suzan adel
01-07-2006, 17:21
قصة قصيرة " خارج مكتب الزواج "
ـــ بقلم: هيْ ز. هو
الجميع يقولون أنني قد حظيت بزيجةٍ صالحة؛ وإنَّ عليَّ أن أكون ممتناً جداً لمكتب الزواج. غير أنَّ زواجنا لم يُرَتَّب داخل المكتب، بل خارجه. لا تصدقونني؟!.. اسمعوا القصة إذن.
زواج الرجال والنساء ضرورة من الضرورات. لكنني ما زلت عازباً على الرغم من مقابلتي نصف دزينة من الشريكات المحتملات واقترابي من التاسعة والعشرين من العمر.
والشباب العازبون يبدون حساسية خاصة فيما يتعلّق بأعمارهم، فكلما كَبُرَ الرقم، ازدادت الوطأة على صدورهم.
هل كان ذلك بسبب بشاعتي؟.. لا، ففي السنة الماضية، حين عُيِّنتُ أستاذاً متقدّماً، استمعت عَرَضاً وَصفاً لمظهري من إحداهن: "على الرغم من أننا لا نستطيع وصفه بالوسامة، فإنَّ عينيه السوداوين اللامعتين، تحت أهدابه الطويلة، تشعّان بحيوية الشباب، وبنيته الرياضية القوية تجعله فتى جذّاباً يلفت الأنظار".
إنما مهنتي كانت السببَ الأساسي لإخفاقي في الحبّ. وانتكاساتي في شؤون القلب زوّدتني بمرآة، أمكنني أن أرى فيها بوضوح مكانتي في عيون بعض الناس.
حبّي الأول كان لزميلة من أيام الدراسة، وصارت بعد ذلك تعمل في مصنعٍ للنسيج، كثيراً ما كُنّا نسير على ضفة النهر ويدها في يدي، نرنو إلى الشمس الغاربة بصفرتها البرتقالية، وإلى سحب العشيّة الساحرة، فنحسّ بقلبينا يخفقان معاً، وأغاني البهجة تصدح من حولنا..
آه، يا لتلك الأيام الذهبية، أيام أحلام الشباب.
وذات مرّةٍ، ألقت برأسها على كتفي وقالت بصوت ناعم حنون: " ألا تستطيع أن تحصل على عمل آخر؟... أصدقائي في العمل يسخرون مني".
شعرتُ بوخزةٍ تخترق قلبي.
وألحَّت وهي تزداد التصاقاً بي: "غيّر عملك أرجوك. يمكن لوالدي أن يساعدك...".
وارتفعت في قلبي موجةً من الهدوء والسكينة. نظرتُ في عينيها، ورأيت رجاءها. غير أني رأيت أيضاً إشفاقها عليّ، وهذا ما لم أستطع أن أطيقه؛ كان فيه احتقار لعملي، وتحطيمٌ لاحترامي لنفسي. فاحتشد في حلقي كمٌّ وافرٌ من كلمات الازدراء، لكنني أفلحت في كبتها. وافترقنا بإحسان، دون أن تصدر عني كلمة غاضبة واحدة.
آخر نقاشٍ مثل ذاك الحوار كان في السنة الماضية. عرّفني جيراني على فتاةٍ عصرية على الموضة. وحين التقينا، طرَفتْ عيناها الواسعتان الفاتنتان ونظرتا إليَّ كما لو كنتُ حيواناً نادراً، لكنها ما إن عَلِمَتْ مهنتي حتى أظلمت عيناها، مثل مصباحين يخبوان. وتركتني دون استئذان. وخارج نافذة الجيران، سمعتها وهي تفرغ جام غضبها على الجارة: " أنت تستهينين بي.. يا خالة! قلتِ إنك ستعرفينني برياضيّ!.. رياضيّ ما! ولكنَّهُ مجرد أستاذ للرياضة في مدرسة ابتدائية.. أيَّ عمل هذا؟ أساتذة الرياضة في المدارس الابتدائية يُنْظَر إليهم كمواطنين من الدرجة الثانية. هذا لا ينفع!"...
وحين ظهر الإعلان عن افتتاح مكتب الزواج في مستطيل بحجم علبة كبريت في الزاوية اليمنى السفلية من الصفحة الرابعة في صحيفة محلية.. كانت ردّة الفعل التي أثارها هذا الإعلان قد فاقت بكثير ما تثيره أخبار الصفحة الأولى. أمّا موقع المكتب فكان في شارع خلفي هادئ وضيّق لا تعرفه سوى قلّة قليلة من البشر، لكنّه سرعان ما غصّ بالألوان حين اندفع إليه كثير من الفتيان والفتيات بثيابهن الزاهية، كما امتلأ برنين أجراس العجلات، والضحك، والابتسام، وموسيقى القيثارة الناعمة، والموسيقى الإلكترونية على أشرطة التسجيل، وأغاني مشاهير المطربين. بل إنّ بعض الشعراء أطلقوا على هذا الشارع العادي الصغير اسماً رومانسياً هو "درب الحبّ والجمال".
وبإلحاح متكرّر من أمّي، أخذت بطاقة إقامتي، وإجازةً وصورةً لي، وارتديت بذة جديدة ومضيت إلى "درب الحبّ والجمال".
وسرعان ما قطع أفكاري هجوم الموسيقى الإلكترونية. فقد اندفع ثلاثة أو أربعة من الشباب العصريين متباهين بآلات التسجيل التي يحملونها. كان أحدهم وَبْشَاً مشهوراً من الحيّ الشمالي في المدينة. وهذا ما أحبط دفعةً واحدةً معنوياتي التي كانت مرتفعة. أيمكن أن أجد الحب بين مثل هؤلاء الأشخاص الرديئين؟... الحبّ الذي أفتش عنه لابدّ أن يكون مختلفاً تماماً عن حبّهم.
وفي غمرة ترددي جاءني صوت ساحر رخيم يسألني: "أستاذ !.. إلى أين؟". ووجدتُ أمامي فتاة طويلة، نحيلة، بارعة الجمال.
كانت شقيقة واحدٍ من تلامذتي. ولم أكن أعلم سوى كنيتها.. " أه، آنسة ... أنا ذاهب إلى...".اللعنة! كيف يمكن أن أُخبِرَ فتاةً أنني ذاهب إلى مكتب الزواج لأبحث عن شريكة؟!..
-"أنا.... أنا ذاهب لزيارة أهل أحد تلامذتي. وأنتِ... إلى أين؟".
ابتسمت الفتاة، وقالت: "أنا ذاهبة إلى محلّ الخردوات شرقي المدينة".
-"حسنٌ"، أومأتُ برأسي، وتابعتُ، متعجّلاً.
مشيتُ مسافة قصيرة ثم عدتُ أدراجي، مفترضاً أنَّ تلك الفتاة لابدّ أن تكون قد ابتعدتْ. لكنني لمحتها وهي تعود أدراجها أيضاً. كانت ضفائرها تهتزّ، وهي تتلفت وتجتاز بسرعة باب المكتب المدهون بالزيرقون. غمرتني البهجة، وخطر في ذهني: ’ مع بنات مثل تلك الفتاة لابدّ أن أجد حبّاً حقيقياً ‘.. وغاب في الحال ذلك الانطباع المزعج الذي تركه لديّ مرأى أولئك الشباب قبل هنيهة. ودخلتُ بسرعة باب المكتب ودلفتُ إلى غرفة استقبال الرجال.
وقفتُ عند النافذة ونظرت إلى غرفة استقبال النساء المقابلة. كانت بين حشد الفتيات بأثوابهنّ الزاهية واحدةٌ بدت لي مثل تلك الفتاة.. وكانت تملأ البيانات مطرقةً برأسها. وراقبتها إلى أن أكملت الإجراءات وغادَرتْ.
ابتسمتُ.
جاء إليَّ أحد عناصر المكتب، رجل أربعيني، ورَبَتَ على كتفي، قائلاً: " لا ترتبك هكذا. املأ البيانات أولاً. يمكنك أن تعتمد عليَّ. سوف أجلب لك السعادة". أومأت برأسي ممتنّاً وأخذت الورقتين اللتين سلّمهما لي. كانتا مطبوعتين حديثاً، ورائحة الحبر ما زالت تنبعث منهما. كان من السهل ملء الورقة الأولى، فهي أشبه بالسيرة الذاتية، أمَّا الثانية فقد سبّبت لي صداعاً. ففي رأس الصفحة كان مكتوباً "مواصفات الشريك"، وتحتها عشرة أعمدة تشتمل على مهنة الفتاة المحتملة، وعمرها، وشخصيتها، ومظهرها، ووضعها المالي، وطولها، ومحلّ ولادتها، وجنسيّتها، وهواياتها، وظروفها العائلية العامة. وعبر هذه البنود المجردة، كنت أرى كائناً بشرياً حيّاً وملموساً، فتاةً ودودة عطوفة، تلمع في وجهها البيضوي المورّد عينان سوداوان برّاقتان تنمّان عن طهارة قلبها. بل كانت ذات طَبْع رضيّ، وهيئة جميلة بشامةٍ تخلب اللبّ تحت أذنها اليسرى.
كيف كان يمكن لي أن أنساها، على الرغم من أنني بالكاد أعرف اسمها، ولم أقابلها سوى مرّات ثلاث؟...
كان لقاؤنا الأول في شتاء السنة الماضية. كنت قد أخذت تلامذتي للتزّلج في المتنزّه. فجأة، خرج أحد الأولاد خارج الحدود وسقط في بركة ماء، بوغِتُّ وقفزتُ في الماء وانتشلته. كان من حسن الحظَ أنني أنقذته في الوقت المناسب؛ وبعد أن بدَّل ملابسه. لم يلبث أن تعافى. لكن أحد الأساتذة حذرني قائلاً: " انتظر، سوف يأتي أهله ليشتكوا!.. لأنه ذات مرّة، وأنا أعطي درس ألعاب القوى، لوى أحد التلاميذ كاحله وهو يقفز فوق حصان الوثب. أقام أهله الدنيا وأقعدوها.. أنت فعلت ماهو أسوأ، كاد الصبي يغرق في درسك".
حين رافقتُ الصبي إلى بيته، كنتُ عصبيَّ المزاج، متوقّعاً حصول مواجهة مع أهله الغاضبين. ولدى دخولي البيت، كانت هي الشخص الوحيد الذي استقبلني؛ وهي أخته الكبرى.. وبدلاً من أن تلومني لدى سماعها القصة، نظرت إليَّ بعينين ممتنتين، وراحت تشكرني مرّة بعد مرّة وقدّمت لي الشاي.. غدوتُ بطلاً. لكنني لم أكن مرتاحاً، ورحتُ أنتقدُ نفسي. وحين خرجتُ ووصلت إلى أولُ الزقاق، التفتُّ.. وكان ما يزال بمقدوري أن أرى من الشارع هيئتها الجميلة خلف زجاج النافذة.
كان لقاؤنا الثاني في أول الربيع هذا العام. كنت قد أخذت بعض التلاميذ لرؤية استعراض ألعاب القوى في الأستاد الرياضي. وبعد العرض، بدأ المطر ينهمر مدراراً ومنعنا من العودة. كانت تلك مشكلة يصعب حلّها على أستاذ مثلي. فبعد قليل كان سيحلّ وقت الغداء. وبينما كنت أفكّر فيما يمكن أن أفعله، فُتِحَ باب مكتب قطع التذاكر، وأومأت تلك الفتاة نفسها- شقيقة تلميذي- بيدها إليّ:"أستاذ ! مادمت لا تستطيع العودة إلى المدرسة، فادخل وتدفأ". ورفضت: "لا أريد أن أقطع عملك". لم أكن قد التقيتها سوى مرّة واحدة فقط من قبل، فكيف يمكن أن أسبّب لها مشكلة؟.. لقد دعتني بدافع التهذيب، وماكان بمقدوري أن أقبل.
غير أنَّها ألحَّت: "أنت أستاذ.. فماذا عن تلاميذك؟... الطقس بارد جداً، والمطر لن يتوقّف عمّا قريب. تعالوا واشربوا شيئاً ساخناً. لقد قارب الوقت الظهر. يمكنك أيضاً شراء بعض الكعك للأولاد. لديّ نقود وبطاقات إعاشة. ويمكنك أن تستخدمها".
ياللدقّة التي حسبتْ فيها حساب كلَّ شيء!...
ولما رأيتُ صدقها، كففتُ عن الرفض. سمحتُ للأولاد أن ينحشروا في غرفتها، بينما جلبتْ هي إبريقين كبيرين وبعض الأقداح، ثم أشارت إليَّ: "أستاذ، اشربوا الشاي أولاً.. سأذهب لأحضر الكعك".
حين وصف علماء النفس حالة العازبين الذهنية، كتبوا يقولون: "مع الاقتراب من حالة النضج، ترتسم في الذهن صورة "الشخص المثالي"، شيئاً فشيئاً، وتكون خليطاً من شخصية المرء ذاته، والأِشياء المفضَّلة لديه، وسلوكه، وعاداته. ولدى التواصل مع شخص من الجنس الآخر والحديث معه، فإنَّ المرء يتحرَّى الطرف الآخر ويفكّر فيه تبعاً لصورة "الشخص المثالي" المتخيَّل. ولقد كنتُ آنئذٍ في مثل هذه الحال. وعلى صوت المطر، كنت أتجاذب أطراف الحديث مع تلك الفتاة وآكل معها. وكانت نظراتنا الخاطفة الدافئة تعبّر عن عاطفةٍ رقيقة مترددة. وأثناء حديثنا، كان أحدنا يقوِّم الآخر، في محاولةٍ لإيجاد أرضية مشتركة.
توقَّف المطر وسطعت الشمس من جديد، فاستأتُ. لماذا لا تنتظر الشمس أن نكمل حديثنا الشائق؟...
وبقيت في حالٍ من الاضطراب بضع أيام. تملّكتني ضروب من التوق والقلق. اختلَّ توازني. وكنت أعلم ماينبغي أن أقوم به لكي أستعيده. وأخيراً سنحت لي الفرصة.. وذهبت لأعيد النقود وبطاقات الإعاشة لتلك الفتاة أملاً أن أستأنف ما كنا قد بدأناه من حديث.
-يتبع-
ـــ بقلم: هيْ ز. هو
الجميع يقولون أنني قد حظيت بزيجةٍ صالحة؛ وإنَّ عليَّ أن أكون ممتناً جداً لمكتب الزواج. غير أنَّ زواجنا لم يُرَتَّب داخل المكتب، بل خارجه. لا تصدقونني؟!.. اسمعوا القصة إذن.
زواج الرجال والنساء ضرورة من الضرورات. لكنني ما زلت عازباً على الرغم من مقابلتي نصف دزينة من الشريكات المحتملات واقترابي من التاسعة والعشرين من العمر.
والشباب العازبون يبدون حساسية خاصة فيما يتعلّق بأعمارهم، فكلما كَبُرَ الرقم، ازدادت الوطأة على صدورهم.
هل كان ذلك بسبب بشاعتي؟.. لا، ففي السنة الماضية، حين عُيِّنتُ أستاذاً متقدّماً، استمعت عَرَضاً وَصفاً لمظهري من إحداهن: "على الرغم من أننا لا نستطيع وصفه بالوسامة، فإنَّ عينيه السوداوين اللامعتين، تحت أهدابه الطويلة، تشعّان بحيوية الشباب، وبنيته الرياضية القوية تجعله فتى جذّاباً يلفت الأنظار".
إنما مهنتي كانت السببَ الأساسي لإخفاقي في الحبّ. وانتكاساتي في شؤون القلب زوّدتني بمرآة، أمكنني أن أرى فيها بوضوح مكانتي في عيون بعض الناس.
حبّي الأول كان لزميلة من أيام الدراسة، وصارت بعد ذلك تعمل في مصنعٍ للنسيج، كثيراً ما كُنّا نسير على ضفة النهر ويدها في يدي، نرنو إلى الشمس الغاربة بصفرتها البرتقالية، وإلى سحب العشيّة الساحرة، فنحسّ بقلبينا يخفقان معاً، وأغاني البهجة تصدح من حولنا..
آه، يا لتلك الأيام الذهبية، أيام أحلام الشباب.
وذات مرّةٍ، ألقت برأسها على كتفي وقالت بصوت ناعم حنون: " ألا تستطيع أن تحصل على عمل آخر؟... أصدقائي في العمل يسخرون مني".
شعرتُ بوخزةٍ تخترق قلبي.
وألحَّت وهي تزداد التصاقاً بي: "غيّر عملك أرجوك. يمكن لوالدي أن يساعدك...".
وارتفعت في قلبي موجةً من الهدوء والسكينة. نظرتُ في عينيها، ورأيت رجاءها. غير أني رأيت أيضاً إشفاقها عليّ، وهذا ما لم أستطع أن أطيقه؛ كان فيه احتقار لعملي، وتحطيمٌ لاحترامي لنفسي. فاحتشد في حلقي كمٌّ وافرٌ من كلمات الازدراء، لكنني أفلحت في كبتها. وافترقنا بإحسان، دون أن تصدر عني كلمة غاضبة واحدة.
آخر نقاشٍ مثل ذاك الحوار كان في السنة الماضية. عرّفني جيراني على فتاةٍ عصرية على الموضة. وحين التقينا، طرَفتْ عيناها الواسعتان الفاتنتان ونظرتا إليَّ كما لو كنتُ حيواناً نادراً، لكنها ما إن عَلِمَتْ مهنتي حتى أظلمت عيناها، مثل مصباحين يخبوان. وتركتني دون استئذان. وخارج نافذة الجيران، سمعتها وهي تفرغ جام غضبها على الجارة: " أنت تستهينين بي.. يا خالة! قلتِ إنك ستعرفينني برياضيّ!.. رياضيّ ما! ولكنَّهُ مجرد أستاذ للرياضة في مدرسة ابتدائية.. أيَّ عمل هذا؟ أساتذة الرياضة في المدارس الابتدائية يُنْظَر إليهم كمواطنين من الدرجة الثانية. هذا لا ينفع!"...
وحين ظهر الإعلان عن افتتاح مكتب الزواج في مستطيل بحجم علبة كبريت في الزاوية اليمنى السفلية من الصفحة الرابعة في صحيفة محلية.. كانت ردّة الفعل التي أثارها هذا الإعلان قد فاقت بكثير ما تثيره أخبار الصفحة الأولى. أمّا موقع المكتب فكان في شارع خلفي هادئ وضيّق لا تعرفه سوى قلّة قليلة من البشر، لكنّه سرعان ما غصّ بالألوان حين اندفع إليه كثير من الفتيان والفتيات بثيابهن الزاهية، كما امتلأ برنين أجراس العجلات، والضحك، والابتسام، وموسيقى القيثارة الناعمة، والموسيقى الإلكترونية على أشرطة التسجيل، وأغاني مشاهير المطربين. بل إنّ بعض الشعراء أطلقوا على هذا الشارع العادي الصغير اسماً رومانسياً هو "درب الحبّ والجمال".
وبإلحاح متكرّر من أمّي، أخذت بطاقة إقامتي، وإجازةً وصورةً لي، وارتديت بذة جديدة ومضيت إلى "درب الحبّ والجمال".
وسرعان ما قطع أفكاري هجوم الموسيقى الإلكترونية. فقد اندفع ثلاثة أو أربعة من الشباب العصريين متباهين بآلات التسجيل التي يحملونها. كان أحدهم وَبْشَاً مشهوراً من الحيّ الشمالي في المدينة. وهذا ما أحبط دفعةً واحدةً معنوياتي التي كانت مرتفعة. أيمكن أن أجد الحب بين مثل هؤلاء الأشخاص الرديئين؟... الحبّ الذي أفتش عنه لابدّ أن يكون مختلفاً تماماً عن حبّهم.
وفي غمرة ترددي جاءني صوت ساحر رخيم يسألني: "أستاذ !.. إلى أين؟". ووجدتُ أمامي فتاة طويلة، نحيلة، بارعة الجمال.
كانت شقيقة واحدٍ من تلامذتي. ولم أكن أعلم سوى كنيتها.. " أه، آنسة ... أنا ذاهب إلى...".اللعنة! كيف يمكن أن أُخبِرَ فتاةً أنني ذاهب إلى مكتب الزواج لأبحث عن شريكة؟!..
-"أنا.... أنا ذاهب لزيارة أهل أحد تلامذتي. وأنتِ... إلى أين؟".
ابتسمت الفتاة، وقالت: "أنا ذاهبة إلى محلّ الخردوات شرقي المدينة".
-"حسنٌ"، أومأتُ برأسي، وتابعتُ، متعجّلاً.
مشيتُ مسافة قصيرة ثم عدتُ أدراجي، مفترضاً أنَّ تلك الفتاة لابدّ أن تكون قد ابتعدتْ. لكنني لمحتها وهي تعود أدراجها أيضاً. كانت ضفائرها تهتزّ، وهي تتلفت وتجتاز بسرعة باب المكتب المدهون بالزيرقون. غمرتني البهجة، وخطر في ذهني: ’ مع بنات مثل تلك الفتاة لابدّ أن أجد حبّاً حقيقياً ‘.. وغاب في الحال ذلك الانطباع المزعج الذي تركه لديّ مرأى أولئك الشباب قبل هنيهة. ودخلتُ بسرعة باب المكتب ودلفتُ إلى غرفة استقبال الرجال.
وقفتُ عند النافذة ونظرت إلى غرفة استقبال النساء المقابلة. كانت بين حشد الفتيات بأثوابهنّ الزاهية واحدةٌ بدت لي مثل تلك الفتاة.. وكانت تملأ البيانات مطرقةً برأسها. وراقبتها إلى أن أكملت الإجراءات وغادَرتْ.
ابتسمتُ.
جاء إليَّ أحد عناصر المكتب، رجل أربعيني، ورَبَتَ على كتفي، قائلاً: " لا ترتبك هكذا. املأ البيانات أولاً. يمكنك أن تعتمد عليَّ. سوف أجلب لك السعادة". أومأت برأسي ممتنّاً وأخذت الورقتين اللتين سلّمهما لي. كانتا مطبوعتين حديثاً، ورائحة الحبر ما زالت تنبعث منهما. كان من السهل ملء الورقة الأولى، فهي أشبه بالسيرة الذاتية، أمَّا الثانية فقد سبّبت لي صداعاً. ففي رأس الصفحة كان مكتوباً "مواصفات الشريك"، وتحتها عشرة أعمدة تشتمل على مهنة الفتاة المحتملة، وعمرها، وشخصيتها، ومظهرها، ووضعها المالي، وطولها، ومحلّ ولادتها، وجنسيّتها، وهواياتها، وظروفها العائلية العامة. وعبر هذه البنود المجردة، كنت أرى كائناً بشرياً حيّاً وملموساً، فتاةً ودودة عطوفة، تلمع في وجهها البيضوي المورّد عينان سوداوان برّاقتان تنمّان عن طهارة قلبها. بل كانت ذات طَبْع رضيّ، وهيئة جميلة بشامةٍ تخلب اللبّ تحت أذنها اليسرى.
كيف كان يمكن لي أن أنساها، على الرغم من أنني بالكاد أعرف اسمها، ولم أقابلها سوى مرّات ثلاث؟...
كان لقاؤنا الأول في شتاء السنة الماضية. كنت قد أخذت تلامذتي للتزّلج في المتنزّه. فجأة، خرج أحد الأولاد خارج الحدود وسقط في بركة ماء، بوغِتُّ وقفزتُ في الماء وانتشلته. كان من حسن الحظَ أنني أنقذته في الوقت المناسب؛ وبعد أن بدَّل ملابسه. لم يلبث أن تعافى. لكن أحد الأساتذة حذرني قائلاً: " انتظر، سوف يأتي أهله ليشتكوا!.. لأنه ذات مرّة، وأنا أعطي درس ألعاب القوى، لوى أحد التلاميذ كاحله وهو يقفز فوق حصان الوثب. أقام أهله الدنيا وأقعدوها.. أنت فعلت ماهو أسوأ، كاد الصبي يغرق في درسك".
حين رافقتُ الصبي إلى بيته، كنتُ عصبيَّ المزاج، متوقّعاً حصول مواجهة مع أهله الغاضبين. ولدى دخولي البيت، كانت هي الشخص الوحيد الذي استقبلني؛ وهي أخته الكبرى.. وبدلاً من أن تلومني لدى سماعها القصة، نظرت إليَّ بعينين ممتنتين، وراحت تشكرني مرّة بعد مرّة وقدّمت لي الشاي.. غدوتُ بطلاً. لكنني لم أكن مرتاحاً، ورحتُ أنتقدُ نفسي. وحين خرجتُ ووصلت إلى أولُ الزقاق، التفتُّ.. وكان ما يزال بمقدوري أن أرى من الشارع هيئتها الجميلة خلف زجاج النافذة.
كان لقاؤنا الثاني في أول الربيع هذا العام. كنت قد أخذت بعض التلاميذ لرؤية استعراض ألعاب القوى في الأستاد الرياضي. وبعد العرض، بدأ المطر ينهمر مدراراً ومنعنا من العودة. كانت تلك مشكلة يصعب حلّها على أستاذ مثلي. فبعد قليل كان سيحلّ وقت الغداء. وبينما كنت أفكّر فيما يمكن أن أفعله، فُتِحَ باب مكتب قطع التذاكر، وأومأت تلك الفتاة نفسها- شقيقة تلميذي- بيدها إليّ:"أستاذ ! مادمت لا تستطيع العودة إلى المدرسة، فادخل وتدفأ". ورفضت: "لا أريد أن أقطع عملك". لم أكن قد التقيتها سوى مرّة واحدة فقط من قبل، فكيف يمكن أن أسبّب لها مشكلة؟.. لقد دعتني بدافع التهذيب، وماكان بمقدوري أن أقبل.
غير أنَّها ألحَّت: "أنت أستاذ.. فماذا عن تلاميذك؟... الطقس بارد جداً، والمطر لن يتوقّف عمّا قريب. تعالوا واشربوا شيئاً ساخناً. لقد قارب الوقت الظهر. يمكنك أيضاً شراء بعض الكعك للأولاد. لديّ نقود وبطاقات إعاشة. ويمكنك أن تستخدمها".
ياللدقّة التي حسبتْ فيها حساب كلَّ شيء!...
ولما رأيتُ صدقها، كففتُ عن الرفض. سمحتُ للأولاد أن ينحشروا في غرفتها، بينما جلبتْ هي إبريقين كبيرين وبعض الأقداح، ثم أشارت إليَّ: "أستاذ، اشربوا الشاي أولاً.. سأذهب لأحضر الكعك".
حين وصف علماء النفس حالة العازبين الذهنية، كتبوا يقولون: "مع الاقتراب من حالة النضج، ترتسم في الذهن صورة "الشخص المثالي"، شيئاً فشيئاً، وتكون خليطاً من شخصية المرء ذاته، والأِشياء المفضَّلة لديه، وسلوكه، وعاداته. ولدى التواصل مع شخص من الجنس الآخر والحديث معه، فإنَّ المرء يتحرَّى الطرف الآخر ويفكّر فيه تبعاً لصورة "الشخص المثالي" المتخيَّل. ولقد كنتُ آنئذٍ في مثل هذه الحال. وعلى صوت المطر، كنت أتجاذب أطراف الحديث مع تلك الفتاة وآكل معها. وكانت نظراتنا الخاطفة الدافئة تعبّر عن عاطفةٍ رقيقة مترددة. وأثناء حديثنا، كان أحدنا يقوِّم الآخر، في محاولةٍ لإيجاد أرضية مشتركة.
توقَّف المطر وسطعت الشمس من جديد، فاستأتُ. لماذا لا تنتظر الشمس أن نكمل حديثنا الشائق؟...
وبقيت في حالٍ من الاضطراب بضع أيام. تملّكتني ضروب من التوق والقلق. اختلَّ توازني. وكنت أعلم ماينبغي أن أقوم به لكي أستعيده. وأخيراً سنحت لي الفرصة.. وذهبت لأعيد النقود وبطاقات الإعاشة لتلك الفتاة أملاً أن أستأنف ما كنا قد بدأناه من حديث.
-يتبع-