PDA المساعد الشخصي الرقمي

عرض كامل الموضوع : قصة قصيرة: ( خارج مكتب الزواج )- الكاتب هي ز. هو



suzan adel
01-07-2006, 17:21
قصة قصيرة " خارج مكتب الزواج "
ـــ بقلم: هيْ ز. هو

الجميع يقولون أنني قد حظيت بزيجةٍ صالحة؛ وإنَّ عليَّ أن أكون ممتناً جداً لمكتب الزواج. غير أنَّ زواجنا لم يُرَتَّب داخل المكتب، بل خارجه. لا تصدقونني؟!.. اسمعوا القصة إذن.‏

زواج الرجال والنساء ضرورة من الضرورات. لكنني ما زلت عازباً على الرغم من مقابلتي نصف دزينة من الشريكات المحتملات واقترابي من التاسعة والعشرين من العمر.‏
والشباب العازبون يبدون حساسية خاصة فيما يتعلّق بأعمارهم، فكلما كَبُرَ الرقم، ازدادت الوطأة على صدورهم.‏
هل كان ذلك بسبب بشاعتي؟.. لا، ففي السنة الماضية، حين عُيِّنتُ أستاذاً متقدّماً، استمعت عَرَضاً وَصفاً لمظهري من إحداهن: "على الرغم من أننا لا نستطيع وصفه بالوسامة، فإنَّ عينيه السوداوين اللامعتين، تحت أهدابه الطويلة، تشعّان بحيوية الشباب، وبنيته الرياضية القوية تجعله فتى جذّاباً يلفت الأنظار".‏
إنما مهنتي كانت السببَ الأساسي لإخفاقي في الحبّ. وانتكاساتي في شؤون القلب زوّدتني بمرآة، أمكنني أن أرى فيها بوضوح مكانتي في عيون بعض الناس.‏
حبّي الأول كان لزميلة من أيام الدراسة، وصارت بعد ذلك تعمل في مصنعٍ للنسيج، كثيراً ما كُنّا نسير على ضفة النهر ويدها في يدي، نرنو إلى الشمس الغاربة بصفرتها البرتقالية، وإلى سحب العشيّة الساحرة، فنحسّ بقلبينا يخفقان معاً، وأغاني البهجة تصدح من حولنا..
آه، يا لتلك الأيام الذهبية، أيام أحلام الشباب.‏
وذات مرّةٍ، ألقت برأسها على كتفي وقالت بصوت ناعم حنون: " ألا تستطيع أن تحصل على عمل آخر؟... أصدقائي في العمل يسخرون مني".‏
شعرتُ بوخزةٍ تخترق قلبي.‏
وألحَّت وهي تزداد التصاقاً بي: "غيّر عملك أرجوك. يمكن لوالدي أن يساعدك...".‏

وارتفعت في قلبي موجةً من الهدوء والسكينة. نظرتُ في عينيها، ورأيت رجاءها. غير أني رأيت أيضاً إشفاقها عليّ، وهذا ما لم أستطع أن أطيقه؛ كان فيه احتقار لعملي، وتحطيمٌ لاحترامي لنفسي. فاحتشد في حلقي كمٌّ وافرٌ من كلمات الازدراء، لكنني أفلحت في كبتها. وافترقنا بإحسان، دون أن تصدر عني كلمة غاضبة واحدة.‏

آخر نقاشٍ مثل ذاك الحوار كان في السنة الماضية. عرّفني جيراني على فتاةٍ عصرية على الموضة. وحين التقينا، طرَفتْ عيناها الواسعتان الفاتنتان ونظرتا إليَّ كما لو كنتُ حيواناً نادراً، لكنها ما إن عَلِمَتْ مهنتي حتى أظلمت عيناها، مثل مصباحين يخبوان. وتركتني دون استئذان. وخارج نافذة الجيران، سمعتها وهي تفرغ جام غضبها على الجارة: " أنت تستهينين بي.. يا خالة! قلتِ إنك ستعرفينني برياضيّ!.. رياضيّ ما! ولكنَّهُ مجرد أستاذ للرياضة في مدرسة ابتدائية.. أيَّ عمل هذا؟ أساتذة الرياضة في المدارس الابتدائية يُنْظَر إليهم كمواطنين من الدرجة الثانية. هذا لا ينفع!"...‏

وحين ظهر الإعلان عن افتتاح مكتب الزواج في مستطيل بحجم علبة كبريت في الزاوية اليمنى السفلية من الصفحة الرابعة في صحيفة محلية.. كانت ردّة الفعل التي أثارها هذا الإعلان قد فاقت بكثير ما تثيره أخبار الصفحة الأولى. أمّا موقع المكتب فكان في شارع خلفي هادئ وضيّق لا تعرفه سوى قلّة قليلة من البشر، لكنّه سرعان ما غصّ بالألوان حين اندفع إليه كثير من الفتيان والفتيات بثيابهن الزاهية، كما امتلأ برنين أجراس العجلات، والضحك، والابتسام، وموسيقى القيثارة الناعمة، والموسيقى الإلكترونية على أشرطة التسجيل، وأغاني مشاهير المطربين. بل إنّ بعض الشعراء أطلقوا على هذا الشارع العادي الصغير اسماً رومانسياً هو "درب الحبّ والجمال".‏
وبإلحاح متكرّر من أمّي، أخذت بطاقة إقامتي، وإجازةً وصورةً لي، وارتديت بذة جديدة ومضيت إلى "درب الحبّ والجمال".‏
وسرعان ما قطع أفكاري هجوم الموسيقى الإلكترونية. فقد اندفع ثلاثة أو أربعة من الشباب العصريين متباهين بآلات التسجيل التي يحملونها. كان أحدهم وَبْشَاً مشهوراً من الحيّ الشمالي في المدينة. وهذا ما أحبط دفعةً واحدةً معنوياتي التي كانت مرتفعة. أيمكن أن أجد الحب بين مثل هؤلاء الأشخاص الرديئين؟... الحبّ الذي أفتش عنه لابدّ أن يكون مختلفاً تماماً عن حبّهم.‏
وفي غمرة ترددي جاءني صوت ساحر رخيم يسألني: "أستاذ !.. إلى أين؟". ووجدتُ أمامي فتاة طويلة، نحيلة، بارعة الجمال.‏
كانت شقيقة واحدٍ من تلامذتي. ولم أكن أعلم سوى كنيتها.. " أه، آنسة ... أنا ذاهب إلى...".اللعنة! كيف يمكن أن أُخبِرَ فتاةً أنني ذاهب إلى مكتب الزواج لأبحث عن شريكة؟!..
-"أنا.... أنا ذاهب لزيارة أهل أحد تلامذتي. وأنتِ... إلى أين؟".‏
ابتسمت الفتاة، وقالت: "أنا ذاهبة إلى محلّ الخردوات شرقي المدينة".‏
-"حسنٌ"، أومأتُ برأسي، وتابعتُ، متعجّلاً.‏
مشيتُ مسافة قصيرة ثم عدتُ أدراجي، مفترضاً أنَّ تلك الفتاة لابدّ أن تكون قد ابتعدتْ. لكنني لمحتها وهي تعود أدراجها أيضاً. كانت ضفائرها تهتزّ، وهي تتلفت وتجتاز بسرعة باب المكتب المدهون بالزيرقون. غمرتني البهجة، وخطر في ذهني: ’ مع بنات مثل تلك الفتاة لابدّ أن أجد حبّاً حقيقياً ‘.. وغاب في الحال ذلك الانطباع المزعج الذي تركه لديّ مرأى أولئك الشباب قبل هنيهة. ودخلتُ بسرعة باب المكتب ودلفتُ إلى غرفة استقبال الرجال.‏
وقفتُ عند النافذة ونظرت إلى غرفة استقبال النساء المقابلة. كانت بين حشد الفتيات بأثوابهنّ الزاهية واحدةٌ بدت لي مثل تلك الفتاة.. وكانت تملأ البيانات مطرقةً برأسها. وراقبتها إلى أن أكملت الإجراءات وغادَرتْ.‏
ابتسمتُ.‏
جاء إليَّ أحد عناصر المكتب، رجل أربعيني، ورَبَتَ على كتفي، قائلاً: " لا ترتبك هكذا. املأ البيانات أولاً. يمكنك أن تعتمد عليَّ. سوف أجلب لك السعادة". أومأت برأسي ممتنّاً وأخذت الورقتين اللتين سلّمهما لي. كانتا مطبوعتين حديثاً، ورائحة الحبر ما زالت تنبعث منهما. كان من السهل ملء الورقة الأولى، فهي أشبه بالسيرة الذاتية، أمَّا الثانية فقد سبّبت لي صداعاً. ففي رأس الصفحة كان مكتوباً "مواصفات الشريك"، وتحتها عشرة أعمدة تشتمل على مهنة الفتاة المحتملة، وعمرها، وشخصيتها، ومظهرها، ووضعها المالي، وطولها، ومحلّ ولادتها، وجنسيّتها، وهواياتها، وظروفها العائلية العامة. وعبر هذه البنود المجردة، كنت أرى كائناً بشرياً حيّاً وملموساً، فتاةً ودودة عطوفة، تلمع في وجهها البيضوي المورّد عينان سوداوان برّاقتان تنمّان عن طهارة قلبها. بل كانت ذات طَبْع رضيّ، وهيئة جميلة بشامةٍ تخلب اللبّ تحت أذنها اليسرى.‏
كيف كان يمكن لي أن أنساها، على الرغم من أنني بالكاد أعرف اسمها، ولم أقابلها سوى مرّات ثلاث؟...‏
كان لقاؤنا الأول في شتاء السنة الماضية. كنت قد أخذت تلامذتي للتزّلج في المتنزّه. فجأة، خرج أحد الأولاد خارج الحدود وسقط في بركة ماء، بوغِتُّ وقفزتُ في الماء وانتشلته. كان من حسن الحظَ أنني أنقذته في الوقت المناسب؛ وبعد أن بدَّل ملابسه. لم يلبث أن تعافى. لكن أحد الأساتذة حذرني قائلاً: " انتظر، سوف يأتي أهله ليشتكوا‍!.. لأنه ذات مرّة، وأنا أعطي درس ألعاب القوى، لوى أحد التلاميذ كاحله وهو يقفز فوق حصان الوثب. أقام أهله الدنيا وأقعدوها.. أنت فعلت ماهو أسوأ، كاد الصبي يغرق في درسك".‏

حين رافقتُ الصبي إلى بيته، كنتُ عصبيَّ المزاج، متوقّعاً حصول مواجهة مع أهله الغاضبين. ولدى دخولي البيت، كانت هي الشخص الوحيد الذي استقبلني؛ وهي أخته الكبرى.. وبدلاً من أن تلومني لدى سماعها القصة، نظرت إليَّ بعينين ممتنتين، وراحت تشكرني مرّة بعد مرّة وقدّمت لي الشاي.. غدوتُ بطلاً. لكنني لم أكن مرتاحاً، ورحتُ أنتقدُ نفسي. وحين خرجتُ ووصلت إلى أولُ الزقاق، التفتُّ.. وكان ما يزال بمقدوري أن أرى من الشارع هيئتها الجميلة خلف زجاج النافذة.‏

كان لقاؤنا الثاني في أول الربيع هذا العام. كنت قد أخذت بعض التلاميذ لرؤية استعراض ألعاب القوى في الأستاد الرياضي. وبعد العرض، بدأ المطر ينهمر مدراراً ومنعنا من العودة. كانت تلك مشكلة يصعب حلّها على أستاذ مثلي. فبعد قليل كان سيحلّ وقت الغداء. وبينما كنت أفكّر فيما يمكن أن أفعله، فُتِحَ باب مكتب قطع التذاكر، وأومأت تلك الفتاة نفسها- شقيقة تلميذي- بيدها إليّ:"أستاذ ! مادمت لا تستطيع العودة إلى المدرسة، فادخل وتدفأ". ورفضت: "لا أريد أن أقطع عملك". لم أكن قد التقيتها سوى مرّة واحدة فقط من قبل، فكيف يمكن أن أسبّب لها مشكلة؟.. لقد دعتني بدافع التهذيب، وماكان بمقدوري أن أقبل.‏
غير أنَّها ألحَّت: "أنت أستاذ.. فماذا عن تلاميذك؟... الطقس بارد جداً، والمطر لن يتوقّف عمّا قريب. تعالوا واشربوا شيئاً ساخناً. لقد قارب الوقت الظهر. يمكنك أيضاً شراء بعض الكعك للأولاد. لديّ نقود وبطاقات إعاشة. ويمكنك أن تستخدمها".‏
ياللدقّة التي حسبتْ فيها حساب كلَّ شيء!...
ولما رأيتُ صدقها، كففتُ عن الرفض. سمحتُ للأولاد أن ينحشروا في غرفتها، بينما جلبتْ هي إبريقين كبيرين وبعض الأقداح، ثم أشارت إليَّ: "أستاذ، اشربوا الشاي أولاً.. سأذهب لأحضر الكعك".‏

حين وصف علماء النفس حالة العازبين الذهنية، كتبوا يقولون: "مع الاقتراب من حالة النضج، ترتسم في الذهن صورة "الشخص المثالي"، شيئاً فشيئاً، وتكون خليطاً من شخصية المرء ذاته، والأِشياء المفضَّلة لديه، وسلوكه، وعاداته. ولدى التواصل مع شخص من الجنس الآخر والحديث معه، فإنَّ المرء يتحرَّى الطرف الآخر ويفكّر فيه تبعاً لصورة "الشخص المثالي" المتخيَّل. ولقد كنتُ آنئذٍ في مثل هذه الحال. وعلى صوت المطر، كنت أتجاذب أطراف الحديث مع تلك الفتاة وآكل معها. وكانت نظراتنا الخاطفة الدافئة تعبّر عن عاطفةٍ رقيقة مترددة. وأثناء حديثنا، كان أحدنا يقوِّم الآخر، في محاولةٍ لإيجاد أرضية مشتركة.‏

توقَّف المطر وسطعت الشمس من جديد، فاستأتُ. لماذا لا تنتظر الشمس أن نكمل حديثنا الشائق؟...‏
وبقيت في حالٍ من الاضطراب بضع أيام. تملّكتني ضروب من التوق والقلق. اختلَّ توازني. وكنت أعلم ماينبغي أن أقوم به لكي أستعيده. وأخيراً سنحت لي الفرصة.. وذهبت لأعيد النقود وبطاقات الإعاشة لتلك الفتاة أملاً أن أستأنف ما كنا قد بدأناه من حديث.‏

-يتبع-

yu-sora
02-07-2006, 06:08
ننتظر ..
وشكرا على القصة

suzan adel
02-07-2006, 23:13
-2-
حين وصلتُ، كانت تلعب الكرة الطائرة مع اثنين من الشباب في باحة من باحات الأستاد الرياضي. أحدهما كان لاعباً مشهوراً في فريق كرة السلّة في المنطقة؛ أمّا الآخر فكان لاعب كرة طائرة من الطراز الأول، ولدى رؤيتها لي، أعلنت فرحة: "هاهو رياضي آخر". وعرّفتني على اللاعبين. وحين علما أنني مجرد أستاذ للرياضة في مدرسة ابتدائية، لم يخفِ لاعب كرة السلة ازدراءه وصافحني على مضض.‏
لقد أدركتُ المسافة التي تفصلني عن مثل هؤلاء الرياضيين، وتردّد في ذهني القول: "مواطن من الدرجة الثانية. هذا لا ينفع".
كيف يمكن لفتاة متألقةٍ محاطة بمثل هؤلاء الأبطال أن تقع في حبّ "مواطن من الدرجة الثانية" مثلي؟! لقد كان تصرّفها بدافع الكياسة وحدها، أما أنا، الملهوف، فقد أسبغتُ على ذلك دلالة وأهمية عميقتين.عليَّ أن أتمالك نفسي. لقد سبق أن رفضتني ستُّ بنات قبلها. فهل من حاجةٍ لسابعة؟...‏
هكذا أعدتُ النقود وبطاقات الإعاشة إلى الفتاة مع ابتسامةٍ باهتة ومضيتُ في الحال.‏

وها أنا الآن ألتقيها في مكتب الزواج. معنى ذلك أنها لم تجد بعد حبيبها، يالها من أخبار طيبة‍... فعبر مكتب الزواج، كان بمقدوري أن أواصل الحديث معها؛ وأناقش معها الأمور بمزيد من الصراحة والصدق. وحتى لو لم يُفلِح الأمر، فإنني لن أشعر بالإذلال أو الارتباك.‏
"مكتب الزواج أمرٌ حسنٌ بالفعل"، قلت في نفسي.‏
وتبعاً لما أعلمه من صفات تلك الفتاة، ملأت الورقة الثانية على النحو المشابه لها:‏
العمر: حوالي الخامسة والعشرين.‏
المهنة: ذات صلة بالرياضة.‏
الشخصية: ودودة، لطيفة، متسامحة.‏
الصفة المميزة: المسارعة إلى مدّ يد العون إلى الآخرين.‏
المظهر: ملامح متناسقة، جميلة ومتألقة، مع شامة سوداء تحت أذنها اليسرى.‏
أما بالنسبة لأوضاعها المالية وظروفها العائلية العامة، فقد كتبت: "لا يهمّ"، أو "ليس هنالك مطالب محدّدة".‏
سلمتُ الورقتين للموظفة العجوز.
وطرحت عليَّ بعض الأسئلة بينما كانت تنظر فيهما: "ذات صلة بالرياضة؟... ما معنى ذلك؟..".‏
أجبتها: "أنا أستاذ رياضة. وآمل أن تقدّر زوجتي المقبلة مثل هذا العمل".‏
"بالطبع"، قالت العجوز، وهي تنقر بأصابعها على الطاولة: "أنت تقصد فتاة تعمل بائعة في متجر رياضيّ أو في الإعلانات الرياضية؟"...‏
أومأتُ برأسي موافقاً، وأضفتُ: " أو بائعة بطاقات في أستاد رياضي".‏
" وماهذا؟" تساءلت العجوز من جديد: " لقد كتبت.. ذات ملامح متناسقة، جميلة ومتألقة، مع شامة سوداء تحت أذنها اليسرى.. ما الذي تعنيه؟...‏ "
وسرعان ما اختلقت جواباً طائشاً:" أعني.. أنَّ أمي قد أخبرتني بأنَّ في مسقط رأسنا مثل هذه العادة. فالشامة تحت الأذن اليسرى ترمز إلى حسن الطالع. والفتاة التي لديها مثل هذه العلامة يُعتَقَد أنها مطيعة تدرك ما عليها من واجبات".‏
- "حسنٌّ، أنت ولدٌ بارّ. لم يعد هناك كثيرون من أمثالك بين شباب هذه الأيام".
ومع هذه الكلمات، راحت تضع الورقتين اللتين سلمتهما لها بين الملفات. ثمَّ قالت: "أرجوك، اترك لنا رقم هاتفك، وانتظر اللقاء السريع". ورافقتني إلى الباب، وأضافت:" لا تقلق.. كنت في الخامسة والثلاثين حين تزوجت. أفهم مخاوفك. وعلى الرغم من مواصفاتك غير المعتادة، سوف نبذل ما في وسعنا لكي نجد لك الشريكة المناسبة".‏

كانت الأيام التي تلت مفعمة بالأمل والتوق. فجأة تملّك الهاتف أفكاري، بعد أن كنت لا أوليه أيّ اهتمام. وكلّما رنّ، كنت أول من يرفع السماعة. وحين لا يكون لديَّ دروس ، كنتُ أجلس بقربه، وأربت على سماعته. وكانت أول مرّة أدرك فيها جمال الهاتف: "كان هاتفاً ورديَّ اللون، بقرصٍ من الكروم، يلمع متألقاً، وشريطٍ أخضر، مثل علم خفاق يزيّن الشارع أيام الاحتفال. ذلك كان الخيط الملوّن الذي سيأتيني بالزواج السعيد.‏

بعد عشرة أيام، جاءني الهاتف بطلب من مكتب الزواج:" وجدنا لك شريكة محتملة. سوف يجري لقاؤكما في الساعة الثالثة من بعد ظهر الغد".‏
لم أبدّد الوقت في أن أحلق بنفسي، بل ذهبت إلى الحلاق. وبأفضل بذة لديّ، انطلقت إلى مكان اللقاء كما لو كنتُ دبلوماسياً، يسافر إلى الخارج في مهمّة ذات شأن.‏

كانت النتيجة مخيّبة إلى أبعد الحدود. فالفتاة لم تكن هي تلك الفتاة المقصودة نفسها!.. مع أن هذه المقترحة من المكتب كانت جميلة أيضاً ولها شامة سوداء تحت أذنها اليسرى، لكن عينيها بدتا لي خاليتين من البريق. وبدا صوتها خالياً من السحر. كانت تتكلّم بوتيرةٍ واحدة، وتأكل أواخر الكلمات. وباختصار، كان الأمر أشبه بالإصغاء إلى موسيقى جنائزية، ولم يكن بمقدوري أن أتحمّل ذلك.‏
وبحسب قواعد المكتب، كان عليَّ أن أقدَّم تقريراً عن اللقاء الأول. وذهبت فوراً لغرفة العجوز.
"إنها لا تنفع!", قلتُ للموظفة العجوز: "أرجوكِ ابحثِ لي عن واحدة أخرى".‏
"ما السبب؟"، قالت لي العجوز وهي تخرج بياناتي، وتنظر فيها متمهلة، ثم سألتني: "ألا تنطبق عليها المواصفات التي طلبتها؟".‏
فأجبتها: "لا بريق في عينيها".‏
"لا بريق!؟". وابتسمت العجوز ابتسامتها السَمْحة، وأشارت إلى إحدى الورقتين، واستأنفت قائلة: " لم تكتب ذلك هنا!.. يصعب إرضاؤكم أنتم الشباب. لا تريد فتاة بشامة سوداء تحت أذنها اليسرى وحسب، بل أيضاً بعينين برّاقتين!.. غريب!.. ها ها ها!....".‏
- "لسنا مناسبين أحدنا للآخر، على أيّ حال".‏
- "حسنٌ، حسنٌ!.. لقد تركت أحد الأسطر شاغراً، وسوف أساعدك على ملئه في الحال، وراحت تكتب: " عيناها ينبغي أن تكونا برّاقتين".
ونهضت العجوز، وربتت على كتفي بلطف وهي تشيّعني كالعادة إلى الباب. "لا تقلق كنت في الخامسة والثلاثين حين تزوجت. أفهم مخاوفك. وعلى الرغم من مواصفاتك غير المعتادة، سوف نبذل مافي وسعنا لكي نجد لك الشريكة المناسبة".‏

موعدي الثاني كان مع بطلة في الرماية. كانت جميلة، ربما أجمل من تلك الفتاة المعنية -شقيقة تلميذي- وعلى الرغم من شامتها السوداء تحت أذنها اليسرى، لم يعتريني ذلك الشعور الممتع، المريح الذي شعرت به حين التقيت بفتاتي. بطلة الرماية تلك عيناها كانتا واسعتين، مثل فوّهة بندقية، يغشاهما نور باهت كما لو كانتا تسدّدان إليَّ. واعترت جسدي رعشة شاملة.‏

هرعت ثانية إلى المكتب لكي أقدّم تقريراً للموظفة العجوز. وكالعادة، ابتسمت لي بمودّة، وقالت: " كيف الحال هذه المرّة؟.. لا يمكنك القول أنَّ عينيها بلا بريق...".‏
- " بريق؟! إنهما مثل شعاعين من أشعة الليزر.. لا أستطيع احتمالهما ".
وكالعادة، شيّعتني العجوز إلى الباب. وصافحتني، وأضافت: " لا تقلق! كنت في الخامسة والثلاثين.....".‏

وفي المرّة الثالثة، مضيتُ مغادراً مكتب التوظيف قبل أن تتمكن العجوز من القول: "لا تقلق!....".‏

وفي مدخل الزقاق، جلستُ بائساً على حافة الدرج الحجريّ ورأسي بين يديّ. لقد خاب أملي ثلاث مرّات. وكان واضحاً أنَّ "الشخص المثالي" الذي تفكّر به الفتاة إياها ليس شخصاً مثلي.‏
وحين رفعت رأسي، وقعت عيناي فجأة على الفتاة نفسها.. شقيقة تلميذي! كانت تبتسم لي. فنهضتُ منتعشاً.‏
- "أستاذ!.. إلى أين؟". سألتني بصوتها الموسيقي.‏
- "أنا... أنا ذاهب لزيارة أهل واحدٍ من تلامذتي"، أجبتها بسرعة.‏
- "لماذا تجلس هنا، إذن؟!".‏
- "لقد تعبت من المشي... وجلست لأرتاح برهة".‏
وشعرتُ بارتباك شديد.. كان واضحاً أنني أكذب. وحاولت أن أخفي ارتباكي فقلت بضعفٍ:‏
"أراكِ ثانية فيما بعد. لديَّ ما أفعله. إلى اللقاء....". وانسحبت.‏

بعد بضع خطوات، وقفتُ ورحتُ ألعن نفسي.‏
"ما الذي يجعلني، أنا الرجل الناضج، مسلوب الإرادة على هذا النحو؟". حين ذهبتُ إلى المكتب، كنتُ آمل أن يقدّموني إلى الفتاة نفسها، وقد كانت واقفةً أمامي الآن دون أن أجرؤ على أن أكلّمها.. فهل ستأكلني؟".‏
والتفتُّ ورأيت أنها ما زالت واقفة بلا حراك، مثل تمثال ربّةٍ يونانية، تحدّق بي.‏
استجمعت شجاعتي وعدت إليها. وبعد أن أطلقتُ تنهيدة عميقة، ثبّتُ بصري إلى الأرض، وقلتُ بصوت خفيض: "لقد ذهبتُ إلى مكتب الزواج، لكنَّ المواعيد التي رُتِّبت لي لم تكن تنفع. هذه ثالث مرّة. أشعر بإحباط شديد".‏
"وأنا كذلك"، قالت معترفة: "أنا أيضاً ذهبت إلى هناك ورتبوا لي ثلاثة مواعيد أيضاً، لم يكن أيّ منها مناسباً".‏
" أنتِ أيضاً...؟!.".وارتفع في صدري أملٌ لم يكن متوقّعاً، وراح قلبي يخفق بشدّة.‏

- يتبع -

suzan adel
04-07-2006, 21:41
-3-
ورحنا نسير جنباً إلى جنب. ولم أتمالك نفسي عن سؤالها: "لديك في عملك فرص كثيرة لأن تلتقي نجوم عالم الرياضة. فما الذي يدفعك إلى اللجوء إلى مكتب الزواج؟".‏
أجابت: "مكانة الرجل وشخصيته أمران مختلفان".‏
استرخيت مثل جندي يتلقى الأمر: "استرح!". وتولدت لديَّ الجرأة لأن أمازحها قائلاً: "لقد خيّبنا مكتب الزواج كلينا. وها نحن زميلان في المعاناة نفسها!".‏
"ليس الأمر كذلك بالضرورة"، ردّت قائلةً. "بحسب الرياضيات، خيبة زائد خيبة تساوي خيبتين. أما في الحياة، فقد تكون النتيجة معاكسةً تماماً في بعض الأحيان. خيبة زائد خيبة قد تساوي الأمل!"....‏
ما قالته كان غريباً، لكنه ينطوي على حقيقةٍ ما فلسفيةٍ. تسارع خفقان قلبي، لكنني لم أجد الشيء المناسب لكي أقوله. بدأت أتذوّق طعم الحبّ الرائع العميق، ذلك الطعم المثير والفاتن بخلاف تلك الخيبات الفعلية الكالحة التي سبّبها مكتب الزواج. وانزلقت الكلمات من شفتيّ:"عَمَلُ المكتب أشبه بعمل أخي الأكبر. إنه يدرس الوراثة الحيوية. وكلّ يوم يسجّل على بطاقاته كثيراً من المعطيات المتعلّقة بالجنس، والوزن، ولون الشعر وهلمجرا...".‏
قهقهت الفتاة، وقالت: "ياللسانك السليط!".‏
- "لاشكَّ أن فريق المكتب يعمل بجدّ. خذي تلك الموظفة العجوز مثلاً، كلما ذهبتُ إلى هناك تبدي الكثير من المودّة. لكنني لم أتعرف على الفتاة التي تروقني. لقد فشلت جميع المحاولات".‏
- "مادامت فتاتك المثالية في ذهنك، لماذا لا تكلّمها مباشرةً. لماذا تسبّب مشكلةً لمكتب الزواج"؟...‏
"القول أهون من الفعل. لقد زُجِرْتُ مرّات كثيرة. وعلى الرغم من حماسي لفتاة معينة، كيف يمكن أن أتأكّد من اهتمامها بي؟.. فلست سوى أستاذ للرياضة في مدرسة ابتدائية". وألقيت إليها نظرةً خاطفةً مفعمة بالمعاني.‏
فجأةً تورّد خدّاها.‏
كنّا صامتين كلانا، وسرنا ببطء معاً، ننظر إلى الأرض، ونضرب أخماساً بأسداس... بعد برهة، سألتني الفتاة بصوت خفيض: "ما الذي تريده إذاً؟".‏
نظرتُ إليها، كانت ما تزال مطأطأة الرأس، وكانت تحمل في يدها منديلاً أحمر. واستجمعتُ شجاعتي وأجبتُ: "يجب أن تكون لها شامة سوداء تحت أذنها اليسرى".‏
- "وماذا أيضاً؟".‏
- "يجب أن يكون لعملها صلة بالرياضة".‏
- "وهل من شيء آخر؟".‏
- "يجب أن تكون ودودةً ولطيفة، تسارع إلى مساعدة الآخرين، وعيناها برّاقتان...".‏
وذكرتُ لها كل المواصفات التي أريدها.
- "وهل من شيء آخر؟".‏
- "لا هذا كلّ شيء!"، أكّدتُ لها بقوة.‏
"لكن"، رفعت الفتاة رأسها، ورمقتني بنظرة من طرف عينها: "كيف عرفت أن الفتاة التي تحلم بها قد ذهبت أيضاً إلى مكتب الزواج؟".‏
لم أحر جواباً.‏
وتابعتْ هي بشيءٍ من العبوس: "ضع نفسك مكان الفتاة، كيف يمكن لها أن تقع في حبّ رجل يلاحقها خلسةً مثل عميل سرّي؟".‏
أثارني ذلك كثيراً، فسارعتُ محتجاً بصوتٍ مرتفع: " لم ألاحقها. فقط راقبتها في غرفة الاستقبال حين كنتُ في الغرفة المخصصة للرجال".‏
ابتسمت ولوحت بمنديلها الأحمر: "أيها الماكر، لم أتخيّل أنك يمكن أن تقوم بمثل هذه الحيلة...".‏

بعد شهر، ذهبتُ إلى مكتب الزواج مع تلك الفتاة يداً بيد، ودخلت المكتب وهي خلفي.‏
استقبلتني الموظفة العجوز بالمودّة المعهودة. وما إن رأتني حتى بادرتني بالقول: "لقد اهتممت بمشكلتك كثيراً، ووجدتُ أنَّ هناك إحدى عشرة فتاة تنطبق عليهن مواصفاتك. هل تريد أن أرتّب لك موعداً مع إحداهنّ؟".‏
وأجبتها، وأنا أشير إلى الفتاة التي كانت تقف خلفي: "لا.. شكراً، لم يعد ثمة حاجة، لقد جئت خصيصاً لأقول لك إنني وجدت فتاتي.. ولا أريد أن أزعجك بأمري بعد الآن".‏

"فتاتك؟". حدّقت بي العجوز مندهشة ثم رمقت الفتاة وسألتها: " ألستِ قد سجّلتي عندنا ؟! أليس كذلك؟".‏
"بلى"، أجابت مبتسمة: " لقد سجّلت، لكن الأمر لم يفلح".‏
صمتت العجوز. ثم استدارت، وأخذت رزمة من الأوراق وراحت تقلب فيها.‏

خطر لي:" لم لا تكفوا البحث في هذه الأوراق عن الحياة!؟.. ليس سهلاً أن تصنّفوا البشر تبعاً لعشرة بنود في بياناتكم!.. حاولوا أن تجدوا حياة أفضل للعازبين. اخلقوا لهم مزيداً من الفرص كي يلتقوا.. نظّموا لهم الرحلات، والمناسبات، واللقاءات الإجتماعية، وكثيراً من النشاطات بإشرافكم... تلك، برأيي، هي الطريقة الأفضل".‏

- تمت-

suzan adel
23-11-2009, 10:58
والله زمان يا هالقصة

هادي القصة نالت جائزة عالمية لأفضل قصة في الثمانينات
أحلى شي فيها اسم كاتبها لو نطقناه بالعربي يطلع اسمه مضحك مرّه
ولو عملنا شوية خرابيط بين العربي والإنكليزي يصير اسمه :
( هيّ is هوَ )
يعني شي فني عالمي تحفة اسم الكاتب هادا
للحق مضمون قصته كمان كثير زين

suzan adel
23-11-2009, 16:20
هممممممممممممممممم

أكيد كثير منكم ظنوا إنو اسم الكاتب هادا هو مزحة
بس الحقيقة غير

بطاقة تعريف كاتب القصة:

اسم الكاتب الكامل: هِيْ زياو هو
مولود في شانكسي، في تايوان، عام 1950.
بعد تخرّجه في المدرسة الثانوية، عمل لحّاماً في محطة لتوليد الطاقة الكهربائية.
نشر منذ عام 1972 فصاعداً كثيراً من القصص القصيرة، من بينها "جمالٌ مُرَكَّب"، و"خارج مكتب الزواج"، اللتان نال عليهما جائزتين في عامي 1980 و1981 على التوالي.
وهو الآن عضواً في فرع شانكسي من رابطة الكتّاب الصينيين.‏

بياض ..
23-11-2009, 17:03
آه ... قصة خلابة بكل ما تعنيه الكلمة من معنى =)


شكرا لك..

dr_aoday
24-11-2009, 07:10
شكرا للجهد المبذول

تحية وود

suzan adel
24-11-2009, 13:18
آه ... قصة خلابة بكل ما تعنيه الكلمة من معنى =)


شكرا لك..

جزاك الله كل خير على هذه المشاركة
والشكر لك

---------------------
في توقيعك وردت عبارة: سادر في الحزن

أسأل الله أن يبعد الحزن عنك ويبعدك عنه
والله يرعاكي

--
كم هو مؤسف أن موسم الحزن يقرع أجراسه حولنا وينقض علينا فجأة!

suzan adel
24-11-2009, 13:24
شكرا للجهد المبذول

تحية وود

ولك مثل ما ذكرت

دعمكم أيها الكرام يبعث القوة في ثنايا الضعف المتغلغل الذي يداهمنا غيلة
لكم كل الشكر والتقدير

ahmed al dosky
16-01-2010, 22:16
مشكوررررررررررررررررررررررر القصة