعة، وأغرقتهم مياه البحر بسبب إهمالهم وعدم كفاءتهم ! وبزيارته لمكاتب صحيفة ايل سبيكتاتور قدم فيلاسكو قصته لهم، وبعد تردد قبلوا بها، سرد فيلاسكو قصته على غارسيا ماركيز ، والذي أعاد صياغة قصته نثراً، ونشر القصة على مدى أسبوعين كاملين، تحت عنوان "حقيقة مغامرتي، قصة لويس اليخاندرو فيلساكو"، أثارت القصة ردة فعل قوية، فبالنسبة لفيلاسكو طردته البحرية من العمل، وكان يُخشى من أن بينيللا قد تطالب بمحاكمة غارسيا ماركيز، فأرسلته دار نشره إلى إيطاليا لتغطية نبأ الموت الوشيك للبابا بيوس الثاني عشر، غير أن بقاء البابا على قيد الحياة جعل رحلته دون فائدة، فرتب لنفسه رحلة حول أوروبا كمراسل، وبعد مراجعة للخطة في روما، بدأ بجولة في الكتلة الشيوعية، وبعد ذلك في نفس تلك السنة استطاع أصدقاؤه أن ينشروا له أخيراً روايته "عاصفة ورقة" في بوغوتا.

تجول ماركيز مسافراً بين جنيف، وروما، وبولندا، وهنغاريا، واستقر في النهاية في باريس حيث وجد نفسه عاطلاً عن العمل، عندما أغلقت حكومة بينيللا مطابع صحيفة أيل سبيكتاتور، عاش في الحي اللاتيني من المدينة، حيث حصل على متطلبات معيشته على شكل ديون مؤجلة، إضافة إلى القليل من النقود من إعادة الزجاجات الفارغة.. وهناك تأثر بكتابات همنغواي، وطبع حوالي إحدى عشر مسودة من روايته "لا أحد يكتب للكولونيل" نقرأ فيها عن كولونيل انتهى دوره السياسي واصبح خارج اللعبة، يرصد جزيئات حياته اليومية، عارضاً بؤسها، تفاصيل صغيرة تحكي ما آلت إليه حياة الكولونيل، فالرجل الذي قضى حياته عسكرياً مرموقاً في ظل الدكتاتورية التي تحكم بلداً من بلدان العالم الثالث، اصبح الآن وحيداً، منبوذاً، يعاني من بؤس وفراغ مدمرين، يتشبث يائساً بالحياة، منتظراً بريداً لا يصل أبدا، البريد الحامل لجواب الحكومة والمتعلق براتبه التقاعدي، إضافة إلى جزء من رواية "الساعة الشريرة" .

بعد الانتهاء من رواية الكولونيل سافر إلى لندن، وفي النهاية عاد إلى فنزويلا المكان المفضل للاجئين الكولومبيين، هناك أنهى روايته "البلدة المكونة من الهراء" ، الذي كان معظمه حول فترة العنف وتعاون مع صديقه القديم بلينيو أبوليو الذي كان حينها محرراً في صحيفة "ايلايت" وهي صحيفة أسبوعية في كاراكاس، وطوال عام 1957 تجول كلاهما في دول أوروبا الشيوعية باحثين عن أجوبة وحلول لمشكلات كولومبيا، مساهمين بمقالات في دور النشر الأمريكية اللاتينية المختلفة، ومع إيمانهم بوجود شيء جيد في الشيوعية، إلا أن غارسيا ماركيز أيقن بأن الشيوعية قد تكون سيئة بنفس مقدار درجة العنف التي مرت بها البلاد، وبعد مكوثه في لندن لمدة وجيزة، عاد مرة أخرى إلى فنزويلا .

وفي 1958 جازف ماركيز بالعودة إلى كولومبيا بشكل مستتر، واختفى عن الأنظار متسللاً إلى بلدته الأصلية، وتزوج بمرسيدس باتشا التي كانت تنتظره في بارانكويللا لسنوات طويلة، وبعد ذلك تسلل هو وعروسه مرة أخرى عائداً بها إلى كاراكاس ، وبعد أن نشرت صحيفة "مومينتو" بعض المقالات عن الخيانة الأمريكية، واستغلال الطغاة، أذعنت للضغط السياسي وأخذت موقفاً موالياً لحكومة الولايات المتحدة الأمريكية بعد زيارة نيكسون المدمرة في مايو، مشحونين بالغضب من موقف صحيفتهما سلّم كل من غابرييل غارسيا ماركيز، وصديقه ميندوزا استقالتيهما.

بعد فترة وجيزة من تركه لوظيفته في صحيفة "مومينتو" وجد ماركيز نفسه هو وزوجته في هافانا حيث كان يغطي أحداث ثورة كاسترو، ألهمته الثورة فساعد من خلال فرع بوغوتا في وكالة أنباء كاسترو برنسالاتينا، وكانت بداية صداقة بينه وبين كاسترو استمرت حتى هذه اللحظة.

sakoora
02-08-2006, 04:23
ساعة شريرة تصيبه بالإحباط

وفي عام 1959 ولد رودريجو الابن الأول لغارسيا ماركيز، وانتقلت العائلة لتعيش في مدينة نيويورك، حيث كان مشرفاً على فرع صحيفة "برنسا لاتين" في أمريكا الشمالية، واجتهدوا كثيراً تحت تهديدات القتل التي وجهها لهم الأمريكان الغاضبون فاستقال ماركيز من عمله بعد عام واحد، وأصبح مشوشاً بالنسبة للتصدعات الفكرية التي كانت تحدث في الحزب الاشتراكي الكوبي. فانتقل بعائلته إلى مدينة مكسيكو، مسافراً عبر الجنوب وحُرِمَ من دخول الولايات المتحدة الأمريكية مرة أخرى حتى عام 1971.

في مدينة مكسيكو عمل على ترجمة الأفلام، وعمل على كتابة السيناريوهات المسرحية، وأثناء ذلك بدأ بنشر بعض رواياته الخيالية. ساعده أصدقاءه على نشر رواية "لا أحد يكتب إلى الكولونيل" عام 1961، وبعد ذلك، رواية " جنازة الأم الكبيرة" عام 1962، في نفس ذلك العام ولد ابنه الثاني غونزالو. وأخيراً أقنعه أصدقاؤه بدخول مسابقة الأدب الكولومبي في بوغوتا. راجع رواية "الساعة الشريرة" وقدمها ففازت. فقام رعاة الجائزة بإرسال الكتاب إلى مدريد من أجل نشره، وصدر عام 1962، وكانت خيبة أمله كبيرة، فقد قام الناشر الإسباني بالتخلص من جميع الألفاظ العاميّة المستخدمة في أمريكا اللاتينية، وكل المادة التي اعترض عليها، ونقحها إلى درجة يصعب فيها التعرف على العمل الأصلي ، وجعل الشخصيات تتكلم اللغة الإسبانية الرسمية الموجودة في القواميس، فاكتئب ماركيز إلى درجة كبيرة، واضطر إلى رفض العمل، وكان عليه أن يعمل حوالي نصف عقد حتى يعيد نشر الكتاب بشكل مـُرضي.

طغى عليه الشعور بالفشل، لم يبع من أعماله أكثر من 700 نسخة، ولم يحصل على أي حقوق للتأليف، وحتى هذه اللحظة رواية "ماكوندو" فلتت من قبضته أيضاً , في عام 1967 نشر كتاب بعنوان "خبر اختطاف " عن الكفاح الدامي لكولومبيا ضد المخدرات والإرهاب.


مائة عام من العزلة

"ماكوندو" هي البلدة التي تدور فيها أحداث "مائة عام من العزلة"، والموقع الجغرافي الحقيقي لماكوندو، يقع على أرض أمريكا اللاتينية في مخيلة ماركيز. فورا بعد لحظة التنوير تلك بدأ ماركيز في كتابة روايته "مائة عام من العزلة"، كان يكتب يوميا، ولم يتوقف عن الكتابة لمدة 18 شهرًا متواصلة، كرس نفسه كليا للكتابة حتى أنه توقف عن العمل لإعالة أسرته واضطر لبيع كل ما ممتلكاته من أثاث وأجهزة منزلية، كما تراكمت عليه الديون.

مائة عام من العزلة مع مجموعة من رواياته

ماكوندو هي المدينة العالم التي أعاد ماركيز بناءها بكل ما يحمل في قلبه من ذكريات الطفولة وبيت النمل وحكايات الجدة، والموتى الأحياء، وبالنبرة ذاتها التي كانت تحكي بها الجدة الحكايات تحدث ماركيز عن الحرب والعنف وضياع المبادئ وسط الثورات الدامية والخلافات الأيدلوجية التي كانت تفتك ببلاده. نشرت مائة عام من العزلة عام 1967، بيعت منها على الفور 8000 نسخة آنذاك، وبعد مرور 3 سنوات على نشرها كانت قد باعت نصف مليون نسخة، وترجمت إلى 12 لغة، وحصلت على 4 جوائز، لقد حولت ماركيز إلى أشهر كاتب في أمريكا اللاتينية، وواحد من أشهر كتاب العالم.

دبلوماسية ماركيز لإحلال السلام

مازال ماركيز يحظى بزيارات مشاهير العالم مثل الرئيس الأمريكي السابق بيل كلينتون ورئيس الوزراء الأسباني السابق فليب جونزاليس ويقضي الساعات في مناقشة الأحوال السياسية والتطرق لدوره البارز باعتباره وسيط في عملية السلام بين متمردي الجناح الأيسر والحكومة الكولومبية وهو يري أنه نجح في إصلاح الكثير من القضايا التي غاب عنها وجه العدالة في جميع أنحاء العالم وذلك باستخدام دبلوماسيته التي اشتهر بها وهو ما يعده ماركيز تكتيكا أكثر فاعلية من مجرد الاستعانة بالبروتوكولات الرسمية.

في السادس من أغسطس عام 1986 ألقى ماركيز خطبة في اجتماع عالمي لمناسبة ضحايا قنبلة هيروشيما، رسم فيه الصورة المظلمة لحاضر الإنسان ومستقبله في ظل السيطرة النووية للدول الكبرى، وأعاد إلى الأذهان احتمالات ما بعد الكارثة، وأرجح هذه الاحتمالات أن الصراصير وحدها ستكون شاهدة على حضارة الإنسان بعد أن يحل ليل أبدي بلا ذاكرة.


نوبل بين من يستحقها ومن لا يستحقها..؟

في عام 1982 حصل غابرييل غارسيا ماركيز على جائزة نوبل للأدب عن رائعته «مائة عام من العزلة».. وعندما تسلم الكاتب الكولومبي قيمة الجائزة كان أول ما فكر فيه هو شراء دار صحفية يعود من خلالها لممارسة عمله المفضل في الحياة: "لقد ظلت النقود موضوعة في احد البنوك السويسرية لمدة ستة عشر عاما نسيت خلالها امرها تماما حتى ذكرتني بها مرسيدس فكان أول ما فعلت هو شراء كامبيو". هكذا يقول بنفسه. وكامبيو Cambio هي مجلة إخبارية أسبوعية حققت نجاحا تجاريا كبيرا بسبب المقالات التي يكتبها ماركيز فيها والتي تعتبر وسيلته للتحاور مع قرائه عن طريق الرد على أسئلتهم واستفساراتهم التي تكشف في أحيان كثيرة عن جوانب لم تكن معروفة عن حياته. كما ينقب كثير منها في أغوار مطبخه الأدبي ليكشف عن كثير من أسرار اشهر أعماله. وقال لحظة تسلمه الجائزة: "لقد أدركت أن عبقريتي الحقيقية موجودة في جذوري ببيت أركاتيكا بين النمل وحكايات الجد والجدة، على أرض كولومبيا في أمريكا اللاتينية".

أدرك ماركيز أن جائزته الكبرى ربما تذهب لمن لا يستحقها، " إنه لمن عجائب الدنيا حقًّا أن ينال شخص كمناحيم بيجين جائزة نوبل في السلام، تكريمًا لسياسته الإجرامية التي تطورت في الواقع كثيرًا خلال السنوات الماضية على يد مجموعة من أنجب تلاميذ المدرسة الصهيونية الحديثة.. إلا أن الموضوعية تفرض أن نعترف بأن الذي تفوق على الجميع هو الطالب المجد ارييل شارون.".


غابرييل خوسيه غارسيا أثناء تسلمه جائزة نوبل

ويقول عن اقتسام الرئيس أنور السادات وبيجن لجائزة نوبل السلام : "الرجلان اقتسما الجائزة، لكن المصير اختلف من أحدهما إلى الآخر، الاتفاقية ترتب عليها في حالة أنور السادات انفجار بركان الغضب داخل جميع الدول العربية، فضلا عن أنه - ذات صباح من أكتوبر 1981- دفع حياته ثمنًا لها. أما بالنسبة لبيجين فلقد كانت هذه الاتفاقية نفسها بمثابة الضوء الأخضر، ليستمر بوسائل مبتكرة في تحقيق المشروع الصهيوني الذي لا يزال حتى هذه اللحظة يمضي قدمًا. أعطته الجائزة أول الأمر الغطاء اللازم حتى يذبح - بسلام- ألفين من اللاجئين الفلسطينيين في المخيمات داخل بيروت سنة 1982... جائزة نوبل في السلام فتحت الطريق على مصراعيه لقطع خطوات متزايدة السرعة نحو إبادة الشعب الفلسطيني، كما أدت إلى بناء آلاف المستوطنات على الأرض الفلسطينية المغتصبة. ‏" ويقول : " هناك بلا شك أصوات كثيرة على امتداد العالم تريد أن تعرب عن احتجاجها ضد هذه المجازر المستمرة حتى الآن، لولا الخوف من اتهامها بمعاداة السامية أو إعاقة الوفاق الدولي....أنا لا أعرف هل هؤلاء يدركون أنهم هكذا يبيعون أرواحهم في مواجهة ابتزاز رخيص لا يجب التصدي لـه بغير الاحتقار. لا أحد عانى في الحقيقة كالشعب الفلسطيني... أنا أطالب بترشيح ارييل شارون لجائزة نوبل في القتل، سامحوني إذا قلت أيضًا إنني أخجل من ارتباط اسمي بجائزة نوبل. أنا أعلن عن إعجابي غير المحدود ببطولة الشعب الفلسطيني الذي يقاوم الإبادة "


التوقف عن الكتابة
اشتهر ماركيز في السنوات الأخيرة بغزارة إنتاجه الأدبي ففي عام 2002نشر الجزء الأول من سيرته الذاتية "عشت لأروي"، والتي يستعيد فيها أدق تفاصيل الطفولة والشباب، بصورة درامية وبدأ في كتابتها بعدما علم أنه مصاب بمرض السرطان في عام 1999م يقول: "إن وهبني الرب من الحياة قطعة فسأرتدي ملابس بسيطة، وأستلقي تحت الشمس..." وقد ترجمها للعربية الدكتور طلعت شاهين، الجزء الأول من تلك المذكرات صدر في طبعة من مليون نسخة تم تقديمها في كل من برشلونة وبوجوتا وبوينس ايريس والمكسيك في وقت واحد ، وفي عام 2004 كتب روايته الشهيرة "ذكريات غانياتي الحزينات" التي لاقت رواجا غير مسبوق في شتي أنحاء العالم، غير أنه في لقاء له بصحيفة "لا فينجرديا" المكسيكية أعلن ماركيز أنه توقف عن الكتابة وأن عام 2005 كان هو العام الأول في حياته الذي لم يستطع فيه كتابة سطر واحد..

sakoora
02-08-2006, 04:40
(خريف البطريرك)

لقد صمم ماركيز من البداية علي أن تكون واحدة من أصعب نتاجاته القصصية، ولذلك جاءت (خريف البطريرك) أقرب ما تكون إلي موسوعة تعجّ بأغاني الشاطئ الكولومبي وألحانه، حيواناته وأعشابه، طرائفه ومآسيه، حقائق دموية، سحر وتعاويذ، مآدب من لحم بشري، وبحر يباع بأجزاء مرقمة، أنها كما يقول مترجمها محمد علي اليوسفي، رواية مفزعة يتجاوز بها غارسيا ماركيز حدود أمريكا اللاتينية. هذا لا يمنع من الإحساس أن ثمة ما هو زائد ومكرر ومفتعل في أجزاء متناثرة هنا وهناك جاءت محض إمعان في تصعيد حالة الغرابة والدهشة في عمل قصصي أراد له ماركيز ــ قبل أن يبدأ به ــ أن يكون عملاً لا يمسه إلا عدد محدود من القراء، وبهذا يبدو كمن يتبرأ من أعمال رائعة كان قد كتبها في زمن أسبق، لا سيما عمله المتميز (مائة عام من العزلة) التي نال بسببها شهرة واسعة في كافة أرجاء العالم.
‎‎‎
خريف البطريرك، مجموعة من أفكار وأحداث وغرائب لا يشعر معها القارئ العربي إلا بروح الإدانة لنمط من الحكام الذين يشبهون الجنرال المستبد في الرواية، وإذا قلنا ان العديد من حكام العالم الثالث هم أجزاء من خريف البطريرك لما أخطأنا. فهذا الحاكم ــ في رواية ماركيز ــ لا يعرف القراءة ولا الكتابة، ضعيف لا يشعر بالقوة إلا بمقدار ما تكون أُمه (بندئيون الفارادو) قريبة منه، ولهذا أعطاها بمرسوم ملكي صفة قديسة الوطن، هو نفسه الذي يفعل ما يشاء وقت يشاء، وإذا لم تعجبه الساعة الحادية عشرة ستكون بأمره الثانية عشرة. والرواية تحكي أيامه الأخيرة، عودة إلي الماضي القريب، أيام نشوته وانتصاراته علي نساء إمبراطوريته، ذكريات تمشي ببطء علي شريط الرأس، والرجل الوحيد الذي تمكن أن يصارحه بالحقيقة يبدو مجرد شبح بلا رأس وبلا حسد:
ــ أخرج إلي الشاعر وجابه الحقيقة يا صاحب السمو، أننا نقترب من المنعطف الأخير. صفحة 210. حيث لا أحد يخبره بما يعلم ولا أحد يقترب من أوهامه وسعادته الخاصة والرواية تسخر من زمن خفي عاش ــ ومما زال يعيش ــ فيه هذا النمط العجوز الذي تجاوز أعمار البشر العاديين وراح بعيداً عنهم إلي زمنه المستتر بأسراره المعلنة، وحده من يعتقد أن لا أحد يفهم خفايا مملكته حيث لا يخرج منها إلا للدخول إليها، فهو لا يدري بشيء ولا يري أي شيء إلا ما يقال له.. وتصعد السخرية إلي مكانها الفاجع عندما يقترح عليه السفير الجديد التبليغ بوجود كارثة حمي صفراء لتبرير إنزال جنود (المارينز) طبقاً لاتفاقية التعاون المشترك فيما بينهم ــ وذلك طيلة السنوات الضرورية لبعث الحياة في الوطن المحتضر ــ صفحة 208. في خريف البطريرك يجمع ماركيز بين الشعر والسيناريو والقصة القصيرة، أنها نوع من البراكين والزلازل والكوارث الطبيعية العارمة، براكين من كلمات وسطور يمكن أن تقرأها من آخر صفحة إلي بدايتها، وإذا ما جعلت منتصف الخريف صيفه أو ربيعه أو جئت بالشتاء إلي شلالات الحروف، لن يتغير الكثير، ذلك أن هذا العمل دون سواه من أعمال غارسيا ماركيز يختلف عن السرد الروائي المألوف الذي يأتي بالبداية في أول السطور ويأخذ النهاية إلي آخر الكتاب كما هو الحال مع (الحب في زمن الكوليرا) مثلاً، بل علي العكس تماماً إذا ما أجرينا عملية جراحية إبداعية تجريبية ــ كما فعلت أنا ــ ونقلنا الصفات من (111) علي 143)) مكان الصفحات من (45) إلي 78)) لما تغيّر المعني إذا ما قلنا بصراحة : إن الكتاب سيبدو أجمل. غابرييل غارسيا ماركيز تورط في هذا العمل الجميل، لعلها أعذب ورطة في حياته، إذ جاءت برواية متميزة غير اعتيادية، تقترب من الرسم والموسيقي، وأعني بذلك الرسم السوريالي وموسيقي السيمفونيات الباهرة، رغم أن الإبداع الروائي يحتاج إلي عناصر لا نراها في الفن التشكيلي وقد لا نراها أبداً في الموسيقي.
‎‎‎
خريف البطريرك تحكي ــ بطريقة غير متسلسلة - قصة حاكم لا يعرف أي شيء عن ظروف السياسة العالمية، وربما لا يفهم أبداً ما إذا كان ثمة في الكون بلاد غير بلاده. انه بمعني آخر مجرد أحمق جاء السلطة عن طريق المصادفة ثم عاشها وصار سيدها من حيث كانت السلطة سيدة عليه، تماماً كما هو الحال في مناطق شتي من العالم الثالث الذي يعج بهذا النوع البليد من الحكام الببغاوات غير الأليفة. الجنرال ــ ودون أن يعلم بأي شيء - يدخل حروباً من الشيكولاته (صفحة 187) ابتدعها متملقوه بلا حياء، وعندما يأتيه نبأ تلك الحروب نراه يصرخ مخبولاً بآخر نوبات الحنق والشيخوخة " ليهربوا إذن لتنظيف براز الإنكليز" فهو لا يعرف من الدنيا غيرهم، ثم يأتيه من يقول (تخلينا عن امتيازات التبغ للإنكليز وتخلينا عن امتياز المطاط والكاكاو للهولنديين، ثم تخلينا عن سكة حديد المرتفعات والملاحة النهرية للألمان، وكل الباقي للأمريكان بسبب الاتفاقات السرية التي لم يعلم بها إلا بعد سقوطه وموته) صفحة 192.
لكن من هم هؤلاء ؟ انه لا يصغي، لانه لا يريد ان يفهم :
ــ سيدي الجنرال، جنودك يعملون مجاناً ليثبتوا بأنهم قادرون علي تمزيق أمهاتهم أرباً أرباً وإلقاء المزق إلي الخنازير دون أن يتحرك لهم ساكن، كانوا يقدمون إثباتات بسوابقهم الشنيعة كي يكونوا تحت إمرة الجلادين الفرنسيين الذين يمتازون بأنهم عقلانيون، أي انهم منهجيون في القسوة ولا تأخذهم الرأفة ص198. والرواية تكشف ــ رغم بعد الزمن عن الحاضر بما يقرب من خمسين سنة ــ همجية العدو الأمريكي عبر أحداث حقيقية وآراء تظهر علي لسان الجميع:
ــ يا لهم من همج هؤلاء الأمريكان، كيف تراهم لا يفكرون في البحر إلاّ من أجل التهامة ص 7، وعندما يهرب (خوسيه أنياثو سانيزي لابارا) من مصيره الذي يعرفه، يجدونه مهشماً من الضرب ومعلقاً من عرقوبه علي أحد فوانيس ساحة الأسلحة (سيدي الجنرال، أمرنا بمحاصرة شوارع السفارات لحرمانه من حق اللجوء وقد طارده الشعب رمياً بالحجارة) صفحة 204.
وبهذا تقترب قسوته من قسوة الأمريكان، وجهان لحقيقة ديالكتيكية واحدة.
‎‎‎
خريف البطريرك ليس فيها مفردة (بطريرك) أبداً، كما أنها تنتقل من الراوي إلي صغير الغائب، ومن الشخص الحاضر القريب إلي الشخص الغائب البعيد، وهي لا تحكي قصة فرد بعينه وانما قصة جنرالات الرعب والتعذيب في العالم كله، أكثر من 14 جنرالا في رجل واحد، أنها قصة المأساة العميقة التي تعاني منها شعوب العالم الثالث بأسره.
يقول غارسيا ماركيز نفسه عن روايته هذه بأنها أصعب أعماله، وانه كثيراً ما كان يكتب خمسة سطور فقط في اليوم الواحد، وفي أحيان كثيرة كان يمزق تلك السطور في اليوم التالي، ومن هنا ندرك حجم المعاناة، معاناة المبدع في أجمل (ورطة) إبداعية في حياته الغنية بالفرح الحزين.
باختصار، رواية (خريف البطريرك) ليست للقراءة السريعة غير المتأنية، أنها عمل يحتاج إلي مزيد من التأمل والنقد، وأري من حق القارئ ان يري فيها ما ليس بالضرورة ان المؤلف قد رآه، وتلك هي قيمة أي عمل إبداعي أصيل، ان يكون مسرحاً للنقاش والحوار والتفتيش ما بين السطور، وبذلك يضمن المبدع خلود إبداعه في نفوس القراء، وقد فعل غارسيا ماركيز أصعب ما يفعله مبدع كبير: انه كان يري قبل أن يكتب. أما عن التكرار والزيادة التي وردت واضحة في هذا العمل المهم، فيمكن الرجوع إلي الرواية نفسها حيث يكتشف القارئ، وربما بشيء من السهولة، كيف ان المؤلف تخبط في أمر نهايتها، لأنها أصلاً بلا بداية، فهي أقرب ما تكون شبهاً بسلسلة مربوطة دائرياً، يمكن اختيار نقطة ما للبدء منها، وبهذا تكون تلك النقطة هي نفسها النهاية إذا ما تركنا إصبعنا إشارة في المكان الذي بدأنا منه. لقد كان البطريرك بلا أية مهارة في الحكم وهو ضمن المعني الذي أورده جورد برنارد شو أن السلطة هناك في المكان الذي يشير إليه غارسيا ماركيز، هي الطريقة الوحيدة لكي يصبح المرء شهيراً دون أن يكون له أية حالة استثناء في أي شيء.. والمهارة التي سنطبقها علي البطريرك قد تأخذنا في الوقت نفسه للسؤال عن حقيقة هذا العمل الغرائبي الذي أدهش العالم، عما إذا كانت تلك الدهشة في مكانها الطبيعي الصحيح؟ ذلك أن ما تراه عيون النقد من آراء وأفكار ليس بالضرورة أن تكون هي نظرتنا أيضاً، وما زلت أعتقد ان الكثير من الآراء كانت قد قيلت دون قراءة هذا الخريف، بل دون أن تدري شيئاً عن شخصية البطريرك سوي ما سمعته في جلسة عابرة.
وهكذا يأتي النقد، أحياناً!

sakoora
02-08-2006, 04:51
للعــلـــم....


فإن النبذة السابقـة عن المؤلـف/ جابرييل خوسيه جارسيا ماركيز

منقوله عن أحد الأخوة من أحد المنتديات

أعجبتني كثيراً

فنقلتها لكم هنــا

عسى أن تعجبكم

..

..

والآن إليكم هديتي

(خريف البطريرك) لـ جابرييل ماركيز

للتحميل رابط واحد, (http://www.mediafire.com/?uo38ebgy3762835)

روابط متفرقة

الجزء الأول
http://rapidshare.de/files/26953977/___________.pdf.html

الجزء الثاني
http://rapidshare.de/files/27065357/part_2.pdf.html

الجزء الثالث
http://rapidshare.de/files/27137708/part_3.rar


..::تنبيه::..


إذا استخدمت طريقة التحميل العادي فإنه - حسب تجربتي الشخصية - لا يمكنك تحميل

أكثر من ملف واحد في نفس الوقت...

هذا ما لدي الآن

وسآتيكم لاحقاً بروابط أخرى لنفس الأجزاء

لكن مرفوعه على موقع آخر لمن يواجه أي مشاكل مع الرابط السابق

عذراً لهم ولكني سأحاول توفيره اليوم

وسأضيفها أيضاً على شكل مرفقات بإذن الله

قراءة ممتعة أتمناها لكم

sakoora
02-08-2006, 14:22
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته

هذه هي الروابط الأخرى

رفعتها لكم على موقع سعودي 32

(أفضله شخصياً على موقع رابيد شير)

الجزء الأول
http://sa32.com/download.php?id=95CB65CF

الجزء الثاني
http://sa32.com/download.php?id=2DF08762

الجزء الثالث
http://sa32.com/download.php?id=9B353FCF

sakoora
04-08-2006, 03:35
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته

من جديـــــد....

حاولت أن أرفع الأجزاء بطريقة المرفقات

لكن المرفقات للأسف تشترط الملف المضغوط zip

كما أن الحجم المحدد هو 1ميجا

وهنا تكمن المشكلة

لأنني فكرت في رفع الأجزاء بصيغة pdf

ولكن الحجم المسموح لهذه الصيغة هو 1 كيلو

على العموم...

أعتقد أن الروابط السابقة عملت المطلوب معكم

لذا أعتذر عن رفع المرفقات

هذا والله من وراء القصد

نسأله جلّ وعلا القبول

اللهم آميـــــن

فلسطينية الهوية
07-08-2006, 16:17
شكرا اختي على النبذة و على الروابط
يعطيك العافية

sakoora
10-08-2006, 04:34
العفو اوخيتي

والله يعافيكـِ

تسلمي ع المرور والتعقيب

ClassiC1881
19-09-2006, 14:33
الموقع هذا ثقيل دم بشكل لا يتصور . . . . الرابط حق التنزيل ما يبين . . .. همهم الوحيد انك تجلس اطالع في موقعهم

* The Empress *
19-09-2006, 21:50
مئة عام من العزله..املك الرواية منذ زمن ولكني لم اتفرغ لقرائتها..اما الآن فقد زاد حماسي لقرائتها..
شكرا لك على التقرير الرائع والشامل..والى الامام :)

حسايف
28-09-2006, 21:43
شكرا لك على الجهد
بس ماعرفت انزله !!!!!


علعموم يعطيك الف عافيه

^_^

vafa
08-10-2006, 23:12
شککککککککککککککککککککککککککککککککککککککککککککککککک کککرا

nickcarter_2
09-10-2006, 16:50
تكفى وأنا أخوك شفلنا روابط شغالة تراني طفشت وأنا أدور هالرواية
وما حملت غير الجزء الأول قبل كم شهر

bint_almuhairi
19-10-2006, 00:51
يسلموووووووووووووووووووووووووووووووو

netdevil
27-10-2006, 15:24
مشكوووووووورة وما قصرتي