PDA المساعد الشخصي الرقمي

عرض كامل الموضوع : Zurba



FRIEND
26-05-2006, 15:44
http://www.mexat.com/vb/attachment.php?attachmentid=97286&stc=1&d=1148666707

رواية زوربا

نيكوس كازنتزاكس


لم يكن بجديد الحديث عن رواية زوربا، وأظنُ أن بعضكم إن لم يكن معظمكم قرأ الرواية أو على الأقل سمع عنها وعن شخصية زوربا اليوناني.

ذلك الرجل المجنون الذي يرقص ألمًا، وينطق حِكمًا، وهو الرجل البسيط، الذي آمن على إمكانية الجمع بين متعة الروح، والجسد.
زوربا الإنسان البدائي المرتبط بالطبيعة الأم، زوربا، ودهشة طفلٍ في عينيه المستديرتان -كما يوصفهم صديقه "كزنتزاكي"-، اللتان ترى الأشياء من حولهما وكأنه يراها لأول مرةٍ.

هوو ليس بفيلسوفٍ، وإنما حكيمًا يشرح أعقد الأمور والأفكار الفلسفية بكلمات بسيطة، يحدثك عن الجنون والعقل والحرية والعبودية وكل ما يفكر به الإنسان ويسعى إليه.

* * *

الرواية رائعة، بكل المقاييس، وهي التي حاربتها كثير من الدول العربية، مُنع نشرها في كثير من الدول الخليجية، ومصر، ولكن تبقى الرواية حيّة في قلوب القرَّاء، ربما أُنقص من ثراءها اللغوي عند ترجمتها وأحسبها كذلك، إلا أننا قرأناها وتذوقناها.

FRIEND
26-05-2006, 15:47
قبل الدخول في فصول الرواية والغرق بها، هيا نذهب إلى هذا الجمل المقتطف من ذاتها.

http://www.mexat.com/vb/attachment.php?attachmentid=97287&d=1148666707

الطريقة الوحيدة لإنقاذ نفسك هي أن تناضل لإنقاذ الآخرين.

*

كنت أنا أصغي إليه غير مبال، و كأن الألم لم يكن إلا حلماً و الحياة مأساة آسرة، يثبت فيها من يسرع إلى المسرح و يأخذ حصته من العمل، غلظته و سذاجته.

*

سكينة، اطمئنان، و على الوجه قناع مبتسم لا يتحرك. أما ما يجري وراء القناع، فهذا من شأننا.

*

لقد قررت أن أبدل طريقة حياتي، و قلت لنفسي:
حتى اليوم يا نفس، لم تكوني لتري سوى الظل، و كنت تكتفين به، أما الآن فسأقودك إلى الجسد.

*

هذا ما يجعلك إنسانا: الحرية!


*
هذه هي الحرية :أن تهوى شيئاً ما، و أن تجمع قطع الذهب، و فجأة تتغلب على هواك و تلقي بكنزك في الهواء أن تتحرر من هوى لتخضع لهوى آخر أكثر نبلاًُ منه، لكن أليس هذا شكلاً آخر من العبودية.

*

إن الشباب حيوان مفترس، لا إنساني، لا يفهم.
*

الإنسان بهيمة، بهيمة كبيرة. إن سيادتك لا تعرف ذلك، و كل شيء على ما يبدو كان سهلا بالنسبة لك، لكن أسألني أنا. بهيمة أقول لك:
إذا كنت سيئاً معه احترمك و خافك، و إذا كنت طيباً فقأ عينيك.

*

حافظ على المسافات أيها الرئيس، لا تشجع البشر كثيراً، و لا تقل لهم أننا جميعاُ متساوون و أن لنا جميعاً الحقوق نفسها. و إلا فإنهم سيدوسون حقك أنت، و يسرقون خبزك و يدعونك تفطس من الجوع. حافظ على المسافات، أيها الرئيس، من أجل الخير الذي أريده لك.

*

دع الناس مطمئنين أيها الرئيس لا تفتح أعينهم و إذا فتحت أعينهم، فما الذي سيرونه؟ بؤسهم!
دعهم إذن مستمرين في أحلامهم!
إلا إذا كان لديك عندما يفتحون أعينهم، عالم أفضل من عالم الظلمات الذي يعيشون فيه الآن.ألديك هذا العالم؟

*

إن قلب الإنسان يتألم عندما تمطر، و يجب ألا نلومه على ذلك!

*
لو كنا نعرف ما تقوله الحجارة و الأزهار و المطر !
لعلها تنادي، تنادينا و نحن لا نسمع، متى ستنفتح آذان الناس ؟
متى ستنفتح أعيننا لنرى ؟ متى ستنفتح الأذرع لنعانق الجميع، الحجارة و الأزهار و المطر و البشر ؟
*
إن الحياة إزعاج. أما الموت، فلا.
أن تعيش، أتعرف ماذا يعني هذا؟
أن تفك حزامك و تبحث عن قتال.
*
هناك أسوأ ممن هو أصم، و هو الذي لا يريد أن يسمع!

*

إلهية هي القوة التي لا تفنى، و التي تحول المادة إلى روح.
إن في كل إنسان جزءاً من هذه الدوامة الإلهية، و لهذا فهو ينجح في تحويل الخبز و الماء و اللحم إلى فكر و عمل.إن زوربا على حق : قل لي ماذا تفعل بما تأكله أقل لك من أنت!

*

تلك هي السعادة الحقيقية : ألا يكون لي أي مطمح، و أن اشتغل كعبد، وكأن لي كل المطامح.أن أعيش
بعيداً عن البشر، ألا احتاج إليهم و أحبهم.

*

تقول الأسطورة القديمة : أن قلب الإنسان عبارة عن حفرة مليئة بالدم، و على أطراف هذه الحفرة يرتمي الأموات الأحباء على بطنهم ليلعقوا الدم و تعود الحياة إليهم، و كلما كانوا عزيزين عليك أكثر، شربوا من الدم أكثر.

*

إن العالم القديم متيم، ملموس، ونحن نعيش و نناضل معه كل لحظة، إنه موجود.
و عالم المستقبل لم يولد بعد، و هو غير قابل للمس، مائع، مصنوع من النور الذي نسجت منه الأحلام، إنه غيمة تتضاربها رياح عنيفة : الحب و الحقد و الخيال و الصدفة و الله.

*

عندما نعيش سعادة ما، فنادراً ما نحس بذلك. و إنما عندما تمضي و ننظر إلى الوراء، نحس فجأة و أحياناً بدهشة كم كنا سعداء.

*

سأملأ روحي بالجسد، و أملأ جسدي بالروح. سأوفق أخيراً في نفسي، بين هذين العدوين الأبديين.

*

أحياناً يعزف لحناً وحشياً، فتحس بأنك تختنق، لأنك تفهم فجأة أن الحياة تافهة و بائسة، و غير لائقة بالإنسان.
و أحياناً يعزف لحناً مؤلماً، فتحس بأن الحياة تمر و تنساب كما ينساب الرمل من بين الأصابع، و بأن الطمأنينة لا وجود لها.

*

يقول كونفو شيوس : كثيرون يبحثون عن السعادة فيما هو أعلى من الإنسان، و آخرون فيما هو أوطى منه. لكن السعادة بطول قامة الإنسان.

*

أسمى الأفكار، لو بقرت بطونها، لتبينا أنها، هي أيضاً، دمى محشوة بالنخالة، ثم نجد، نابضاً من التنك مخفياً في النخالة.

*

إننا ننسى بسهولة ما لا يلائمنا.

*
إن الإنسان يتحرر هكذا، بأن يشبع من كل شيء يخطر له، لا بأن يزهد فيه.
كيف تستطيع يا صديقي، أن تتخلص من الشيطان، إذا لم تصبح أنت بنفسك شيطان و نصف؟

*
زوربا كان من المستحيل عليه أن يسمع امرأة تخاطبه بصوت ممزق، دون أن يتبدل تماماً.إن دمعة امرأة يمكن أن تغرقه.

*

إن جميع الذين يعيشون الأسرار، كما ترى، ليس لديهم وقت للكتابة، و جميع الذين عندهم وقت، لا يعيشون الأسرار، أتفهم؟

*

العمل هو الطمأنينة الوحيدة.

*
إن دجاجة تسبح في الماء أفضل من دوري في قفص.

*
إنني أخاف الشيخوخة، أيها الرئيس، فلتقنا السماء منها ! إن الموت لا شيء، مجرد بف ! و تنطفىء الشمعة لكن الشيخوخة عار.

*

إن لكل إنسان حماقاته، لكن الحماقة الكبرى في رأيي هي ألا يكون للإنسان حماقات.

*

إن حياة الإنسان طريق لها مرتفعاتها و وهادها و ذوو العقول يتقدمون و أيديهم على العنان. أما أنا أيها الرئيس و هنا تكمن قيمتي، فلقد ألقيت بالعنان منذ زمن بعيد، لأن الصدمات لا تخيفني.

*

عندما يكون للإنسان قلب، فقد تكون عنده كل العيون و كل الأنوف التي تريد. لكنه يلقي بها جميعاً أدراج الرياح

*

لا يهم ألا يكون للإنسان رأس، يكفي أن تكون عنده قبعة.
*

إن الإنسان لا يستطيع أن يعبر إلا عن نصف أفكاره فقط، لأنه لا يعمل إلا نصف عمله فقط.
إن العالم موجود في هذه الحالة اليائسة. لأن الإنسان نصف فاضل، أو نصف شرير،
اذهب حتى النهاية، ارم بعيداً، ولا تخف، عندئذ تنتصر.

*
حط نورسان على الأمواج الصغيرة و أخذا يتأرجحان، و قد أمالا عتقيهما مستسلمين بلذة لإيقاع البحر.
و كنت أفكر و أنا أنظر إلى النورسين:
ذلك هو الطريق الواجب إتباعه، أن تجد الإيقاع الأكبر و أن تستلم له بثقة.

*

قلت في نفسي، و أنا أحسد زوربا على ألمه : هذا هو الإنسان الحقيقي.
إنسان حارة دماؤه، متينة عظامه، يترك دموعاً كبيرة حقيقية تنساب حين يتألم، ولا يضيع فرحه بامراره في غربال، الميتافيزيك الدقيق، حين يكون سعيداً.

*

إن الأحزان كلها تشطر قلبي إلى قطعتين. لكنه هذا المليء بالندوب، المثخن بالجراح، سرعان ما يلتصق على
نفسه، و لا يعود للجرح وجود. إنني مليء بالجراح التي تحولت إلى مجرد ندوب، و لهذا فإنني أستطيع تحمل الضربات.

*

أصغ إلى يا بني :
إن الإله الرحيم، كما ترى، لا تستطيع طبقات السماء السبع و طبقات الأرض السبع أن تسعه.
لكن قلب الإنسان يسعه. إذن احذر يا بني من أن تجرح ذات يوم قلب الإنسان !

*
كنت أزن في رأسي كلمات زوربا الغنية بالمعنى و الفائحة منها رائحة أرض حارة، و كأنها تصعد من أعمق أحشائه، و هي لا تزال محتفظة بالحرارة الإنسانية.
أما كلماتي، أنا، فكانت من ورق.
إنها تنزل من رأسي، لا تكاد تلطخها نقطة دم واحدة.
لو كانت لها قيمة ما، فإنما هي مدينة بها لنقطة الدم هذه بالذات.

*

إنني حر!
فهز زوربا رأسه، و قال :
كلا، لست حراً.
إن الحبل الذي ربطت به نفسك أطول قليلاً من حبل الآخرين. هذا كل شيء.
إن لديك،أيها الرئيس، حبلاً طويلاً، فأنت تذهب و تأتي، و تعتقد أنك حر، لكنك لا تقطع الحبل.
و عندما يقطع الإنسان الحبل.........
فقلت بتحد، لأن كلمات زوربا قد لمست في جرحاً فتوحاً, فتوجعت :
سأقطعه ذات يوم !
- هذا صعب، أيها الرئيس، صعب جداً.لا بد لذلك من شيء من الجنون. الجنون، أتسمعني ؟
أن تجازف بكل شيء ! لكن لك، أنت، عقلا متينا، و سوف يتغلب عليك.

*

إن العقل عطار، لديه سجلات : دفعت كذا، ووفرت كذا، و هي ذي أرباحي، هي ذي خسائري !
إنه صاحب دكان صغير حذر.
إنه لا يقامر بكل شيء، بل يحتفظ دوماً باحتياطي. إنه لا يقطع الخيط كلا ! إنه يمسكه بقوة في يده.
و إذا ما أفلت منه، فقد هلك، هلك المسكين !
لكن إذا لم تقطع الخيط، قل لي، أية لذة يمكن أن تكون للحياة ؟
ستكون كطعم البابونج، البابونج الذابل !

*

أنت تفهم ! أنت تفهم و هذا ما سيضيعك !
لو كنت لا تفهم، لكنت سعيداً. ما الذي ينقصك ؟ أنت شاب، ذكي، عندك مال، صحة جيدة، و أنت فتى شجاع، لا ينقصك شيء، لا ينقصك إلا شيء واحد : الجنون.
و عندما يكون هذا ناقصاً،......و هز رأسه و صمت من جديد.

*

عندما كنت طفلاً، كنت كلي اندفاعات مجنونة رغبات تتجاوز الإنسان، و كان العالم لا يستطيع أن يحتويني.
و شيئاً فشيئاً مع مر الزمن، أزدت حكمة فكنت أضع حدوداً، و أفصل الممكن عن المستحيل، و الإنساني عن الإلهي، أمسك بطيارتي بقوة حتى لا تفلت مني.

*

إن العقل ذاك العطار، يسخر من الروح كما نسخر نحن من البصارات العجائز و الساحرات.

*

إلى إبليس بالجمال، هتفت بذلك لأن الجمال بلا قلب، لا يبالي بالألم البشري.


*

ما هو إذن هذا السر الفظ : الحياة ؟
إن البشر يتلاقون و يفترقون كأوراق الأشجار التي تطردها الريح., و عبثاً يحاول النظر أن يحتفظ بوجه المخلوق الحبيب، و جسده و حركاته.
فبعد عدة سنوات لن يذكر أبداً ما إذا كانت عيناه زرقاوين أو سوداوين.

*
طوال أيام ظل طعم الموت على شفتي.
لكن قلبي قد اطمأن، فقد دخل الموت إلى حياتي بوجه معروف حبيب، كصديق جاء ليأخذنا، ينتظر في زاوية أن ننهي عملنا، دون أن نفقد الصبر.

*

إن الحب أقوى من الموت.

كبمارو
26-05-2006, 15:52
مـــشكور ع القصة
ونتريا يديدك
ربي يحفظـك

FRIEND
15-07-2006, 23:23
الفصــل الأول

التقيته بها في مرفأ " بيريه " عندما كنت متوجها لأخذ القارب إلى " كريت " ، كانت أول مرة كان الصباح على وشك أن ينبلج ، و السماء تمطر ، و كان رذاذ الموج يصل إلى زجاج المقهى الصغير الذي كانت أبوابه الزجاجية مغلقة ، و كان الطقس باردا في الخارج ، و قد عبق الجو داخل المقهى بأنفاس رواده .
و كان هناك خمسة أو ستة يجلسون في المقهى منذ الليل الفائت ، و قد التفوا لباسهم القاتم المصنوع من وبر الماعز يشربون القهوة و يدخنون و ينظرون إلى زجاج المقهى العابق و إلى البحر الهائج الهادر في الخارج ، و كانت الأسماك في البحر قد التجأت إلى الأعماق بانتظار هدوء العاصفة عند سطح الماء ، كما كان البحارة و الصيادون ينتظرون بدورهم أيضا هدوء العاصفة ، حتى تصعد
الأسماك إلى سطح الماء لتأكل الطعم .
و فتح باب المقهى الزجاجي و ولد منه عامل قصير القامة ، أسمر اللون ، عاري الرأس ، حافي القدمين و قد صبغ بالأوساخ من قمة رأسه إلى أخمص قدميه .
- هاي ! كوستاندي ! كيف هي الأمور معك ؟
هتف بحار عجوز يرتدي سترة زرقاء ، و أجابه المدعو كوستاندي بعد أن بصق على الأرض :
- ماذا تعتقد ؟ في الصباح إلى البار و في المساء إلى البيت ، صباح الخير أيها البار و مساء الخير أيها المنزل ! هذه هي حياتي التي أعيشها الآن ، فليس لدي من عمل أعمله .
و ضحك بعض الحضور بينما شتم البعض الآخر ، و هم يهزون برؤوسهم :
- هذا العالم هو سجنٌ مؤبد ، نعم إنه سجنٌ مؤبد ، عليه اللعنة .
و دلف عبر زجاج المقهى الوسخ شعاعٌ أزرق ، و تعلق بالأيدي و الأنوف و جباه الحاضرين ، ثم تسلل إلى البار و أضاء الزجاجات الفارغة ، و خفت الضوء الكهربائي ، و تمطأ صاحب المقهى الذي كان نصف نائم ، و مسد يديه بحركة متكاسلة كأنه يستقبل ضوء النهار الجديد ، و بعد فترة من الصمت قال البحار العجوز متنهداً :
- ترى ماذا جرى للكابتن ليموني ؟ كان الله في عونه !
و نظر بغضب إلى البحر ثم صاح :
- لعنك الله من بحر أثيم مخرب للبيوت !
ثم عض على شاربه الرمادي .
كنت جالسا في زاوية المقهى من شدة البرد ، و طلبت كأسا ثانيا من الشراب ، و شعرت بالنعاس لكني قاومت الرغبة في النوم و التعب ، و جلست أنظر من خلال الزجاج إلى المرفأ الذي بدأ يضج بالحركة و بصفارات البواخر ، و بصياح سائقي العربات .
كانت عيناي عالقتين في مقدمة باخرة سوداء كبيرة ، كانت لا تزال مغمورة بظلام الليل القاتم ، و كانت السماء تمطر ، و باستطاعتي مشاهدة خيوط الماء المنهمر تربط السماء بالوحل .
نظرت إلى الباخرة السوداء ، و تجسدت كآبة الذكريات الماضية ، و دفعت الأمطار بصورة وجه صديقي الكبير ، هل كانت السنة الماضية ؟ في عالم آخر ؟ البارحة ؟ متى كانت حين نزلت إلى هذا المرفأ بالذات لأقول له وداعاً ؟ لقد كانت السماء ممطرة ذلك الصباح ، أيضا ، و في تلك المرة كان قلبي مثقلا تماما شأنه اليوم .
كم هي مؤلمة ساعة الفراق البطيئة ، خاصة فراق الأصدقاء العظام ! ، فالأفضل الانقطاع دفعة واحدة ، و العودة إلى الوحدة – الجو الطبيعي للرجل ، و لكن ، في ذلك الصباح الممطر لم يكن باستطاعتي ترك صديقي ( و قد علمت لماذا ، فيما بعد ، و لكن للأسف كان ذلك بعد فوات الأوان ) ، لقد صعدت معه إلى ظهر المركب و دخلتُ إلى مقصورته الملأى بالحقائب المبعثرة ، كأنني كنت راغبا في أن أدون ملامحه في مخيلتي ، عينيه المضيئتين بالأزرق ، وجهه الفني ، و ملامحه الذكية ، و فوق كل ذلك يديه الارتسقراطيتين و أصابعهما الطويلة النحيلة .
و حين فاجأني و أنا أحدق به بشوق ، و نظر إلي و قد ارتسمت على وجهه تلك الابتسامة الساخرة التي يلجأ إليها حين يريد أن يخفي انفعاله ، و فهم ! ، سألني مبتسما ساخراً :
- إلى متى ؟
- ماذا تعني بإلى متى ؟
- إلى متى ستبقى على عادة مضغ الورق و التلوث بالحبر ؟ لماذا لا تأتِ معي بعيدا في القوقاز هناك الألوف من أبناء جلدتنا في خطر عظيم ، تعال لننقذهم .
ثم راح يضحك كأنه يهزأ من نبله ، قال :
- ربما ، لن نقدر على مساعدتهم ، و لكن ألم تكن تعظ " إن الطريقة الوحيدة في تخليص نفسك هي في مساعدة الآخرين " ؟ حسنا ، أيها المعلم ، إلى الأمام ، و أنت ممتاز إلقاء المواعظ ، لماذا لا تأتِ معي ؟!
و لم أجبه ، و فكرت بأراضي الشرق الساحرة ، و أم الآلهة العجوز ، و صراخ بروميثيوس المسمر إلى الصخور ، و هناك على هذه الصخور نفسها كان عِرقنا مسمراً ، لقد كان ينادي و يصرخ !! لقد كان ينادي طالبا المعونة من أبنائه ، و كنت أسمع النداء كأن الألم هو حلم و الحياة هي مأساة محيقة ، يثبت فيها من يأخذ حصته من العمل في مسرح الحياة .
و بدون أن ينتظر جوابا مني ، نهض صديقي ، و صفرت الباخرة معلنة عن الإقلاع للمرة الثالثة و مدّ يده إليّ ، محاولا إخفاء انفعاله بابتسامته الساخرة ، ثم قال :
- إلى الملتقى ، يا عثّ الكتب !
و ارتجف صوته ، و قد شعر بالخجل لأنه لم يتمكن من السيطرة على عواطفه ، فقد كانت الكلمات الرقيقة ، و الحركات المضطربة ، تبدو له ضعفا لا يجوز للرجل أن يأخذ بها ، نحن ، الذين كنا مولعين ببعضنا أشد الولع ، لم نتبادل أية كلمة من كلمات العطف و المحبة ، لقد مثلنا و خدشنا بعضنا بعضا كأننا قطط متوحشة .
هو : الذكي ، الساخر ، المتمدن ، و أنا : الهمجي ! ، لقد تمرن على ضبط النفس و إخفاء كل العواطف تحت ستار السخرية ، بينما كنت أنا أنفجر بضحكتي الوحشية البلهاء .
لقد كنت أحاول دوما أن أخفي انفعالي و عواطفي بكلمة قاسية ، لكني شعرت بالخجل ، لا ، ليس الخجل بالذات ، و لكن سوء التصرف ، و أمسكت بيده و لم أقو على تركها ، فنظر إليّ مندهشا :
- هل أنت منفعلٌ لهذا الحد ؟!
و أجبته بهدوء :
- نعم .
لماذا ؟ و لكن ماذا قلنا الآن ؟ ألم نتفق على ذلك منذ سنين ؟ ماذا يقول الأحباء اليابانيون " فودوشين " ! ، الوجه قناعٌ يبتسم ، و لكن ما يدور هذا القناع ليس من شأننا !
- نعم .
أجبته محاولا جاهدا أن لا أورط نفسي بعبارات طويلة ، و لم أكن واثقا من أنني قادر على ضبط صوتي .
و دوى صوت صفارة الباخرة ، معلنا طرد الزوار من غرف المسافرين ، كان المطر ينهمر خفيفا ، و كان الهواء عابقا بكلمات الوداع الرقيقة ، القبلات الطويلة ، التأوهات و التوصيات اللاهثة الخاطفة ، و تهافت الأمهات على الأبناء ، و الزوجات على الأزواج ، و الأصدقاء على الأصدقاء ، كأنهم سيفارقونهم إلى الأبد ، كأن هذا الفرق يعني " الفراق الكبير " ، و انطلقت الصفارة من جديد كأنها أجراس الجنائز ، فارتعدت !
- اسمع ، هل أنت متشائم ؟
- نعم .
- هل تؤمن بهذه الهواجس ؟
و أجبته بالتأكيد :
- كلا .
- إذن ؟
و لم يكن هناك من " إذن " فلم أكن أؤمن بها ، و لكن كنت خائفا ..
و رمش صديقي بجفونه مرتين أو ثلاثاً ، و حدّق بي مرة أخرى ، لقد فهم أني منفعل و حزين ، فتردد في إخفاء اضطرابه بالسخرية و الضحك ، و قال :
- حسناً ! أعطني يدك ، إذا قدر لأحدنا أن يجد نفسه في خطر الموت .. و توقف ، كأنه شعر بالخجل ، نحن الذين كنا نهزأ من هذه النزوات الميتافيزيقية لسنواتٍ خلت !! ، و سألته محاولا أن أحذر :
- حسنا ؟!
- لننظر إليها كأنها لعبة ، إذا قدر لأحدنا خطر الموت ، فليفكر في الآخر بشدة لدرجة أن ينبهه حيثما كان .. هل اتفقنا ؟!
قال ذلك محاولا أن يضحك لكن الابتسامة جمدت على شفتيه .
- اتفقنا .
و أضاف صديقي مسرعا ، خوفا من أن يكون قد أفصح عن عواطفه :
- مع العلم ، أني لا أؤمن إطلاقا بعلم قراءة الأفكار ، و ما شابه ..
طمأنته متمتماً :
- لا بأس ، و ليكن ..
- حسنٌ جداً ، و الآن لندع الموضوع عند هذا الحد ، اتفقنا ؟
- اتفقنا .
كانت هذه كلماتنا الأخيرة ، و تصافحنا بحرارة ، و مشيت مسرعا دون أن أنظر إلى الخلف ، كأنني كنتُ مطارداً ، و شعرتُ برغبة في إلقاء نظرةٍ أخيرةٍ على صديقي ، لكني تمالكتُ نفسي و قلت " لا تنظر إلى الخلف ! تقدّم ! " .

يتبــع

FRIEND
15-07-2006, 23:24
كان الضوء ينتشر رويدا رويداً ، و الصباحان يبدوان متداخلان ، و ظهر لي وجه صديقي واضحا الآن ، الذي بقي لمدة طويلة تحت المطر ، و يبدو حزينا ساكناً .. و انفتح الباب و دخل رجلٌ قصير القامة ، مقوّس الساقين ، ذو شاربٍ متدلٍ ، و تعالت أصواتٌ فرِحة :
- أهلاً ، كابتن ليموني !
و انتشر الضوء ، و أخذ الكابت مسبحته و راح يطقطق بها بعصبية ، بينما انزويتُ أنا في مقعدي محاولا أن أستعيد تلك الصورة التي كانت تذوب مبتعدةً عني ، لو أتمكن من أن أعيش مرة أخرى هذه اللحظة من الغضب الذي تملكني حين قال صديقي " عث الكتب " ! ، و تذكرت أن كل القرف من الحياة التي كنت أحياها قد تجسد في هذه الكلمات ، كيف تمكّنتُ أنا ، الذي كنت أحب الحياة ، أن أدفن رأسي بين أكداس الكتب و الأوراق الملطخة بالحبر ! لقد ساعدني صديقي في ذلك اليوم ، يوم الفراق ، على الرؤيا بوضوحٍ أكبر ، و شعرت بالاطمئنان ، و الآن بعد أن علمت اسم حزني مصدر شقائي فباستطاعتي التغلب عليه بسهولة ، و لم تعد أحزاني متفرقة ، فقد تجسدت و أصبحت تحمل اسما ، لذلك أصبح بإمكاني مقارعتها بسهولةٍ أكبر .
لقد أثر هذا التعبير علي و دخل في أعماق نفسي ، و قد حاولتُ البحث عن حجة لأترك الورق و الكتابة و أحيا حياة أكثر مغامرة و حركة ، لقد أصبحت مستاءً من حمل هذه الحشرة البائسة مضافة إلى اسمي ، و قد سنحت لي الفرصة منذ شهر ، فقد استأجرت منجما في جزيرة كريت مواجها لبحر ليبيا ، و سأذهب اليوم إلى هذا المنجم القديم لأعيش مع رجال بسطاء ، عمال ، فلاحين ، بعيدا عن جنس " عث الكتب " .
و أعددتُ العدة للسفر ، كأن هذه الرحلة تخفي وراءها معانٍ كثيرة ، فقد عزمت على تغيير منهجي في الحياة ، و قلت لنفسي " لغاية اليوم ، لقد شاهدت الظل و كنت مكتفية به ، و الآن سأقودك إلى الجسم " .
و عندما انتهيت أخيرا ، و في ليلة سفري بينما كنت أقلب أوراقي ، عثرت على مخطوطة لم تنته بعد ، و أخذتها بيدٍ مشدودة ، منذ سنتين كانت الرغبة كامنة في أعماق نفسي ، رغبة قوية جامحة ، رغبة أشعر بها تتآكل في أحشائي كل لحظة ، لقد كانت تنمو و تنضج و ترفسني في صدري تطلب أن تخرج إلى الوجود ، و الآن لم يعد بإمكاني أن أطرحها ، لم أعد أجرؤ على ذلك ، لقد فات الوقت لهذا الإجهاض النفسي .
و بينما كنت ممسكا بالمخطوطات تلك ، ظهر أمامي وجه صديقي الساخر فقلت بصوتٍ مرتفع بعد أن شعرت بألم السخرية : " سآخذها معي ، سآخذها ، لا تضحك !! " ، و لففتُ المخطوطة بعناية و حملتها .
و عاد إلى مسمعي صوت الكابتن ليموني ، وقورا قاسيا ، و أصغيت إلى حديثه الذي كان عن العفاريت التي تسلقت صاري مركبه أثناء العاصفة و راحت تلحسه :
- لقد كانت لزجة ، و كان الإنسان حين يلمسها يشعر بالنار تحرق يديه ، لقد ملست شاربي و نظرت إليها في الظلام و أنا أشع كالعفريت ، و كما قلت ، لقد طغى البحر على مركبي و أغرق شحنتي من الفحم و بدأ مركبي يميل في هذه اللحظة ، ترفق الله العظيم و رأف بي و أرسل صاعقة حطمت أخشاب الأبواب و انزلق الفحم إلى البحر ، و خف وزن المركب من حمولته و عاد إلى وضعه السابق ، و بذلك أنقذتُ نفسي .
و بينما كنت أصغي باهتمام لما كان يقوله البحار العجوز ، شعرتُ بالانزعاج فجأة فرفعتُ رأسي ، لست أعلم كيف ، لكني شعرت أن عينين اثنتين تحدقان بجمجمة رأسي من الخلف ، و التفتّ مسرعاً باتجاه الباب الزجاجي ، و قد ومضت في رأسي فكرة مجنونة : سأرى صديقي مرة ثانية ! لقد كنتُ مهيأ لاستقبال المعجزة ، لكنها لم تحصل ، فقد رأيتُ رجلا غريبا يبلغ من العمر ستين عاما ، طويل القامة ، نحيف الجسم ، عيناه جاحظتان ، و قد ألصق بأنفه على زجاج الباب و هو ينظر إليّ ، و كان يحمل صرّة صغيرة تحت ذراعه .
و قد أثارني فيه نظرته المتشوقة ، و عيناه الحادتان المتوقدتان ، أو هكذا بدتا لي على كل حال ، و ما إن تقابلت نظراتنا ، و تأكد أنني الشخص الذي يبحث عنه ، حتى فتح الباب بقوة و اندفع إلى الداخل ماراً بين الطاولات بخطى سريعة ، و تقدم نحوي ووقف قرب طاولتي ثم قال :
- هل أنت مسافر ؟ و إلى أين ؟
- مسافر إلى كريت ، و لكن لماذا تسأل ؟
- هل تأخذني معك ؟
و نظرت إليه باهتمام ، كانت خدوده مجوفة ، و فكه صلبٌ قاسٍ ، و وجنتاه ناتئتان ، و شعره الرمادي مجعد و عيناه متوقدتان .
- لماذا ؟ و ماذا أفعل بك ؟
و هز بكتفيه و قال :
- لماذا ، لماذا ؟ ألا يستطيع المرء أن يفعل شيئا دون لماذا ؟ للاشيء ، لأن المرء يريد ذلك ! خذني معك كطباخ مثلا ، إن باستطاعتي أن أطبخ حساءً لم تذق مثله في حياتك .
و رحتُ أحدق به و أنا أضحك ، فقد أعجبني هذا المخلوق كما أعجبني الحساء ، فقلت في نفسي إنه ليس ثمة ضرر في أن آخذه معي ، فيبدو أنه قد جاب البحار طويلاً ، فهو أشبه بالسندباد البحري .. و قد أعجبني !
قال لي و هو يهز برأسه الضخم :
- و بماذا تفكر ؟ هل توازي الأمر بنفسك ؟ هيا أيها الصديق اعتمد و قرر لنفسك ..
- اجلس الآن و خذ قدحا من الشراب .
- حسناً ، و لكن كأسا من " الروم " ينفعني أكثر .
و سألته بعد أن تناول كأس الروم و راح يتذوقه بهدوء :
- ما نوع العمل الذي تتقنه ؟
- كل الأنواع ، بالأرجل و الأيدي و الرأس ، جميعهم !
- أين كنت تعمل في السابق ؟
- في منجم ، فأنا خبيرٌ في عمل المناجم ، كما أنني خبير في المعادن ، أنا أعرف كيف أجد العروق ، أحفر الأنفاق ، و أهبط إلى الحفر العميقة دون أن أخاف ، لقد كنت أعمل جيدا فقد كنت رئيسا على العمال ، و كنت لا أشكو من شيء ، و لكن الشيطان تدخل في عملي ، فيوم السبت الماضي جاء صاحب المنجم ليفتش بين العمال ، فأمسكت به و أوسعته ضربا .. هكذا ، دون أن أكون سكراناً .
- و لكن لماذا ؟ و ماذا فعل لك ؟
- لي ؟ لا شيء على الإطلاق ، فقد كانت المرة الأولى التي أراه فيها ، فالمسكين قد وزع علينا السجائر أيضاً .
- حسنا ؟
- أوه ، مالك تجلس هكذا و تطرح الأسئلة ؟ لقد خطر لي ذلك ، هذا كل ما في الأمر ، تعلم قصة زوجة الطحان ؟ حسنا ، فلا يمكنك تعلم الإملاء من مؤخرتها ، مؤخرة زوجة الطحان ، فهذا هو المنطق الإنساني .

اليمامة
17-07-2006, 22:21
السلام عليكم

رائع ان اجد في مخيلتي من ينافس jhon donne الذي كان موضوع بحثي العام السابق

اتمنى ان اعرف عن زوربا المزيد

ررائع من يعبر عن كلام سجين في قلبك........بلسان بليغ

والذي يعطيك كل الكلمات في كلمة


لم يكن بجديد الحديث عن رواية زوربا، وأظنُ أن بعضكم إن لم يكن معظمكم قرأ الرواية أو على الأقل سمع عنها وعن شخصية زوربا اليوناني.
للأسف لم أسمع عنه على الاطلاق الا منك


يرقص ألمًا
~_~

لا يمكنني الاقتباس من حكمه...........والا اقتبست الموضوع كله


إخفاء كل العواطف تحت ستار السخرية
اكرة ذلك......ولكني افعله وأجيده........محير


شعرتُ برغبة في إلقاء نظرةٍ أخيرةٍ على صديقي ، لكني تمالكتُ نفسي و قلت " لا تنظر إلى الخلف ! تقدّم ! "
لا استطيع.........ألا انظر الى الخلف


الآن بعد أن علمت اسم حزني مصدر شقائي فباستطاعتي التغلب عليه بسهولة ، و لم تعد أحزاني متفرقة ، فقد تجسدت و أصبحت تحمل اسما ، لذلك أصبح بإمكاني مقارعتها بسهولةٍ أكبر
..........


لماذا ، لماذا ؟ ألا يستطيع المرء أن يفعل شيئا دون لماذا ؟ للاشيء ، لأن المرء يريد ذلك


سلمت يداك اخي .....وننتظر باقي القصة....26::جيد:: اعانك ربي اخي

شكرا يا فرند:)......وجزاك الله خيرا

سلامي

FRIEND
18-07-2006, 04:30
يمـــامـة

أهلاً بكِ أختي ، أسعدني حقاً تواجدك ..

الرواية فعلاً لم تأخذ حقها بالعالم العربي ، بـِ صعوبة إستطعت أن أحصل عليها من صديق مصري


رائع ان اجد في مخيلتي من ينافس jhon donne الذي كان موضوع بحثي العام السابق

لـِ علمك ، الكاتب هو نيكوس كازنتزاكس ، صديق زوربـا الوحيـد

ستجدي الكثير من الغرابة في شخصية زوربا ، لا أدري هل أسميه غموض ام ماذا

لكنكِ حقاً ستندهشين بـِ زوربا ، وربما تقرأيها مرة ثانيـة :)

// .. //

http://www.mlahanas.de/Greeks/NewArts/Zorba1.jpg

ترى هل هناك أسعد ؟!

FRIEND
18-07-2006, 04:36
http://www.reprise.org/images/zorba.jpg

الفصــل الثانـي



البحر، و طراوة الخريف، و الجزر السابحة في النور، و المطر الناعم الذي أضفى حجابا شفافا على العري الأبدي لجزر اليونان، كم هو سعيد الرجل الذي يمخر عباب بحر إيجه قبل وفاته.
كم هي عديدة مسرات هذا العالم، نساء، و فواكه، و آراء، و لكن أن تشق عباب هذا البحر الهادئ و في فصل الخريف لهي السعادة التي تملأ قلب الإنسان في نعيم الفردوس، فهذا هو المكان الوحيد الذي يمكن للإنسان أن ينتقل فيه من مكان إلى مكان بهدوء و سهولة، من الواقع إلى الخيال.. إنها المعجزة بالذات!
وعند الظهر انقطع المطر، و بددت الشمس حجب الغيوم، و أطلت علينا ناعمة لتداعب بأشعتها صفحات الماء الحبيبة، و تركت نفسي تستوعب هذه المعجزة الخالدة التي انقشعت على مدى الأفق البعيد.
وعلى ظهر المركب، كاليونانيين، الشياطين الأذكياء، ذوو العيون المشعة و العقول التي تتقن فن المساومة الطويل على البضائع التافهة، و في بعض الأحيان تأخذ بك الرغبة في أن تمسك بهذا المركب من طرفيه و تغرقه في البحر، ثم تهزه جيدا لتغسل عنه كل هذه الحيوانات التي أوسخته، رجال، فئران، و قمل. ثم تعومه من جديد بعد أن يصبح نظيفاً فارغاً.
ولكن في بعض الأحيان كانت العاطفة تمنعني، عاطفة بوذية، باردة كالاستنتاجات الميتافيزيقية، عاطفة ليست نحو الرجال فقط، بل نحو الحياة كلها بجهادها، و صراخها، و نواحها، و آمالها التي لا ترى أن كل شيء ليس إلا محاولة لإظهار الأشباح من العدم، عاطفة نحو اليونانيين، و نحو المنجم الفحمي، و نحو مخطوطتي الناقصة عن بوذا، و عن ذلك الخليط من النور و الظلال الذي يزعج صفاء الجو.
وكنت أختلس النظر إلى زوربا المنهك، الشاحب الوجه، و قد قبع في مجلسه على ظهر المركب على كومة من الحبال عند مقدمة المركب، كان يشم ليمونة و يصغي إلى صراخ الركاب و شجارهم بأذنيه الكبيرتين ثم يهز برأسه الضخم و يبصق و يتمتم قائلا:
- هؤلاء الحطام، ألا يخجلون من أنفسهم؟
- ماذا تعني بكلمة ( حطام ) يا زوربا؟
- كل هؤلاء الملوك، الديموقراطيات، النواب، المرائين!
إن الحوادث لم تكون لزوربا سوى أمور قديمة، فهو بنفسه قد ابتعد عنها، و بالتأكيد كان التلغراف، و البواخر، و المراكب، الأخلاق السائدة، و الدين، لا بد أن تكون كالبنادق القديمة الصدئة، فتفكيره قد تقدم بسرعة تجاوزت تقدم العالم.
كانت الحبال تتشقق على الصواري، و الشواطئ كانت تتراقص، و النساء المسافرات أصبحت وجوههن أكثر اصفرارا من الليمونة، لقد ألقين بأسلحتهن، المساحيق و المشدات و دبابيس الشعر و الأمشاط، و شحبت شفاههن و أظافرهن بدأت تتحول ألوانها إلى الأزرق، و بدأت تتساقط الريش المستعار و الشرائط الحريرية و الجفون الاصطناعية، فقد كان الناظر إليهن بالإجمال يشعر بالقرف و الرغبة بالتقيؤ.
وشحب وجه زوربا بدوره و اصفر لونه ثم اخضر، و خفتت عيناه المتقدتان و لم يعد إلى تألقه الأول إلا في المساء، حين أشار إليّ ليريني درفيلين كانا يتقافزان و يسابقان المركب، و صاح:
- درافيل!
واحظت لأول مرة أن نصف إبهام يده اليسرى مقطوع، فارتعدتُ و سألته:
- ماذا جرى لإصبعك يا زوربا؟
وأجابني و قد بدا عليه الاستياء لأنني لم أنظر إلى الدرافيل:
- لا شيء!
- هل قطعته بآلة حادة؟
- و ما شأن الآلة بالموضوع؟ كلا فقد قطعته بنفسي.
- بنفسك، و لماذا؟
- أنت لا يمكنك الفهم، أيها الرئيس، لقد سبق و أخبرتك أنني قمت بأعمال عديدة، و في إحدى المرات عملت في صناعة الفخار، و قد أحببت هذا العمل لدرجة الجنون، هل يمكنك أن تتصور ماذا يعني أن تأخذ حفنة من الطين و تعمل منها ما تريد؟ قرر! ثم تدوّر الدولاب و يدور الطين معه بينما تقول بنفسك " سأصنع جرة، أصنع صحنا، سأصنع قنديلا، و الشيطان يعلم ماذا أيضاً " هذا ما تقوله عن كونك رجلاً: الحرية!
لقد نسي البحر، و لم يعد يقضم الليمونة، و عاد الصفاء إلى عيونه..
- حسنا، و لكن إصبعك؟
- لقد كانت تزعجني، و تقف في طريق عملي، و تفسد علي مشاريعي، و في ذات مرة أمسكت بفأس صغيرة..
- ألم تشعر بالألم؟
- كيف لم أشعر بألم؟ هل تعتقد أني جذع شجرة؟ إنني إنسان، لقد تألمت و لكن كما قلت لك كانت تقف في طريقي فقطعتها!
وهدأ البحر قليلا عند غياب الشمس و انقشاع الغيوم، فدبت نجمة المساء لامعة براقة، و ألقيت نظرة على البحر و رحت أفكر.. كيف نحب إلى هذا الحد؟ ثم نأخذ فأسا و نقطع ثم نتألم، لكني أخفيت اضطرابي و أردفت قائلا محاولا الابتسام:
- إنها لطريقة سيئة يا زوربا! إنها تذكرني بالأسطورة الذهبية التي تقول عن ناسك رأى امرأة قد أزعجته جسديا، فتناول فأساً..
وصاح زوربا مقاطعاً:
- كم هو أحمق، يقطع هذا! و لكن هذا المسكين لا يعتبر عقبة!
- كيف؟ بل هو عقبة كبيرة.
- أمام ماذا؟
- أمام ولوجك أبواب السماء!
وحدجني زوربا بنظرة ساخرة و هو يقول:
- إنه هو الذي يمكنك اعتباره مفتاح السماء!
ثم رفع رأسه و حدق بي كأنه يريد معرفة رأيي بالحياة التالية، و بملكوت السماء، و النساء و النساك، لكنه لم يتمكن من الوصول إلى شيء فهز رأسه الضخم و استطرد:
- إن الخصيان لا يدخلون السماء.
ولاذ بالصمت، فذهبت إلى مقصورتي و أخذت كتاباً و أخذت أقرأ..
وفي صباح اليوم التالي استيقظتُ مبكراً، و كانت الجزيرة قد أصبحت عن يميننا، تلك الجزيرة الكبيرة المزهوة المتوحشة، و الجبال الوردية الشاحبة تبدو كأنها تبتسم من خلال ضباب شمس الخريف، و من حول المركب كان البحر الأزرق ما يزال ثائرا مهتاجاً.
وكان زوربا الملتحف بغطائه الرمادي ينظر محدقا إلى جزيرة كريت، و عيونه تنتقل من الجبل إلى السهل و تتبع الشاطئ و تتفحصه، كأنه قد شاهد جميع هذه الأراضي و البحار مرات سابقة و هو يتمتع برؤيتها ثانية، و دنوت منه واضعا يدي على كتفيه قائلاً:
- زوربا، أعتد أنها ليست المرة الأولى التي تأتي فيها إلى كريت، فأنت تحدق بها كأنك صديق قديم.
وتثاءب زوربا، كأنه ضجر، و شعرت أنه لا يميل إلى الحديث الآن، فابتسمتُ و قلت له:
- إن الحديث يضجرك، أليس كذلك يا زوربا؟
- ليس هذا بالضبط، أيها الرئيس، لكن الكلام صعب.
- صعب؟ و لماذا؟!
ولم يجبني على الفور، و أجال بنظره إلى الشاطئ مرة أخرى، لقد نام ليلته على ظهر المركب و كان شعره الرمادي المجعد يقطر بالندى، و كانت الشمس المشرقة تضيء التجاعيد في وجهه و رقبته، و حرك شفتيه أخيرا و هو يقول:
- في الصباح أجد صعوبة في فتح فمي، صعوبة كبيرة، اعذرني.
ومرة أخرى راح في صمتٍ عميق و عاد ينظر إلى كريت. و رن جرس طعام الإفطار، و ظهرت الوجوه من المقصورات، نساء مترنحات و شعورهن متدلية تفوح منهن روائح القيء الممزوج برائحة الكولونيا، و أعينهن مذعورة بلهاء. و كان زوربا يجلس أمامي و هو يشرب فنجان القهوة و يغمس قطعة الخبز التي مسحها بالزبدة و العسل، ثم يأكلها، و أشرق وجهه بعد ذلك و اطمأن قليلا و بدا فمه كأنه أصبح مرنا، ثم أشعل سيجارة و راح يستنشق أنفاسا و هو على أشد ما يكون من التلذذ، و لاحظت أنه أصبح مستعدا للحديث و من ثم راح يقول:
- هل هذه هي المرة الأولى التي آتي بها إلى كريت؟
ثم أغمض عينيه قليلا، ثم راح ينظر إلى جبل ابرا الذي كان ممتدا وراءنا، و استطرد قائلاً:
- كلا إنها ليست المرة الأولى ففي عام 1896 أصبحت رجلا ناضجا تماما و كان شاربي و شعري لا يزالان بلونيهما الحقيقيين و كنت لا أزال في مقتبل العمر، و كنت حين أسكر ألتهم المقبلات أولا ثم الطعام، نعم، فقد استمتعت إلى أقصى حدود الاستمتاع، لكن الشيطان تدخل أيضا فقد نشبت الثورة في كريت. في تلك الأيام كنت بائعا جوالا، و كنت أبيع الخضراوات متنقلا من قرية إلى قرية في مقدونيا و عوضا عن المال كنت أستبدل ما أبيعه بالجبنة و الصوف و الزبدة و الأرانب و الذرة، ثم أعود و أبيع هذه الأشياء و أكسب ربحا مضاعفاً، ففي كل قرية أحلها ليلا، أعلم أين أنام، ففي كل قرية كنت أجد قلب أرملة رحيمة عطوف، و كنت أقدم لها مشطا أو مكبا من الخيطان أو وشاحاً، أسود اللون بسبب المرحوم! و أنام معها بعد ذلك! و لم يكن ذلك يكلفني كثيراً.. كلا، لم تكن تكلفني كثيرا، أيها الرئيس، و لكن كما قلت سابقا لقد تدخل الشيطان و هبت كريت لتحمل السلاح، و قلت لنفسي لتذهب بمصيرها إلى الجحيم! ألا تقدر هذه الكريت اللعينة أن تتركنا بسلام؟ ثم وضعت جانبا أمشاطي و حملت بندقيتي و توجهت للانضمام للثوار في كريت.
وصمت زوربا، فقد بدأنا نسير إلى خليج مستدير رملي، و كانت الأمواج تنتشر بهدوء دون أن تتكسر، تاركة خيطا رفيعا من الزبد على طول الشاطئ، و انقشعت الغيوم و تألقت الشمس و لاحت أطراف الجزيرة بوضوح، و التفت زوربا نحوي و حدجني بنظرة ساخرة:
- و الآن، أعتقد أيها الرئيس أنك تتصور بأني سأخبرك كم رأسا تركيا قطعت و كم أذنا قد وضعت في الكحول، فهذه هي العادة في كريت، حسنا.. و لكني لن أفعل، فأنا لا أحب أن أفعل ذلك لأني أخجل منه، ما هذا الجنون؟ و اليوم بعد أن أصبح عقلي راجحا صرت أسائل نفسي قائلا: ما هذا الجنون الذي تملكنا لكي نلقي بأنفسنا على رجل آخر لم يؤذنا بشيء ثم نعضه و نقطع أنفقه و نمزق أذنيه، و في الوقت نفسه نطلب من الله العظيم أن يساعدنا! فهل هذا يعني أننا نطلب من الله أن يذهب معنا ليقطع آذان البشر و أنوفهم؟ و لكن في ذلك الوقت، كان دمي لا يزال حارا في عروقي، و ما كان باستطاعتي الوقوف و التساؤل و التفحص، إذ يجب على المرء لكي يفكر بدقة و عدل أن يكون هادئا مسناً دون أسنان! فعندما يكون المرء عجوزا لا أسنان له، فباستطاعته القول بسهولة تامة " لعنكم الله أيها الأولاد، فمن العيب أن تعضوا " و لكن حين تكون له أسناني الاثنين و الثلاثين.. يكون الإنسان متوحشا كالحيوان.. نعم، أيها الرئيس، كالحيوان المفترس آكل لحوم البشر.
و هز رأسه ثم قال:
- وهو يأكل الخراف أيضاً، والدجاج و الخنازير، و لكنه إذا لم يأكل لحم البشر تبقى معدته خاوية، كلا.. إن معدته لا تكتفي، و الآن ما لديك من أقوال؟!
ولكنه لم ينتظر الجواب، بل أكمل قوله و هو يحدق بي:
- ماذا يمكنك أن تقول، فكما أرى، إن سيادتك لم تشعر بالجوع مطلقاً، و لم تقتل أبدا، و لم تسرق و لم تزنِ، ماذا تعرف من هذا العالم؟ إن عقلك بريء، و جلدك لم ير أشعة الشمس.
قال جملته الأخيرة بكثير من الاحتقار، مما جعلني أشعر بالخجل من يدي الناعمتين و وجهي الشاحب و حياتي الخالية من لطخات الدم و الوحل، ثم قال و هو يمسح بيده الخشنة على الطاولة:
- حسنا، حسنا، فهناك ما أود أن أسألك إياه فلا بد أنك قرأت مئات الكتب، فربما تعرف الجواب.
- هيا، قل لي يا زوربا، ما هو؟
- إن هنا ثمة معجزة تحدث، أيها الرئيس، معجزة مضحكة تحيرني، إن كل هذه الأعمال، هذه الخدع القذرة و السرقات و المذابح التي نقوم بها – نحن الثوار – كل هذه جاءت بالأمير جورج إلى كريت، الحرية!
ثم نظر إلي بعينين ملؤهما الدهشة:
- إنها أحجية عظيمة، فإذا أردنا الحصول على الحرية في هذا العالم القذر يجب أن نقوم بهذه الجرائم، و هذه الخدع القذرة، أليس كذلك؟ أقول، إذا أخبرتك عن كل هذه الجرائم المريعة
لوقف شعر رأسك! و لكن ما هي نتيجة كل ذلك؟ الحرية! فبدلا أن يزيلنا الله تعالى بصاعقة من عنده يمنحنا الحرية! إني لا أفهم حقاً..
و نظر إلي كأنه يطلب العون مني، و قد لاحظت أن هذه المعضلة قد شغلته و آلمته و لم يتمكن من كشف سرها، ثم سألني بقلق:
- هل فهمت؟!
ماذا أفهم! و ماذا أقول له؟ فإما هذا الذي ندعوه إلها غير موجود، أو أن تكون هذه التي ندعوها جرائم و اغتيالات ضرورية للكفاح من أجل حرية العالم، و حاولت أن أجد له طريقة أسهل لأشرح له الأمر.
- كيف تستطيع الزهرة أن تنمو و تعيش وسط السماد و القذارة؟ افترض يا زوربا لنفسك أن هذه الأقذار هي الإنسان و أن الزهرة هي الحرية.

FRIEND
18-07-2006, 04:37
- ولكن البذرة؟
صاح زوربا و هو يضرب الطاولة بقبضة يده و يقول:
- لكي تنبت الزهرة يجب أن يكون هناك بذرة، من هو الذي وضع بذرة كهذه في جوفنا؟ و لماذا لا تنبت البذرة هذه زهور لطيفة شريفة؟ لماذا تحتاج إلى الدم و الأوساخ؟
فهززت رأسي قائلا:
- لا أعلم
- ومن يعلم؟
- لا أحد.
وصاح زوربا في يأس:
- إذا ماذا تنتظر مني أن أفعل بالقوارب و المحركات و ربطات العنق؟!
وتململ اثنان من المسافرين الذين كانوا يحتسون القهوة على مائدة مجاورة و رهفوا آذانهم لسماع ما نقوله، و اشمأز صديقي منهم و قال لي بصوتٍ خفيض:
- لنغير الموضوع، فعندما أفكر في ذلك أشعر برغبة في تحطيم كل ما تقع عليه يدي من كراسي أو قناديل أو حتى ضرب رأسي بالحائط، و لكن ما الفائدة من كل هذا؟ فسأضطر إلى دفع ثمن ما حطمته، ثم أضطر للذهاب إلى الطبيب ليربط لي رأسي، فهذا أسوأ بكثير، فسينظر إلي من أعالي السماء و ينفجر بالضحك.
وحرك يده فجأة كأنه يريد أن يتخلص من ذبابة مزعجة، ثم قال:
- لا بأس، فكل ما أردت أن أقوله لك هو: عندما جاءت المركبة الملكية و هي مزدانة بالأعلام و ابتدأ إطلاق المدافع، و حين وضع الأمير رجله على أرض كريت.. هل سبق لك أن رأيت شعبا بأسره يصبح مجنونا لأنه رأى حريته؟ كلا؟ آه، أيها الرئيس، إذن فقد خلقت أعمى، و ستموت أعمى، فإذا قدر لي أن أعيش ألف سنة حتى لو أن كل ما تبقى مني عبارة عن قطعة لحم حية، فلن أنسى ما رأيته ذلك اليوم! و إذا كل واحد منا قدر له أن يختار جنته في السماء حسب ذوقه – و هذا ما يجب أن نكونه، فهذا ما أدعوه جنة – سأقول للإله العظيم " يا إلهي، لتكن جنتي جزيرة كريت المملوءة بالأعلام و الزينات، و دع هذه اللحظة التي وطأت بها أقدام الأمير جورج أرض كريت تستمر قرونا طويلة! فهذا يكفي "
وعاد زوربا إلى الصمت مرة أخرى، و رفع شاربه، ثم ملأ كأسا من الماء البارد و شربها دفعة واحدة:
- ماذا جرى في كريت يا زوربا، أخبرني!
و قال لي منزعجاً:
- هل سنعود إلى العبارات الطويلة؟ أنظر، أقول و أكرر لك أن هذا العالم غامض جدا و الإنسان ليس إلا وحش كاسر.
وحشٌ عظيمٌ و إله، حارس أسود ثائر، جاء معي من مقدونيا، اسمه يورغا و كان يدعونه " المجرم " خنزير شرس، و هل تعلم.. لقد بكى، و قلت له و عيوني تترقرق بالدمع " لماذا تبكي أيها الكلب؟ لماذا تبكي أيها الخنزير؟ " و لكنه لم يجب، لم يكب، بل ألقى بيديه حول عنقي و راح يبكي كالأطفال، ثم تناول محفظته و وضعها على حجره بعد أن أفرغ منها القطع الذهبية التي نهبها من الأتراك ثم ملأ قبضته بالقطع و ألقى بها في الهواء، أرأيت.. أيها الرئيس، هذه هي الحرية!
ونهضت إلى ظهر المركب لأستنشق هواء البحر.. " هذه هي الحرية " فكرت بنفسي، تهوى ثم تجمع قطعا من الذهب، و فجأة تتغلب على تلك العاطفة فتتمسك بكنزك و تلقي به أدراج الرياح لتحرر نفسك من عاطفة معينة و تأخذ بعاطفة أسمى، أليست هذه هي نوعا آخر من العبودية؟ لتضحي بنفسك من أجل فكرة معينة، من أجل عرق ما، لله؟ أم أن كلما ارتفع الرمز طال حبل العبودية؟ عندئذ يمكننا الاستمتاع و اللهو في أرجاء أوسع و نموت دون أن نصل إلى نهاية الحبل، هل هذا ما ندعوه الحرية؟!
وعند المغيب شارفنا الشاطئ الرملي و رأينا أخيرا الرمال البيضاء الصافية و أشجار الخرنوب و التين، و التل الصغير الأجرد الذي يشبه وجه امرأة تستريح، و تحت ذقنها و حول رقبتها تمر عروق الفحم الرمادية.
كانت نسمات الريح الخريفية تهب، و الغيوم المتقطعة تمر في السماء لتغلق الأرض بالظلال، و غيوم أخرى كانت تنظر و تهدد الشمس التي احتجبت وراءها، و وجه الأرض يضيء و يظلم كوجه حي منزعج.
وتوقفت للحظة على الرمل و نظرت، كانت الوحدة مجسمة أمامي، وحدة مميتة و لكنها مدهشة، كالصحراء، و برزت أغنية البوذيين من الأرض و تلمست طريقها إلى أعماق نفسي " متى سأنزوي في الوحدة أخيرا، لوحدي، دون رفاق، و بدون فرح أو بدون حزن، و بالتأكيد مقدس أن كل شيء ليس إلا حلما؟ متى، و في أسمالي البالية – دون رغبات – سأنزوي مكتفيا في الجبال؟ و متى، و أنا متبين أن جسدي ليس إلا مرضا و جريمة، و حياة و موت، حرا دون خوف و بسعادة، سأعتزل إلى الغابات؟ متى؟ متى؟ آآه.. متى؟ "
وتقدم زوربا نحوي و هو يحمل السانتوري تحت ذراعيه، بخطى قلقة، فقلت له محاولا إخفاء قلقي:
- هناك مناجم للفحم!
ودون أن ينظر إلى حيث أشرت أجابني بهزة من رأسه..
- فيما بعد، فهذا ليس الوقت لذلك أيها الرئيس، يجب أن ننتظر حين تقف الأرض، إنها لا تزال تموج و ليأخذها الشيطان، كظهر المركب، تعال.. لنذهب إلى القرية.
وبهذه الكلمات تقدم بخطى طويلة محاولا إنقاذ وجهه، و تراكض اثنان من الصبية الأشقياء ليحملا الحقائب، و في الكوخ، حيث نقطة الجمرك، جلس أحد الموظفين يدخن ( الحُقة ) و حدجنا بطرف عينه بنظرات ثاقبة، ثم ألقى نظرة سريعة على الحقائب و تحرك قليلا كأنه يريد الوقوف لكنه وجد أن ذلك سيأخذ منه كثيرا من المشقة، و اكتفى بأن أشار إلينا قائلاً " أهلا بكم "، و تقدم أحد الصبية و قال لي بلهجة ساخرة:
- إنه ليس كريتيا، إنه شيطان بليد.
- أليس الكريتيين شياطين بلداء؟
فقال الكريتي الصغير:
- إنهم كذلك، نعم، إنهم كذلك.. و لكن بطريقة مختلفة.
- هل القرية بعيدة؟
- على بعد طلقة بندقية من هنا، أنظر، وراء البساتين في الوادي، إنها قرية جميلة، يا سيدي تحوي الكثير من كل شيء، شجر خرنوب، لوبياء، زيت، نبيذ، و هناك على الرمال نبت الخيار مبكرا كذلك البطيخ، إن هواء أفريقيا هو الذي ينضجها باكراً، فإذا ما نمت بأحد البساتين فإنك تسمع صوت طقطقتها و هي تنضج و تكبر.
كان زوربا يتقدمنا و رأسه ما يزال مترنحا، فصحت به قائلاً:
- ارفع رأسك يا زوربا، لقد اجتزنا المخاطر الآن، و لم يعد هناك من داعٍ للخوف.
وتقدمنا مسرعين، و كانت الأرض مملوءة بالرمال و الصدف، و هنا و هناك نجد بعض أشجار التين، كان الجو ثقيلا، و الغيوم تتجمع و تقترب و الريح تهدأ، و اقتربنا من شجرة تين ضخمة، فتوقف أحد الولدين و أشار إلى الشجرة و هو يقول:
- هذه شجرة التين خاصة سيدتنا الصغيرة.
وفوجئت بكلمته، فقد كانت لكل شجرة أو صخرة في أرض كريت قصة محزنة:
- ولماذا تدعى كذلك؟
- في الأيام الماضية، أيام أجدادنا، وقعت إحدى البنات من الأعيان في غرام أحد الرعاة الشباب، لكن والدها لم يكن موافقا، و راحت الابنة تبكي و تصرخ و ترجو والدها الذي لم يلين، و في أحد الأيام اختفى الشابان و ظلوا يبحثون عنها يوما، و يومين، و ثلاثة، و أسبوعا، و لكن دون جدوى، و أخيرا فاحت رائحة العفونة فتتبعوها فوجدوا العاشقين تحت شجرة التين، متعانقين متعفنين، هل تفهم؟ لقد عثروا عليهما بسبب رائحة العفونة.
وانفجر الصبي بضحكة مجلجلة، و تناهت إلى أسماعنا ضوضاء القرية البعيدة، و سمعنا أصوات نباح الكلاب و صياح النسوة و الديوك، و شممنا رائحة العنب من القدور الذي كان العرق يقطر منها..
- هذه هي القرية.
و ما إن اقتربنا من التلة الصغيرة حتى لاحت لنا القرية الصغيرة و بنات لنا كأنها تتسلق سفح الوادي، كانت البيوت الصغيرة متجملة، متلاصقة، نوافذها كأنها بقع سودا، فالبيوت كانت مبنية من الكلس الأبيض الناصح و الحجارة، و لحقت بزوربا وقلت له:
- لا تنس، يا زوربا، أن تتصرف بلياقة فقد دخلنا إلى القرية الآن، و لنتصرف كرجال الأعمال، فأنا المدير و أنت ناظر العمال، إن الكريتيين لا يأخذون الأمور بسهولة فما أن تقع أعينهم عليك حتى يبحثوا عن شيء ظاهر بك و يطلقوا عليك لقبا معينا، حيث لا يمكنك بعد ذلك التخلص من هذا اللقب، و ستجري كالكلب الذي لحقت بذيله مقلاة.
وأمسك زوربا بشاربه و غاب في التأملات، و أخيرا قال:
- اسمع، أيها الرئيس، إذا كانت هناك أرملة في القرية فلا لزوم للخوف، و إذا لم يكن..
وفي هذه اللحظة و ما إن دخلنا إلى القرية تقدمت منا امرأة فقيرة بأسمال بالية و مدت يدها نحونا، و لاحظت أن لها شاربا أسود، و صاحت بزوربا كأنها تعرفه:
- مرحى يا أخ، هل لك روح أيها الأخ؟
وتوقف زوربا و أجابها:
- نعم لدي.
- إذاً أعطني خمس درخمات.
ونفحها بشيء من المال قائلا " خذي "، افترت شفتاها عن ابتسامة حريرية، و أضاف زوربا قائلا:
- إن الحياة هنا ليست غالية على ما أظن، أن الروح تساوي خمسة درخمات.
واقتربنا نحو ساحة القرية فرأينا مقهى كتب على مدخله " مقهى الحشمة، و دكان اللحام ".
- ولماذا تضحك؟!
سألني زوربا، لكنني لم أجد وقتاً لأجيبه، فقد خرج من باب الدكان هذا خمسة أو ستة عمالقة
يرتدون سراويل زرق لها أحزمة حمراء و صاحوا بنا:
- أهلا بالأصدقاء! تفضلوا بالدخول و خذوا كأسا من العرق، إنه لا يزال حارا من القدور.
ولعق زوربا لسانه و قال:
- ما رأيك أيها الرئيس؟ هل نشرب كأسا؟
وشربنا كأسا أحرق أمعاءنا، و قدم إلينا صاحب المقهى / اللحام، و هو رجل عجوز جليل، كرسيين، فسألته عن مكان نأوي إليه و صاح أحدهم:
- اذهبا إلى مدام هورتنس.
وتساءلت بدهشة:
- هل هي فرنسة؟
لقد جاءت من مكان لا يعلم إلا الشيطان ما هو، لقد طافت في جميع الأرجاء ثم استقرت هنا و أسست فندقا صغيرا.
و قال أحد الأولاد:
- وهي تبيع الحلوى أيضاً!
ثم أضاف أحدهم:
- وهي تتزين و تصبغ وجهها أيضا، و تضع شريطة حول عنقها، و لديها ببغاء.
وهتف زوربا:
- وهل هي أرملة؟
وقال له صاحب المقهى:
- كم هو عدد السكارى هنا أيها الصديق؟ إنها أرملة لعدد كبير من الأزواج، هل فهمت ما أقصد؟
- نعم فهمت.
أجاب زوربا و هو يلعق شفتيه.
- ويمكنها أن تجعل منك أرملا
- انتبه أيها الصديق!
صاح أحد الرجال و ضحك الآخرون، و تقدم صاحب المقهى حاملا صينية عليها الخبز و الجبن و هتف قائلا:
- هيا، دعوهما و شأنهما، و سوف أستضيفهما عندي.
- كلا، أنا سأستضيفهما، فأنا ليس عندي أطفال و بيتي كبير.
وأجاب صاحب المقهى و هو ينحني فوق الرجل و يقول:
- أرجو المعذرة، أيها العم انانيوستي، فأنا سبقتك بالكلام.
- إذن خذ الآخر، و سآخذ أنا العجوز.
وصاح زوربا غاضباً:
- أي عجوز؟!!
وقلت له و أنا أهدئ من روعه
- لن نفترق، و سنذهب لعند مدام هورتنس.
كانت امرأة بدينة قصيرة القامة، شعرها باهت اللون، تتلوى في مشيتها، مادة ذراعيها، و على ذقنها خال تتدلى منه شعيرات طويلة، و كانت تربط حول عنقها شريطة حمراء، و خدودها المجعدة مصبوغة بلون بنفسجي، و قالت لنا مرحبة:
- أهلا، أهلا و سهلا.
وأجبتها ببشاشة و أنا أقبل يدها:
- كم أنا سعيد بمعرفتك يا مدام هورتنس، إنا نريد سريرين يا سيدتي.. دون قمل.
- أوه، بدون قمل؟ لا أعتقد ذلك، ليس هنا من قمل على الإطلاق.
وتقدمتنا و هي ترفس الحجارة بقدمها القصيرة المكتنزة، و كانت تلبس جواربا زرقاء و ضخمة و تنتعل حذاءين مشقوقين عليها عقدة صغيرة من الحرير و لحق بها زوربا و عينيه تكاد تأكلانها!
- أنظر، أنظر أيها الرئيس، كيف تتلوى في مشيتها كالنعجة ذات الإلية المشحمة.
وعض زوربا على شاربه بعصبية و عيناه مسمرتان على أرداف السيدة و قال:
- همم، إن هذه الحياة ملأى بالعهر..

Captain Majid
18-07-2006, 12:48
السلاااااام عليكم ورحمة الله وبركاته...


مابعرف يا فريند شواللي شدني لهاي الرواية

مع اني ما بقرأ روايات

ويمكن هاي أول رواية بقرأها:مرتبك: ...كنت أقرأ مقتطفات

عجبتني حركة اقتباس الحكم من القصة

كل حكم القصة رائعة...بس أكيد في أشياء بتأثر بكل انسان بشكل خاص لانها بتلمس أشياء جواته


أكثر الحكم عجبتني وحبيتهم



الإنسان ب................ إن سيادتك لا تعرف ذلك، و كل شيء على ما يبدو كان سهلا بالنسبة لك، لكن أسألني أنا. ب........أقول لك:
إذا كنت سيئاً معه احترمك و خافك، و إذا كنت طيباً فقأ عينيك.
*

حافظ على المسافات أيها الرئيس، لا تشجع البشر كثيراً، و لا تقل لهم أننا جميعاُ متساوون و أن لنا جميعاً الحقوق نفسها. و إلا فإنهم سيدوسون حقك أنت، و يسرقون خبزك و يدعونك تفطس من الجوع. حافظ على المسافات، أيها الرئيس، من أجل الخير الذي أريده لك.
*

دع الناس مطمئنين أيها الرئيس لا تفتح أعينهم و إذا فتحت أعينهم، فما الذي سيرونه؟ بؤسهم!
دعهم إذن مستمرين في أحلامهم!
إلا إذا كان لديك عندما يفتحون أعينهم، عالم أفضل من عالم الظلمات الذي يعيشون فيه الآن.ألديك هذا العالم؟

يااااااااااه


رهيبة هاي


عندما نعيش سعادة ما، فنادراً ما نحس بذلك. و إنما عندما تمضي و ننظر إلى الوراء، نحس فجأة و أحياناً بدهشة كم كنا سعداء.

الحلو بكلامه ..انها أشياء عشناها كتير وحسينا فيها بس ما قدرنا نعبر عنها بشكل واضح


أنت تفهم ! أنت تفهم و هذا ما سيضيعك !
لو كنت لا تفهم، لكنت سعيداً

صح

بس لو خيروك تكون من الصنف اللي "ما بيفهم" وتكون مرتاح

ما رح تقبل



بعد ما جربت الفهم ...حتى لو عانيت فيه مارح تتخلى عنه وتقبل ترجع انسان عادي


كنت بدي أسأل....من وين جبت الرواية؟لقيتك مجاوب:o




كانت أول مرة كان الصباح على وشك أن ينبلج ، و السماء تمطر ، و كان رذاذ الموج يصل إلى زجاج المقهى الصغير الذي كانت أبوابه الزجاجية مغلقة ، و كان الطقس باردا في الخارج ، و قد عبق الجو داخل المقهى بأنفاس رواده .

حلو وصفه هون::سعادة::


و باستطاعتي مشاهدة خيوط الماء المنهمر تربط السماء بالوحل .


هاي رهيبة...لازم تكون بالحكم مع شوية اضافة عليها...بس شو الاضافة ما بعرف:rolleyes:

كيف خطر في بالو يتخيل المنظر بهاد المعنى



شعرتُ بالانزعاج فجأة فرفعتُ رأسي ، لست أعلم كيف ، لكني شعرت أن عينين اثنتين تحدقان بجمجمة رأسي من الخلف ، و التفتّ مسرعاً باتجاه الباب الزجاجي ، و قد ومضت في رأسي فكرة مجنونة : سأرى صديقي مرة ثانية ! لقد كنتُ مهيأ لاستقبال المعجزة ، لكنها لم تحصل ،



ضل علي الفصل الثاني^^

FRIEND
18-07-2006, 19:36
روميــو


أهلاً بك أيها الصديق ، حضور غير متوقع ، لكنه رائع


كل حكم القصة رائعة...بس أكيد في أشياء بتأثر بكل انسان بشكل خاص لانها بتلمس أشياء جواته

هذا شيء أكيد ، كل شخص فينا بيربط اللي بيقرأ بأمور بحياته الشخصية ، ويراها من منظور مختلف عن الآخرين ، طبيعي :)

حـُضورك دفاع قويّ لـِ إكمالي ، شـُكراً لـِ تواجدك يا صديقي

FRIEND
18-07-2006, 19:47
http://www.arabslink.net/vb/uploaded/7_1148236481.jpg

FRIEND
18-07-2006, 19:50
http://www.arabslink.net/vb/uploaded/2_1148324092.jpg

الفصــل الثالث



كان فندق مدام هورانتس عبارة عن صف من أكواخ الحمام القديمة جمعت مع بعضها البعض. أما الأولى فكانت دكانا لبيع الحلويات، و السكاير، والفستق عبيد، والشموع، والعلكة، وأربع غرف – أو أكواخ – متلاصقة تألفت منها غرف النوم. وفي الخلف كان المطبخ، وغرف الغسيل، و قن الدجاج والأرانب. وكان عيدان القصب الكثيفة مغروسة حول المكان في الرمل الناعم. وكانت رائحة البحر تعبق بالمكان بالإضافة إلى روائح ( البراز و البول ). لكن الرائحة تتغير حين تمر مدام هورانتس بين وقت وآخر، وكأن احدهم افرغ طشتا للحلاق تحت أنفك.
وما إن جهزت لنا الغرف والسرائر حتى انطرحنا عليها دون حراك ولم نستيقظ إلا في صباح اليوم التالي.
كان اليوم الأحد والعمال سيصلون في الغد من القرى المجاورة ليبدأوا العمل في تمام التاسعة لذلك فقد ترك لي بعض الوقت لأقوم بجولة على الشاطئ الذي ساقتني إليه الأقدار. كان الفجر يكاد يلوح حين خرجت. فذهبت في سبيلي مارا، بالبساتين، متتبعا حافة البحر، متعرفا إلى الأرض والهواء.
وصعدت إلى تله مجاورة، وأجلت نظري إلى منظر الصخور الغرانيتية والكلسية القاسية، وأشجار الخروب القاتمة، وأشجار الزيتون الفضية وأشجار التين والدوالي. د
كان هذا المنظر، كما بدا لي، شبيها بالنثر الجيد، المصوغ بعناية فائقة، بسيطا، خاليا من الزخارف المصطنعة، قويا، صارما. لقد كان معبرا عن كل ماهو ضروري بطريقة سهلة. انه لم يكن متباهيا ولم يكن متصنعا، فهو ينطق بكل شيء بطريقة قاسية صارمة. لكن الليونة كانت متبدية من خلال أشجار البرتقال والليمون التي كانت تعطر الهواء برائحتها الذكية. ومن بعيد كان البحر الخالد يبدو كالشعر الذي لا ينفذ.
- كريت. كريت
قلت متمتما لنفسي وقلبي ينبض بالبهجة !!!
ونزلت من التل الصغير، ورحت امشي قريبا من ماء البحر. فرأيت صبايا صغار يسرن في طريقهن إلى الدير لسماع القداس عند شاطئ البحر.
وما إن ظهرت لهن حتى توقفن عن المسير، وأصبن برعب شديد، وتشبثن ببعضهن البعض، وعلمت فيما بعد أن رؤية رجل غريب كانت تخيفهن، فعلى طول الساحل الكريتي كان القراصنة في القرون الغابرة يقمن بغزوات مفاجئة، ويخطفون النساء والأطفال، ويربطونهن بأحزمتهم الزرقاء الغليظة ويلقون بهن في السفينة ويبيعوهن في الجزائر، والإسكندرية، وبيروت.
ورحت انظر إليهن مبتسما بعد أن تكاتفن مع بعضهن البعض وسرن كالطود المرصوص، واقتربن مني وأضاءت وجوههن بالاطمئنان وتابعن مسيرهن بعد أن ألقيت عليهن تحية الصباح.
وأشرقت الشمس عن سماء صافية، وجلست بين الصخور أتأمل البحر أمامي. وشعرت بالقوة تدب في جسدي. ورحت أجول بمخيلتي كالموج الهادر أمامي مطاوعا خاضعا دون مقاومة لنغمات البحر.
وشعرت بالانقباض، وانطلقت من أعماقي أصوات متضرعة. وعلمت الذي يدعوني. فأينما أكون بمفردي كنت اشعر بثمة نداءات تطلبني، والمخاوف تنتابني... وفجأة سمعت صوت رفيقي زوربا يناديني من الخلف، فاستدرت لأجده منتصبا وهو يضحك ويقول:
- لقد بحثت عنك منذ ساعات، ولكن كيف أستطيع مشاهدتك في هذا المخبأ؟
ولم اجبه على تساؤله، استطرد قائلا:
- لقد مضى نصف اليوم، والدجاجة المطبوخة قد نضجت، وستذوب المسكينة بعد قليل.
- نعم اعرف ذلك، ولكني لا اشعر بالجوع.
- لا تشعر بالجوع !! ولكنك لم تأكل شيء منذ الصباح، إن في جسدا روحا، ويجب أن تشفق عليها، أعطها شيئا لتأكله، أيها الرئيس، أعطها شيء فإذا لم تطعمها تركتك في نصف الطريق.
لقد احتقرت ملذات الجسد منذ سنين، ولو كان ذلك ممكنا لأكلت في الخفاء، كأني أقوم بعمل مخجل، وقلت لزوربا كي لا يثرثر.
- حسنا، سآت.
وذهبا إلى القرية بعد أن مرت الساعات الطوال بين الصخور وكما تمر الساعات بين العشاق كالبرق الخاطف. وسألني زوربا مترددا:
- هل كنت تفكر بالمنجم؟
- وهل تعتقد أني كنت أفكر بسواه؟ ففي الغد سنبدأ العمل، لذلك يجب أن أقوم ببعض الحسابات.
- وما هي نتيجة الحسابات؟
- بعد ثلاثة اشهر يجب أن نستخرج عشرة أطنان من الفحم لنغطي مصاريفنا.
ونظر إلي زوربا بشوق وقال:
- وما أخذك إلى الشاطئ لتقوم بتلك الحسابات، بحق الشيطان؟ أرجو المعذرة أيها الرئيس لسؤالي هذا، ولكني لا افهم، فعندما اضطر إلى مقارعة الأرقام، اشعر باني بحاجة إلى أن احشر نفس في جوف الأرض كي لا أستطيع مشاهدة احد، فإذا رفعت نظري ورأيت البحر، أو شجرة، أو امرأة، حتى لو كانت عجوز عند ذلك تطير جميع هذه الأرقام وسأضطر إلى مطاردتها.
- ولكنها غلطتك أنت يا زوربا، فأنت لا تستطيع التذكير.
- ربما تكون على حق، أيها الرئيس، فهذا يتوقف على نظرتك للأمور. فهناك حالات لا يتمكن حتى سليمان الحكيم.... اسمع، ففي ذات يوم بينما كنت مارا في قرية صغيرة، رأيت رجلا عجوزا يبلغ التسعين من العمر يزرع شجر اللوز فقلت له: " هل تزرع أشجرة لوز يا جدي؟ " والتفت إلي وقال: " يا بني، أنا اعمل كأني لن أموت أبدا، واعمل كأني سأموت في أي لحظة. " والآن من كان منا على صواب، أيها الرئيس؟
ونظر إلي نظرة المنتصر وقال:
- والآن، لقد أحرجتك !!
وبقيت ملتزما الصمت، فهناك ممران متساويان قد يؤديا إلى القمة نفسها، أن تعمل كأن الموت غير موجود، و أن تعمل متوقعا الموت في أية لحظة، هما أمران ربما كانا متشابهين، ولكن عندما سأني زوربا هذا السؤال لم استطع الإجابة عليه على التو. وقال لي زوربا هازئا:
- حسنا ! لا بأس. لا تغضب أيها الرئيس فلن تستطيع المجادلة ولنتكلم عن أشياء أخرى. فانا الآن أفكر بالدجاجة و الأرز. لنأكل الآن. ومن ثم نر، فلكل شيء وقته المحدد. الآن أمامنا الأرز، فلنفكر به، وغدا سيكون المنجم أمامنا وسنفكر بأمره أيضا.
وعند المقهى المجاور رأينا شيخا يبدو عليه الأسى يقف بانتظارنا. انه مافراندوني كبير رجال القرية الذي أجرنا المنجم، لقد جاء في الليلة الماضية إلى مدام هورانتس ليأخذنا إلى بيته وقال لنا:
- انه من العار أن تظلا في الفندق، كأنه لا يوجد رجال في القرية !
لقد كان متأثرا، وكلماته كانت متزنة متناسقة مع مركزه المحترم في القرية. وعندما رفضنا طلبه شعر بالاستياء لكنه لم يلح. وقال لنا وهو يغادر الفندق:
- لقد قمت بواجبي وانتم أحرار.
وبعد قليل أرسل لنا شيئا من الجبن، وسله فواكه، وجرة من العرق، وقد قال لنا الخادم الذي احضرها:
- مع تمنيات الكابتن مافراندوني. إنها ليست كثيرة، كذلك أوصاني أن أخبركما، لكن القد منها حسن !
واقتربنا منه والقينا عليه التحية، وأجابنا واضعا يده على صدره:
- أتمنى لكما حياة طويلة.
وتمتم زوربا معلقا:
- انه لا يحب كثرة الكلام، ويبدو بوقفته كالقضيب العجوز.
- لكنه فخور بنفسه، انه يعجبني.
وما إن رأتنا مدام هورانتس، حتى صاحت مرتبكة وهرولت إلى المطبخ، وأسرع زوربا إلى وضع الطاولة على الشرفة تحت ظل الدالية، وجاء بالخبز وقطعه قطعا صغيرة، واحضر النبيذ، ثم نظر إلي بعد أن انتهى من إعداد الطاولة لثلاثة أشخاص وقال:
- هل رأيت أيها الرئيس؟
- نعم رأيت أيها الفاسق !
- إن الطيور العجائز التي تصلح للشواء ! وخذها نصيحة مني !!
وراح يدمدم بأغاني الحب القديمة وهو يهرع متمما تجهيز المائدة.
- هكذا يجب أن نعيش أيها الرئيس، يجب أن نستمتع بكل دقيقة نعيشها، إني اعمل أشياء كأني سأموت بعد دقيقة. وأنا أسرع بذلك كي لا يدركني الموت قبل أن احصل على العصفور.
وسمع صوت مدام هورانتس: " إلى المائدة ".
وقدمت إلينا القدر، ثم وقفت مشدوهة، فقد رأت الصحون ثلاثة، ورمقها زوربا وقد علا وجهها الاحمرار الشديد ولمعت عيناها الصغيرتان.
وهمس زوربا قائلا:
- لقد بدأت تشعر بالحرارة تدب فيها.
ثم نظر إليها وقال لها بكثير من اللياقة والأدب:
- يا جنية الأمواج الجميلة، لقد غرقت سفينتنا وألقى بنا البحر في مملكتك. أرجو أن تشرفينا، يا عروسة البحر الجميلة، وتشاركينا الطعام.
وفتحت الغانية العجوز ذراعيها وضمتهما إلى صدرها، كأنها تريد أن تضمنا نحن الاثنين إليها، ثم تمايلت بعظمة ولامست زوربا ولامستني وأسرعت عائدة إلى غرفتها، وظهرت بعد قليل ترتدي أجمل ما لديها من ثياب: فستانا مفتوحا عند الصدر، وضعت عند الصدر وردة متألقة !! وأحضرت معها قفص الببغاء الذي علقته على غصن الدالية أمامنا. وبعد أن أجلسناها بيننا، رحنا نلتهم الطعام التهاما، دون أن ننبس بكلمة واحدة. فقد كان الحيوان داخلنا يأكل ويتغدى ويشرب الخمر، والطعام الذي نزوده يتحول بسرعة إلى دم، والعالم من حولنا يبدو أجمل، والسيدة التي تتوسطنا بدأت تبدو اصغر في كل لحظة والتجاعيد في وجهها بدأت تزول وتمحى.... وكان الببغاء المعلق على الشجرة، ينظر إلينا كأنه رجل غريب قد سحره هذا المنظر...
وكانت عينا زوربا تدور في محجريهما، ثم فتح ذراعيه كأنه يريد أن يعانق العالم كله ثم صاح بي مدهوشا.
- ماذا جرى، أيها الرئيس؟ فما إن نشرب كأسا من النبيذ حتى يبدو العالم وقد فقد صوابه. ومع ذلك فالحياة كلها خمر ونبيذ. قل لي، بشرفك، هل هذه عناقيد متدلية فوق رؤوسنا؟ أو هي ملائكة؟ لا اعلم. أم ترى ليست شيئا على الإطلاق، ولا شيء موجود، لا الدجاجة، ولا عروسة البحر، ولا كريت ! قل لي أيها الرئيس، تكلم كي لا أفقد عقلي....
ولاحظت أن زوربا بدأ يشعر بالفرح. لقد شبع من الدجاجة، و راح ينظر إلى مدام هورانتس. كانت نظراته تغتصبها، وتصعدان إلى جسدها وتدخلان إلى صدرها المنتفخ وتتحسسانه وكأنهما يدان. وكانت عينا السيدة الصغيرة تلمعان من السرور، فقد بدأت تستمتع بعد أن أفرغت عدة كؤوس من النبيذ. وبدا كأن شيطان الخمر قد رجع بها إلى الوراء إلى أيام الصبا الجميلة. ونهضت وقد عاد إليها لطفها وبشاشتها ورغبتها، ثم أغلقت باب الحديقة الخارجي كي تمنع الأعين الفضولية من رؤيتنا وأشعلت سيجارة وراحت تنفث دخانها بهدوء واستمتاع.

FRIEND
18-07-2006, 19:52
في أوقات كهذه تنفتح أبواب المرأة جميعها. ويستريح حراسها، والكلمة الطيبة تصبح قوية كقوة الذهب أو الحب. وهكذا أشعلت غليوني وقلت تلك الكلمة الطيبة:
- مدام هورانتس، أنت تذكريني بسارة برنهارت.... عندما كانت صغيرة، لم أكن للحقيقة انتظر رؤية أناقة، كهذه عظمة، كهذه، لياقة كهذه، وجمالا كهذا الجمال. ما هذا ( الشكسبير ).
- شكسبير؟ أي شكسبير؟
- الذي أرسلك إلى هنا بين المتوحشين.
وطارت بتفكيرها إلى أيام الغناء والمسرح، وجالت به في المقاهي والمسارح من باريس إلى بيروت، وعلى طول شواطئ الأناضول، وكأنها تذكرت فجأة: لقد كان ذلك في الإسكندرية، وفي مسرح كبير عامر بالثريات، والمقاعد الفخمة، والرجال والنساء، والظهور عارية، والعطور، والأزهار، وفجأة ارتفعت الستارة، وظهر رجل اسود مخيف.....
- أي شكسبير؟
وسألتني مرة أخرى بكبرياء، فقد تذكرت.
- هل هذا الذي يدعونه أيضا عطيل؟
- هذا هو. أي شكسبير إذن ألقى بك على هذه الصخور الوحشية، أيتها الزهرة البيضاء؟
ونظرت حولها، وكانت الأبواب مغلقة، والببغاء نائمة، والأرانب تتبادل الحب، وكنا لوحدنا، وراحت تفتح لنا قلبها، وكأنها تفتح أمامنا صندوقا عتيقا، مملوءا بالطيب، وأوراق الرسائل الصفراء والثياب القديمة.
وكانت تلفظ بعض الكلمات باليونانية، وراحت تخلط بينهما، ولكننا تمكنا من فهمها بوضوح. وفي بعض الأحيان كنا نجد صعوبة في إخفاء ضحكاتنا، وفي بعض الأحيان كنا ننفجر بالبكاء، علما أننا قد شربنا كثيرا من النبيذ.
- حسنا إن السيدة التي تنظرون إليها الآن، لم تكن مغنية بسيطة في الحانات، كلا، فقد كانت فنانة شهيرة وكنت ارتدي ثيابا داخلية من الحرير الخالص. ولكن الحب....

وتنهدت تنهيدة عميقة، وأشعلت سيجارة ثانية من زوربا وقالت:
- لقد أحببت أميرالا. فقد أصبحت كريت مرة أخرى ولاية ثائرة وأساطيل الدول العظمى بدأت ترسو في مرفأ ( سورا ). وبعد أيام قليلة رسوت أنا الأخرى هناك. آه، يا للحظ ! لو رأيتم هؤلاء الاميرالة الأربعة... الإنكليزي، الفرنسي، الطلياني، الروسي، جميعهم متلفحين بالذهب، والأحذية اللماعة، والقبعات المريشة، كالديوك تماما، ويا لتلك اللحى، المجعدة الحريرية، الداكنة، الشقراء، الرمادية، والحمراء، وما أطيب رائحتهم ! فكل واحد منهم كانت له رائحته المميزة، فهكذا كنت أميز بينهم في الظلام، فإنكلترا كانت تتميز برائحة الكولونيا، وفرنسا برائحة البنفسج، وروسيا برائحة المسك، وايطاليا، آه ! ايطاليا المشغوفة بالعطر. يا الهي، يا لهذه اللحى ! وكنا نلتقي عدة مرات على ظهر سفينة العلم، ونتحدث عن الثورة. وكانت بزاتهم مفتوحة وكان ثوبي الحريري يلتصق بجسدي، فقد كانوا يصبون عليه الشمبانيا، وكان ذلك كله في الصيف، كما تعلم. وكنا نتحدث عن الثورة بجدية، وكنت ارجوهم وأتضرع إليهم ألا يطلقوا مدافعهم على الكريتيين المساكين. وكنا نشاهدهم بالمنظار على الصخور قرب ( كايني ) ضئيلين كالنمل، يرتدون قمصانا زرقاء وأحذية صفراء، وهم يصرخون ويصيحون. وكان معهم علم...
وفجأة سمعنا صوتا خلف قضبان القصب، وتوقفت المجاهدة العجوز عن الكلام، مذعورة. ورأينا بين القضبان عيون الأطفال الخبيثة تراقبنا....
وحاولت المغنية القيام عن الكرسي، ولكنها لم تتمكن، فقد أكلت وشربت كثيرا. فعادت إلى الجلوس وهي تتصبب بالعرق، وأخذ زوربا حجرا فتفرق الأولاد وهم يصرخون.
- استمري، يا جميلتي، استمري يا كنزي !
كذلك قال زوربا، واقترب بكرسيه منها.
- وقلت للأميرال الطلياني، فقد كنت قد ألفته أكثر من الأخرين، وأمسكت بلحيته وقلت له ! " كانافارو أرجوك، يا كانافارو العزيز، لا تفعل بوم،بوم ! أرجوك ! " كم من المرات كانت هذه المرأة الجالسة أمامكم تنقذ حيات الكريتيين من موت محتم ! كم من المرات كانت المدافع جاهزة للإطلاق، وكنت اهرع لامسك بلحيته وارجوه ألا يفعل بوم ! بوم ! ولكن من الذي شكرني على ما فعلته من اجلهم؟ وبدلا من الوسام انظروا ما حصلت عليه...
لقد كانت مدام هورانتس غاضبة اشد الغضب لجمود الرجال، وضربت على الطاولة بقبضتها الطرية. ومد زوربا يده إلى ركبتيها المنفرجتين وامسك بهما، بعطف مصطنع وصاح:
- يا بوبولينتي، بحق السماء لا تفعلي بوم ! بوم !
- ارفع يدك.
كذلك صاحت به السيدة الطيبة، وأضافت بعد قليل:
- من تظنني؟
وجحدته بنظرة غاضبة....
- إن الله موجود في السماء لا تزعجي نفسك، يا بوبولينتي، فنحن هنا يا حبيبة، لا تخافي..
ورفعت عروسة البحر العجوز،عينيها إلى السماء ورأت ببغائها الأخضر يغط في النوم، وقالت بصوت حنون:
- كانافارو، كانافارو.
وما إن سمع الببغاء صوت سيدته حتى فتح عينيه وامسك بقضبان القفص وردد قولها: كانافارو، كانافارو.
- موجود !
صاح زوربا وهو يضع يده من جديد على تلك الركبتين التين خدمتا كثيرا، كأنه يريد امتلاكهما. واستدارت المغنية العجوز على كرسيها وفتحت فيها لتقول:
- وأنا أيضا حاربت ببسالة، لقد حاربت صدرا بصدر، لكن الأيام العصيبة جاءت وتحررت كريت بعد أن تلقت الأساطيل الأوامر بالانسحاب. ( ولكن ماذا سأصير إليه؟ ) كذلك قلت وأنا امسك باللحى الأربعة. ( أين ستتركونني؟ لقد تعودت على العظمة وعلى الشمبانيا، والدجاج ! لقد اعتدت على البحارة الصغار وهم يؤدون لي التحية العسكرية حين أمر أمامهم، سأصبح أرملة أربعة مرات، يا سادتي الأعزاء )
ولكنهم سخروا مني.... ! هكذا هم الرجال. لقد أشبعوني بالليرات الإنكليزية والإيطالية، والروبلات والفرنكات التي وضعوها في جواربي، وقميصي وحذائي. وفي الليلة الأخيرة بكيت كثيرا حتى إن القواد الأربعة أشفقوا علي، فملأوا المغطس بالشمبانيا، ووضعوني به، ثم شربوا على شرفي وسكروا، وبعد ذلك اطفأوا النور...
وفي الصباح استيقظت على رائحة العطور الممزوجة تفوح في الغرفة، رائحة البنفسج و الكولونيا وغيرها... لقد كنت ممسكة بالدول الأربعة، إنكلترا، فرنسا، روسيا، وايطاليا، وعلى ركبيتي، هنا على ركبيتي، وذهبت هكذا معهم....
ثم راحت مدام هورانتس تهز بيديها كأنها تلاعب طفلا صغيرا على ركبتيها، ثم قالت
- هكذا، هكذا. وعند انبلاج الصباح راحت المدافع تطلق في الهواء. واقسم أن ذلك كان على شرفي، نعم أطلقوا المدافع، وجاء زورق صغير ابيض ليقلني إلى الشاطئ.
ثم تناولت منديلها وراحت تمسح بدموعها وتبكي.... و هتف زوربا:
- أغمضي عينيك يا بوبولينتي الصغيرة، أغمضي عينيك يا كنزي. فأنا هو كانافارو !
وصرخت السيدة الفاضلة:
- ارفع يدك، لقد قلت لك ذلك، وانظر إلى نفسك، أين شاراتك الذهبية؟ والقبعة واللحية المعطرة ! آه ! آه !
لقد بدأ الطقس يبرد، وساد صمت حولنا، وكان البحر من وراء القصب يتنهد. لقد سادت الطمأنينة والهدوء أخيرا. فالريح سكنت والشمس غرقت عند الأفق لتنام. ومر من فوقنا غرابان يصفقان بأجنحتهما كأن قصر من الحرير تمزق، ربما كان قميص مغنية !!
وهمهم زوربا بعطف وهو يضغط بركبته على ركبتها:
- يا بوبولينا، لا تضطربي، ليس هناك من اله أو شيطان، ارفعي رأسك الصغير، واسندي خدك على يدي وانشدي لنا أغنية، وليذهب الموت إلى الجحيم.
لقد كان زوربا يشتعل بالحب. وكانت يده اليسرى تفتل شاربه، بينما يده اليمنى تنساب على المغنية المنتشية... وكانت كلماته تنطلق متقطعة وعيناه واهنتان. ولم تكن هذه العجوز المطلية بالمساحيق هي التي تثيره، بل انه كان يرى آفاق متمثلا، الجنس الأنثوي بأجمعه، كما كان يدعو المرأة. لقد اختفى القرد، وانمحى الوجه سواء أكان فتيا أم هرما، جميلا أم بشعا، فهذه كانت اختلافات لا أهمية. إن خلف كل امرأة يقف وجه أفروديت المقدس الغامض.
هذا هو الوجه الذي كان يراه زوربا، ويحدثه ويشتهيه. أما مدام هورانتس فلم تكن سوى قناعا شفافا سريع الزوال يمزقه زوربا ليقبل الشفاه الخالدة.
وردد في صوت متضرع هامس:
- ارفعي عنقك الناصع، يا كنزي، ارفعي العنق الأبيض وأنشدينا بأغنية جميلة؟
ووضعت المغنية العجوز يدها على خدها، وراحت تنشد أغنية من أغنياتها القديمة، وقفز زوربا واحضر السانتوري، جلس متربعا على الأرض ثم صاح بأعلى صوته:
- آوه، آوه، خذي سكينا واقطعي به عنقي، يا بوبولينتي....
وعندما بدأ الليل يقترب، وبدأت النجوم تتألق بالسماء، وبعد أن ملأت النشوة نفوسهما، ابتدأت مدام هورانتس تتقلب وتلتصق بزوربا برفق ودلال، ونظر إلي مشيرا ثم همس بقوله:
- لقد بدأت تنسجم، كن لطيفا واتركنا لوحدنا....

اليمامة
31-07-2006, 12:41
فرند



تابع من فضلك وضع الاجزاء

ننتظر الفصل الرابع

جزاك الله خيرا

FRIEND
01-08-2006, 21:04
الفصل الرابـِع

عندما انبلج الصباح استيقظت لأرى زوربا أمامي جالسا عند طرف السرير يدخن وهو غارق في بحر من التأملات، وعيناه مسمرتان على زجاج النافذة...
وتذكرت أني تركتهما لوحدهما ليلة البارحة وقلت له:
- إني ذاهب، يا زوربا، تمتع جيدا، وتشجع....
وقد قال لي:
- إلى اللقاء ، أراك لاحقاً
بعد منتصف الليل دخل زوربا إلى غرفتنا عاري القدمين وانطرح على السرير بكثير من الهدوء كي لا يوقظني...
ولكنه الآن، عند الفجر، يبدو شاردا، وعيناه تضيع بعيدا، وكان لا يزال غارقا في نشوة الليل الفائت مستسلما بهدوء إلى شعاع الشمس المتداخل من زجاج النافذة.
وبدأت القرية تفيق من نومها، وبدأت الحركة تدب في الأزقة ممتزجة بأصوات الديوك والخنازير، والحمير، والناس. وخطر لي أن اقفز من سريري واصرخ: " هيا يا زوربا فلدينا عملا اليوم " لكني كنت اشعر أنا الآخر بسعادة كبيرة في الاستسلام هكذا دون حراك منتظرا تسرب الفجر الرائع،ففي هذه اللحظات الساحرة تبدو الحياة، خفيفة كالغبار، وتبدو الأرض كأنها تتكون من الريح كالغيوم المتموجة الطرية...
ونظرت إلى زوربا وهو يدخن، فشعرت برغبة في التدخين أنا الآخر، فتناولت غليوني. وحدقت به منفعلا. انه غليون إنكليزي الصنع، كان صديقي القديم قد أهداني إياه، وتذكرت قوله حين منحني هديته تلك: خذ هذا الغليون، واترك السجائر التي تدخن نصفها وترميها بعد ذلك كأنها امرأة عاهرة، تزوج الغليون، فهو كالمرأة الوفية فعندما تعود إلى بيتك، ستجده دوما هناك بانتظارك فتشعله وتجلس تتأمل دخانه الصاعد في الهواء، ثم تذكرني....
لا زلت اذكر إن الوقت كان ظهرا، وكنا في احد متاحف برلين، حيث كان صديقي يودع لوحته العزيزة ( المحارب ) للرسام رامبراندت، ونظر صديقي إلى تلك اللوحة متأملا المحارب الحاقد اليائس. وقال: " إذا ما تمكنت من القيام في حياتي بعمل جدير بالرجل، فسأكون مدينا به له!! "
كنا في صالة المتحف، نقف قرد عامود، وأمامنا تمثال من البرونز لفارسة عارية تمتطي حصانا بريا متوحشا. وغط عصفور على رأس التمثال والتفت صوبنا وهز بذنبه وأطلق لحنا هازئا ثم طار في سبيله. وارتعدت وأنا انظر إلى صديقي وسألته:
- هل سمعت العصفور؟ لقد خلت انه قال لنا شيئا، ثم طار في سبيله.
وابتسم صديقي وأجابني بمثل من أمثالنا العامة: ( انه عصفور، دعه يغني، انه عصفور، دعه يتكلم )
كيف كانت، في هذه اللحظة عند طلوع الفجر، عند شاطئ كريت هذه الذكرى تعود إلى مخيلتي مع هذا المثل الحزين لتملأ عقلي بالمرارة؟
ووضعت قليلا من التبغ في غليوني وأشعلته. إن كل شيء في هذا العالم له معان خفية. الرجال. الحيوانات. الشجر. النجوم، إنها تبدو كالرموز الهيروغليفية لمن بدأ في حل رموزها ليكتشف خفاياها.... فعندما تراها فإنك لا تفقه لها معنى، فتعتقد أنها رجال اقحاح، وحيوانات، وأشجار، ونجوم، ولكن بعد مرور السنين وبعد فوات الأوان تفهم معناها الحقيقي...
ورحت أتابع الدخان المتصاعد من الغليون، وكانت روحي تندمج بهذا الدخان، وتتلاشى معه في الحلقات الزرق المكونة. ومر وقت طويل، كنت اشعر، دون العودة إلى المنطق، وبتأكيد لا يوصف، بحقيقة هذا العالم وانبثاقه وزواله.
وأطلقت زفرة هادئة أيقظتني من أفكاري الشاردة، فنظرت إلى ما حولي إلى هذا الكوخ الخشبي الفقير، وهذه المرآة الصغيرة المتدلية على الحائط والمنعكس عليها شعاع الشمس، فبدت تقدح بالشرر. وكان زوربا لا يزال جالسا على حافة السرير يدخن بهدوء مديرا لي ظهره.
ومرت أحداث الأمس بمخيلتي، رائحة البنفسج والكولونيا، والمسك والببغاء الذي بدا كالرجل قد تحول إلى ببغاء يضرب قفصه بجناحه مناديا حبيبا قديما، وسفينة قديمة، لا تزال الوحيدة الباقية على قيد الحياة لتقص أقاصيص الحرب والمعارك البحرية القديمة....
واستدار زوربا عندما سمع صوت زفرتي، وتمتم قائلا:
- لقد أسأنا التصرف، لقد أسأنا التصرف أيها الرئيس. لقد ضحكت، وكذلك فعلت أنا، وقد رأتنا هي، وهذه الطريقة التي غادرتنا بها دون أن تنبس بكلمة رقيقة واحدة. يا للعار اللعين! إن هذا ليس تهذيبا، أيها الرئيس. وهذه ليست طريقة حسنة للتصرف، اسمح لي أن أقول لك. إنها امرأة على كل حال. أليس كذلك؟ مخلوقة ضعيفة خائفة. وقد عملت جيدا حين بقيت لأعزيها.
- ولكن ما تعني بقولك يا زوربا؟ وهل تعتقد بكل جدية إن جميع النساء ليس في عقولهن شيء سوى هذا؟
- نعم أيها الرئيس، فليس في عقولهن شيء آخر. أصغ إلي الآن.... لقد رأيت جميع الأشياء، وعملت في كل شيء... إن المرأة ليس عندها من شيء آخر في نظرها. إنها مخلوق ضعيف مشاكس. وإذا لم تقل لها انك تحبها وتريدها فإنها تبدأ في البكاء. وربما هي الأخرى لا تريدك إطلاقا، بل ربما تحتقرك وربما تقول لك كلا، فهذه مسألة أخرى لكن جميع الرجال الذين يرونها يجب أن يشتهونها، فهذه ما تريده تلك المخلوقة المسكينة، لذلك فالأجدر أن تحاول إرضاءها. فأنا مثلا، كانت لي جدة تبلغ الثمانين من عمرها. إن قصتها حقيقية تماما. وكانت تسكن قريبا من منزلنا فتاة صبية نضرة كالوردة، واسمها كريستالو. وفي كل يوم سبت عند المساء، كنا نحن الشباب نذهب إلى الحانة لنحتسي كأسا من الخمر وننتشي به، ثم نضع ضمة من الحبق وراء أذننا ويأخذ ابن عمي قيثارته ونذهب للتنزه. يا للحب يا للعاطفة.... كنا نخور كالبقر وكنا نريدها وكل يم سبت كنا نتوجه لها مرة واحدة ليقع اختيارها على واحد منا. حسنا... هل تصدق هذا أيها الرئيس؟ يا له من لغز؟ إن في النساء جرحا لا يلتئم بالمرة. كل الجروح تشفى إلا هذا. لا تعتمد كثيرا على كتبك... انه لا يلتئم أبدا. لماذا... لأنها قد أصبحت في الثمانين؟ ومع ذلك فالجرح لا يزال مفتوحا.
إذن كل سبت كانت العجوز المتصابية تجر أشياءها نحو النافذة. وتتناول مرآتها الصغيرة وتحاول تسريح ما تبقى من شعرها وتنشره على فرقتين فوق جمجمتها. ومن ثم تختلس نظرات سريعة حولها خوفا من ان يشاهدها احد، وان اقترب احد منها، تندفع إلى الوراء لتستكين بهدوء وتدعي النوم. ولكن كيف كانت تستطيع النوم؟ فإنها بانتظار النزهة وهي في الثمانين من عمرها... هل ترى الآن هذا اللغز المجهول في المرأة أيها الرئيس؟ إن هذا يشدني الآن للبكاء. أما في ذلك الوقت فقد كنت تافها. ولم افهم هذا. وهذا ما كان يدفعني للسخرية، في احد الأيام غضبت منها، لقد كانت توبخني لأنني كنت اجري خلف الفتيات. عندها صحت في وجهها دون مواربة وبكل صرامة!! لماذا تدلكين شفتيك بورق الجوز كل سبت. وتسرحين شعرك. أتظنين بأننا نتنزه من أجلك؟ إننا نأتي من أجل كريستالو. أما أنت فلست إلا جيفة نتنة.
هل تصدق أيها الرئيس؟ في ذلك اليوم عرفت فقط ما هي المرأة. دمعتان دفقتا من عيني جديتي. انكمشت كأنها كلبة، وراحت ذقنها ترتجف. وصحت " كريستالو " واقتربت منها أكثر لكي تتمكن من أن تسمعني بوضوح: " كريستالو "... إن الشباب حيوانات قاسية، إنهم ليسو من المخلوقات الإنسانية. لا يفهمون شيئا.
عندها رفعت جدتي ذراعيها النحيلتين نحو السمار وصاحت " عليك اللعنة من أعماق قلبي " ومنذ ذلك اليوم بدأت صحتها تتلاشي وتتدهور، وبعد شهرين كان يومها قد بدأ يقترب. وبدت أيامها معدودة. وعندما كانت تحتضر شاهدتني. فشهقت كأنها حشرة وحاولت أن تمسكني بأصابعها وقالت " لقد كنت أنت من أنهى حياتي. فليلعنك الله يا الكسيس ويجعلك تعاني كل ما عانيته أنا "
وابتسم زوربا وتابع:
- آه. إن لعنة العجوز قد أصابت هدفها.
وراح يصلح من حال شاربه وتابع قائلا:
- إنني في الخامسة والستين الآن، ولو عشت حتى المئة فلن أتقاعد، فسأظل احمل المرآة الصغيرة في جيبي، وسأبقى اجري خلف النساء.
وابتسم ثانية، ورمى سيجارته من النافذة، ومد ذراعيه قائلا:
- لي أخطاء غير هذه كثيرة، إلا أنها الوحيدة التي سوف تقضي علي.
وقفز من سريره وصاح:
- لقد تحدثنا بما فيه الكفاية اليوم. يجب أن نستغل اليوم.
وارتدى ثيابه وحذائه بمثل لمح البصر وخرج.
وبرأس محني، رحت استعيد كلمات زوربا، وفجأة لمعت في رأسي، مدينة مغطاة بالثلوج، كنت في معرض لأعمال " رودان " وتوقفت لأنظر إلى يد برونزية ضخمة " يد الله " كانت اليد نصف مفتوحة. وفي نصف الراحة كان يوجد رجل وامرأة متعانقان يكافحان.
جاءت فتاة واقتربت مني. وكانت تبدو غير مستكينة ومضطربة، وراحت تنظر إلى ذلك العناق الأبدي بين الرجل و المرأة. كانت نحيلة، أنيقة، وكان لها شعرا أشقر كثيفا. وذقنا قاسية وشفاه ناعمة كان باديا عليها التصميم والرجولة. كان في طبيعتي عدم البدء بالحديث. ولكن لا ادري ما الذي دفعني لأن ألتفت نحوها وأسألها:
- بماذا تفكرين؟
فتمتمت بسرعة؟
- آه... لو نستطيع أن نهرب!!!
- وأين نذهب، فيد الله في كل مكان. فلا يوجد أي مهرب. هل أنت أسفة؟
- كلا.... فالحب قد يكون اكبر متعة في الوجود. هذا ممكن. إنما الآن فأرى تلك اليد البرونزية. فأفكر بالهرب
- أتفضلين الحرية؟
- أجل.
- ولكن لنفترض بأننا عندما نطيع تلك اليد نشعر بأننا أحرار. لنفترض بأن كلمة " الله " ليس لها المعنى التي تمنحه له الجماهير.
نظرت إلي بقلق وبدت عيناها رماديتان، وشفتاها جافتين مرتين.
- لم أفهم..
قالت وابتعدت بسرعة.
اختفت، ومن ذلك الوقت لم أفكر فيها مطلقا.. ولكن لابد وأنها كانت تعيش في داخلي، واليوم على هذا الشاطئ المهجور ظهرت من جديد شاحبة نحيلة، من أعماق كياني.
نعم لقد كان تعرفي غير لائقا، كان زوربا على حق، فاليد البرونزية كانت حجة، فالاتصال الأول قد تم. وكانت الكلمات اللطيفة قد تبودلت وكان من الممكن تدريجيا، أن نتعانق ونتحد بهدوء ودون إزعاج في يد الله. إلا أنني قفزت فجأة من الأرض نحو السماء. فارتعشت الفتاة وهربت.
كان الديك العجوز يصيح في باحة حديقة السيدة هورانتس، وأنوار الصباح الجديد قد بدأت تزحف عبر النافذة الصغيرة. وانحدرت من الفراش. كان العمال قد بدأوا يغدون حاملين معاولهم ومجارفهم، وراح يتناهى لمسامعي صوت زوربا يصدر الأوامر. فقد انغمس في العمل بسرعة فائقة. إذ أن الإنسان يشعر بأنه يعرف كيف يأمر، ويحب المسؤولية.
مددت رأسي من النافذة الصغيرة وشاهدته واقفا هناك، كأنه عملاق بين ثلاثة من العمال النحيفين، القساة، السمر. كانت يده ممدودة بقسوة وكانت كلماته مختصرة وفي صلب الموضوع.
وبعد قليل امسك بعنق فتى صغير كان يتقدم متمتما بصوت خفيض، فصاح زوربا:
- هل عندك شيء لتقوله؟ هيا قله بسرعة وبصوت عال، فأنا لا أحب الدمدمة، يجب أن تكون مستعدا للعمل و إلا عد إلى الحانة.
عندها ظهرت السيدة هورانتس، بشعر مشعث، وخدين غائرين، لأنها لم تضع أي مسحوق على وجهها. وكانت ترتدي ثوبا طويلا قذرا، وتنتعل زوجا من الأحذية الطويلة المهترئة. وسعلت سعالا قاسيا كسعال مغنية سابقة، كأنه نهيق حمار، توقفت ونظرت نحو زوربا بكل فخر وكبرياء، ومضت عيناها، فسعلت من جديد، متى يلحظها، ومرت بقربه، تهز وتحرك ردفيها بإثارة مصطنعة، أكمامها الوسخة كادت تلمسه، إلا انه لم يتحمل مشقة النظر إليها، وأخذ قطعة من خبز الشعير وقبضة من الزيتون وصاح بالعمال:
- الآن أيها الرجال. باسم الله، ارسموا علامة الصليب.
وسار بعيدا يتقدم الرجال بخط طويل نحو الجبال. لن أصف هنا العمل في المنجم... فهذا يحتاج لصبر طويل، وأنا ينقصني الكثير منه، قرب البحيرة بنينا كوخا من القصب والخيزران وبقايا صفائح البنزين، كان زوربا يستيقظ عند الفجر، ويتناول معوله، ويذهب إلى المنجم قبل كل العمال، ويفتح نفقا جديدا، ويكتشف عرقا من الفحم ويرقص من الفرح. إلا أنه بعد يومين أو ثلاثة يتوه عن العرق فيصيح ويرمي نفسه على الأرض ويرفع رجليه ويلوح بهما نحو السماء كأنه يسخر أو يهزأ من السماء.

FRIEND
01-08-2006, 21:06
كان يعمل بكل إخلاص. ومنذ اليوم الأول تحولت كامل المسؤولية عبر يدي ليستلمها هو بكل شجاعة، كان عمله هو أن يتخذ القرار وان يضعه قيد التنفيذ، وكان علي تحمل العواقب. إلا أن هذه التدابير ناسبتني أكثر لأنني شعرت بأن هذه الشهور ستكون أسعد أيام حياتي
وباعتبار كل هذا شعرت بأنني أشتري سعادتي بثمن زهيد...
كان جدي، والد أمي، الذي كان يسكن في إحدى قرى جزيرة كريت، اعتاد أن يحمل كل ليلة فانوسه ليدور في شوارع الفرية، عله يصادف أحد الغرباء. فيصطحبه إلى المنزل ليقدم له الطعام والشراب، ومن ثم يجلس فوق أريكته المعتادة ويشعل غليونه التركي، ويلتف نحو ضيفه، الذي حان الوقت لكي يرد له الضيافة، ويقوا بلهجة واثقة قاسية:
- هيا... تكلم...
- أتكلم.... عن ماذا أيها الأب موستويورجي؟
- ماذا تكون؟؟ من تكون؟؟ من أين أنت؟؟ عن المدن والقرى التي زرتها؟؟ كل شيء، حدثني عن كل شيء. هيا تكلم.
ويبدأ الضيف بالحديث دون هدف، ليخلط بين الحقائق والأساطير، بينما يكون جدي جالسا بهدوء فوق أريكته يدخن غليونه، يصغي لضيفه بكل جوارحة ومتابعا له في جميع أسفاره. وإن أحب الضيف، فسوف يقول له:
- سوف تبقى يوم غد أيضا، سوف لن ترحل، فقد بقي عندك أشياء كثيرة لتقصها علي.
لم يترك جدي قريته أبدا، حتى إلي كانديا أو كانيا ( لماذا أذهب لهناك ) كان يقول إن بعض أهالي كانديا وكانيا، يمرون من هنا. وهكذا فكانديا وكانيا يأتون إلي. إذن لماذا أذهب أنا إليهم؟!!!
وعلى هذا الشاطئ الكريتي اتبع أنا عادة جدي. أنا أيضا قد وجدت ضيفي بعد أن بحثت عنه مع قنديلي. وسوف لن أدعه يرحل. بالطبع هو يكلفني أكثر من مجر عشاء، إلا أنه يستحق كل هذا، كل مساء انتظر عودته من العمل، و أجلسه أمامي ونلتهم طعامنا. وحين يحين الوقت ليرد لي الضيافة أقول له " تكلم " وأدخن غليوني وأصغي. هذا الضيف قد شاهد العالم بأسره وخبر الروح البشرية. وأنا لا آمل أبدا الإصغاء إليه.
- تكلم يا زوربا..... تكلم
وعندما يبدأ حديثه تبدو أمام ناظري " ماسيدونيا " حيث تمتد في الفسحة التي بين زوربا وبيني، بجبالها وغاباتها و سيولها وثوارها. ونساءها الذين يعملون بجد ورجالها ذوو الأجسام الضخمة. وأيضا جبل آتوس بأبرشياته الواحد والعشرون ومصانع الأسلحة، وسكانه العاطلين عن العمل. وعندما ينهي زوربا حديثه عن الرهبان يهز رأسه ويغرق بالضحك قائلا:
- ليحفظك الله أيها الرئيس من مؤخرات البغال ومقدمات الرهبان.
كل يوم يأخذني زوربا عبر اليونان، بلغاريا والقسطنطينية. فأغمض عيني... وأرى. كان قد جال كل سهول البقان وعاينها بعينيه الصغيرتين اللتين كان يفتحهما بدهشة وتعجب، أشياء اعتدنا عليها، تمر أمامنا بكل بساطة. وفجأة تقفز أمام زوربا كأنهم مردة مخيفين. وعندما يشاهد امرأة تمر أمامنا، يتوقف بذهول ويتساءل:
- يا لهذا اللغز المحير! ما سر المرأة.... لماذا تدير رؤوسنا.؟ هيا أخبرني.. أنا أسألك ما معنى هذا؟؟؟
انه يستجوبني بهذه الطريقة، وبمثل هذا الذهول، كلما لمح رجلا، شجرة في أوجها أو قدحا من الماء البارد. إن زوربا يرى يوميا كل هذه الأشياء وكأنه يراها لأول مرة.
بالأمس كنا جالسين قرب الكوخ، عندما عب كأسا من الخمر، والتفت نحوي بسرعة قائلا:
- مهما يكن هذا السائل الأحمر، أيها الرئيس اخبرني،. أغصان قديمة تنبت أغصان. وفي بادئ الأمر بعض الحصرم الحامض يتدلى فيها. ويمر الوقت وتنضج تحت أشعة الشمس، ويصبح بحلاوة العسل. عندها ندعوه عنبا. وندوسهم بأرجلنا ونقطر عصيرها ونضعهم في براميل خشبية. فيختمورن من تلقاءهم. ونفتحها في عيد القديس يوحنا السكير ونجدهم قد أصبحوا نبيذا. إنها معجزة. وعندما تشرب هذا السائل الأحمر وينتفخ دماغك، وتشعر بأن روحك تكبر، تكبر على الهيكل العظمي القديم، وتتحدى الله للقتال، اخبرني أيها الرئيس كيف يتم كل هذا.
لم اجب شعرت وأنا أصغي لزوربا بأن العالم يتكشف من جديد: كل الأيام القاسية قد عادت لها حيويتها كما كانت في بداية التاريخ عندما خرجنا من بين يدي الله. الماء، النسوة، النجوم والخبز، كلها عادت المحير والدوامة الإلهية عادت لتدور في الجو من جديد.
لهذا، كنت كل مساء، أتمدد على الشاطىء بانتظار زوربا. فأراه يخرج بقوة من بطن الأرض بجسده المليء بالوحل والأقذار وخطواته الواسعة من بعيد، كنت أستطيع أن أشاهد كيف كانت نتيجة العمل اليوم، من طريقة سيره، من انتصاب رأسه عاليا أو انخفاضه ومن حركات يديه المتأرجحتان.
أول الأمر كنت أرافقه لأراقب العمال، كنت أجهد نفسي في محاولة لتغيير مجرى حياتي، لأشغل نفسي في حياة عمليه، لأعرف وأحب المادية الإنسانية التي وقعت بين يدي، لأختبر واشعر بالمتعة التي انتظرتها طويلا لا مجرد كلمات اقرأها أو أكتبها بل مع رجال على قيد الحياة.
ورسمت بعض الخطط الرومانتيكية، فيما لو نجح مشروع التنقيب عن الفحم. سوف انظم نوعا من المنظمات الاجتماعية حيث نشترك في كل شيء. وحيث سنأكل جميعنا نفس الطعام، ونرتدي نفس اللباس كأننا أخوة، وخلقت في رأسي أمرا دينيا جديدا، نواة لحياة جديدة.
ولكني لم أكن قد قررت بعد أن أفاتح زوربا بمشروعي، لقد كان ينزعج من ذهابي ومجيئي بين صفوف العمال. اسأل وأتدخل، ودائما لصالح العمال. عندها يقلب زوربا شفتيه قائلا:
- أيها الرئيس ألن تذهب في نزهة بعيدا من هنا. ألا ترى الشمس والبحر هناك؟
في بادىء الأمر كنت أصر على البقاء وأبقى، كنت أسأل وأثرثر، أردت أن اعلم قصة حياة كل رجل. كم من الأولاد لديهم يجب أن يعيلوهم وأخوات ليزوجوهم وأقرباء ليس لهم من معين. بماذا يهمتون، والأمراض وكل ما يقلقهم.
- لا تغوص هكذا في تاريخ حياتهم. أيها الرئيس، سوف تندفع نحوهم بقلبك الرقيق، وسوف تحبهم أكثر مما يجب لمصلحتك ومصلحتهم، ومهما سوف يفعلون ستخلق لهم الأعذار. عندها فلتساعدنا الآلهة، فسوف يهملون عملهم، ويقومون به بأي طريقة يريدونها، وعندها فليساعدنا الله أيضا. يجب أن تدرك هذا جيدا، عندما يكون الرئيس قاسيا عندها سيحترمونه العمال ويعملون بجد، وعندما يكون ناعما يتركون كل شيء عليه ويمضون وقتا طيبا، هل تفهم هذا؟
في إحدى الأمسيات، بعد انتهائه من العمل، رمى بمعوله في الظل وصاح قائلا بعد أن نفذ صبره:
- انظر هنا، توقف عن التدخل، بالسرعة نفسها التي ابني فيها أنت تهدم كل شيء... والآن ما هذا الذي كنت تتحدث عنه اليوم مع الرجال؟ اشتراكية وهراء؟ هل أنت واعظ أو رأسمالي؟ يجب أن تقرر...
ولكن كيف أستطيع أن اختار؟ لقد كنت أحاول جهدي أن اجمع بين هذين الشيئين. لأجد طريقة تجمع بين هذين التناقضين و لأنجح في الحصول على كل من الحياة في الأرض وملكوت السماوات، كان هذا يتعامل داخلي منذ سنوات حتى منذ الأيام الأولى لطفولتي. عندما كنت لا أزال في المدرسة. حيث كنت قد نظمت مع اقرب أصدقائي جمعية سرية تدعى " المجتمع الودي " هذا كان الاسم الذي أطلقناه عليها. وداخل غرفة نومي المغلقة أقسمنا اليمين لنكرس حياتنا من اجل محاربة الظلم. دموع غزيرة انهمرت فوق وجوهنا عندما اقسمنا اليمين و أيدينا فوق قلوبنا
مبادىء صبيانية! ولكن يا لتعاسة من يسخر منها عندما يسمعها، ولكن عندما شاهدت ما صار إليه أعضاء هذه المنظمة، من أطباء مدعون، ومحامون غشاشون، وأصحاب محلات، سياسيون دجالون وصحفيون خونة. غاص قلبي، إن مناخ هذه الأرض قد أصبح جلف وقاس، واثمن البذور لا تنمو وتختفي تحت الأرض وبين الشوك والقراص. أستطيع أن أرى بكل وضوح اليوم، بالنسبة لنفسي، لم أصبح معقولا بعد، ولكن ليتمجد اسم الرب، اشعر بأنني لا أزال مستعدا لأقوم ببعض المغامرات الدون كيشوتية.
كنا أيام الآحاد نحضر أنفسنا بكل عناية وكأننا شابين يحضران نفسيهما للزواج، ونحلق ونرتدي قمصانا بيضاء، ونتوجه بعد الظهر لرؤية السيدة هورانتس، كانت كل يوم أحد تذبح لنا طيرا، وكنا أكثر الأحيان نجلس ثلاثتنا لنأكل ونشرب، وتمتد يد زوربا إلى صدر السيدة المضياف ليمتلكه. وعندما يحل الليل نعود إلى شاطئنا. كانت الحياة تبدو بسيطة ومليئة بالنوايا الحسنة تماما كالسيدة هورانتس.
وذات أحد وبينما كنا عائدين من وليمتنا الممتعة، قررت أن اخبر زوربا بمشاريعي. أصغى إلي مجبرا نفسه، وضاغطا عليها ليكون صبورا كفاية. إلا انه من وقت لأخر كان يهز رأسه الضخم بغضب ظاهر... كلماتي الأولى جعلته يصحو من سكره... وطردت الخمرة من رأسه. وعندما انتهيت نزع بعصبية شعرة أو شعرتين من شاربه وقال:
- اعذرني لما سأقوله أيها الرئيس، و لكن لا أعتقد أن عقلك قد اكتمل بعد. كم تبلغ من العمر؟
- خمسة وثلاثون سنة.
- إذا فهو لن يكتمل أبدا.
وانفجر مقهقها، وشعرت بأني لسعت. وصحت به:
- ألا تؤمن بالإنسان؟
- والآن لا تندفع غاضبا أيها الرئيس! فأنا لا أؤمن بأي شيء، فلو كنت أؤمن بالإنسان لأمنت بالله و لكنت أمنت بالشيطان أيضا، وهذه هي كل المشكلة حيث تختلط الأشياء وتسبب لي كثيرا من التعقيد.
وخيم عليه الصمت، وانتزع قبعته وحك رأسه بقوة وشد شاربه كأنه يريد أن ينتزعه من مكانه. كان يريد أن يقول شيئا، إلا أنه منع نفسه ونظر إلي من زاوية عينه، ومن ثم نظر إلي ثانية وقرر أن يتكلم. وصاح ضاربا الأرض بعصاه بقسوة:
- الإنسان ليس إلا بهيمة. بهيمة كبيرة. إلا أن سعادتك لا تدرك هذا أبدا. إذ يبدو بان كل شيء كان سهلا بالنسبة لك. اسألني أنا فأجيبك بأنه بهيمة فإن كنت قاسيا معه سوف يخافك ويحترمك. وان كنت لطيفا معه فسوف ينتزع عيونك. احفظ المسافة بينك وبينهم، لا تجعل الرجال أقوياء هكذا. لا تمشي بينهم وتقول لهم بأننا كلنا متساوون. وان لنا نفس الحقوق، و إلا سوف يدوسون على حقوقك أنت. سوف يسرقون خبزك ويتركونك تموت من الجوع، احفظ مركزك أيها الرئيس من أجل الخير الذي أتمناه لك.
- ولكن ألا تؤمن بشيء؟
- كلا لا أؤمن بشيء بالمرة. كم مرة يجب أن أكرر هذا. فأنا لا أؤمن بأي شيء أو بأي شخص. بل بزوربا وحده، ليس لأن زوربا أحسن من غيره، كلا فهو بهيمة كغيره. ولكن لأن زوربا هو الوحيد الذي يقع تحت سلطتي، والوحيد الذي أعرفه. أما الباقون فكلهم أشباح، فانا أرى بهاتين العينين، واسمع بهاتين الأذنين، واهضم بهذه المعدة. كل الباقون أشباح أقول لك، عندما أموت، فسوف يموت كل شيء معي. كل العالم الزوربي سوف يغوص في الأعماق.
فقلت ساخرا:
- يا لها من أنانية!.
- لا أستطيع معها شيء. آكل فاصولياء فأتحدث عن الفاصولياء، أنا زوربا فأتحدث عن زوربا.
لم اقل شيئا. كلمات زوربا لسعتني كالسوط. لقد أدهشتني قوته، لاحتقاره الرجال إلى هذا الحد، وبنفس الوقت رغبته في العيش والعمل معهم، أما أنا فيجب إما أن أصبح ناسكا، أو أزخرف رؤوس الرجال بريش مزيف حتى أستطيع أن أتحملهم.
التفت زوربا نحوي، وتحت ضوء النجوم استطعت أن أرى ضحكة زوربا حتى أذنيه.
- هل أزعجتك أيها الرئيس؟
قال فجأة عندما وصلنا إلى الكوخ. نظر إلي زوربا بعطف وقلق، لم اجب، شعرت بأن عقلي يوافق زوربا إلا أن قلبي راح يقاوم، يريد الانطلاق والهروب من البهيمة، وليسير في طريقه الخاص. قلت:
- لا اشعر بالنعاس هذه الليلة، اذهب أنت لتنام.
كانت النجوم تلمع في السماء، والبحر كان يجعل الأصداف تتلألأ.
ولمعت إحدى الأصداف وأضاءت تحت منارتها الصدفية، حيث كان قطر الندى يقطر من شعر الليل الداكن.
تمددت على وجهي، مأخوذ بالسكون، دون أن أفكر بأي شيء، كنت وحيدا بين الليل والبحر، كان عقلي كأنه صدفة أضاءت منارتها واستقرت على ارض الشاطىء الداكنة وراحت تنتظر.
كانت النجوم تسافر وتدور، والساعات تمر، وعندما نهضت، كنت قد قررت، دون أن اعلم، الخطة المزدوجة التي يجب أن اتبعها على هذا الشاطىء:
أن اهرب من بوذا. واخلص نفسي من الكلمات الميتافيزيقية وأحرر نفسي من القلق الغير مجد.
أن أقوم باتصالات مباشرة مع الرجال وابتدأ من هذه اللحظة.
وقلت لنفسي " ربما لم يفت الأوان بعد.

TO-TE)Cat)
02-08-2006, 19:25
......


أقل مايقال عنها أنها.."مجنونة"....:rolleyes:
ومالحاجة لأن نُجن ونختبر الجنون بأفعالنا
بينما يمكننا أن نختبره بعقولنا.....ثم نقرر أين يجب أن نسير..

يصعب الإقتباس...لكن هذة أكثر ماشدتني من أفكار:


أصغ إلى يا بني :
إن الإله الرحيم، كما ترى، لا تستطيع طبقات السماء السبع و طبقات الأرض السبع أن تسعه.
لكن قلب الإنسان يسعه. إذن احذر يا بني من أن تجرح ذات يوم قلب الإنسان !



إنني حر!
فهز زوربا رأسه، و قال :
كلا، لست حراً.
إن الحبل الذي ربطت به نفسك أطول قليلاً من حبل الآخرين. هذا كل شيء.
إن لديك،أيها الرئيس، حبلاً طويلاً، فأنت تذهب و تأتي، و تعتقد أنك حر، لكنك لا تقطع الحبل.
و عندما يقطع الإنسان الحبل.........
فقلت بتحد، لأن كلمات زوربا قد لمست في جرحاً فتوحاً, فتوجعت :
سأقطعه ذات يوم !
- هذا صعب، أيها الرئيس، صعب جداً.لا بد لذلك من شيء من الجنون. الجنون، أتسمعني ؟
أن تجازف بكل شيء ! لكن لك، أنت، عقلا متينا، و سوف يتغلب عليك.

فعلاً....البشر بحاجة للعبودية والذل بقدر حاجتهم للحرية والعزة..


- كيف تستطيع الزهرة أن تنمو و تعيش وسط السماد و القذارة؟ افترض يا زوربا لنفسك أن هذه الأقذار هي الإنسان و أن الزهرة هي الحرية.

من بين صراع العقل والقلب
والروح والجسد.....يولد الإنسان!
:نوم:



أما هنا....كان التصوير آسرًا بمعنى الكلمة...


و عندما انتهيت أخيرا ، و في ليلة سفري بينما كنت أقلب أوراقي ، عثرت على مخطوطة لم تنته بعد ، و أخذتها بيدٍ مشدودة ، منذ سنتين كانت الرغبة كامنة في أعماق نفسي ، رغبة قوية جامحة ، رغبة أشعر بها تتآكل في أحشائي كل لحظة ، لقد كانت تنمو و تنضج و ترفسني في صدري تطلب أن تخرج إلى الوجود ، و الآن لم يعد بإمكاني أن أطرحها ، لم أعد أجرؤ على ذلك ، لقد فات الوقت لهذا الإجهاض النفسي .


وهنا كان رائعا...عميقًا


كنت أزن في رأسي كلمات زوربا الغنية بالمعنى و الفائحة منها رائحة أرض حارة، و كأنها تصعد من أعمق أحشائه، و هي لا تزال محتفظة بالحرارة الإنسانية.
أما كلماتي، أنا، فكانت من ورق.
إنها تنزل من رأسي، لا تكاد تلطخها نقطة دم واحدة.
لو كانت لها قيمة ما، فإنما هي مدينة بها لنقطة الدم هذه بالذات.


أكمل
::جيد::

نحن بالإنتظار...
بالرغم من أن الفصول الأولى لا تبدو بتشويق المقدمة
لكني أشعر أن الفصول الباقية تحمل الكثير..





::
لون التوت
http://www.mexat.com/vb/attachment.php?attachmentid=103195&stc=1&d=1149720106

FRIEND
15-09-2006, 07:18
لون التوت

حضوركِ دائماً أخّاذ
إستمري معنا .. لـ كثيراً من الجنون

أعتذر عن التأخير ، فقدتُ الرواية ووجدتها مجدداً

سنعود

FRIEND
15-09-2006, 07:25
http://www.arabslink.net/vb/uploaded/7_1148641368.jpg

الفصـل الخامــس

" العم أناغوسي، الجد، يحييكما و يسأل إن كنتما تهتمان للمجيء إلى منزله لتناول الطعام، إن الرجل المختص سوف يمر بالقرية اليوم ليخصي الخنازير، إنها مناسبة فالأعضاء لذيذة جدا، كيريا ماروليا، زوجة المختار سوف تقوم بطبخهم لكم، كما يصادف اليوم أيضا عيد ميلاد حفيدهما متياس و سوف تتمنون له عيدا سعيدا و سنوات عديدة "

إنه من المفرح جدا أن تدخل إلى بيت أحد الفلاحين الكريتيين فكل شيء في البيت يوحي بأن الأب هو صاحب اليد الطولى، المدفأة، قنديل الكاز، و الجرار المصفوفة على الأرض، بضع كراس و طاولة، و على الشمال عندما تدخل تشاهد فتحة في الجدار حيث توجد جرة من الماء البارد، و في العوارض الخبية تتدلى خيطان السفرجل و النباتات كالنعنع و الصبار و الحر الأحمر، و في أقصى نهاية الغرفة سلم أو بضع درجات خشبية تقودك نحو الدهليز الطويل حيث يوجد سرير كبير و فوقه الأيقونات المقدسة مع مصابيحها، يبدو المنزل فارغا، إلا أنه يحوي كل ما نحتاجه، بالحقيقة أن الضروريات التي يحتاجها الإنسان قليلة جدا.

كان يوما رائعا، حيث كان لطيفا تحت أشعة شمس الخريف، جلسنا أمام المنزل في الحديثة تحت شجرة زيتون تتدلى منها الثمار و عبر الأوراق الفضية كان البحر يبدو هادئا تماما، و بعض الغيوم كانت تمر من حين لآخر في مواجهة الشمس لتضفي على الأرض مسحة حزن و من ثم فرح كما لو أنها تتنفس.

و في آخر الحديقة الصغيرة و داخل زريبة مغلقة كانت الخنازير المخصية تئن من الألم لتصم آذاننا، و كانت رائحة طهي السيدة كيريا ماروليا تصل إلى أنوفنا، كان حديثا يدور حول الأشياء الخالدة، مواسم الذرة، الكروم، المطر، كان علينا أن نرفع أصواتنا لأن المختار السابق كان ثقيل السمع، و كان يقول بأن لديه " أذنا متكبرة "، هذا العجوز الكريتي كان يعيش حياة صادقة و آمنة، كشجرة في وادٍ أمين، كان قد ولد و شب و تزوج و رزق أولادا و أتيح له الوقت لرؤية أحفاده، بعضهم مات إلا أن الآخرون فلا يزالون على قيد الحياة، إذن فاستمرار ذرية العائلة أصبح مؤمّناً.

هذا العجوز الكريتي استطاع أن يستعيد ذكرى الأيام السابقة، الأحكام التركية، أقوال والده، و المعجزات التي حصلت في تلك الأيام لأن النساء كن يخشين الله و كان لديهن إيمان.

- الآن أنظروا إليّ، أنا العم أتاغنوسي أكلمكم، ولادتي كانت معجزة، نعم كانت معجزة، و عندما أخبركم كيف حدث هذا سوف تندهشون " ليرحمنا الله " سوف تقولون و تذهبون إلى دير السيدة المريم العذراء و تشعلون شمعة لها.

و رسم شارة الصليب و بصوت ناعم و بطريقة لطيفة بدأ برواية قصته:

- في تلك الأيام كان يوجد سيدة تركية تعيش في قريتنا، لعنة الله علينا، و ذات يوم حملت اللعينة و كانت على وشك أن تضع طفلا، مددوها على أريكة و بقيت تصرخ من الألم لمدة ثلاثة أيام كأنها بقرة، إلا أن الولد لم يخرج، عندها اقتربت منها إحدى صديقاتها عليها اللعنة أيضا و نصحتها قائلة:
- ظافر خانم، يجب أن تسألي الأم مريم لتساعدك، هكذا يسمون المريم العذراء، ليمجد الله اسمها، فأجابتها " لماذا أدعوها أفضل الموت على ذلك " إلا أن آلامها زادت حدتها و استمر الحال لمدة يوم آخر، و لم تستطع أن تضع طفلها، إذا ما العمل؟ و لم تستطع أن تتحمل المزيد من الآلام، و بدأت تصرخ بأعلى صوتها " أيتها الأم ماري، أيتها الأم ماري " و لكن دون جدوى، و لم تتوقف الآلام و لم تضع الطفل، إلا أن صديقتها قالت " ربما لا تفهم اللغة التركية " عندها صاحت الكلبة " يا عذراء الروم، يا عذراء الروم " فعادت الآلام تتضاعف، و عادت صديقتها لتقول " إنك لا تنادينها بالطريقة المناسبة، و لذلك فهي لا تأتي للمساعدة، عندها صاحت تلك الكلبة الكافرة " أيتها العذراء القديسة " عندها و بسرعة انساب الطفل كشعرة من الوحل.

حدث هذا يوم أحد، و يوم الأحد التالي كانت والدتي تعاني من الآلام لأنها بنفس الحالة، عندها صرخت والدتي المسكينة " أيتها العذراء القديسة، أيتها العذراء القديسة " إلا أنها لم تضع طفلها، و كان والدي جالسا في وسط الباحة، كان والدي لا يستطيع أن يأكل أو يشرب بسبب آلامها، عندها شعر والدي بالغضب من السيدة العذراء، و يقول " أترون، لقد نادتها تلك الكلبة التركية و جعلتها تضع طفلها بسرعة " و في اليوم الرابع لم يستطع والدي أن يصبر أكثر من هذا، فأخذ عصا الحقل و توجه نحو دير السيدة العذراء، كانت في عوننا، و عندما وصل إلى هناك و دون أن يرسم إشارة الصليب بسبب غضبه الشديد صفع الباب خلفه و توجه رأسا إلى المذبح و صاح قائلا " أنظري، أيتها السيدة العذراء، إن زوجتي كرينيو، أنت تعرفينها، أليس كذلك؟ من المفروض أن تعرفيها فهي تأتي لتحضر لك الزيت كل يوم سبت و تضيء مصابيحك، إنها تعاني الآلام لمدة ثلاثة أيام بلياليها و قد نادتك، الم تسمعيها؟ إذا لم تسمعيها فأنت طرشاء.. لو كانت ظافر خانم قد نادتك لكنت لبيتها بسرعة، إلا أن زوجتي كرينيو المسيحية لا تسمعيها، أتعلمين لو لم تكوني السيدة العذراء لكنت لقنتك درسا بعصاي هذه.


و دون زيادة أي كلمة، و دون أن ينحني لها، أدار ظهره لها و هم بالذهاب، و يا لعظمة الرب، و بنفس اللحظة علا صرير من المذبح و كأن السيدة العذراء تذوب، دعوني أخبركم هنا إن كنتم لا تعرفون هذا أن العذاء ترسل هذا الصوت عندما تكون تصنع المعجزات، عندها فهم والدي بسرعة و استدار بسرعة و ركع راسما إشارة الصليب و صاح " لقد أخطأت بحقك أيتها السيدة العذراء، لقد تفوهت بأشياء كثيرة كان يجب أن لا أقولها "

و ما كان يصل إلى القرية حتى سمع الخبر العظيم، " نتمنى لك عيشا سعيدا يا كوستاندي، لقد وضعت زوجتك طفلا ذكرا " و هذا الطفل هو أنا، أناغونستي العجوز، إلا أنني ثقيل السمع، لقد أهاون والدي السيدة العذراء و دعاها بالطرشاء، و لابد أن العذراء قالت " إذن أنت تدعوني بالطرشاء أليس كذلك؟ سوف أجعل ابنك أطرش، سوف أعلمك كيف تهينني "

و رسم أناغونستي إشارة الصليب و تابع قائلا:

- إلا أن هذا ليس مهما، ليمجد اسم الرب، كان بمقدورها أن تجعلني أعمى أو مجنون أو أحدب أو.. ليحمنا الله، كان بمقدورها أن تجعلني امرأة، ليس هذا بشيء، أنا أنحني لقداستها.

و ملأ الكؤوس و رفع كأسه قائلا:

- لتكن في عوننا.
- نخب صحتك أيها العم أناغونستي، نتمنى أن تعيش مائة عام أخرى لترى أحفاد أحفادك.

و جرع العجوز كأسه دفعة واحدة و مسح شاربه بظهر يده.

- كلا يا ولدي، إن هذا كثير لتتمناه، لقد شاهدت أحفادي و هذا يكفيي و يجب أن نسأل أشياء غير معقولة، لقد اقتربت ساعتي، لقد أصبحت عجوزا أيها الأصدقاء، لقد فرغت عظامي و لم أعد أستطيع أن أنجب أطفالا.. فلماذا أعيش إذا؟

و ملأ الكؤوس ثانية و تناول من وسطه بضع جوزات و بعض أكواز التين المجففة ملفوفة بورق الغار و اقتسمهم معنا جميعا:

- لقد منحت كل ما أملك لأطفالي، و لقد أصبحنا فقراء جدا، نعم.. فقراء جدا، و لكن لا أشتكي، فعند الله كل ما نحتاجه.

عندنا صاح زوربا في أذن العم أناغونستي قائلا:

- الله عنده كل ما نحتاجه ايها العم أناغوستي! ربما الله عنده كل شيء، و لكن ليس نحن، فالعجوز البخيل لا يمنحنا شيئا..

إلا أن العجوز صاح بقسوة:

- لا تحتقره هكذا! فهو يعد علينا جميع أخطائنا، ألا تعلم هذا؟!

و في هذه اللحظة دخلت الجدة أناغوستي بهدوء حاملة الأعضاء المحتفى بها على طبق خشبي، و حاملة أيضا وعاء كبير من النبيذ الأحمر، و وضعتهم أمامنا على الطاولة و وقفت بقربنا بيدين مسدلتين و عينين منخفضتين، شعرت بقرف من تذوق هذه " الأعضاء " و لكنني لم أستطع أن أرفض تجربتها، كان زوربا يراقبني بطرف عينه بسخرية.

- إنه ألذ طعام تناولته طوال حياتك أيها الرئيس، لا تقرف!

و ابتسم العم أناغوستي و قال:

- إنها الحقيقة، جربهم و سترى.. يذوبون في الفم بسرعة، عندما زار الأمير جورج الدير هناك فوق الجبل حضر الرهبان مأدبة ملكية من أجله، و قدموا للجميع اللحم ما عدا الأمير، حيث قدموا له طبقا من الحساء فتناول ملعته و راح يحرك الحساء و قال متعجبا " ما هذا؟ فاصوليا؟ فاصوليا بيضاء! "، فقال صاحب الدير " جربها يا صاحب السعادة و سوف نتكلم عنها فيما بعد " فتناول الأمير ملعقة و تذوق الحساء، مرة.. مرتين، و بلحظات قليلة أفرغ الطبق و لعق شفتيه و قال: يا له من طبق لذيذ! يا لهذه الفاصوليا من لذيذة، إن طعمها كالنخاعات تماما.
- إنها ليست فاصوليا يا صاحب السعادة، لقد خصينا جميع الديكة التي في الجوار.

و غرق العجوز مقهقها و شك إحدى الأعضاء بشوكته و قال:

- افتح فمك، إنه طبق أمراء.

و فتحت فمي، و وضع " العضو " في فمي، و ملأ الكؤوس من جديد و شربنا نخب حفيده الأكبر، و لمعت عيني العم أناغونستي، فسألته قائلا:

- ما الذي تريده أن يكون حفيد أيها العم أناغونستي؟ أخبرنا لنستطيع أن نتمنى لك ذلك.
- ما الذي أتمناه؟ أتمنى أن يسير في الطريق القويم، و أن يصبح رجلا صالحا، رب عائلة، و أن يتزوج أيضا و يرزق أطفالا و أحفادا، و أتمنى أن يكون أحد أولاده مثلي تماما، حتى يقول العجائز " ألا يشبه العم أناغونستي رحمه الله؟ كان رجلا طيبا "

FRIEND
15-09-2006, 07:28
و من ثم صاح دون أن ينظر إلى زوجته:

- ماروليا، مزيدا من الخمر، املأي الوعاء ثانية.

عندها فتح باب الزريبة بلطمة قوية من الداخل و اندفع خنزير إلى الحديقة، فالتفت زوربا نحوه و قال بشفقة:

- إنه يتألم، يا للحيوان المسكين.
- بالتأكيد، افترض أنهم فعلوا هذا بك، ألن تتألم؟
قفز زوربا من كرسيه و دمدم برعب:
- ليقطع الله لسانك أيها العجوز الأصم.

و راح الخنزير يسير أمامنا و ينظر إلينا بثورة و غضب، فقال العم أناغونستي الذي بدأت روحه تسرح بفعل النبيذ الذي كان قد جرعه:

- أعتقد بأنه يعرف بأننا نأكل أعضاءه.

و لكننا – و كأننا من أكلة لحوم البشر – رحنا نتابع الأكل بهدوء و نشرب النبيذ الأحمر، حيث كنا نحدق عبر أوراق الزيتون الفضية تجاه البحر الذي تغير لونه إلى الوردي بفضل غياب الشمس.

و عند الغروب غادرنا منزل العجوز، بدا زوربا منتشيا بفعل النبيذ الذي احتساه، كما بدا راغبا بالكلام:

- ما الذي كنا نقوله أول أمس أيها الرئيس؟ قلت بأنك تود لو تفتح عيون الناس، حسنا، إذهب و افتح عيني العم أناغونستي، لقد شادت كيف كانت تتصرف زوجته بانتظار أوامره، كأنها كلية تستجدي، اذهب إليه و أخبره بأن النساء لهم نفس الحقوق كالرجال تماما، و إنه من الوحشية أن تأكل أعضاء الخنزير بينما هو يئن من الألم أمامكم، و أنه من البساطة و الجنون أن نرفع الشكر لله لأنه يملك كل شيء بينما نحن نشتغل حتى الموت، ما الذي سيفيده العم أناغونستي من هذه الإيضاحات الفارغة؟ سوف تسبب له الكثير من الإزعاج، و ما الذي ستفيده الجدة أناغوستي من هذا أيضا؟ سوف تشعل النار في البيت و تبدأ المشاكل العائلية، و تحاول الدجاجة أن تكون ديكا، و يبدأ الزوجان بالتشاحن، دع هؤلاء الناس أيها الرئيس و دع عيونهم مغمضة، و لكن لنفترض أنك فتحت أعينهم فما الذي سيرونه؟ بؤسهم.. دع عيوهم مغلفة و دعهم يغرقون في أحلامهم.

و صمت لحظة و حك رأسه، كان يفكر..

- إلا.. إلا.. إلا إذا استطعت، عندما يفتحون أعينهم أن تجعلهم يرون عالما أفضل من هذا الذي يعيشون فيه الآن، هل تستطيع ذلك؟

لم أكن أعلم، كنت أدرك تماما الذي سيدمر، و لكن لم أكن أعلم ما الذي سيبنى فوق الأنقاض، لا أحد يعرف هذا مهما كانت درجة تأكده، رحت أفكر.. العالم القديم صامد، نحن نعيش فيه مكافحين و عاملين بجهد كل لحظة، إنه موجود، أما عالم المستقبل فهو لم يولد بعد، تستطيع لمسه، سائل، و مصنوع من الأنوار التي تصنع الأحلام، إنها ليست إلا غيوم دفعتها الرياح القاسية، الحب، الحقد، التخيلات، الحظ، الله.

أعظم نبي على الأرض لا يستطيع أن يمنح أكثر من كلمة أمر، و كلما كان الأمر صحيحا و رقيقا كان النبي عظيما.

نظر زوربا إلي بخبث و سخرية مبتسما، فصرخت:

- نعم أستطيع أن أريهم عالما أفضل.
- أتستطيع؟ إذن دعنا نسمع شيئا عنه.
- لا أستطيع أن أشرحه لك، فلن تفهم ما أعنيه.
- هذا يعني بأنه ليس لديك شيء لتريه، لا تظن بأني غبي أيها الرئيس، و إذا قيل لك ذلك فقد خدعوك، ربما أنا لست متعلما تماما كالعم أناغنوستي و لكني لست غبيا، فإذا لم أفهم أنا، فما الذي تنتظره من هؤلاء المساكين أن يفهموه؟ و ماذا عن الناس الذي مثل العم أناغونستي في هذا العالم؟ هل ستريهم ظلمات جديدة؟ إنهم قد استطاعوا أن يتدبروا أمرهم حتى الآن، عندهم أولاد و أحفاد أيضا، و الله يجعل أولادهم صم و عمي و لكنهم مع ذلك يقولون " ليتمجد اسم الرب " و يشعرون بأنهم مرتاحون في بؤسهم، إذن دعهم كما هم و لا تقل شيئا.

و خيم علي السكوت، و مررنا قرب نافذة الحديقة، و توقف زوربا لبرهة و تنهد و لم يقل شيئا، لابد أن السماء قد أمطرت في مكان ما لأن رائحة الأرض الرطبة تعبق في المكان، و كانت النجوم الأولى قد بدأت تظهر، و القمر الجديد قد بدأ يلمع في السماء بلونه الأصفر المخضر، كانت العذوبة تخيم على السماء.
و رحت أفكر.. إن هذا الرجل لم يدخل أي مدرسة، و عقله لم يتخبط في مشاكل إلا أن عنده كل الخبرة اللازمة، فقد تفتح عقله و قلبه نما و أصبح أكبر دون أن يفقد ذرة من شجاعته، و كل المشاكل التي نجدها معقدة و ليس لها أي حل يمر بها و كأنه يحمل سيفا، تماما كأنه ألكسندر الكبير، من الصعب عليه أن يفقد هدفه، لأن قدماه مثبتتان بالأرض بفضل ثقل جسده الكبير، يوجد بعض المتوحشين الأفريقيين، المتوحشين الذين يقدسون الثعابين لأنها ترتكز بكامل جسدها على الأرض، لهذا يجب أن تعرف جميع أسرار الأرض، تعرفها ببطنها و ذيلها و رأسها، إنها على اتصال دائم بالأرض، و هذا ينطبق تماما على زوربا، و نحن معشر المثقفين كأننا طيور فارغة الرأس في الهواء.

كانت النجوم تتضاعف في السماء و كانوا جميعهم قساة، متوحشين، ساخرين دون رحمة تجاه الإنسان، لم نعد للحديث ثانية، و كنا نحن الإثنين نحدق في السماء بخوف و رعب، و كل لحظة كانت النجوم تزداد و تشع ليمتد البريق.

وصلنا أخيرا إلى الكوخ، و لم يكن لدي أي قابلية للطعام، و جلست على صخرة بقرب البحر، و أشعل زوربا النار و تناول طعامه، و كان على وشك المجيء بقربي إلا أنه غير رأيه في آخر لحظة و تمدد فوق سريره و غرق في النوم.

كان الهدوء الشديد يهيمن على البحر و تحت النجوم المتلألئة كانت الأرض راقدة بسكون و دون حركة، لا نباح ولا كلاب ولا صوت عصافير، كان صمتا مخيفا خطرا كأنه مشكلا من آلاف الصرخات البعية العميقة حتى أننا لم نستطع أن نسمعها، كنت أسمع هدير الدب يضرب أوردتي و شرايين عنقي.

رحت أفكر أنها أنشودة النمر، هناك في الهند، عندما يرخي الليل سدوله ترتفع الأصوات بأغنية حزينة، رتيبة مؤلمة و بصوت خفيض، أنشودة هادئة و متوحشة، كأنها تثاؤب حيوان مفترس، أنشودة النمر! عندها يترجف قلب الإنسان و يبحث عن مخرج و ينظر برعب عظيم.

و بينما كنت أفكر بهذه الأنشودة بدأ قلبي يمتلئ شيئا فشيئا و بدأت الحياة بالعودة إلى أذني، و علا صوت السكون، كانت الروح قد تشكلت من هذه الأنشودة و كانت تحاول الهرب من الجسد لتصغي.

و انحنيت و ملأت راحتي بماء البحر و رطبت جبيني و رأسي، و شعرت بالراحة، و من أعماق وجودي كانت ثمة صرخات تتجاوب بتوعد و نفاد صبر، كان النمر في داخلي.. و كان يزمجر.

و مرة واحدة ملأ الصوت أذني، إنه صوت بوذا، و رحت أسير بسرعة على حافة المياه كما لو أنني أحاول الهرب، منذ مدة، و عندما أكون وحيدا في الليل و يكون الصمت مخيفا أسمع هذا الصوت، باديء الأمر حزينا مؤلما و من ثم يبدأ بالغضب موبخا آمرا، و يبدأ برفس صدري كأنه جنين قد حان وقت تركه للرحم.

لابد و أنه كان منتصف الليل، كانت الغيوم السوداء قد تجمعت في السماء و بدأت نقط ثقيلة من المطر تنهمر فوق يدي، و لكني لم أعرها أي اهتمام، كنت غارقا في جو محرق، كنت أشعر بأن لهيبا يخرج من صدغي.

لابد و أن الوقت قد حان، رحت أفكر، العجلة البوذية تحملني بعيدا، لقد حان الوقت لأحرر نفسي من هذا الجنين المعجزة.

عدت بسرعة إلى الكوخ و أشعلت القنديل، و عندما وقع النور على زوربا تحركت جفونه و فتح عينيه و راح يراقبني منكبا على الورق و غارقا في الكتابة، و دمدم بشيء لم أستطع فهمه، و عاد و استدار نحو الحائط و غرق في النوم من جديد.

كنت أكتب بسرعة، كنت على عجلة، كان بوذا مستعدا تماما في داخلي، كنت أراه بوضوح ينساب من عقلي كأنه شريط حريري مليء بالرموز، كان ينساب بسرعة و كنت أبذل أقصى جهدي للحاق به، و رحت أكتب، كان كل شيء سهلا بسيطا، لم أكن أكتب بل كنت أنسخ، كأن عالما كاملا يبدو أمامي مؤلفا من الحنان و المعارضة و الهواء، قصور بوذا، نساء، العربة الذهبية، و المصادمات المصيرية الثلاثة، مع العجوز و المريض و الموت، الهرب و حياة التصوف و الخلاص، و إعلان النجاة.. كانت الأرض مغطاة بأزهار صفراء، و الفقراء و الملوك يرتدون أثونا زعفرانية اللون، الصخور، الأشجار و اللحم بدت خفيفة، و تحولت الروح لبخار، و البخار لروح، و الروح تحولت للا شيء.

بدأ التعب يسيطر على أصابعي و لكن لا لن أستطيع أن أتوقف، الرؤيا تمر أمامي بسرعة و تخنقني و علي اللحاق بها..

عند الصباح وجدني زوربا غارقا في النوم فوق الخطوط.

* The Empress *
16-09-2006, 22:48
سأملأ روحي بالجسد، و أملأ جسدي بالروح. سأوفق أخيراً في نفسي، بين هذين العدوين الأبديين.
زوربا..قرأت عن هذا الانسان كثيراً..لاعجب ان اشهر افلام انتوني كوين كان فيلم زوربا ورقصة زوربا التي اشتهرت في السبعينات او الثمانينات كما اظن!

موضوع جميل جداً..يدل على ذوق رفيع..
شكراً لك على الروايه ..انتظر تكملتها اذا امكن؟

تحياتي لك ..والى الامام:)

FRIEND
18-09-2006, 17:02
http://www.arabslink.net/vb/attachment-attachmentid_350-stc_1-d_1150531544.html

روجينــا

هذا الرجل ، الذي إستطاع أن يجمع بين روحه
وجسده ، بـ رقصة الألم .. ذاك المجنون!

تباً له

FRIEND
18-09-2006, 17:06
http://www.arab4up.com/get.php?filename=1149350282.jpg

الفصــل السـادس

كانت الشمس على ارتفاع اثنتي عشرة قدماً عندما استيقظت، كانت يدي اليمنى قد خدرت بسبب الكتابة ولم أعد أستطيع ضمّ أصابعي، لقد مرت العاصفة البوذية فوقي، وتركتني متعباً فارغاً.

و انحنيت لأجمع الأوراق المبعثرة على الأرض، لم تكن لي الرغبة ولا القوة للنظر إليها، و كأن كل ذلك الإلهام الآسر لم يكن إلا حلماً لا أريد أن أراه سجين الكلمات، ذليلاً لها.

كانت تمطر في ذلك اليوم، بلا صوت، برخاوة، و قبل أن يذهب "زوربا" أشعل الموقد، ولبثت طيلة اليوم جالساً، مثني الساقين، ويداي ممدودتان فوق النار، دون أن آكل، ساكناً أصغي إلى المطر الأول وهو يسقط بهدوء، لم أكن أفكر بشيء، وراح عقلي الذي تقوقع كخلدٍ في أرض رطبة، يستريح، كنت أسمع حركات الأرض الخفيفة، و ضوضاءها و قرقعتها، والمطر الذي يسقط والحبوب التي تنضج، و أحسست بالسماء والأرض تمتزجان كما كانتا في العصور البدائية تتحدان كرجل و امرأة وتلدان الأطفال، وأمامي على طول الشاطئ كنت أسمع البحر يهدر وأمواجه تتطاول كأنه حيوان مفترس يمد لسانه ليشرب.

إني سعيد، أنا أعرف ذلك، عندما نعيش سعادة ما، فنادراً ما نحس بذلك، بل عندما تمضي وننظر إلى الوراء، نحس فجأة – وأحياناً بدهشة – كم كنا سعداء.
أما أنا، فوق هذا الساحل الكريتي، فأعيش السعادة وأعلم أنني سعيد.

البحر الأزرق القاتم الواسع، يمتد حتى الشواطئ الإفريقية، وغالباً ما تهب ريح جنوبية حادة جداً: "الليفاس"، تأتي من الرمال البعيدة الحارة، وعند الصباح يعبق البحر كالبطيخ الأحمر، وفي الظهيرة يتبخر ساكناً، مع تموجات خفيفة كأثداء لمّا تتكور تماماً، وعند المساء، يتنهد، ولونه بلون الورد، والخمر، والباذنجان، والزرقة القاتمة.

وألهو بعد الظهر، بملء يدي بالرمل الناعم الأشقر، ثم أحس به وهو ينساب ويفلت، حاراً رخواً من بين أصابعي.
إن اليد ساعة رملية تفلت الحياة منها وتضيع، تضيع وأنا أنظر إلى البحر، وأسمع "زوربا"، وأحس بصدغيّ ينبضان من السعادة.

إنني أذكر ذات يوم، أن ابنة أخي الصغيرة "ألكا"، وهي لم تتجاوز الرابعة ، قد استدارت نحوي، ونحن ننظر عشية رأس السنة، إلى واجهة مليئة باللعب، وقالت لي هذه الجملة المدهشة:
" يا عمي الغول، إنني مسرورة جداً لأنه نبتت لي قرون".
وشدهت!!
يا للحياة من معجزة! وكيف تلتقي جميع النفوس وتمتزج عندما تمد جذورها عميقة جداً!
لأنني سرعان ما تذكرت رأساً لبوذا منحوتاً من الأبنوس، رأيته في متحف بعيد، لقد تحرر بوذا وغمره الفرح الأعظم، بعد نزع دام سبع سنين، ولقد انتفخت أوردة جبينه، من اليمين واليسار، إلى حد أنها نبقت خارج الجلد، واستحالت إلى قرنين قويين ملتويين، وكأنهما نابضان من الفولاذ.

وبعد العصر انقطع المطر الخفيف، وعادت السماء صافية، كنت جائعاً ومسروراً لأنني جائع، فسوف يأتي "زوربا" الآن، ويشعل النار، ويبدأ بحفلة المطبخ اليومية.

كان "زوربا" يقول غالب الأحيان وهو يضع القدر على النار:
- وهذه هي قصة أخرى بلا نهاية!
ليس المرأة – عليها اللعنة- وحدها قصة بلا نهاية، بل هناك أيضاً الطعام.

ولأول مرة، أحسست فوق هذا الساحل بعذوبة الطعام، كان "زوربا" عند المساء، يشعل النار بين حجرين ويعد الطعام، ثم نبدأ بالأكل والشرب، ويحتد الحديث، وأخيراً فهمت أن الأكل أيضاً عملية روحية وأن اللحم، والخبز والخمر، هي المواد الأولية التي تُصنع منها الروح.

وعند المساء، قبل الطعام والشراب، يكون "زوربا" بعد تعب العمل، قد فقد كل بشاشته، فعباراته ثقيلة، لا يتكلم إلا إذا انتزعت منه الكلمات انتزاعاً، لكن ما أن يلقي – كما يقول- بالفحم إلى الآلة، حتى ينتعش كل مصنع جسده الخامد المتعب، ويندفع ويبدأ بالعمل، وتشتعل عيناه، وتطفح ذاكرته، وتنبت له أجنحة في قدميه، ويرقص.

- قل لي، ماذا تفعل بما تأكله أقل لك من أنت، هناك من يحوّلون هذا إلى شحم وقاذورات، وآخرون إلى عمل وإلى مزاج طيب، وغيرهم إلى إله - كما سمعتهم يقولون - إذن فهناك ثلاثة أنواع من البشر، أما أنا فلست من أشرارهم ولا من أخيارهم، إنني أضع نفسي بين النوعين، وما آكله أحوله إلى عمل وإلى مزاج طيب‘ هذا ليس سيئاً جداً.

ونظر إلي بخبثٍ وأخذ يضحك، ثم قال:
- أما أنت، أيها الرئيس، فإنني اعتقد أنك تحاول أن تحوّل ما تأكله إلى إله!

لكنك لا تستطيع ذلك وتعذب نفسك، لقد حدث لك ما حدث للغراب.

- ماذا حدث للغراب يا "زوربا"؟
- كان يمشي _ كما تعلم _ بشكل محترم مناسب، مثل غراب حقاً، لكنه رغب ذات يوم في أن يمشي متبختراً كالحجل، ومنذ ذلك الحين نسي المسكين حتى مشيته الخاصة، ولم يعد يعرف ماذا يفعل، وأخذ يعرج.

* * *


رفعت رأسي وسمعت وقع خطى "زوربا" وهو يصعد من النفق، وبعد قليل رأيته يقترب، متطاول الوجه، عابساً، وذراعاه الطويلتان تتأرجحان، مخلعتين، وقال بطرف شفتيه:

- مساء الخير، أيها الرئيس!
- مرحباً أيها العجوز، كيف سار عمل اليوم؟
لم يجب ثم قال:
- سأشعل النار وأعد الطعام.

وأخذ قبضة من الأغصان من الزاوية وخرج ، ووضع حزمة الأغصان بحنق بين الحجرين وأشعل النار، ووضع قدر الفخار وصب فيها ماء، مع البصل والطماطم والأرز وبدأ الطبخ.
وأثناء ذلك، كنت أضع أدوات المائدة على الطاولة المستديرة الواطئة، وأقطع قطعاً سميكة من خبز القمح، وأصب الخمر من الدّن في القرعة المزينة بالرسوم التي أهدانا إياها "أنانيوستي" في الأيام الأولى.

كان "زوربا" راكعاً على ركبتيه أمام القدر، ينظر إلى النار، بعينيه الواسعتين، صامتاً، وفجأة سألته:

- أ لك أولاد، "زوربا"؟
فالتفت إلي:
- لمَ تسأل عن هذا؟ لي بنت.
- متزوجة؟
وأخذ "زوربا" يضحك.
- لمَ تضحك، "زوربا"؟

فقال:
- هذا لا يُسأل، بالتأكيد متزوجة، إنها ليست حمقاء، كنت أعمل في منجم للنحاس في "برافيتسا" بمقاطعة " شالسيديك"، وذات يوم تلقيت رسالة من أخي "ياني"، لقد نسيت أن أخبرك أن لي أخاً.
إنه رجل خبئ النفس، عاقل، متدين، مراب، مراء، رجل كما يجب، من أعمدة المجتمع، عطار في "سالونيك"، كتب لي:
" ألكسيس أخي، لقد سارت ابنتك "فروسو" في طريق السوء، وجلبت العار لاسمنا، إن لها عشيقاً، وقد ولدت منه، مما نال من سمعتنا، سأذهب إلى القرية لأذبحها".

- وأنت ماذا فعلت يا "زوربا"؟
فهز كتفيه:
- "أفٍ! يا للنساء!" قلت، ومزقت الرسالة.

وحرك الأرز، ووضع ملحاً، وضحك.
- لكن انتظر، سترى ما هو أغرب من ذلك، بعد شهرين تلقيت رسالة ثانية من أخي الأحمق، يقول فيها:

"لتعش في صحة وسرور، لقد عاد الشف إلى مكانه، وتستطيع الآن أن ترفع جبهتك عالياً، لقد تزوج الرجل المذكور فروسو".

والتفت إلي "زوربا"، وعلى بصيص سيجارته الهزيل رأيت عينيه تقدحان بالشرر،وهز كتفيه ثانية، وقال باحتقار لا يمكن وصفه:
- أفٍ للرجال!
وبعد قليل أضاف:
- ما الذي يمكننا أن ننتظره من النساء؟ أن يلدن من أول قادم، ما الذي يمكننا أن ننتظره من الرجال؟ أن يقعوا في الفخ.
احفظ ذلك، أيها الرئيس.

ورفع القدر من فوق النار وأخذنا نأكل.
وغرق "زوربا" من جديد في تأملاته، ثم هم يقلقه، كان ينظر إلي، ويفتح فمه، ثم يغلقه، و على ضوء مصباح الزيت، كنت أرى بوضوح عينيه المكدودتين القلقتين.
ولم أعد أستطيع صبراً، فقلت:

- "زوربا" لديك شيء تريد أن تقوله لي، قله، إن معدتك تؤلمك، فأرقد!
ولم يتكلم زوربا، بل تناول حجراً صغيراً وألقاه بقوة من الباب المفتوح.

- دع الحجارة تتكلم!
فمد "زوربا" عنقه المتغضن، وسألني قلقاً، وهو يحدق في عيني:
- أتثق فيّ أيها الرئيس؟
فأجبت:
- نعم ، مهما فعلت، فإنك لا تستطيع أن تخطئ، حتى لو أردت، فإنك لن تستطيع، أنت كأسد، أو بالأحرى كذئب، إن هذه الحيوانات لا تتصرف مطلقاً كخراف أو حمير‘ إنها لا تبتعد مطلقاً عن طرق طبيعتها‘ أنت أيضاً، إنك "زوربا" حتى منتهى أظافرك، فهز رأسه، وقال:

- لكنني لم أعد أعرف إلى أين أسير!
- أنا أعرف، لا تهتم بذلك، سر إلى الأمام!
فصرخ:
- قل ذلك ثانية _ أيها الرئيس _ حتى أتشجع!
- سر إلى الأمام!
ولمعت عينا "زوربا" شرراً، وقال:
- الآن أستطيع أن أحدثك:
منذ أيام وفي رأسي مشروع كبير، فكرة مجنونة، فهل نحققها؟
- وتسأل عن ذلك؟
إنما جئنا إلى هنا لهذا: " لنحقق أفكاراً معينة".

ومد "زوربا" عنقه، ونظر إلي بفرح وخوف، وهتف:
- تكلم بوضوح _ أيها الرئيس_ ألم نأت إلى هنا لأجل الفحم؟
- إن الفحم ليس إلا ذريعة، كي لا يتدخل الناس في شئوننا، كي يظنوا أننا مقاولون عاقلين، فل يضربوننا بالطماطم.
"زوربا" أتفهم؟

وظل "زوربا" فاغر الفم، إنه يستبسل كي يفهم، لكنه، لا يستطيع أن يؤمن بهذا القدر الكبير من السعادة، وفجأة فهم، وأسرع إلي، وأخذني من كتفيّ وسألني بحماسة:
- أترقص؟ أترقص؟
- كلا.
- كلا؟
وأسبل ذراعيه مذهولاً، ثم قال بعد لحظة:
- حسناً، إذن سأرقص أنا أيها الرئيس، اجلس بعيداً حتى لا أصدمك.
هاي! هاي!

وقفز، ووثب خارج الكوخ، ورمى حذاءيه، ورداءه، وصدر يته، ورفع سرواله حتى ركبتيه، وأخذ يرقص، كان وجهه الذي لا يزال ملوناً بالفحم، أسود تماماً، و عيناه البيضاوان تلمعان.

وغرق في الرقص، وهو يضرب بيديه، ويقفز، ويدور في الهواء، ويسقط على ركبتيه المثنيتين، ثم يقفز من جديد مثني الساقين، وكأنه من مطاط.
وفجأة! وثب عالياً جداً وكأنه يريد أن يقهر قوانين الطبيعة الكبرى ويطير، إنك لتحس في هذا الجسم الرميم بالروح وهي تناضل لتجذب الجسد وتلقي بنفسها معه، في الظلمات، ككوكب سماوي، إنها تدفع الجسد الذي يعود للسقوط، إذ لا يستطيع الثبات في الجو طويلاً، وتدفعه من جديد، بلا شفقة، أعلى قليلاً هذه المرة، لكن المسكين يعود للسقوط، لاهثاً!

قطّب "زوربا" حاجبيه، وبدا وجهه جدياً قلقاً، إنه لم يعد يصرخ، بل يحاول بكتفيه المشدودين، أن يبلغ المستحيل، وصرختُ:

- زوربا! زوربا! هذا يكفي!
لقد خشيت ألا يستطيع الجسد العجوز مقاومة هذا القدر الكبير من الجهد، فيتناثر فجأة في كل اتجاه، ألف قطعة.

كنت أستطيع أن أصرخ كثيراً، لكن كيف تريدون أن يسمع "زوربا" صراخ الأرض؟
لقد أصبحت أحشاؤه كأحشاء الطيور.

و رحت أتتتبع بقلق خفيف الرقصة الوحشية اليائسة، عندما كنت طفلاً، كانت مخيلتي تعمل دون توقف وأروي لأصدقائي أكاذيب ضخمة أؤمن بها أنا أيضاً.
سألني ذات يوم رفاقي الصغار في المدرسة الابتدائية:
- " كيف مات جدك؟"
ورحت فوراً أختلق أسطورة، وكنت بمقدار ما استمر في اختلاقها، أزداد إيماناً بها:
" كان جدي ينتعل حذاءً من المطاط، وذات يوم، عندما ابيضت لحيته، قفز من سطح بيتنا، لكنه ما أن لمس الأرض حتى قفز من جديد ككرة، و ارتفع أعلى من البيت، أعلى باستمرار، وأعلى!
حتى اختفى بين الغيوم، هكذا مات جدي".

FRIEND
18-09-2006, 17:12
ومنذ اليوم الذي اختلقت فيه هذه الأسطورة، وفي كل مرة أذهب فيها إلى كنيسة "سان مينا" الصغيرة وأرى في أسفل الهيكل، صورة صمود المسيح، أمد يدي وأقول لرفاقي:
- "انظروا، هو ذا جدي بحذائه المطاطي".

وفي هذا المساء، بعد العديد من السنين، عشت من جديد، وأنا أرى "زوربا" يقفز في الفضاء، تلك الحكاية الصبيانية، بخوف!
وكأنني أخشى أن أرى "زوربا" يختفي بين الغيوم، فصرخت:
- زوربا! زوربا! هذا يكفي!

لقد جلس الآن "زوربا" على الأرض لاهثاً، كان وجهه يتألق سعيداً، وشعره الرمادي قد التصق بجبينه، والعرق ينساب من خديه وذقنه، ممزوجاً بالغبار.

وانحنيت فوقه قلقاً، وبعد لحظة قال:
- لقد أعاد هذا الهدوء إلى نفسي، كأنني فصدت، والآن أستطيع أن أتحدث.
ودخل إلى الكوخ، وجلس أمام الموقد، ونظر إلي، مشع الوجه.

- ما الذي جعلك ترقص؟
- ما الذي تريد أن أفعله، أيها الرئيس؟ كان الفرح يخنقني، و علي أن أروّح عن نفسي، وكيف أروّح عنها؟
بالكلمات؟ أف!
- أي فرح؟
و أظلم وجهه، و أخذت شفته ترجف.
- أي فرح؟ إذن فكل ما قلته، قد قلته هكذا، هباء!
دون أن تفهمه أنت نفسك! لقد قلت أننا لم نأت إلى هنا من أجل الفحم، لقد قلت ذلك هكذا؟
لقد جئنا لنمضي الوقت، نذّر الرماد في عيون الناس، كي لا يظنونا مجانين ويرمونا بالطماطم، لكننا عندما نكون بمفردنا لا يرانا أي إنسان، ننفجر ضاحكين!
هذا ما أريده أنا أيضاً، لكنني لم أكن أفهم ذلك جيد الفهم، أحياناً أفكر بالفحم، وأحياناً بالأم "بوبولينا" وأحياناً بك.....
خليط عجيب، وعندما أشق نفقاً، أقول: " إن الفحم هو ما أريد!"
ومن أخمص قدمي إلى رأسي أصبح فحما، لكن بعد ذلك، عندما ينتهي العمل، وأداعب تلك الخنزيرة العجوز، أرمي بكل اللينيت وبجميع أرباب العمل خارجاً، ومعهم "زوربا"، من أجل شريط عنقها الصغير، و أفقد صوابي.
وأخيراً، عندما أفقد بمفردي ولا يبقى لدي ما أفعله، أفكر بك أيها الرئيس ويذوب قلبي، لقد كان ذلك يثقل على نفسي، وأصرخ:

"هذا عار يا زوربا، عار أن تخدع ذلك الرجل الطيب، وتبلع ماله، إلى متى تظل نذلاً؟ ألم تكتفي!"

" إنني أقول لك _ أيها الرئيس_ لقد فقدت صوابي، إن الشيطان يجذبني من ناحية، والرحمن من ناحية، وهكذا أتمزق بين الاثنين ثم تحدثت أيها الرئيس جيداً، واتضح لي كل شيء، لقد فهمت! واتفقنا.
والآن نضع النار في البارود!
كم بقي لديك من المال؟ أنت بالكل، فإننا مستهلكوه!".

وجفف "زوربا" عرقه وبحث حوله، كانت بقايا عشائنا متناثرة على المائدة الصغيرة، ومد ذراعه الكبيرة، و قال:
- بإذنك أيها الرئيس، فأنا لازلت جائعاً.
وتناول قطعة خبز، وبصلة، وقبضة من الزيتون.
وأخذ يأكل بشراهة، ويرفع إلى فمه، دون أن يمس شفتيه، القرعة ويبقبق الخمر، ثم يصفق بلسانه، مغتبطاً، وقال:
- إني أحس بالغم قد انفرج عني.
وغمزني بعينه، وسألني:

" لماذا لا تضحك، أيها الرئيس؟
لماذا لا تنظر إلي؟ إنني هكذا، في داخلي شيطان يصرخ، وأنا أفعل ما يقوله لي، وفي كل مرة أكون فيها على وشك الاختناق، يصرخ: أرقص!
فأرقص، ويعيد هذا الهدوء إلى نفسي!
ذات مرة عندما مات صغيري "ديمتراكي"، في "شالسيديك" وقفت هكذا ورقصت، وأسرع الأقارب والأصدقاء الذين كانوا يتطلعون إلي وأنا أرقص أمام الجثة، ليوقفوني، وأخذوا يصرخون:
- لقد جُنّ زوربا! جُنّ زوربا!

لكنني أنا في تلك اللحظة لو لم أرقص لجننت من الألم، ذلك لأنه كان ابني البكر، وقد بلغ الثالثة من العمر، ولا أستطيع تحمل فقده.
أتفهم ما أقوله أيها الرئيس، أم إنني أتكلم مع الحيطان؟"

- إنني أفهم، "زوربا"، إني أفهم إنك لا تتكلم مع الحيطان.
- ومرة أخرى كنت في روسيا، بالقرب من "نوفوروسيسك" لأنني ذهبت إلى هناك أيضاً، من أجل المناجم، كالمعتاد، مناجم نحاس، في تلك المرة.

" تعلمت خمس أو ست كلمات روسية، أي ما يكفي بالضبط لشغلي: كلا، نعم، خبز، ماء، أحبك، تعال، كم؟
وارتبطت برباط الصداقة مع روسي، بولشفي متحمس، كنا نذهب كل مساء، إلى حانة المرفأ، وذات مرة جرعنا عدداً لا بأس به من زجاجات الفودكا، وانتشينا، وما إن بدأنا نسكر، حتى انتفخ قلبانا، هو يريد أن يروي لي كل ما جرى له أثناء الثورة الروسية، وأنا أريد أن أطلعه على وقائعي وحركاتي، لقد سكرنا معاً، كما ترى وأصبحنا أخوين، واستطعنا أن نتفق بالحركات، كان هو الذي يتكلم أولاً، وعندما أعجز عن الفهم، أصرخ به: قف!
فيقوم عندئذ ليرقص.
أتفهم أيها الرئيس؟
ليرقص ما يريد قوله لي، وكنت أنا كذلك أفعل، كل ما لم تستطع أن نقوله بفمنا، قلناه بأرجلنا، بأيدينا، ببطننا أو بصرخات وحشية:
هاي! هاي! هوب لا! هو هي!
وبدأ الروسي يتحدث: كيف حملوا البنادق، كيف اندلعت الحرب، كيف وصلوا إلى "نوفوروسيسك"، وحين أعجز عن فهم ما يقوله لي، أرفع يدي وأصرخ: قف! وسرعان ما يندفع الروسي ويأخذ بالرقص! كان يرقص كمن أصابه مس، وأنظر إلى يديه وقدميه، وصدره، وعينيه، وأفهم كل شيء:

كيف دخلوا إلى "نوفوروسيسك" وقتلوا سادتهم، وكيف نهبوا المخازن، وكيف دخلوا إلى البيوت وخطفوا النساء، في البدء، رحن يبكين، العاهرات، ويخدشن وجوههن ووجوه الرجال، لكن رويداً رويداً، تضاءلت مقاومتهن، وأغلقن عيونهن، نساء، وأي نساء...

" وفينا بعد، جاء دوري، ومنذ الكلمات الأولى، ولعل ذلك لأنه كان أصم قليلاً ولأن عقله لا يعمل جيداً، صرخ الروسي: قف!
ولم أكن انتظر غير ذلك، واندفعت، وأزحت الكراسي والطاولات، ورحت أرقص، آه! يا شيخي المسكين!
لقد سقط البشر في السفالة، يا للعار! لقد جعلوا أجسادهم خرساء ولم يعودوا يتحدثون إلا بالفم، لكن ماذا تريد أن يقول الفم؟ ما الذي يمكن أن يقوله؟ لو استطعت أن ترى كيف كان الروسي الصغير يصغي إلي، من رأسه إلى قدميه، وكيف كان يفهم كل شيء! وصفت له وأنا أرقص مصائبي، وأسفاري وكم مرة تزوجت، والمهن التي تعلمتها:
قالع حجارة، عامل مناجم، بائع متجول، فخار، جندي غير نظامي، عازف سانتوري، بائع بزر اليقطين، حداد، وقاطع طريق، وكيف أدخلوني السجن، وكيف هربت، وكيف جئت إلى روسيا...
كل شيء، كان يفهم كل شيء، على الرغم من صممه، كانت قدماي ويداي تتحدث، وكذلك شعري وثيابي، وسكين معلقة بحزامي، كانت تتحدث، هي أيضاً، وعندما انتهيت شدني، الأحمق الكبير بين ذراعيه، وقبلني، وملأنا كأسيّ الفودكا من جديد، وبكينا وضحكنا، ونحن متعانقان، وعند الفجر، كنا نفترق لننام ونحن نترنح، وعند المساء نعود للتلاقي...

أتضحك، ألا تصدقني أيها الرئيس؟ إنك تقول في نفسك:
"ما هذه الخزعبلات التي يرويها لي هذا السندباد البحري؟ أمن الممكن أن يتحدث الإنسان بالرقص؟"
ومع ذلك لأذهب إلى النار؛ إذا لم يكن هذا ما يجب أن تتحدث به الآلهة والأبالسة.

"لكنني أرى أن النعاس يداعب أجفانك، هيا اذهب لتنام وغداً نعود للحديث، لدي مشروع، مشروع عظيم، غداً سأحدثك عنه، سأدخن سيجارة، بل لعلي سأغطس على رأسي في البحر، إنني اشتعل، يجب أن أطفئ نفسي، ليلة سعيدة! ".

وتأخرت في النوم، وفكرت في نفسي: لقد ضاعت حياتي، أو أستطيع أن آخذ إسفنجة وأمحو كل ما تعلمته، كل ما رأيته وسمعته، ثم أدخل إلى مدرسة "زوربا" وأبدأ بالأبجدية الكبيرة، الحقيقة!
كم ستكون الطريق التي سأسلكها مختلفة، سأدرب حواسي الخمس، جلدي كله كي يتمتع ويفهم، سأتعلم الرقص، والقتال، والسباحة، وركوب الخيل، والتجديف، وقيادة السيارة، وإطلاق البندقية، سأملأ روحي بالجسد، وأملأ جسدي بالروح، سأوفق أخيراً، في نفسي، بين هذين العدوين الأبديين...

كنت أفكر وأنا جالس على فراشي، بحياتي التي تذهب هباء، ومن الباب المفتوح، كنت أميز بلا وضوح، على ضوء النجوم، "زوربا" وهو جالس على صخرة كطائر ليلي، إنني أحسده، أقول في نفسي:
إنه هو الذي وجد الحقيقة، وتلك هي الطريق المستقيمة!

إن "زوربا" لو عاش في عصور أخرى بدائية وخلاقة، لكان رئيس قبيلة، ولمشى في المقدمة، يشق الدرب بفأسه، أو لكان شاعراً مشهوراً من شعراء "التروبادور"، يزور القصور، ولتعلق كل العالم بشفتيه الغليظتين، السادة والخدم والسيدات النبيلات...
أما في عصرنا الجاحد، فهو يجول جائعاً، حول البساتين المسوّرة، كذئب، أو يسقط، بالأحرى، إلى حد يصبح معه مهرجاً لكاتب رديء.

وفجأة رأيت "زوربا" ينهض، خلع ثيابه، ورمى بها على الحصى، وألقى بنفسه في الماء، وكنت أرى بين الفينة والفينة، على ضوء القمر الوليد الشاحب، رأسه الضخم يظهر ثم يختفي، ومن حين إلى حين، يطلق صرخة، وينبح، ويصهل، ويقلد صياح الديك، إن روحه في هذه الليلة المقفرة ترتد إلى الحيوانات.

وبهدوء ودون أن أشعر، غلبني النعاس، وفي الغد عند الفجر، رأيت "زوربا" مبتسماً، منشرحاً، وهو يسحبني من قدمي وقال:
- انهض، أيها الرئيس، كي أطلعك على مشروعي، أتصغي؟
- إنني مصغٍ.

وجلس على الأرض متربعاً، وراح يشرح لي كيف سيقي مصعداً من قمة الجبل حتى الشاطئ، نستطيع به أن ننقل الخشب الذي نحتاج إليه للأنفاق، ونستطيع أن نبيع الباقي خشباً للبناء، ولقد كنا قررنا أن نكتري غابة للصنوبر، هي ملك للدير، لكن النقل كان يكلف غالياً ولم نكن لنجد بغالاً، فتصور "زوربا" إذن أن نبني مصعداً بالحبال الضخمة والأعمدة والبكرات، وعندما انتهى سألني:

- اتفقنا؟ أ توقع؟
- إنني أوقع، اتفقنا!
وأشعل الموقد ووضع الإناء على النار، وأعد لي قهوتي، وألقى بغطاء على قدمي يقيني من البرد، وذهب مغتبطاً، وقال:
- سنحفر اليوم نفقاً جديداً، لقد وجدت عرقاً من تلك العروق، عرق ماس حقيقي أسود!

وفتحت مخطوط بوذا وغرقت في أنفاقي الخاصة واشتعلت طيلة اليوم، وكلما تقدمت كنت أحس بالخلاص، ويغمرني انفعال معقد:
طمأنينة وكبرياء واشمئزاز، لكنني تركت نفسي تستسلم للعمل، لأنني كنت أعلم، أنني ما أن أنهي هذا المخطوط وأختمه وأطويه، حتى أعود حراً.

كنت جائعاً، وأكلت بعض الزبيب، ولوزاً وقطعة خبز، كنت انتظر أن يعود "زوربا"، حاملاً كل الحسنات التي تبعث المتعة في قلب الإنسان:
الضحكة الصافية، والكلمة الطيبة، والأطعمة اللذيذة.

FRIEND
18-09-2006, 17:14
وظهر عند المساء، وأعد الطعام، وأكلنا، لكن ذهنه كان في مكان آخر، وركع على ركبتيه، وغرس قطعاً صغيرة من الخشب في الأرض، ومد خيطاً، وعلق عود ثقاب ببكرات صغيرة، وراح يحاول أن يجد الميل الذي يجب إعطاؤه للخيط كي لا ينهار كل شيء، وقال لي:

- إذا كان الميل أكثر من اللازم فسيضيع كل شيء، وإذا كان أقل، فسيضيع كل شيء أيضاً، ويجب أن نجد الميل على الشعرة، ومن أجل ذلك أيها الرئيس، يلزمنا خمر وذكاء.

وانفجر "زوربا" ضاحكاً، وقال وهو ينظر إلي بحنان:
- إنك لست أحمق.
وجلس ليستريح وأشعل سيجارة، لقد عاد إليه مرحه من جديد، وانحلت عقدة لسانه، وقال:
- إذا أمكن للمصعد أن ينجح فسنقطع كل الغابة، ونفتح مصنعاً، ونصنع ألواحاً، وأعمدة، وأخشاباً، ونجمع المال بالرفش، ثم نبني مركباً بثلاث صواري، ونقلع بكل ما معنا، ونذهب لرؤية العالم!

ولمعت عينا "زوربا" وامتلأتا بنساء بعيدات، بمدن، بأنوار، بمنازل كبيرة، بآلات، بمراكب.
- ذلك لأن شعري قد شاب، أيها الرئيس، وأخذت أسناني تتململ، ولم يعد لي وقت أضيعه، أما أنت، فشاب، وتستطيع أن تصبر، أما أنا فلا أستطيع، إنني كلما كبرت ازددت توحشاً!

ليكفوا عن القول لي إن الشيخوخة تشذب الإنسان وتهدئ حرارته! وإنه يمد عنقه للموت عندما يراه ويقول: " اقطع رأسي، من فضلك، كي أذهب إلى السماء".
أما أنا فكلما تقدم بي العمر، ازددت تمرداً، إنني لا استسلم، بل أيد أ، أغزو العالم!

ونهض وتناول السانتوري من على الحائط، وقال:
- تعالى هنا قليلاً، يا إبليس، ماذا تصنع هناك على الحائط، دون أن تقول شيئاً؟ غنِ قليلاً!
لم أكن لأشبع من رؤية "زوربا"، بأي حذر وبأي حنان يخرج السانتوري، من اللفائف التي غلفه بها، كان يبدو عليه وكأنه يقشر تينة.

ووضع السانتوري على ركبتيه، وانحنى عليه، وداعب الأوتار على مهل، وكأنه يستشيره عن اللحن الذي سيغنيه، ويرجوه أن يستيقظ، ويأخذه باللطف كي يأتي ليصاحب روحه المعذبة، المتعبة من العزلة، وبدأ أغنية لكنها لم تخرج، فتركها، وبدأ أخرى، وصرت الأوتار وكأنها مريضة، كأنها لا تريد، واستند "زوربا" إلى الحائط، وجفف العرق الذي أخذ فجأة يرشح من جبينه، وتمتم وهو ينظر إلى السانتوري:
- إنه لا يريد.... لا يريد.

ولفه من جديد بحذر، وكأنه وحش مفترس يخشى أن يعضه، ونهض ببطء وعلقه على الحائط، وتمتم مرة أخرى:
- إنه لا يريد .... يجب أن لا نغضبه.

وعاد إلى الجلوس على الأرض، وطمر بعض ثمار الكستناء في الجمر، وملأ كؤوس الخمر، وشرب ، وشرب، و قشّر ثمرة كستناء وقدمها لي، وسألني:
- أتفهم شيئاً أيها الرئيس؟ أنا لا أفهم.
لكل الأشياء روحها، الخشب، والأحجار، والخمر الذي نشربه، والأرض التي نسير عليها..... كل شيء، أيها الرئيس، ورفع كأسه:
- في صحتك!
وأفرغه وملأه من جديد، وتمتم:
- يا للحياة من عاهرة، العاهرة! إنها أيضاً مثل الأم "بوبولينا".
وأخذت أضحك.

- أقول لك صه، أيها الرئيس، لا تهزل، إن الحياة مثل الأم "بوبولينا" إنها عجوز، أليس كذلك؟ ومع ذلك ففيها ما يثير، إنها تعرف حيلاً تُفقدك الرشد، وعندما تغلق عينيك، تتصور أنك بين يدي فتاة في العشرين، إنها في العشرين، أقسم لك، يا صديقي، عندما تكون مستعداً، وقد أطفأت النور.

" قد تقول لي إنها نصف ميتة، إنها عاشت حياة صاخبة، إنها تعهرت مع قباطنة وبحارة، وجنود، وفلاحين، وبائعين جوالين، وكهنة، وصيادين، ودرك، ومعلمي مدرسة، ووعاظ، وقضاة صلح، ثم ماذا بعد؟ ماذا يعني هذا؟ إنها تنسى بسرعة، النذلة، إنها لا تتذكر أياً من عشاقها، إنها تعود لتصبح دوماً، إني لا أمزح، حمامة بريئة، إوزة بيضاء، يمامة صغيرة، وهي تحمر، تستطيع أن تصدقني، تحمر وترتجف وكأنها المرة الأولى، إن المرأة لسر، أيها الرئيس!
إنها تستطيع أن تسقط ألف مرة، لكنها تنهض ألف مرة من جديد عذراء، لكن، قد تسألني: لماذا؟
حسناً، لأنها لا تتذكر ".

FRIEND
13-10-2006, 06:10
الفصل السابع

لبثنا صامتين قرب الموقد، إلى ساعة متأخرة من الليل. و أحسست من جديد ببساطة و زهادة السعادة: كأس خمر، ثمرة كستناء، مدفأة حقيرة، هدير بحر. و لا شيء آخر. و كي يحس الانسان أن كل ذلك هو السعادة، يجب أن يكون له قلب بسيط و قنوع. و سألت:
- كم مرة تزوجت، يا زوربا؟
كنا نشوانين قليلاً، لا لكثرة ما شربن فحسب، بل أيضاً بسبب تلك السعادة الكبيرة التي لا يمكن التعبير عنها و التي كانت فينا. لم نكن إلا حشرتين صغيرتين فانيتين، متشبثتين بالقشرة الأرضية، و كنا نحس ذلك بعمق، كل حسب طريقته. و لقد وجدنا زاوية مناسبة، قرب البحر، و راء القصب، و الالواح، و آنية التنك الفارغة حيث نجلس شبه متعانقين، و أمامنا أشياء جميلة و طعام، و في داخلنا الهدوء و الحب و الطمأنينة.

لم يسمعني زوربا. من يدري في أية محيطات، لا يصلها صوتي، كانت روحه تطوف. و مددت يدي و لمسته بطرف إصابعي. و سألته ثانية:
- كم مرة تزوجت، يا زوربا؟
و انتفض. لقد سمع هذه المرة. و أجاب و هو يحرك يد الضخمة:
- أواه! مالذي ستبحث عنه الآن! بعد كل شيء أنني رجل. أنا أيضاً ارتكبت "الحماقة الكبيرة". هكذا ادعوا الزواج. ليسامحني كل الناس المتزوجين. لقد ارتكبت إذن "الحماقة الكبيرة" و تزوجت.
حسناً، كم مرة؟
و حكّ زوربا عنقه بعصبية. و فكر لحظة. و أخيراً قال:
- كم مرة؟ صدقاً، مرة واحدة، مرة واحدة لا أكثر. و بصدق قليل، مرتين. بلا صدق، ألفاً، ألفين، ثلاثة آلاف مرة. كيف تريد أن أقوم بالحساب؟
- حدثني قليلاً ، يا زوربا! غداً الأحد، و سوف نحلق، و نرتدي ثياباً جميلة، و نذهب عن الأم بوبولينا. ليس لدينا ما نفعله، إذن نستطيع أن نسهر هذا المساء. حدثني!
- أحدثك عن ماذا؟ ليست هذه أشياء تُحكى، أيها الرئيس! إن الاتحادات الشرعية ، ليس لها طعم، إنها طعام بدون بهار. عمّ أحدثك؟ عن إنه ليست هناك أية لذة في التقبيل عندما يكون القديسون محدّقين بك من خلال ايقوناتهم، مانحين لك البركة. إننا، في قريتنا، نقول: " ليس للحم طعم إلا إذا كان مسورقاً ". أما امرأتك عن حق، فهي ليست لحماً مسروقاً. و الاتحادات غير الشريفة، كيف تريدني الآن أن أتذكرها؟ هل تمسك الديكة دفاتر حسابات؟ أتتصور ذلك! و مع ذلك، عندما كنتُ شاباً ، كنت معتاداً على أخذ خصلة شعر من كل امرأة تنام معي. إذن فقد كنت أحمل دوماً مقصاً. حتّى عندما أذهب إلى الكنيسة ، يكون المقص في جبيي! إننا رجال، لا ندري مطلقاً ماذا يمكن أن يحدث ، أليس صحيحاً؟
" إذن ، فقد كنتُ أجمع خصل شعر: كان عندي منها خصل سوداء، و شقراء، و كستنائية، بل و أحياناً تشوبها شعرات بيض. و لكثرة ما جمعت حشوت بها وسادة. ثم، بعد قليل من الزمن، قرفت منها، فقد أخذت بالانتان، فاحرقتها ".
و أخذ زوربا يضحك، قال:
- ذاك كان دفتر حساباتي، ايها الرئيس. و لقد احرقته. لقد سئمت منه. لقد اعتقدت أنه لن يكون عندي الكثير من ذلك، ثم تبينت أن الأمر لن ينتهي، فرميت عند ذاك بالمقص.
- و الاتحادات نصف الشريفة، يا زوربا؟
فأجاب هازئاً:
- ايه! هذه الأخيرة لا ينقصها السحر. آه! ياللنساء السلافيات! و يا للحرية! لا يسألنك ابداً: " أين ذهبت؟ لمَ تأخرت؟ أين نمت؟ ". إنهن لا يسألنك شيئاً، و لا تسألهن شيئاً. الحرية، و اية حرية!و مدّ يده ، و تناول كأساً، و أفرغه، و قشرّ ثمرة كستناء. و كان يمضغ و يتكلم في آن واحد.
- كانت هناك واحدة تدعى "سوفنكا". و الأخرى "نوسا". و لقد تعرفت على سوفنكا فس قرية كبيرة قرب نوفوروسيك. كان ذلك في الشتاء، و السماء تثلج، و ذهبت أنا لأفتش عن عمل في منجم، و بينما كنت ماراً بتلك القرية، توقفت. كان يوم السوق. و من جميع قرى الجوار نزل الرجال و النساء للشراء و للبيع. مجاعة مخيفة، و برد قارس، و الناس يبيعون كل ما لديهم، حتى ايقوناتهم، ليشتروا خبزاً.
" كنتُ إذن أتجول في القرية، عندما رأيت فلاحة شابة تقفز من عربة صغيرة، فتاة مرحة طولها متران و عيناها زرقاوان كالبحر، و لها ردف... كالفرس!... و وقفت مذهولاً و قلت لنفسي: " أي يا زوربا المسكين، لقد ضعت!".
" و رحت أتتبعها، و أنظر إليها... من المستحيل أن اشبع! كان لابد لكَ أن ترى ردفيها اللذين يهتزان كأجراس الفصح. و قلت في نفسي: " لماذا تذهب لشراء المناجم، أيها الشيخ المسكين؟ إنك تتنكب الدرب المستقيم، أيها المتقلب الرأي! تلك هي المنجم الحقيقي: ألق بنفسك فيه و شق انفاقك!".
" و توقفت الفتاة، ساومت، و ابتعات كمية من الخشب -ياللذراعين، يا إلهي!- و القتها في العربة. و اشترت قليلاً من الخبز و خمس أو ست سمكات مدخنة. و سألت: " كم أصبح الحساب؟ - كذا... ". و فكت قرط أذنها الذهبي لتدفع. لما كانت لا تملك مالاً، فستدفع قرطيها، و حليها، و صابونها المعطر، و زجاجة الخزامى.. لو دفعت كل ذلك، لضاع العالم! تماماً كما لو أنك تنزع عن طاووس ريشه. ألك قلب لتنزع ريش طاووس؟ أبداً! لا، لا، مادام زوربا حياً، فلن يحدث ذلك. هكذا قلت في نفسي، و فتحت كيس نقودي و دفعت. كان ذلك عندما أصبحت الروبلات مزقاً من الورق. بمئة درهم، كنت تشتري بغلاً، و بعشرة دراهم، امرأة.
" دفعت إذن. و حدجتني الفتاة بطرف عينها. و تناولت يدي لتقبلها. لكنني سحبتها. ماذا، هل تظنني شيخاً؟ و أخذت تصرخ: " سبا سيبا! سبا سيبا!" و هذا يعني " شكراً! شكراً!". و بقفزة واحدة أصبحت في عربتها و تناولت العنان، و رفعت السوط. و قلت في نفسي: " زوربا، أيها الهرم، احذر إنها ستهرب تحت نظرك". و بقفزة واحدة، كنت في العربة إلى جانبها. و لم تقل شيئاً. بل لم تلتفت لتنظر إليّ. و ضربت الحصان بالسوط، و انطلقنا.

" و في الطريق، فهمت انني أريدها زوجة. و تمتمت كيفما اتفق بثلاث كلمات روسية، و لكن بخصوص هذه القضايا، ليس ثمة داع للتكلم كثيراً. و تحدثنا بالأعين، بالأيدي، بالركب. و باختصار وصلنا إلى القرية و وقفنا أمام عربة. و نزلنا. و بضربة من كتفها فتحت الفتاة الباب و دخلنا. و انزلنا الخشب إلأى الباحة، و أخذنا السمك و الخبز ودخلنا إلى الغرفة. و كانت فيها عجوز ضئيلة جالسة قرب المدفأة المطفأة، ترجف. كانت متلحفة بأكياس، و خرق، و جلد خراف، لكنها كانت ترجف. كان الطقس بارداً جداً، حتى أن أطافرك تكاد تقع، يا إلهي! و انحنبيت و وضعت قبضة كبيرة من الأغصان في المدفأة و اشعلت النار. و نظرت إلى العجوز الضئيلة مبتسمة. لقد قالت ابنتها لها شيئاً، لكنني لم أفهم. لقد اشعلت النار، و تدفأت العجوز ، فعادت إليها الحياة قليلاً.

" و أثناء ذلك، وضعت الفتاة أدوات المائدة. و جاءت بقليل من افودكا. و شربناه. و اشعلت السماور، و صنعت شاياً، و اكلنا، و قدمنا للعجوز حصتها. بعد ذلك ، أعدّت السرير بسرعة، و وضعت أغطية نظيفة، و أشعلت القنديل أمام أيقونة العذراء القديسة و رسمت إشارة الصليب ثلاث مرات. ثم نادتني باشارة، و ركعنا أمام العجوز و قبلنا يدها. و وضعت يديها البارزتي العظام فوق رأسينا و هم تتمتم بكلام ما. لقد منحتنا، على الأرجح بركتها، و هتفت: " سبا سيبا! سبا سيبا!". و بقفزة واحدة ، كنت في الفراش مع الصبية ".

و صمت زوربا، و رفع رأسه و نظر بعيداً نحو البحر، ثم قال بعد قليل:
- كانت تدعى سوفنكا...
و عاد إلى الصمتمن جديد. فسألته و قد فقدت الصبر:
- ثم ماذا؟ ثم ماذا؟
- ليس هناك "ثم!". كم أنت معتاد على "ثم" و على "لماذا" أيها الرئيس! إن هذه الأشياء لا يجوز الحديث عنها. إن المرأة لنبع بارد: تنحني فوقها، و ترى وجهها، و تشرب، و تشرب، و تطقطق عظامك. ثم، يأتي غيرك و قد عضّه الظمأ هو أيضاً، فينحني ، و يرى وجهها و يشرب. ثم شخص ثالث أيضاً... إن المرأة لنبع ، أؤكد لك ذلك.
- و بعد ذلك، أذهبت؟
- ماذا تريد أن أفعل؟ أقول لك. و أنا عابر السبيل، فعدت إلى الطريق من جديد. لبثت ثلاثة شهور معها. لكن في نهاية الشهر الثالث تذكرت أنني كنت ذاهباً للبحث عن منجم. فقلت لها ذات صباح: " سوفنكا، عندي عمل ، يجب أن أذهب". فقالت سوفنكا: "حسناً، اذهب. سأنتظرك شهراً، و إذا لم تعد بعد شهر، سأصبح حرة. و أنت أيضاً. بنعمة الله!".
و ذهبت.
- و عدت بعد شهر؟..
فهتف زوربا:
- لكنك أحمق، أيها الرئيس ، مع احترامي لك! كيف أعود؟ إنهن لا يتركنك هادئاً، العاهرات! بعد عشرة أيام في "كوبان" التقيت بنوسا.
- حدثني! حدثني!
- مرة أخرى، أيها الرئيس. يجب ألا نخلط بينهم ، المسكينات! بصحة سوفنكا!
و جرع خمره دفعة واحدة. ثم قال بعد أن أسند ظهره إلى الحائط:
- حسناً، سأقص عليك قصة نوسا أيضاً. إن راسي مليء، هذا المساء ، بروسيا. هات! سنفرغ ما لدينا!
و مسح شاربه و حرّك الجمر.
- تلك الأخيرة التقيت بها إذن ، كما قلت لك، في قرية من قرى "كوبان". كان ذلك في الصيف. جبال من البطيخ الأحمر و الأصفر، فانحنيت و تناولت واحدة، و لم يقل لي أحد شيئاً. و قطعتها إلى قسمين و رحت أنهشها. " كل شيء هناك، كثير، غزير في روسيا، أيها الرئيس: اختر و خذ! ليس فقط البطيخ الأحمر و الأصفر، لكن السمك و الزبدة و النساء أيضاً. ليس كهنا، في اليونان، حيث لا تكاد تأخذ لأحدهم قشرة بطيخ حقيرة حتى يجرك أمام المحاكم، و ما إن تلمس امرأة حتى يخرج أخوها سكينة ليفرم لحمك كما تفرم النقانق. أفٍ! اشحاء، بخلاء.. اذهبوا لتشنقوا! يا عصابة القذرين! اذهبوا إلى روسيا قليلاً لتروا كيف يكون السادة العظام!

FRIEND
13-10-2006, 06:11
" كنتُ ماراً إذن بكوبان، و رأيت امرأة في بستان. و اعجبتني. يجب أن تعلم، أيها الرئيس، إن السلافية ليست كهاته اليونانيات النحيفات الطماعات اللواتي يبعنك الحب بالنقطة و يفعلن كل شيء ليدفعن لك أقل مما يجب ، و يغبطنك حقك. أما السلافية، أيها الرئيس، فتعطيك أكثر مما تستحق. في النوم، و الحب، و الأكل، هي قريبة جداً من الأرض و البهائم: إنها تمنح ، تمنح كثيراً، إنها ليست كتلك اليونانيات اللواتي يساومنك طويلاً!

و سألتها: "ماذا تُدعين؟". لقد تعلمت شيئاً من الروسية مع النساء، كما ترى. "نوسا. و أنت؟ - ألكسيس. إنك تعجبينني جداً، يا نوسا. و نظرت إلي بانتباه كما ينظر الانسان إلى حصان يريد أن يبتاعه. و قالت لي: "أنت أيضاً لا يبدو عليك أنك مسكين. لك اسنان متينة، و شاربان كبيران، و ظهر عريض، و ذراعان قويتان. انك تعجبني". و لم نتحدث أكثر من ذلك، أذ لم يكن ثمة داع لذلك. و في لحظة اتفقنا. كان علي أن أذهب في المساء إلى بيتها بثياب الأحد. و سألتني نوسا: "إليدك فروة؟ - نعم، لكن في مثل هذا الحر....
- لا يهم. جئ بها. ستظهر بمظهر الغني".
" عند المساء إذن ارتديت ثيابي كأنني عريس جديد، و أخذت الفروة على ذراعي، و حملت أيضاً عصاة لها قبضة من الفضة كانت لدي، و انطلقت. كان بيتها عبارة عن منزل قروي كبير، فيه باحات، و ابقار و معاصر، و نيران مشتعلة في الباحة، و مراجل فوق النار. و سألت: " مالذي يغلي هنا؟ - عصير بطيخ الأحمر - و هنا؟ عصير البطيخ الأصفير". و قلت في نفسي: "يالهذه البلاد، أتسمع هذا! عصير البطيخ الأحمر و الأصفر، إنها الأرض الموعودة! في صحتك، زوربا، لقد وقعت كجرذ على قطعة جبن".

" و صعدت الدرج، و كان ضخماً من الخشب الذي يصر. و في أعلاه، كان يقف والدا نوسا. كانا يرتديان نوعاً من القماش الأخضر و حزاماً أحمر مزركشاً، و قبعات ضخمة. و فتحا ذراعيهما، و اقبلك من هنا، و اقبلك من هناك، لقد امتلأت باللعاب. كانا يتحدثان بسرعة كبيرة، و لم افهم جيداً، لكن من تعبير وجهيهما ادركت انهما لا يريدان بي شراً.

" و دخلت إلى القاعة، فماذا رأيت؟ موائد مصفوفة، ممتلئة و كأنها مراكب شراعية. كل الناس كانوا واقفين: الاقارب، نساء و رجالا، و في المقدمة نوسا، متزينة، مرتيدة أجمل ثيابها و صدرها مشرع في الهواء كأنه جؤجؤ السفينة. و الجمال و الشباب يطفحان منها. و كانت تعقد رأسها بمنديل أحمر ، و قد طرزت فوق قلبها صورة منجل و مطرقة. و قلت في نفسي: "قل إذن، يا زوربا، أيها المحظوظ، ألك أنت كل هذا اللحم؟ أهذا هو الجسد الذي ستحتضنه هذا المساء بين ذراعيك؟

" و رمى الجميع بأنفسهم على الطعام، النساء و الرجال، و اكلنا كالخنازير، و شربنا كبالوعة. و سألت والد نوسا الذي كان جالساً قربي و يكاد ينفجر من كثرة ما أكل. "أين الكاهن الذي سيباركنا؟" فأجابني و اللعاب يتطاير من فمه: "ليس هناك كاهن. ليس هناك كاهن. الدين أفيون الشعوب".

" و على أثر ذلك، نهض نافخاً صدره، و فك حزامه الأحمر، و رفع ذراعه ليصمت الحاضرون. كان يمسك بكأسه، المليئة حتى تكاد تطفح و يحدق في عيني. ثم بدأ يتكلم، و يتكلم، و القى خطابا، و أي خطاب! أما ما كان يقوله؟ الله وحده يعرف ذلك! و تعبت من كثرة الوقوف، ثم أن السكر قد بدأ يدير رأسي قليلاً. و جلست، و لصقت ركبتي بركبة نوسا التي كانت جالسة إلى يميني.

" و ما كان العجوز لينتهي من الكلام، و أخذ عرقه يسيل. آنذاك القوا بأنفسهم عليه و شدوه بين أذرعهم كي يسكتوه. و اشارنت إلي نوسا: " هيا. تكلم، أنت أيضاً!
" فنهضت بدوري و ألقيت خطاباً، بلغة نصفها روسية و نصفها يونانية. أما ماقلته؟ لتنصب مشنقتي إذا منت أعرف. إنني أذكر فقط أنني في النهاية انطلقت في الأغاني الكليفتية و بدأت دون وعي انهق:
صعد كليفتون إلى الجبل
ليسرقوا احصنة!
لكن لم يكن هناك خيل.
إنها نوسا التي خطفوها.
" و كما ترى، أيها الرئيس، فقد حورت قليلاً من أجل المناسبة. "
و انطلقوا ، انطلقوا...
( هيا ، يا أمي، لقد انطلقوا!)
آه! يا نوسا،
آه! يا نوسا،
آي!
" و بينما كنتُ أصرخ "آي" القيت بنفسي على نوسا و قبلتها.
" كان ذلك ما يجب! فاسرع بعض الشبان الأشداء من ذوي اللحي الحمراء. و كأنني اعطيت الاشارة التي ينتظرونها، و كأنهم لم يكونوا ينتظرون غير ذلك، و اطفؤوا الأنوار.
" و راحت النسوة الخبيثات يصرخن، مدعيات الخوف، ثم رحن يطلقن، في الظلام صرخات صغيرة. و كان ذلك يبعث على الدغدغة و المرح.
أما ما جرى، أيها الرئيس، فالله وحده يعرفه. لكنني أعتقد أنه لا يعرفه، و إلا أرسل الصاعقة لتشوينا. و تدحرج الرجال و النساء على الأرض، الحابل بالنابل. و رحت أبحث عن نوسا، لكن عبثاً! و وجدت أخرى و قمت بالعمل معها.
" عند الفجر، نهضت لأذهب مع امرأتي. كان الجو لا يزال معتماً و لم أكن أرى جيداً. و أمسكت بقدم، و سحبتها لكنها لم تكن قدم نوسا. و أمسكت قدماً أخرى: نفس الشيء! و أمسكت ثالثة، و رابعة، و في النهاية، بعد أن سعيت ككلب، وجدت قدم نوسا، و سحبتها، و خلّصتها من بين اثنين أو ثلاثة أبالسة كانوا يسحقونها، المسكينة، و ايقظتها، قائلاً لها: نوسا هيا بنا من هنا!". فأجابتني: "لا تنس فروتك! هيا!".
و مضينا".
فسألت من جديد، بعد أن رأيت زوربا قد صمت:
- ثم ماذا؟
فقال زوربا بعصبية:
- ها أنت تعود من جديد إلى " ثم ماذا؟". و تنهد:
- عشت ستة أشهر معها. منذ ذلك اليوم، أؤكد لك، لم أعد أخشى شيئاً لا شيء مطلقاً، أقول لك! لا شيء سوى أمر واحد: هو أن يمحو الشيطان أو الله من ذاكرتي هذه الأشهر الستة. أتفهم؟
و أغلق زوربا عينيه. كان يبدو شديد الانفقعال. انها المرة الأولى التي أراه فيها تتملكه بمثل هذه القوة ذكرى بعيدة. و سألأته بعد عدة لحظات:
- لقد أحببها إذا كثيراً، نوسا تلك؟
و فتح زوربا عينيه، و قال:
-أنت شاب، أيها الرئيس، أنت شاب، لا تستطيع أن تفهم. عندما يشيب شعرك أنت أيضاً ، سنعود للديث عن تلك القصة الخالدة.
- أية قصة خالدة؟
- المرأة، بحق الشيطان! كم مرة يجب أن أكرر لك ذلك؟ المرأة قصة خالدة. أما الآن، فأنت كالديكة الشابة التي تطبق على الدجاجات ثلاث مرات على دفعتين ثم تنفخ حوصلاتها، و تصعد على المزبلة و تأخذ بالصياح و الخيلاء. إنها لا تنظر إلى الدجاجات، بل إلى عرفها. إذن، فمالذي يمكنها أن تفهمه من الحب؟ لا شيء مطلقاً.
و بصق على الأرض باحتقار. ثم أدار رأسه. إذ هو لا يريد أن ينظر إليّ.
فسألته مرة أخرى:
- ثم ماذا، يا زوربا؟ و نوسا؟
فأجاب زوربا و نظرته ضائعة بعيداً نحو البحر:
- ذات مساء ، و أنا عائد إلى المنزل ، لم أجدها. لقد هربت مع عسكري جميل كان قد وصل إلى القرية منذ بضعة أيام. لقد انتهى الأمر! و انفطر قلبي و انشطر شطرين. لكنه سرعان ما التصق من جديد، الشرير. لقد رأيت و لابد، تلك الأشرعة المرقعة بالقطع الحمراء، و الصفراء، و السوداء، و المخيطة بخيط ثخين، و التي لا تتمزق أبدأ، حتى في أسوء العواصف؟ إن قلبي مثلها. فيه ستة و ثلاثون ألف ثقب، و ست و ثلاثون ألف رقصة: إنه لا يخشى أبداً!
- و لم تحق على نوسا، زوربا؟
- لماذا أحقد عليها؟ تستطيع أن تقول ما تشاء، لكن المرأة شيء آخر. إنها ليست بشراً! لماذا أحقد عليها؟ إن المرأة شيء لا يُفهم و كل قوانين الدولة و الدين لا تعير هذا انتباهاً. إن على هذه القوانين أن لا تعامل المرأة هكذا، كلا! إنها قاسية جداً، أيها الرئيس؟ ظالمة جداً! لو كنت أنا الذي يسن القوانين ، فانني لن اسنها واحدة للرجال و النساء. عشر، مئة، ألف وصية للرجل. الرجل رجل، و يستطيع أن يتحمل هذا. لكن ثمة توصية للمرأة، لأن المرأة، كم مرة يجب أن أقول لك ذلك، أيها الرئيس؟ لأن المرأة مخلوق ضعيف. في صحة نوسا. أيها الرئيس! و ليضع الله لنا رصاصاً في مخنا، نحن الرجال!
و شرب، و رفع ذراعه ثم جعلها تسقط فجأة و كنه يمسك فأساً، و عاد يقول:
- ليضع لنا رصاصاً في مخنا، أو ليجر لنا عملية. و إلا يمكنك أن تصدقني، فاننا هالكون!.

FRIEND
14-10-2006, 20:15
http://www.easypics.us/pics/part6_zorba.jpg

الفصل الثامن

وأمطرت السماء مرة أخرى في اليوم التالي.
وكنت جالسا بباب الكوخ، أرى السماء تظلم، والبحر يتألق بلون فسفوري أخضر، وكان الشاطئ مقفرا تماما، ولا أثر لشراع أو لطيرن فنهضت واقفا، ومددت يدي إلى المطر، كما يمد السائل يده مستجديا، وشعرت فجأة برغبة في البكاء..
كان ينبعث من الأرض الرطبة نوع من الحزن، أشد عمقا وغموضا من أحزان نفسي، وأردت أن أصرخ، فقد أحسست بأن ذلك سيرفه عني، ولكني خجلت..
وكانت السحب تتكاثف وتدنو من الأرض، فنظرت من النافذة، وشعرت بقلبي ينبض في رفق.
ما أمتع الحزن الذي يملأ النفس من مرأى المطر الهادئ المتصل! ان جميع الذكريات المريرة الراسبة في أعماق النفس تطفو حينئذ فوق السطح، ذكرى الأصدقاء الذين هبوا، والابتسامات الحلوة التي ذبلت، والآمال العزيزة التي فقدت أجنحتها.
وتراءت لي وسط خيوط المطر، صورة صديقي الذي رحل إلى القوقاز، فتناولت قلما وورقة وشرعت أتحدث إلى صديقي لكي أفرق ستار المطر وأتمكن من التنفس:
- صديقي العزيز..
- انني أكتب إليك من شاطئ مقفر في كريت، حيث اتفقت مع القدر على قضاء بضعة شهور ألعب خلالها دور الرأسمالي، فاذا نجحت لعبتي قلت انها لم تكن لعبة، وانما هي قرار خطير غير مجرى حياتي.
ولا شك انك تذكر كيف وصفتني يوم رحلت بأنني (عث كتب)، لقد بلغ من شيقي بهذا الوصف انني قررت تحطيم قلمي وهجر الكتابة بعض الوقت – وربما إلى الأبد – لأمارس حياة أكثر واستخدمت بعض العمال، واعددت الفئوس والمعاول والمصابيح والسلال وعربات النقل، وحفرت السراديب وسرت فيها ، كل ذلك لكي أضايقك وأغيظك.
ان سعادتي هنا لا حد لها، لأنها تنبع من العناصر الخالدة، الهواء النقي والشمس والبحر ورغيف الخبز، وفي المساء ، يجلس القرفصاء أمامي سندباد عجيب غريب الأطوار ويتحدث إلي، فأشعر كأن الدنيا تزداد اتساعا. وفي بعض الأحيان عندما لا تسعفه الألفاظ، يثب من مكانه ويرقص، وحين تعجز رقصاته عن التعبير، يضع السانتوري على ركبتيه ويعزف، وكثيرا ما يعزف مقطوعات همجية تحس حين تسمعها بانك تختنق، لأنها تشعرك بأنك تعيش حياة لا لون لها ولا طعم ، حياة بائسة لا تخلق بانسان.. واذا عزف مقطوعة حزينة، أحسست بأن حياتك تمضي وتنساب كما تنساب الرمل بين اصابعك..
ان قلبي يتحرك بين ضلوعي جيئة وذهابا كالمنسج، انه ينسج هذه الشهور التي أقضيها في كريت، وأعتقد غفر الله لي – انني سعيد..
هل تذكر يوم عبرنا ايطاليا في طريقنا إلى اليونان للدفاع عن اقليم (بونتاس) الذي كان وقتئذ معرضا لخطر الغزو؟ لقد غادرنا القطار لقضاء بعض الوقت في المدينة حتى يحين موعد سفرنا بالقطار التالي.. وسرنا في حديقة واسعة على مقربة من المحطة.. وكانت أحواض الزهور حولنا من الجمال وحسن التنسيق بحيث خيل الينا أننا في حلم.. وما كدنا ننحرف في واحد مسالك الحديقة حتى وجدنا أنفسنا أمام فتاتين تسيران جنبا إلى جنب وتقرآن كتابا واحدا..
انني لا أذكر الآن مبلغ حظهما من الجمال ولكني أذكر أن احداهما كانت شقراء والأخرى سمراء، وانهما كانتا ترتديان ثياب الربيع.
وبمثل الجرأة التي نترف بها في الأحلام، اقتربنا منهما، وقلت انت تحدثهما: مهما يكن موضوع الكتاب الذي تقرآنه، فاننا على استعداد لمناقشته معكما.
وكان الكتاب من تأليف (جوركي) ولم يكن لدينا متسع من الوقت، فدار الحديث بيننا بسرعة عن الحياة والفقر، وثورة العقل والحب..
ولن أنسى ما احسسنا به وقتئذ من سرور وأسى.. فقد خيل إلينا والفتاتين المجهولتين أصدقاء قدامى، بل وعشاق قدامى..
وأقبل القطار، فأخرجنا من حلمنا الممتع وشددنا على ايدي الفتاتين، فامتقع وجه احداهما، بينما راحت الاخرى تضحك وترتجف.
واذكر انني قلت لك في تلك اللحظة، ما معنى اليونان؟.. وما معنى الوطن؟؟ وما معنى الواجب ؟ ان الحقيقة هنا..
فكان جوابك : ان اليونان والوطن والواجب لا تعني شيئا..
... انها لا شيء... ولكن هذا اللاشيء اذا دعانا، لبينا دعوته بلا تردد، وبذلنا حياتنا في سبيله عن طيب خاطر.
وعلك تسأل: لماذا اكتب اليك كل هذا؟
انني أريدك أن تعلم انني لم أنسى لحظة واحدة من اللحظات التي عشناها معا.
وما ان فرغت من الرسالة التي تحدثت فيها إلى صديقي حتى سرى عني وشعرت بالارتياح..
ودعوت زوربا.
كان قابعا تحت احدى الصخور حتى لا يبتل بماء المطر، وبين يديه انموذج صغير للسلك الهوائي يقوم باختباره.
قلت له: هلم بنا نذهب إلى القرية.
- ان المطر ينهمر.. الا تستطيع الذهاب وحدك؟
- لا أريد أن أشعر بالملل، هلم بنا فضحك وقال:
- يسرني ان تكون بحاجة إلي.
وارتدى معطفا من الصوف كنت قد أعطيته له. وخرجنا إلى الطريق.
وكان الهواء ساكنا، والضباب يحجب الجبل.
وانحنى زوربا والتقط زهرة نرجس، ونظر إليها طويلا، وكأنه يرى النرجس للمرة الأولى في حياته.
وقال وهو يتأملها بعد أن شمها:
- ليتنا نعلم ماذا تقول الصخور والامطار والزهور؟! لعلها تدعونا ونحن لا نسمعها..
ترى متى يفتح الناس عيونهم وآذانهم ليروا ويسمعوا؟ ومتى نفتح سواعدنا لنحتضن كل شيء: الصخور والامطار والزهور والناس؟ ما قولك في ذلك يا استاذ؟ وماذا تقول كتبك في هذا الموضوع؟
- لتذهب الصخور والامطار والزهور إلى الشيطان.. هذا ما تقوله الكتب..
فأمسك بساعدي وقال:
- خطرت لي فكرة أرجو ألا تغضبك.. ضع كل كتبك في كومة واحدة وأشعل النار فيها، فلعلنا نستطيع أن نصنع منك شيئا بعد ذلك.
وقلت لنفسي: انه على حق، ولكني لا أستطيع أن أفعل ذلك..
ووصلنا إلى القرية.
ورأينا الفتيات يعدن بالخراف من المراعي، والرجال يطلقون الثيران من نير المحاريث ويتركون الحقول بغير حرث.. والنساء يعدون وراء أطفالهن في الشوارع الضيقة.
كان يسود القرية منذ بدأت الامطار نوع من الذعر المرح، فالنساء يصرخن وعيونهن تضحك، والرجال يصطنعون الجد والرزانة، وقطرات المطر تتساقط من لحاهم وشواربهم، ورائحة البلل تفوح من الارض والحجارة والعشب.
ودخلنا مقهى (التواضع) والماء يقطر من ثيابنا، وكان المقهى مزدحما بالرجال، وبعضهم يلعبون الورق وبعضهم يتحدثون بأعلى اصواتهم كما لو كانوا يتصايحون عبر الجبال، بينما دار شيوخ القرية حول مائدة في ركن قصي من أركان المقهى وراحوا يتداولون: العم اناجنوستي بقميصه الأبيض ذي الاكمام الفضفاضة، ومفراندوني وهو يدخن غليونه الطويل وعيناه تنظران إلى موقع قدميه، وناظر المدرسة وقد استند إلى عصاه وأخذ ينصت إلى شاب ضخم الجسم عاد لتوه من (كانديا) وراح يصف عجائب هذه المدينة الكبيرة. وصاحب المقهى وهو يصغي من مكانه ويضحك ويرقب اواني القهوة المرصوصة أمامه.
وما أن رآنا العم اناجنوستي حتى نهض واقفا ودعانا للجلوس إلى مائدته وقال وهو يشير إلى الشباب:
- ان سكافيانو نيكولي يحدثنا عن مشاهداته في (كانديا).. وحديثه لا يخلو من الطرافة.
ثم التفت إلى صاحب المقهى وقال:
- قدحان من العرق يا مانولاكي.
وجلسنا، وما ان وجد الشاب نفسه في حضرة أجنبيين حتى انطوى على نفسه ولزم الصمت. فقال له ناظر المدرسة ليحثه على الكلام:
- وهل ذهبت إلى المسرح كذلك يا نيكولي؟
فمد الشاب يده الغليظة وتناول قدحه، واحتسى النبيذ وجمع أطراف شجاعته وقال:
- نعم، لقد ذهبت إلى المسرح.. كانوا يتكلمون في كل مكان عن ممثلة معروفة.. وفي احدى الامسيات ، رسمت علامة الصليب على صدري وقلت لنفسي، حسنا، لماذا لا أرى بنفسي تلك التي تثير كل هذه الضجة.
فقال العم اناجنوستي:
- وماذا رأيت يا فتى!! حدثنا بحق السماء.
- الحق انني لم أر شيئا يستحق الذكر، انك تسمعهم يتحدثون عن المسرح فتظن انك ستشهد شيا.. ثم تدرك بعد قليل انك أضعت نقودك سدى.. فالمكان عبارة عن حانة كبيرة مستديرة كالجرن، مليئة بالمقاعد والانوار والناس.. ولم أدر في الواقع أين انا، وبهرتني الأضواء فلم أتبين شيئا، وخشيت أن يسحروني فهممت بالخروج فامسكت بيدي فهتفت بها:
- إلى أين تذهبين بي؟؟
ولكنها جذبتني خلفها، ومرت بي بين الصفوف واجلستني في أحد المقاعد..
ولم أر الا أناسا حولي وأمامي وخلفي وفي كل مكان حتى السقف. وشعرت بالاختناق، اذ لم يكن هناك هوا على الاطلاق.. وأخيرا التفت إلى جاري وسألته:
- هل لك أن تدلني ايها الصديق من أين تخرج الممثلات؟
فأجابني:
- انهن يخرجن من هناك.
وأشار إلى الستار.
وكان على حق، اذ لم تمض لحظة حتى دق جرس، وتحركت الستار، وظهرت الممثلة التي عنها يتحدثون.. ظهرت أمامنا على المسرح بدمها ولحمها.. وأخذت تروح وتغدو وتحرك ذيلها، وتدور حول نفسها، حتى صفق الناس فتوارت عن الأبصار..
وهنا أغرق القرويون في الضحك، فبدا الخجل على وجه نيكولي ونظر إلى الباب وقال ليغير مجرى الحديث:
- لا تزال الامطار تهطل..
فاتجهت الابصار إلى حيث كان ينظر.
وفي هذه اللحظة مرت بالمقهى امرأة تعدو.. وقد رفعت ذيل ثوبها الاسود إلى ما فوق ركبتها.. وانسدل شعرها على كتفيها.
كانت رشيقة القوام، وقد التصق ثوبها بجسدها.. فأبرز مفاتنه وأهلني جمال تكوينها.. وقلت لنفسي: يا لها من وحش مفترس!! وخيل إلي أنها امرأة خطرة.. من الطراز الذي يلتهم الرجال.
وحولت المرأة رأسها بفترة يسيرة.. وألقت على داخل المقهى نظرة ساحرة خاطفة..
وهتف شاب كان يجلس بجوار النافذة قائلا:
يا اله السموات.
وصاح مانولاكاس ، شرطي القرية:
- قبحها الله من فاجرة تشعل النار في قلوب الرجال وتدعهم يحترقون.
وراح الشاب الجالس بجوار النافذة يترنم باحدى الاغنيات في تردد وبصوت خافت اولا، ثم أخذ صوته في الارتفاع:
"وسادة الأرملة لها رائحة السفرجل..
" أنا أيضا عرفت هذه الرائحة
"ومن وقتها لم يغمض لي جفن".
فصاح مافراندوني:
- صه.
فصمت الشاب على الفور.
وهمس أحد الشيوخ في أذن مانولاكاس قائلا:
- ان عمك حانق على الأرملة، واذا وقعت المسكينة بين يديه فسوف يمزقها اربا.
فقال مانولاكاس:
- وأنت أيها العجوز اندروليو، اعتقد أنك أيضا مفتون بها.. ألا تخجل من نفسك؟
- اصغ إلي.. لا تشك أنك لم تدقق النظر في أطفال القرية الذين ولدوا أخيرا، بارك الله في الأرملة.. في استطاعتك أن تقول انها عشيقة رجال القرية جميعا..
وبعد لحظة صمت، غمغم اندروليو العجوز قائلا:
- ما أسعد الرجل الذي يحتويها بين ساعديه!!! وليتني كنت في العشرين من عمري، مثل بافيل، ابن مافراندوني!!
فقال أحد الحاضرين ضاحكا:
- ستراها الان حين تعود إلى بيتها.
فتعلقت عيون الجميع بالباب. وكان المطر قد كف، وبدأ وميض البرق يشق صفحة السماء بين الفينة والفينة.. وتقطعت أنفاس زوربا وفقد سيطرته على نفسه منذ أبصر بالارملة. قال يحدثني:
- لقد كف المطر فهلم بنا.

FRIEND
14-10-2006, 20:18
وظهر بالباب صبي عاري القدمين اشعث الشعر زائغ البصر فصاح به البعض ضاحكين:
- اهذا أنت يا ميميكو؟
ان لكل قرية انسانها الابله، فاذا لم يوجد الابله خلقوه خلقا ليسخروا منه، وقد كان ميميكو ابله تلك القرية.
وقال ميميكو بصوت رقيق كأصوات النساء:
- أيها الاصدقاء، لقد فقدت الارملة سورمالينا نعجتها، وستعطي جالونا من النبيذ جائزة لمن يجدها.
فصاح مافراندوني في غضب:
- اخرج من هنا.. اخرج.
فذعر ميميكو وانكمش بجانب الباب. فقال له العم اناجنوستي مشفقا:
- اجلس يا ميميكو وتناول قدحا من العرق حتى لا تصاب بالبرد.. ماذا تصبح قرييتنا اذا لم يبق فيها مغفل؟
وأقبل على المقهى شاب لاهث الانفاس، تتساقط قطرات المطر من شعر رأسه فصاح به مانولاكاس:
- تعال يا بافلي واجلس معنا.
فنظر مافراندوني إلى ولده وقطب حاجبيه وتمتم قائلا:
اهذا ولدي! من أين هذه الخنوثة، بودي أن أمسك بخناقه واصفع به الأرض!
وكان زوربا يجلس متململا، فقد الهبت الارملة حواسه، وشق عليه البقاء بين الجدران الاربعة..
كان يهمس في أذني كل دقيقة:
- هلم بنا .. انني أختنق هنا.
ثم تحول إلى صاحب المقهى، وساله، متظاهرا بقلة الاكتراث:
- من تكون هذه الأرملة؟
فقال المدعو كوندومانوليو:
- انها فرس ولود.
ووضع اصبعه على شفتيه، ونظر إلى مافراندوني من ركن عينيه نظرة ذات معنى، واستطرد قائلا:
- نعم.. انها فرس ولود.. ولكن دعنا لا نتحدث عنها حتى لا تحل علينا اللعنة.
ونهض مافراندوني واقفا وقال:
- ومعذرة.. انني سأعود إلى بيتي.. اتبعني يا بافلي وخرج وتبعه ابنه، وما لبثا ان غابا عن الأبصار.
وانتقل اندومانوليو إلى مقعد مافراندوني وقال بصوت خافت لا يكاد يسمع:
- مسكين مافراندوني .. انه سيموت كمدا.. لقد نزلت باسرته كارثة كبرى، وأمس فقط، سمعت بافلي يقول لأبيه:
سأقتل نفسي اذا لم تقبلني زوجا لها..
بينما الفاجرة تسخر منه، ولا تريد ان تكون لها أية صلة.
وهمس زوربا وقد اثارته كل كلمة قيلت عن الارملة:
- دعنا نذهب.
فقلت وأنا أنهض واقفا:
- هلم بنا اذن.
وخرج ميميكو من الركن الذي توارى فيه، وسار في أعقابنا.
وبعد لحظة أحسست به يلمس كتفي وسمعته يقول:
- أعطني سيجارة أيها السيد.
فأعطيته سيجارة فاشعلها وراح يدخنها بلذة فسألته:
- إلى أين أنت ذاهب؟
- إلى حديقة الارملة.. لقد وعدتني بطعام اذا أنا أذعت الخبر عن نعجتها.
وأسرعنا الخطى، وبدت القرية نظيفة باسمة بعد أن غسلها المطر وتنهد زوربا وسأل الصبي:
- هل تحب الارملة؟
- ولماذا لا أحبها أيها الصديق؟ ألم أخرج من المجاري ككل انسان آخر..
فذهلت ، وسألته:
- من المجاري؟ ماذا تعني يا ميميكو؟
- ألم أخرج من احشاء أمي؟
ودهشت وفكرت.
ان شكسبير هو وحده الذي يستطيع في أفضل لحظاته الخلاقة أن يصف سر الولادة بمثل هذا التعبير الواقعي.
سألته:
كيف تقضي أيامك يا ميميكو؟
- كأي أمير من الأمراء، استيقظ صباحا وأكل كسرة من الخبز، وأؤدي جميع الأعمال التي يطلبها الناس مني، واجمع القمامة والروث، ثم اصطاد السمك.. انني أعيش مع عمتي، ندابة القرية.. وسوف تعرفها يوما ما.. الجميع يعرفونها.. وفي المساء أعود إلى البيت وأتناول بعض الحساء، وقطرة من النبيذ ان وجد، فاذا لم أجد شربت ماء حتى تمتلئ أمعائي..
- ألا تنوي الزواج يا ميميكو؟
- أنا؟ انني لست مجنونا لكي أبحث عن المتاعب.. المرأة تحتاج إلى أحذية.. فأين أجدها؟ انني أسير عاري القدمين كما ترى.
- أليس لديك حذاء؟
- من تظنني؟ عندي حذاء طبعا، فقد مات رجل في العام الماضي فنزعت عمتي حذاءه من قدميه.. ولكني لا أنتعلهما الا في عيد الفصح، او عندما أذهب إلى الكنيسة، ومتى غادرت الكنيسة خلعتهما، ووضعتهما على كتفي، وعدت بهما إلى البيت.
- وأي شيء تحبه أكثر من سواه يا ميميكو؟
- الخبز أولاً، وخاصة اذا كان ساخنا ومن القمح..
ثم النبيذ ثم النوم.
- والمساء؟
- لا يهمني غير الطعام والشراب والنوم.. أما ما عدا ذلك فمتاعب.
- والأرملة؟
- اذا أردت السلامة فابتعد عنها، وتنكب طريقها.
- قال ذلك ورسم علامة الصليب على صدره.
- هل تعرف القراءة؟
- انني لست غبيا إلى هذا الحد، عندما كنت صغيرا حملوني إلى المدرسة، ولكني كنت حسن الحظ، فأحسست بالتيفوس، وأصبحت أبلها.. وهكذا نجوت من المدرسة.
وضاق زوربا بأسئلتي.. لم يكن يفكر في شيء آخر غير الارملة، فأمسك بساعدي، وتحول إلى ميميكو وامره ان يسبقنا ، ثم التفت إلي وقال:
- أريد أن أحدثك في امر هام.. انني أعتمد عليك فلا تخذلني، ولا تخذل عنصر الرجال جميعا لقد بعث اليك الله بهذه القطعة المختارة من اللحم. وما دامت لك اسنان فانهش قطعة اللحم باسنانك. امدد يدك وخذها.. لماذا اعطانا الخالق هذه الأيدي؟ انه أعطانا اياها لكي نأخذ بها ما نريد.. فخذ هذه المرأة.. لقد رأيت في حياتي نساء كثيرات ولكني لم أرد أشد فتة من هذه الأرملة.
فأجبته في غضب:
- انني لا أريد المتاعب .
وشعرت بالضيق، اذ كنت في قرارة نفسي قد اشتهيت ذلك الجسد القوي الذي مر بي كما تمر انثى الحيوان البري حين تبحث عن أليف..
وصاح زوربا في ذهول:
- لا تريد المتاعب؟ ماذا تريد اذن؟
فلم أجبه.
قال:
- ان الحياة هي المتاعب، ولا متاعب في الموت.. هل تعرف ما معنى ان يعيش الانسان؟ معناه ان يشمر عن ساعديه ويبحث عن المتاعب.
فلزمت الصمت.
كنت أعلم ان زوربا على حق، ولكني لم أجرؤ على مصارحته بذلك.
لقد سارت حياتي في اتجاه خاطئ، وكانت صلتي بالناس اشبه بحديث من جانب واحد.. وبلغ بي الأمر انني لو خيرت بين الوقوع في حب امرأة، وقراءة كتاب عن الحب، لاخترت الكتاب.
واستطرد زوربا قائلا:
- لا تحسب حساب شيء يا سيدي، دع الارقام وحطم الموازين، فهذا هو الوقت الذي ستنقذ فيه نفسك او تدمرها..
اصغ الي، خذ منديلا واطوه على جنيهين او ثلاثة، ولتكن جنيهات ذهبية، لأن أوراق النقد لا تبهر الابصار، وارسل ميميكو بالمنديل إلى الأرملة، وعلمه ان يقول لها: ان صاحب المنجم ويبعث اليك بتحيته، ويرجوك قبول هذا المنديل ولكن حبه أكبر من هديته، وانها اذا كانت قد فقدت نعجتها، فانه موجود وسيعوضك عنها.. لقد رآك عندما مررت بالمقهى فطار لبه، ولن يبرئه سواك.
وعليك ان تضرب الحديد قبل ان يبرد، فتذهب إليها في المساء، وتدق بابها، وتقول لها انك ضللت الطريق في الظلام، وتسألها أن تعيرك مصباحا.. او تقول انك احسست بدورا فجائين وتطلب منها قدح ماء.. وأفضل من هذا وذاك، ان تبتاع نعجة تذهب بها اليها وتقول لها: ها هي نعجتك التي فقدتها يا سيدي.. لقد وجدتها لك".
فتدعوك الارملة للدخول، لتعطيك الجائزة التي وعدت بها من بجد النعجة.
فتدخل .. يا الهي!! انك ستدخل الجنة راكبا فرسا! اذا كنت تبحث عن الجنة فهذه هي.. لا تصدق ما يقوله رجال الكنيسة، فليست هناك جنة اخرى:
ولا بد اننا اقتربنا من تلك اللحظة من حديقة الارملة، فقد تنهد ميميكو وراح يعبر عن شجونه بالاغنية الصبيانية التالية:
النبيذ للكستناء، والعسل للجوز
والفتاة للفتى ، والفتى للفتاة
وتوقف زوربا عن السير فجأة، وتنهد، وسألني وهو ينظر في عيني:
- ما قولك؟
وانتظر بفروغ صبر فأجبته في خشونة:
- كفى.
وأسرعت الخطى، فهز زوربا رأسه، وقال شيا لم أسمعه.
وعندما بلغنا الكوخ جلس القرفصاء ووضع السانتوري على ركبتيه واحنى رأسه فوق دره، واستغرق في التفكير والتأمل.
بدا عليه كأنه ينصت إلى أغنيات عديدة ليختار أجملها، وأخيرا حزم أمره، وبدأ يعزف أغنية رقيقة مؤثرة، وكان ينظر الى من ركن عينه بين وقت وآخر حتى شعرت انه يحاول ان يقول بالسانتوري ما لا يجرؤ على التعبير عنه بالكلام، وهو انني أبدد حياتي وأضيعها هباء. واني والارملة حشرتان تعيشان بضع ثواني تحت الشمس ثم تموتان ويتقلص ظلهما الى الابد.
واخيرا، نهض زوربا واقفا ولعله أدرك فجأة انه يتعب نفسه بلا فائدة.. فاستند إلى الجدار وأشعل لفافة تبغ وقال:
- سأذكر لك الان شيا قاله لي رجل من أهل سالونيك.. سأقوله حتى ولو لم يسفر عن نتيجة.
كنت في وقت ما بائعا جائعا في مقدونيا، وكنت أزور القرى لأبيع الابر والخيط والتوابل.. وكان لي صوت عذب كصوت البلبل، ولعلك تعلم ان بعض النساء يفتنهن الصوت الجميل.. وأي شيء لا يفتن أولئك الفاجرات.. الله وحده يعلم ما في صدورهن.. انك قد تكون دميما كالاثم، وقد تكون اعرجا او احدبا.. فاذا كان صوتك جميلا رغم ذلك، وكان في استطاعتك ان تغني.. فان النساء يتهالكن عليك. حتى لتحار ايهن تختار.
وكنت أنادي على بضاعتي في سالونيك! وأطوف بها في الحي التركي. ويبدو ان ابنه أحد الباشوات فتنها صوتي، فهجر النوم جفونها، ولما لم تطق صبرا، ارسلت خادمها العجوز في طلبي.
ولحق بي الشيخ وقال لي: تعال معي ايها الرومي.
فسألته:
- إلى أين تريد أن تأخذني.
- ان فتاة كالنبع العذب هي ابنة أحد الباشوات تنتظرك في غرفتها فتعال معي ايها الرومي الشاب.
ولكني كنت اعلم انهم يذبحون المسيحيين ليلا في الحي التركي فقلت له:
- كلا.. لن أذهب معك.
- ألا تخاف الله؟
- لماذا؟
- لأن من يستطيع النوم مع امرأة ولا يفعل، يرتكب اثما عظيما يعاقبه الله عليه يوم القيامة وتكون جهنم مصيرة.
وتنهد زوربا واردف قائلا:
- اذا كانت هناك جهنم فسأذهب إليها لهذا السبب.. ليس لأنني سرقت وقتلت وارتكبت المنكر، وانما لأنني ذات ليلة في سالونيك رفضت الذهاب إلى امرأة تنتظرني في فراشها.
وأشعل زوربا الموقد، وبدأ يطهو الطعام وهو ينظر إلي من ركن عينه ويبتسم في سخرية:
وأخيرا هز كتفيه وتمتم قائلا:
- انني كمن يدق باب رجل أصم.

FRIEND
14-10-2006, 20:22
http://www.easypics.us/pics/zorba6.jpg

الفصل التاسع


بدأ النهار يزداد قصراً، والضوء يزداد خفوتاً، والقلوب تضطرب قلقاً كلما أقبل المساء، وبدأ يخامرنا ذلك الهلع الفطري الذي كان يستولي على أسلافنا في شهور الشتاء كلما رأوا الشمس تعجل بالغروب يوما بعد يوم، ولعلهم كانوا يقولون لأنفسهم في يأس، (غدا ستذهب الشمس إلى الأبد) ثم يقضون الليل فوق الجبال وهو يرتجفون خوفا وجزعا.
وكان شعور زوربا بالقلق أعمق وأكثر بدائية من شعوري ولكي يهرب من هذا الشعور، كان يقضي في سراديب المنجم أطول وقت ممكن فلا يغادرها الا اذا تألقت النجوم في السماء.
وكان قد وقع في أحد السراديب على نوع جيد من الفحم . نوع قليل من الرماد غني بالطاقة الحرارية، وسره ذلك وأثلج صدره.. فقد كان عقله يطور أرباحنا تطويراً عجيباً ويحولها إلى رحلات ونساء ومغامرات جديدة..
كان ينتظر بفروغ صبر ذلك اليوم الذي تجتمع لنا فيه ثروة ضخمة، وتصبح أجنحته – هكذا كان يسمي النقود – كبيرة.. لكي يطير ويحلق في الفضاء.. ولهذا كان يقضي الليالي بطولها في اختبار أنموذجه المصغر للسلك الهوائي، للبحث عن الانحدار المناسب لتحرك جذوع الاشجار ببطء من قمة الجبل إلى الشاطئ.
وفي أحد الأيام، تناول ورقة كبيرة وبعض الأقلام الملونة.. ورسم الجبل والغابة، وجذوع الاشجار المعلقة بالسلك الهوائي وهي تنحدر، وجعل لكل جذع جناحين، ثم رسم في الخليج الصغير زوارق سوداء وبحارة يرتدون ثياباً خضراء كالببغاوات، ووضع في الزوارق كتلا صفراء من جذوع الشجر، ورسم راهبا في كل من اركان الورقة الأربعة وكتب أمام فم كل راهب بحروف سوداء كبيرة: تبارك الخالق وما خلق.
ولاحظت خلال الأيام الأخيرة أن زوربا يشعل الموقد على عجل، ويعد الطعام ويتناول عشاءه بسرعةن ثم ينطلق إلى القرية، ويعود بعد فترة زائغ البصر مقطب الجبين، فاذا سألته: أين كنت يا زوربا؟ أجاب:
- دعنا من ذلك.
ويغير مجرى الحديث.
وفي احدى الامسيات، كان المطر يهطل مدارا، ونحن أمام الموقد نتدفأ ونشوي بعض الكستناء، حين تحول زوربا إلي، وراح يجحدني بنظرة فاحصة طويلة، كما لو كان يحاول اماطة اللثام عن لغز عويص. ويبدو أن المحاولة أرهقته، لأنه ما لبث أن قال:
- ليتني أعرف ماذا يحببني إليك.. لماذا لا تمسك بأذني وتلقي بي إلى الخارج؟ انني سأفسد أعمالك وأجلب عليك الدمار، فالق بي إلى الخارج وانفض يدك مني.
فأجبته:
- أنا أحبك، وهذا يكفي.
- ولكن ألا ترى أن عقلي ليس له الوزن المناسب؟ ربما كان أثقل أو أخف وزناً مما ينبغي، ولكن ليس له الوزن المناسب، سأقول لك الان شيئا أرجو أن تفهمه، انني لم أعرف للراحة طعماً طيلة الأيام الأخيرة بسبب الأرملة.. وأرجوك ألا تسيء فهمي، فأنا لا أريدها لنفسي ولن أمسها لأنني لست من طرازها.. ولكني لا أريد أن يخسرها الجميع ولا أريد أن تنام وحدها. فذلك ليس من الصواب.
انني أطوف بحديقتها كل ليلة وهذا سر رحلتي إلى القرية كل مساء فهل تعرف لماذا؟
- كي أرى ما اذا كان هناك من ينام معها، ليرتاح بالي وتطمئن نفسي.
فضحكت.
قال:
- لا تضحك. اذا نامت امرأة وحدها فالذنب ذنبنا نحن الرجال وسوف نحاسب عليه في يوم الدينونة.
وصمت لحظة ثم سأل فجأة:
هل يمكن أن يعود الانسان إلى الدنيا بعد أن يموت؟
- لا أظن ذلك يا زوربا.
- وذلك هو رأيي، ولكن اذا قدر للانسان أن يعود، فأكبر الظن أن أولئك الذين تخلفوا عن وظائفهم كرجال ونساء سوف يعودون إلى الدنيا على شكل بغال.. ومن يدري، فلعل جميع البغال التي نراها في هذه الدنيا هي الرجال والنساء الذين تخلوا عن واجباتهم، ولهذا نراهم دائما يرفسون.. فما رأيك في ذلك؟
فأجبت ضاحكا:
- رأيي أن عقلك أقل وزنا مما يجب.. هلم إلى السانتوري يا زوربا.
- معذرة يا سيدي.. أنني لن أعزف الليلة.. واذا كنت قد أسرفت في أحاديثي السخيفة فهل تعلم لماذا؟ لأنني أحمل هموم الدنيا بسبب السرداب الجديد.. وهأنتذا تتحدث عن السانتوري.
وأخرج الكستناء من الموقد، وملأ القدحين بالعرق.
قلت:
- أسأل الله أن يرجح كفة الميزان اليمنى على كتفه اليسرى.
فقال زوربا:
- بل لترجح الكفة اليسرى.. ان رجحان اليمنى لم يفدنا شيئاً حتى الآن.
وافرغ الشراب في جوفه وقال .
- سأحتاج غدا إلى كل ذرة من قواي لأناضل آلاف الشياطين.. طاب مساؤك.
وخرج زوربا إلى المنجم في اليوم التالي مع أول خيوط الفجر.
وكان العمال قد شقوا السرداب الجديد فتسرب الماء من جدرانه وسقفه ووجد الرجال أنفسهم يخوضون في أوحال سوداء، فأحضر زوربا بعض جوع الأشجار لدعم جدران السرداب وسقفه.
ولكنه كان قلقا، فقد أحس بغريزته التي جعلته يشعر بكل ما يصيب السرداب كما لو كان السرداب جزءا من جسده، بأن جذوع الأشجار وشرائح الخشب ليست من القوة كما ينبغي أن تكون، وسمع قرقعة خفيفة لم تسمعها اذن أخى، توحي بأن سقف السرداب يئن من ثقل ما يحمل.
وثمة شيء آخر أشاع القلق في نفس زوربا في ذلك اليوم. فإنه ما كاد يهم بدخول السرداب حتى مر به قس القرية، الأب ستيفانوس، ممتطيا بغلته، وهو في طريقه إلى راهبة تحتضر، ومن حسن الحظ أن زوربا وجد متسعا من الوقت لكي يبصق على الأرض ثلاث مرات قبل أن يتحدث إليه القس.
قال رداً على تحية القس:
- طاب يومك أيها الأب.
ثم أردف بصوت خافت:
- ولتهبط لعنتك على.
وظن أنه بذلك قد وقى السرداب الجديد من شر القس وحسده.
وكان جو السرداب مثقلاً برائحة الفحم والاسيتيلين، وكان العمال قد بدوا فعلا في دعم السقف وتقويته بالاعمدة التي تحمله، فألقى عليهم زوربا تحية الصباح ثم شمر عن ساعديه، وبدأ العمل.
وأخذ بعض العمال في تحطيم كتل الفحم، بينما شرع البعض الآخر في وضعه بالعربات تمهيدا لنقله إلى الخارج.
وفجأة ، وقف زوربا عن العمل، وأمر العمال أن يحذوا حذوه وأرهف أذنيه.
وكما يفني الفارس في جواده، والربان في سفينته، كذلك أصبح زوربا قطعة من المنجم، يشعر بكل تشعب فيه كما يشعر بنبض كل شريان في جسده.
فبعد أن أرهف أذنيه الكبيرتين، أرسل بصره إلى جوف السرداب.
وفي هذه اللحظة وصلت إلى المنجم.. فقد استيقظت فجأة وأنا متوجس، وكأن يدا خفية تدفعني، فارتديت ثيابي على عجل، وأسرعت بالخروج دون أن أعلم لماذا أسرع. أو إلى أين أذهب، ولكن قدماي حملتاني دون تردد في الطريق إلى المنجم ووصلت إليه في اللحظة التي كان فيها زوربا يصيخ السمع وينظر حوله في قلق.
قال بعد لحظة:
- لا شيء.. ظننت ان.. ولكن لا بأس.. إلى العمل يا رجال.
ودار على عقبيه ورآني وقلب شفته..
- ماذا تفعل هنا في هذا الوقت المبكر؟
واقترب مني واستطرد قائلا في همس:
- لماذا لا تذهب لتستنشق بعض الهواء النقي؟ يمكنك أن تأتي في يوم آخر.
- ماذا حدث يا زوربا؟
- لا شيء، لقد تخيلت أشياء.. ولعل السبب أن أول انسان وقع عليه بصري اليوم كان قسا.. اذهب.
- اذا كان هناك خطر .. أفلا يكون من العار أن أذهب؟
- نعم.

FRIEND
14-10-2006, 20:23
- أترحل أنت؟
- كلا.
- اذن؟
- ان ما يجب أن يفعله زوربا شيء.. وما ينبغي أن يفعله الآخرون شي آخر.. ولكن اذا كان من العار أن ترحل، فابق.. فهذه جنازتك.
وتناول معولا، ونهض على أصابع قدميه ليدق مسمارا في السقف، بينما حملت مصباحا وخضت في الوحل لألقي نظرة على كتل الفحم اللامعة.
كانت هناك غابات شاسعة ابتلعتها الأرض منذ ملايين السنين وأحالت أخشابها فحما.. ثم جاء زوربا و ..
وأعدت المصباح إلى مكانه بالجدار ووقفت أرقب زوربا وهو يعمل.
كان منصرفا إلى عمله.. مستغرقا فيه بكل حواسه.. فهو لا يفكر في أي شيء آخر.. وهو والأرض والمعول والفحم شي واحد، وقد اتحد مع المطرقة والمسامير في نضال ضد شرائح الخشب ليقوم السقف المنبعج.. وهو يعالج جدار الجبل ليخرج الفحم بالقوة تارة وبالحيلة تارة أخرى، ويضرب بمعوله في المواضع الضعيفة التي يمكن التغلب عليها.. ويصدر في كل ذلك عن احساس غريزي لا يخطئ أبدا.
رأيته وقد اكتسى بالوحل والتراب الأسود، فلم يبق ظاهرا منه إلا بياض عينيه، وخيل إلي أنه قد لجأ إلى التمويه وتنكر في صورة كتلة من الفحم حتى يستطيع مهاجمة غريمه على غرة منه، والانقضاض عليه في عقر داره.
ولم أستطع كتمان اعجابي فهتفت:
- أحسنت صنعا يا زوربا..
ولكنه لم يحاول أن ينظر إلي أو يحدثني، وكيف كان يمكنه في تلك اللحظة ان يتحدث إلي عن كثب، أيؤثر القلم والورق على المعول والفأس؟
ونظرت إلى ساعتي.
كانت الساعة قد بلغت العاشرة فقلت:
- لقد حان وقت الراحة أيها الأصدقاء.
وعلى الفور، ألقى العمال بأدواتهم إلى أحد الأركان. وجففوا العرق المتصبب على جباههم، وتأهبوا لمغادرة السرداب.
وكان زوربا لا يزال مستغرقا في العمل فلم يسمعني.. ولو سمعني لما تحرك قيد أنملة.
وفجأة، أرهف زوربا أذنيه مرة أخرى، وظهرت على وجهه دلائل القلق.
فقلت أحدث العمال: صبرا لحظة.. ريثما أقدم لكم بعض السجائر.
فدار العمال بي، بينما أخذت أبحث في جيوبي عن علبة السجائر.
وفي هذه اللحظة، كف زوربا عن عمله وألصق أذنه بجدار السرداب، ورأيته على ضوء المصباح يفغر فاه دهشة.. فصحت به:
- ماذا هنالك يا زوربا.
وقبل أن يجيب، حدثت فرقعة فوق رؤوسنا فصاح زوربا بصوت أجش:
- اخرجوا جميعا.. اخرجوا.
فانطلقنا نعدو نحو فوهة السرداب، وما كدنا نتجاوز السقالة الاولى حتى دوت فرقعة أخرى فوق رؤوسنا.
وكان زوربا قد حمل جذع شجرة ضخم، وراح يحاول أن يسند به السقف المتداعي، ولو نجح لاتاح لنا بضع ثوان قد نتمكن فيها من الفرار.
وصاح زوربا مرة اخرى:
- اخرجوا.
ولكن صوته في هذه المرة كان خافتا مختنقا كأنه صادر من بطن الارض.
وبالجبن الذي يصيب الناس عادة في لحظات الخطر. اندفعنا جميعا نحو فوهة السرداب، وقد نسينا زوربا تماما.
ولكني توقفت بعد بضع ثوان، وعدت ادراجي إلى السرداب وأخذت اصيح:
- زوربا.. زوربا.
توهمت أنني أصيح، ثم أدركت أن الخوف قد خنقني، وأن صوتي لم يغادر حنجرتي وأحسست بالخجل، فوثبت نحو زوربا ومددت له يدي.
وكان قد فرغ لتوه من دعم السقف وبدأ يعدو في الظلام طلبا للنجاة فاصطدم بي، وأحاط كل منا صاحبه بساعديه. وصاح زوربا:
- يجب أن نخرج.. اخرج..
وانطلقنا نعدو بأقصى سرعة حتى وصلنا إلى الفوهة. وكان العمال قد اجتمعوا عندها والرعب يملأ نفوسهم.
وما أن رأينا ضوء النهار، حتى سمعنا فرقعة ثالثة، أشبه بصوت شجرة تنكسر في العاصفة. اعقبها دوي كقصف الرعد هز المنطقة كلها.. وانهار السرداب.
وهتف بعض الرجال وهم يرسمون علامة الصليب على صدورهم:
- يا الهي.
بينما صاح زوربا في غضب:
- أرى أنكم تركتم معاولكم هناك.
فصمت الرجال، وصاح زوربا ثانية:
- لماذا لم تأخذوا الأدوات معكم؟
فقلت له:
- ليس هذا وقت البكاء على الأدوات يا زوربا، دعنا نحمد الله على أن الرجال نجوا بأنفسهم.. شكرا لك يا زوربا اننا جميعا ندين بحياتنا لك.
فقال زوربا:
- ان ما حدث جعلني أشعر بالجوع.
وتناول حقيبة، وكان قد تركها فوق صخرة بالقرب من المنجم ففتحها، وأخرج منها خبزا وزيتونا وبصلا، وقليلا من النبيذ.
وقال وفمه مملوء بالطعام:
- هلموا يا رجال.. دعونا نأكل.
وراح يأكل بنهم، دون أن ينطق بكلمة، ثم رفع اناء النبيذ إلى فمه، وشرب كل ما به.
وأفرغ روع العمال، واستردوا شجاعتهم ورباطة جأشهم، فحملوا طعامهم وجلسوا على الأرض حول زوربان وراحوا يأكلون دون أن يحولوا ابصارهم عنه.
كان بودهم أن يلقوا بأنفسهم على قدميه.. وان يقبلوا يديه.. ولكنه عرف بينهم بالشدة وغرابة الأطوار فلم يجرؤ أحدهم على الدنو منه.
وأخيرا جميع ميشيل – أكبر العمال سنا – أطراف شجاعته وقال محدثا زوربا:
- لولاك لأصبح أولادنا الآن أيتاماً أيها السيد اليكسيس.
فقال زوربا والطعام في فمه:
- صه.
ولم يجرؤ أحد بعد ذلك على الكلام.

(( ورود ))
16-09-2009, 04:39
شكرا جدا جدا على الرواية .. شخصية زوربا تكلمت عنه احلام مستغانمي بكتابها ذاكرة الجسد وشبهت شخصية البطل بشخصية زوربا واللي خلاني ادور واقرا عنه ..