PDA المساعد الشخصي الرقمي

عرض كامل الموضوع : بداخلي صحراء



سكيبر
27-05-2018, 04:02
لم أكن أعلم أنني كنت أقتل نفسي كل يوم ، نعم لم أكن أعلم ! ، لم أكن أعلم أنني كنت ضحية تلك الثورة وقتيلة هذا اليوم ، نعم لم أكن أعلم ولكن ! لقد علمت الآن ، علمت كم أنا تائهة في صحراء الشخصيات ، حيث لا أعرف فيها الفاصل بين الصحيح والمعتل ، وبين العاقل والمجنون ، علمت كم كنت أقتل نفسي يوما بعد يوم بإثبات صفات الإجتماعيين في شخصيتي لأتحاشى تعبيرات الجنون ، فأشحن نفسي بطاقة غير قابلة للاستعمال من قبلي فيبث فيا الإرهاق يوما بعد يوم ، كل هذا يحدث لأنني اغتصبت حريتي وخلوتي التي أحب ، أحبها ! مابال هذا الوصف فأنا كنت أحبها وكنت تدل على الماضي الذي لايعود ، نعم كنت أحبها ولكني الآن أصبحت أخافها لأنها دائما تكون كناية عن الجنون وعن كرهي للبشر ، دائما ماكنت أسمع تلك الكلمات التي توضع وصفا لحالي فتقول : نفسية ، مريضة ومتوحدة ، مما جعلني أخاف وأصدق باعتلالي الذي أجد فيه الكثيرين مثلي ، لحظة هل قلت الكثيرين !! إذا أين هم لا أراهم حولي ؟! أظن أنهم استسلموا وأجبروا على الإنسلاخ من ذواتهم لتتكون المثلية الشخصية .

قيل عن المثلية الشخصية بأنها تغيير شخصية المرء تحت المسمى اللطيف تطوير الذات ، حيث تم التشجيع على إقامة العلاقات والحفلات وعيش اللحظات منتهكين بذلك حب الإنطوائين للإنعزال ، والذي هو بمثابة حرية شخصية لهم، فالحرية ليست فقط بالتعبير عن الرأي وإنما هي أيضا حرية الإختيار بأي الأشخاص أريد أن أكون ، تم انتهاك هذه الحرية ولم يكتفوا بذلك بل تمادوا وانتهكوا حرية الإنطوائي بعدم الجدال ، حيث وصف الصمت بالخجل والتوتر و إنعدام الثقة وغيرها من الصفات ، والتي نسي معها أن كل هذا نوع من أنواع الحرية التي تتهافت عليها الأصوات ، نعم نسوا ذلك وأغلقوا جميع الأبواب في وجه الإنطوائيين ، فلاعزلة تم احترامها ولا صمت تم تقديره ، فأي حرية هذه التي تتردد على مسامعنا في كل مكان ! ، أي حرية تلك التي يتحدثون عنها وهم قد نسوا بأن الحياة مليئة بالشخصيات ، والتي يجب أن نحترمها ونعطيها حريتها لتعمل كيفيما تريد ، نسوا بأن الإبداع ابن الإنعزال ، وأنهم بذلك يقتلون اثنيهما معا .

نعم الإنعزال أب الإبداع ، وإن وجدت العزلة أشار ذلك إلى الإبداع لا إلى التوحد ، إنه لمن الظلم جدا أن تحكم باعتلال الشخص لمجرد إنعزاله ، فقد يكون وراء ذلك الإنعزال كنوز مدفونة تنتظر من يحترمها ويقدرها لتظهر للعيان كما الشمس في السماء وفي طيات أشعتها الدفء والعطاء ، ليس من العدل أن نقول عن شخص بأنه مليء بالعقد النفسية فقط لأنه يرى حريته بالإختلاء بنفسه ، وليس من العدل أيضا أن نشبهه بالجبناء في إنعزاله ، فهناك فرق كبير بين من يختلي بنفسه ومن يختبئ من الناس .

لم أتحدث عن هذا الفرق من فراغ ، فأنا أتحدث عنه لأن هذه القضية تمسني شخصيا ، أتحدث عن ذلك لأعترف لذاتي وللناس أجمع بأنني لست معتلة عقليا وإنما أميل للإنطواء والإختلاء بنفسي لأستطيع سماع ضجيج الأفكار الذي في رأسي ، تلك الأفكار التي لا أستطيع سماعها إلا عندما أكون لوحدي ، فأنا أعترف بأنني تجاهلتها كثيرا بمحاولاتي للإنسلاخ من ذاتي والتمثيل الغير محترف بالإنفتاح الإجتماعي ، ولكني الآن أدركت بأنه لابد من الوسطية في أموري ، ولابد من تقديس ذاتي وهدوئي وحديث سكوني في إنعزالي ، وفي نفس الوقت لابد من تقديس علاقاتي وأصدقائي وألا أضاعف وجودهم حولي بشكل لايناسبني .

لم أدرك هذا فقط بل أدركت أنه باسترخائي تتنظم تلك الأفكار في عقلي ، فتصبح منسوجة نسيجا في غاية الجمال وبطريقة فريدة لا يألفها أحد غيري ، كنت في البداية أعتقد بأنه من الجنون الإعتقاد بأن الأفكار والمعلومات تترتب في عقلي عند نومي ، فأستيقظ وأجد تضاعف إتقاني ولكن كإنطوائية بين الإنطوائين كانت هذه حقيقتي .

أدركت أيضا بأنه لابد لي أن أحترم شخصيتي لكي تعطيني حريتي ، فلن أنال تلك الحرية بالإنسلاخ عنها ، فأنا ولدت هكذا وسأظل هكذا بإرادتي ، أدركت ذلك مع إدراكي لأمور لاتعجبني في شخصيتي مثل السعي للكمال ، فأنا مستعدة لأن أرهق نفسي آلاف الساعات لأخرج بشيء ترضى عنه نفسي ولكن ذلك الأمر لايحدث أبدا ، فأظل أحاول وأحاول وأخاف الخطأ بل وأمقته أيضا خشية النقد لعدم الإتقان ، لازلت أذكر قول معلمتي لي بأن لدي كبوة واستغراب الأخرى قائلة هل لديها كبوة !! ، ومن بعدها كنت حريصة أشد للحرص على ألا يجدوا لي كبوات أخرى فأمكث في قاعة الإختبار حتى أخر لحظة ، نعم كنت أرهق نفسي حتى ترضى نفسي ولم أستطع التخلص من هذه الصفة حتى الآن ، فأدركت كم أن النقد يؤرقني .

ولكن أتعلمون مالعجيب في الأمر ؟! ، العجيب هو أن أحب ذلك الشيء رغم أنه يؤرقني ويرهقني ، ولا أظن الإرهاق والحب يجتمعان ، فمتى ماوجد الحب نسي التعب والإرهاق ، ولكن الأمر المحير هو الإحتياط للأمور وعدم المخاطرة ، هو أمر محير لأني لم أجد نفسي أركن إلى أي فئة ، فأنا مع تجربة الجديد وعدم الركون لمنطقة الراحة وفي نفس الوقت مع الإحتياط وعدم المخاطرة ، فأنا وجدت الجمال بعدم الخوف والمخاطرة ، ووجدت الراحة بالإحتياط وعدم المخاطرة ، إنه لأمر محير جدا أن تختار مع أي الفئتين أنت ، وأنت تؤيد الفكرتين ! ماهذا التناقض ! أنا أعلم أنه ليس التناقض الأول وأنني مليئة بالتناقضات وهذا شيء مزعج لي بحد ذاته ويجعلني أكثر غموضا عند الأخرين ، ولكن إنه لشيء جميل أن تتعرف على نفسك أكثر وأن تتعرف على وجود هذه التناقضات وتتقبلها مهما كانت ، فمهما كان الأمر محيرا فإنني أعتقد أن لكل موقف فعل كمل لكل حادث حديث .

هل انتهى الأمر هنا ؟ لا لم ينتهي بعد ، فهنالك الكثير من الأمور المحيرة بالنسبة للإنطوائيين ، مثل ضيقه الذي يجتاحه عند مقابلة الغريبيين ، أصبح هذا الضيق محور تفكيري مؤخرا وخصوصا أننا في شهر رمضان حيث تكثر فيه الإجتماعات سواءا كانت إجتماعات عائلية أو روحانية لأداء الصلاة ، فكيف يستطيع الإنطوائيين التكيف مع هذا الأمر ؟! عند هذه النقطة أدركت أنه فعلا لايوجد إنطوائي بنسبة 100% وإن وجد فإنه مجنون لاأكثر ، فنحن جميعا عبارة عن خليط من الإنطوائية والإنفتاح قد يتغلب أحدهما على الآخر فتصبح واضحة بشخصياتنا ، فجميع الإنطوائيين يمتلكون شخصا إجتماعيا بداخلهم يستخدمونه متى ماأرادوا ، ثم بعد ذلك يعودون لطبيعتهم المنعزلة لشحن ذواتهم .

جميع الإنطوائيين يوجد بداخلهم أشخاص إجتماعيين ولكن الذكي هو من يعرف كيف يتعامل مع نفسه ويتقبلها كماهي ويجعل من نقاط ضعفه نقاط قوة بالنسبة إليه دون أي محاولة بالإنسلاخ من ذاته ، نعم دون أي إنسلاخ ، هذا مايجب علينا تعلمه وتعليمه لغيرنا ، لازلت أذكر تعرف المرشدة الطلابية بإحدى الطالبات التي يكسوها الخجل مع الإنطوائية ، فحاولت بشتى الطرق أن تخلصها من خجلها والذي هو جزء من شخصيتها ، حاولت سلب حريتها الشخصية بسلخها من ذاتها عن طريق مشاركتها في الإذاعة الصباحية ، ولا أعلم رأيكم عن هذا التصرف ، ولكن سأقول رأيي ومن بعد قراءتي أنه كان من الأفضل لها أن تحاول تعزيز نقاط قوتها وتقوي ضعفها وتجعلها تتولى مهام تستطيع فعلها فتثني عليها ، فتقضي أو تقلل أو بالأصح تتعلم معها كيف تستخدم الشخص الجريء بداخلها بالتدريج وليس هكذا دفعة واحدة !!

أتذكرون تلك الصفة والتي ظننتها كما الجميع صفة سلبية في الشخص وهو سعيه إلى الكمال ، في الحقيقة هي ليست كذلك ، هي صفة رائعة تقول لمن يشكك في قدرات الإنطوائي ومؤهلاته بأنه لن يتوقف يوما عن التعلم والمحاولة حتى يصبح مؤهلا لما شككت فيه الآن ، نعم لابد لنا من تقبل شخصياتنا وأن نؤمن بأنها لاتمنعنا من النجاح إلا إذا أردنا ذلك .

وهل تذكرون تلك التناقضات التي تحدثت عنها ؟ هي تناقضات جميلة نوقن معها كم أن الإنسان كائن معقد ومليء بالقواعد الشاذة ، وهي التي تجعل الشخص مختلفا عن غيره ، هي التي تكون أفكاره وتصرفاته ولايمكن أن نستعمل بوجودها الحكم النهائي على كل البشر .

بل هل تذكرون عندما قلت بأن العالم قد نسي بأن يعطي الإنطوائيين حريتهم ؟! فأنا أضيف عليها الآن بأنهم نسوا أيضا عملية دعمهم ، فالبشر خلقوا ليكملوا بعضهم البعض وليسدوا ثغرات نقصهم ببعضهم البعض وهذا ماحدث تماما مع موسى وهارون ، عندما طلب موسى بأن يكون هارون رفيقه في الدعوة ، حيث قيل أن موسى عليل اللسان وانطوائي خجول بينما هارون اجتماعي فصيح اللسان ، فيتضح لنا من هذا الوصف أن هارون القطعة المكملة لموسى ، ويتضح لنا من هذه القصة صدق ماأقول عن ضرورة دعم البشر بعضهم لبعض ، فالله لايعجزه شيء بأن يجعل تلك الصفات التي في هارون في موسى ويكتفي به وحده في الدعوة ، ولكن جعلها مشتركة بين اثنينهما ليكمل بعضهما بعضا .

فجميع الإنطوائيين يحتاجون أخ كما هو هارون لموسى ، ليكون صوت الكلمات التي يقولها ، وذلك الأخ لايمكن أن يكون الإنترنت أبدا ، فحتى مع مميزات الإنترنت الكثيرة والتي تتضمن قدرة الإنطوائي على التحدث بأريحية وإبداء رأيه دون خوف فإنه مدعاة للإنعزال أكثر عن البشر مما قد يصيب الإدمان ، وهذا مالا نريده للإنطوائي أن يدمن على شبكات ومواقع التواصل الإجتماعي فتكون وظيفته فقط عرض الأفكار دون عمل ، بل إن الإعتكاف على هذه المواقع لساعات طوال سوف تستهلك طاقته ذهنية وتفسد بذلك قوى الإنطوائي وعملية إعادة شحنه .

لكن السؤال هنا من القائد في تلك الدعوة؟ هل هو هارون أم موسى؟ وبغض النظر عن الأسماء فمن يصلح للإدارة أكثر هل هو الإجتماعي أم الإنطوائي ومن سيكون الأفضل؟ بعد قراءتي اتضح أن كلاهمها يصلحان للقيادة ولكن تحت شرط روح المبادرة لطاقم العمل ، إن كان الطاقم مبادرا فإنهم بحاجة لإنطوائي لتنظيم تلك التحركات الضخمة والأفكار الدفاقة ، وإن كان غير مبادر فإنهم بحاجة لإجتماعي يعمل على تحفيزهم وتشجيعهم.

فموسى كان الأمثل لقيادة قومه عندما فروا من فرعون ، حيث أنه إنطوائي ومن معه مبادرون للفرار من فرعون وقومه ، وهارون كان الأنسب عندما قال لقومه بأنهم فتنوا بذلك العجل فكانوا غير مبادرين معه ولكنه استطاع أن يغير قرارهم ولو بالقليل فقالوا سنظل عاكفين عليه حتى يرجع إلينا موسى ، أما موسى الإنطوائي فأظهر الشخص الإجتماعي بداخله عندما عاتب قومه على عبادة العجل وعندما عاتب السامري على فعلته وأخبره بعقابه ، وهذا لاينفي أيضا وجود شخص إنطوائي بهارون حيث لم يخاطر بالمغادرة خوفا بأن يقال عنه بأنه فرق بين بني إسرائيل ولم يحفظ وصية موسى له بخلاقة القوم ورعايتهم .

وهناك الكثير والكثير من الأمثلة عن الإنطوائيين والإجتماعيين إلى عصرنا هذا ، ولكن القليل من الإنطوائيين من استطاع اكتشاف ذاته واستثمار عزلته ، وأنا أؤمن بأننا جميعنا علماء ولكننا نحتاج أن نتعامل مع أنفسنا بذكاء ، ومتى ماأكتسبنا هذا الذكاء استطعنا التنقل بين الشخصيات متى ماأردنا ولكن تحت شرطين أولهما يكون بحب مانقوم به والثاني ألا نتنكر لشخصياتنا الحقيقية فيه .

ومن الجدير بالذكر أن العزلة لاتعني الوحدة أبدا ، فالوحدة تعني أن تكون وحيدا لايهمك أحد ولا تكون مهما عند أحد ، ولكن كل ماهنالك أننا نريد البقاء لوحدنا لبعض الوقت وفي معزل عن الناس دون أن ينتهكوا خصوصيتنا أبدا .

والعزلة لاتعني عدم مقدرتنا على المشاركة في الأعمال الجماعية ، فالعمل الجماعي ليس اجتماعا حول طاولة مستديرة فحسب ، بل بأن تقوم ماتحب ولأجل ماتحب وأن تمتلك هدفا غير المال والمناصب والأشياء المادية ، فأنا مثلا حلمي بأن أجعل الناس سعداء ومرتاحين في حياتهم ، وكم أتمنى تحقيق ذلك .

وفي النهاية أقول إن الإنطوائية لاتكون بالإنعزال خوفا من الناس أو من نقدهم ، لاتكون بالإنعزال خوفا من نظرتهم إليك كشخص ، لاتكون إنطوائيا إذا كنت تنعزل وأنت تتساءل عن نظرة الناس لك وعن رأيهم بتسريحة شعرك ، فلو كنت تنعزل هكذا فهذه ليست العزلة المنشودة أو المطلوبة لإنتاج الابن والمسمى بالإبداع .

------------
*ملاحظة : حاولت قدر الإمكان أن تكون الكلمات الموجودة بكتاب أخي هارون لا تطبع أي تأثير علي ، لكن يبدوا أنني لم أنجح بعدم وضع العديد من الإقتباسات ، سأظل أحاول حتى تكون الكتابة من أحرفي 100% ، وأعلم أنها طويلة لكن لم أستطع جعلها أقصر من هذا ، فأعتذر إن بعثت في أنفسكم الملل .