PDA المساعد الشخصي الرقمي

عرض كامل الموضوع : [ رواية ] ناسكة خاطئة



قيس العامري
20-09-2016, 23:47
"ناسكة خاطئة"

الفصل الأول
"رسالة في زجاجة"



مرحبًا..
اسمي خنساء، ولا أعرف لماذا وسمني أبي باسمٍ كهذا منذُ ولادتي!
ربما لأعتاد الفقد، ومراقبة القطارات -كأية محطة بائسة تحترم حزنها- وهي تتوقف
على رصيف انتظاري قليلًا ثم بكل وقاحة تمضي..
وليس بيدي إلا تلويحة شاحبة بالوداع!
ربما عرف أبي أنه سيكون أول المُغادرين عنّي، فترك لي اسمي رسالة وداع طويلة
ترافقني مدى هذا العمر المتشح بحزنٍ كزاد نبيّ الله عزيز لا يتسنّه ولا يتغير طعمه!
هل مات أبي؟ لا.. ما زال حيّا يلاحق كدّاً ما، في بلدٍ خليجيٍ مجاور، بلد من النوع الذي تحاول مناعته جاهدة طرد العروبة
منه ليتسرطن بشكلٍ حضاري أنيق.
لم يمت أبي، لكنّي رأيتُ رحيله، وكأنني استرقتُ النظر لفصل يبعُد مائة صفحة عن الصفحة التي
توقفتُ عندها في كتاب حياتي، فرأيتُ فاجعتي القادمة لتحيلني علامة استفهام محنيًا ظهرها لا يُقوّم ولا يستقيم!
اسمي خنساء، وقد أحببتُ هذا الاسم الملاصق لي كإرث لم أستطع رفضه،
واعتدتُ اسقاط النون منه واستبدالها بـ (راء) لأصير: امرأة (خرساء)، لا لسان لي
إلا للعق جراح أصابعي التي يدوسها حذاء الأيام المهترئ دون اكتراث أو توقف..
أولى الفاجعات داهمتني برحيل جمال، فاجعة حوّلت خرسي إلى شظايا من صراخ،
وأعادت النون العتيدة مثل رصاصة اخترقت قلبي
لأصلبُ وتأكل الطير من رأسي بلا صاحب سجنٍ ولا نبيّ يُئوِّلُ مُسبقًا موتي..
رحل جمال.. وتركني يتيمة بين أبويّ، وثكلى دون أطفالي الذين حلمتُ بهم منه
وماتوا قبل أن يولدوا، يا الله كم بكيتهم، وكم نعيتهم، وكم كرهتك يا جمال!
أحقر مشكلة يتركها خلفهم أولئك الذين يرحلون، هي التفاصيل الصغيرة التي تتحول لدينا
إلى غصص يصعب على عصا النسيان كنسها، تتكدس وتتكدس وكلما تخيلنا
أن هذا الحُزن صار مألوفًا، فتحت الذاكرة شفتيها _كعاهرة ثملة_ وقائت مزيدًا من الحُزن
اللا مألوف على حُليمات تذوقنا!
لكنّي رغم كُل شيء كنتُ أتوقع هذا الرحيل!
لنقل أني صرتُ أفهم مكر الحياة حين تمنح، إنها تُعاملنا كالخراف، تُسمّنُنا بأفراحٍ يكاد حُسنها يضيء،
وتسن سكاكينها، حتى حين نُذبح، ننزف بعنف أكثر، وغزارة أكثر..
آهٍ يا جمال.. كم صرتُ أشبه عجوزًا أخذوا أطفالها للحرب، وانتهت الحرب ومرت السنوات ولم يرجعوا،
ولم تجرؤ على أن تُغادر كوخها المهترئ القديم أو تغيّر العنوان، خشيّة أن يرجعوا يومًا ولا تلتقيهم!
تُعد الطعام لهم كل يوم، فلربما عادوا جائعين كما غادروها حينها..
أذكر يوم رحيله أنني ارتديتُ ملابسي السوداء التي كنتُ أعدها مُسبقًا لفاجعة مُنتظرة كهذه
وعقّصتُ شعري، ووقفت أمام المرآة أتأمل ملامحي الذابلة وأبتسم..
يومها همستُ لنفسي في بلادة أعرف أنها تسبق انهياري الكبير: بدأت مواسم الحِداد يافتاة!
لكن.. حسنٌ.. الحياة تستمر!
لا بد أن تستمر..
صحيح أنها استمرت بالكثير من نوبات الصراخ الليليّة التي أصحو بها أبكي وأنادي باسمه
حتى كدتُ أصيب أمي بالجنون -إن لم تكن جنت بالفعل- والكثير من الرسائل الصوتيّة التي
كنتُ أبكي بها شفقة على صوتي الحبيب المبحوح وهو يتوسله، حتى قام هو -جمال- بتغيير رقم هاتفه
مُعلنًا أن أبواب حياته صارت موصدة تمامًا أمامي..
لحظة!
لماذا أقحمك في كل هذا؟
هذه مجرد رسالة كتبتها ووضعتها في زجاجة وألقيتها في البحر، غير عابئة بصاحب الحظ البائس
الذي سيلتقطها، غالبًا لن أعرفك، ولن تعرفني..
ولن أجد حرجًا حين أهمس لك ببعض أفكاري!
أتعرف من أنا؟
أنا امرأة سامّة، عاق، ذنبٌ يمشي على قدمين..
لا أرى عاشقين إلا وتمنّيتُ أن يفترقا..
ولا طفلة ووالدها إلا وتمنّيتُ أن يفقدها أو تفقده..
ولا ابتسامة على وجه أحدهم إلا وتمنّيتُ أن يتبعها بكاء طويل لا ينتهي!
لم يعجبك هذا؟
بإمكانك إذن أن تأخذ الزجاجة التي خبأتُ بها رسالتي وتضعها في..
حسنًا، سأكون مهذبة هذه المرة وأقول تضعها في فمك!


***


"مذكرات خنساء"


لا تتغير الأشياء حولي.. فقط أنا التي أفعل
أو ربما تتغيّر كلها باستمرار وأنا الوحيدة العالقة في مكاني..
أصحو كل يومٍ من النوم.. شبه ميتة، أعتكف النافذة التي تحاول أن تسلبني ملامحي،
أتأمل منها الحياة التي سلبتني طهارتي،
من خلف انعكاس شخصي الآثم الذي يحاول أن يحرمني مكانًا في الجنة بعد موتي!
علاقتي بأمي ليست على ما يُرام منذ فترة طويلة، أحيانًا يمر أسبوع أو أكثر لا نتبادل الحديث،
أو ربما لا نرى بعضنا إلا مصادفة حين تسوقنا الأقدارعند رصيف الأريكة،
أو قارعة مائدة الطعام، أو حين تفتح باب غرفتي ليلًا فتجدني أبكي، أو أرقص،
أو أجلس منطوية في ركنٍ قصيٍ، أو في أي وضع عجيب آخر
يمكن أن تتخيله، فتطمئن أنني لم أمت بعد، ثم تغلق الباب في هدوء وتمضي..
طبعًا لا يعني هذا الفتور أننا لا نتشاجر..
فهي غالبًا ما تمطرني عند أول صِدام بيننا بالكثير من: حسبي الله،
وليتني ربيت قرد ولا ربيتك، والله ياخذك ويريحني مِنك..
وما يثير جنونها هو أنني أقابل هذا بصمت وبلادة فتزيدني مِن سِعة!
أمي تذبل.. أرى هذا وأشعرُ بالخريف الذي صار يسكن بيتنا ويُسقِط أوراقها ببطء..
وفي أخر شجار بيننا.. انفعلت عليّ بشدّة وأنا اكتفيتُ تمامًا بأن أتأمل ملامحها التي انهمكت الحياة
بنحتِ تجاعيدها بريشة المعاناة ولم ترأف بحالها ولا بي..
وبابتسامة مريرة قلت: أصرتِ عجوزًا يا أمي؟!
صدمتها عبارتي وعرفتُ أنها ظنتها شيئًا من عقوقي المعتاد لها، ولم تفهم مرارتي وحُزن حالي..
لم تغضب ولم تقل شيئًا، فقط التمعت الدموع في عينيها ومضت..
وأنا قضيتُ الوقت أبكي..
رباه.. أجعلني سطحًا خلفيًا لمرآة، لا يقف أحد أمامه، ولا يعكس أي شيء، لا أريد أن يبحث أحد عن انعكاسه بي..
فأنا سوداء يا الله.. سوداء!



***


في الليل تسللتُ لغرفتها فوجدتها ضائعة في نومٍ عميق..
جلستُ على الأرض جوار السرير وأخذتُ أحدثها بصوتٍ يخنقه البكاء:
أنا أسفة يا أمي، لم أقصد أن أوجعك هكذا، أنا فقط خائفة، خائفة..
هذه الحياة بشعة، ولا تتوقف عن سكب بشاعتها في دمي لأصير مثلها..
كل ما ظننته في صغري عاد ليخذلني وأنا كبيرة هشة!
لا يوجد أمير يحتفظ بحذاء الفقيرة اليتيمة، ولا شجاع يوقظ الأميرة النائمة!
ساندريلا ستظل عرجاء للأبد يتيمة للأبد، والنائمة ستكون تلك الميتة
التي يوهمون أنفسهم أنها ستستيقظ يومًا، ولن تفعل..
أنا لا أريد أن أكون نائمة لا يوقظها أحد يا أمي، ولا يتيمة تهرب من حقيقتها..
أرجوكِ لا تذبلي، لا تتركيني هُنا.. فأنا أحبكِ أكثر من أي شيء، والله أحبكِ!



***


واستمرت بالنوم ليلتها.. ولم تسمعني!




***


رسائل نصيّة




الساعة 1:14 a m
- يوسف.. اتصلتُ بك كثيرًا ولا تجيب.. عاود الاتصال بي أنا متعبة ياحبيبي وأحتاجك بعنف!
- أنا بالعمل الآن خنساء، لن أرجع اليوم من المستشفى إلا حين أخلص عاتقي من مئات الأشياء المكدّسة عليّ.. أحبكِ!
الساعة 2:17 a m
- يوسف أنا ضائعة تمامًا وبحاجة لوطنكِ، اتصل بي أرجوك!
- حبيبتي لقد عدتُ للتو.. أنا منهك وسع السماء، لا تطلبي منّي أي شيء سوى أن أنااام!

الساعة 2:18 a m
- يوسف "ياوسخ ياعديم الشرف كل تبن" واتصل بي الآن!
- مِن عيوني..



***


متى ظهر يوسف في حياتي؟!
ظهر حين بدأت تلك الأحلام المشوّهة بمراودتي.


يُتبع..

الصوت الحالم
22-09-2016, 11:36
السلام عليكم و رحمة الله و بركاته

تبدو لي رواية شيّقة رغم أنني لم أنهي سوى المقطع الأول
و لربما أعود إن حظيت بوقت كافٍ
أتمنى فقط أن لا تحمل نفس الفكرة المبتذلة لعلاقات الحب المبتذلة؛ و أعلم أنه يجب عليّ أن لا أتسرع في الحكم

لم أشأ أن أمر دون ترك تعقيب خصوصا و قد أعجبني ما أوردته من تشبيهات إيمانية كقولك:

رسالة وداع طويلة ترافقني مدى هذا العمر المتشح بحزنٍ كزاد نبيّ الله عزيز لا يتسنّه ولا يتغير طعمه!
لأصلبُ وتأكل الطير من رأسي بلا صاحب سجنٍ ولا نبيّ يُئوِّلُ مُسبقًا موتي.

كما أردتُ أن أشير لك بأن تطلب من أحد الإداريين هنا نقل الموضوع إلى قسم قصص الأعضاء
لتحظى الرواية بإقبال أكبر من بقية الأعضاء

و بالتوفيق لك أخ قيس

S H O C K
22-09-2016, 12:04
......*,


جذبني العُنوان، وحين اطَّلعت على المحتوى وجدت الفكرة مطابقة لرواية أخرى قديمة!
و بالمصادفة أن اسم الشخصية الرئيسية هو ذاتهُ تمامًا، لذا أرجوا أن لا تكون هي ذاتها ،
قد أعود.

قيس العامري
22-09-2016, 22:53
السلام عليكم و رحمة الله و بركاته

تبدو لي رواية شيّقة رغم أنني لم أنهي سوى المقطع الأول
و لربما أعود إن حظيت بوقت كافٍ
أتمنى فقط أن لا تحمل نفس الفكرة المبتذلة لعلاقات الحب المبتذلة؛ و أعلم أنه يجب عليّ أن لا أتسرع في الحكم

لم أشأ أن أمر دون ترك تعقيب خصوصا و قد أعجبني ما أوردته من تشبيهات إيمانية كقولك:


كما أردتُ أن أشير لك بأن تطلب من أحد الإداريين هنا نقل الموضوع إلى قسم قصص الأعضاء
لتحظى الرواية بإقبال أكبر من بقية الأعضاء

و بالتوفيق لك أخ قيس


سلمتِ صوت..
وألف مرحبًا بكِ في تسكعكِ بين أحرفي وفي غيابكِ عنها
وفي كل وقت!
في الحقيقة أتمنى دائمًا أن أكسر حاجز السرد التقليدي
وأجعل كل صفحة جديرة بالقراءة وملامسة من يمر عنها
بعيدًا عن القصة وفكرتها!
كذلك أؤمن أن الأشياء الصادمة والمختلفة هي التي تعلق في داخلنا أكثر
في حين ترحل الأشياء العادية بصمت كما أتت!
بالنسبة للابتذال فأعتقد أنكِ تعنين قصة الحب التي تحدثت عنها خنساء.. في الواقع لا يتعدى الأمر كون تلك القصة مجرد جدار أوجدته لنثر تأملاتها بصورة منطقية عليه، وليس هو بالشيء الأساسي الذي ترتكز إليه الرواية..
شكرًا جزيلًا لكِ وأنرتني بهذا الحضور أختي..

قيس العامري
22-09-2016, 23:01
......*,


جذبني العُنوان، وحين اطَّلعت على المحتوى وجدت الفكرة مطابقة لرواية أخرى قديمة!
و بالمصادفة أن اسم الشخصية الرئيسية هو ذاتهُ تمامًا، لذا أرجوا أن لا تكون هي ذاتها ،
قد أعود.

في البداية مرحبًا..
وشكرًا جزيلًا لثنائك على العنوان!
بالنسبة للاسم – خنساء – فقد تم اختياره لاقترابه من "خرساء" ولفلسفة استبدال النون بالراء والعكس وليس لأي سبب آخر، أما بشأن تطابق الرواية مع رواية أخرى فلا اعتقد أن هذه الرواية وضحت فكرتها حتى لنتهمها ليس بالتشابه بل "التطابق"!
الأمر الآخر أعجب حقًا كيف حكمت بتطابق صفحتين في بداية رواية أي بمرحلة البناء مع رواية كاملة بدأت وانتهت!
عمومًا أتمنى ادراج اسم الرواية هُنا لنرى جميعًا هذا التطابق الذي تحدثت عنه..
ومرحبًا بك عمومًا سواء عدت أم لا :)

إڪليل الورد
22-09-2016, 23:10
نهاية الجزء الاول من القصة فاجأتني اكثر مما قبلها
في انتظار الجزء الثاني

قيس العامري
22-09-2016, 23:24
نهاية الجزء الاول من القصة فاجأتني اكثر مما قبلها
في انتظار الجزء الثاني

أتمنى أن أكون على قدر هذه الدهشة والحضور الجميل وأهلًا لها..
الجزء الثاني غدًا بمشيئة الله.

قيس العامري
23-09-2016, 12:56
ناسكة خاطئة "2"!

"رسالة لن تصل أبدًا"



بي من الحزن ما يكفي لصنع ألاف الشُعراء، ومن البلاغةِ عجز طفلة صغيرة عن النطق بعد أن أنهكها البُكاء..
ما زالت الحياة تشبه ذلك المطعم الفاخر.. نطلب به وجباتنا، ويأكلها الآخرون، والحساب مزيدًا مِن سنين العُمر..
كل تلك الدروب التي كُنا نقطعها معًا ياجمال، صرت أتعثر عليها اليوم وحدي..
أنت تمضي، وأنا أحاول اللحاق بك، والمسافة بيننا في اتساع لا يضيق..
حلمي الذي حِكته بك كي ارتديه حين يجلدني الشتاء، ترتديه اليوم امرأة غيري لم تشعر بالبرد يومًا..
ولم تناطح كفها مخرز الأيام لتنزف ولو نبضة في سبيلك.. والآن أقفُ بعد أن غلّقتُ أبواب فرحي،
وأقول للحُزن هيت لك، فلا يخاف الله بي..
يُبجّله شاهدي، ويباركه عزيزي.. وأرى في عينيه.. سبعينًا عجاف!
ربما بشيءٍ من الحياد، قد أرى أني لا أصلح لك!
جميع من في الأرضِ أنبياء، وأنا الزانية الوحيدة، وزانية مثلي لا تصلح لنبيٍ مثلك حتى لو كانت فقدت طهارتها على يديه!



***



"رسائل نصيّة قديمة"

3: 45 A M
جمال.. أتعرف ما الجديد؟ صرتُ أغرس اصبعي الأوسط في عين ذكراك كل صباح!

3:45 A M
جمال.. ذاكرتي العوراء تلعنك كُل يوم..

3:46 A M
جمال.. أمس روادتني نشوة عارمة احتلت جسدي كالزلازل، حين تخيلتُ أني أبصق في وجهك!

3:48 am
جمال.. أنت دنسٌ ابن كلب..

3:52 am

جمال.. عُد لي.. والله أحبك!



***


"قصاصة"

هذه الأغنية صارت عذابًا مُقيمًا.. لا يفارق رأسي..

لا إنت وردة، ولا قلبي مزهرية من خزف
صدفة واحدة جمّعتنا.. شفتي وشلون الصُدف
التقينا في مدينة.. وفرقتنا ألف مينا
اغفري للريح والموج والسفينة
كانت الرحلة حزينة للأسف!



***



"مُذكرات خنساء"

سأخلدُ للبكاء..
أقولها كل ليلة وأطفئ الضوء الذي لم يعد يختلف عن الظلام كثيرًا في عيني،
ثم أطفئ نفسي وأدفنُ حُزني في صدر الوسادة أهديها رزقها وكفاف ليلتها مِن الشتاء وأنام!
آهٍ لو كان لوسائدنا لسان يحكي.. والله لأبكت أوجاعنا العالمين!
كان النوم دائمًا مهربي الجميل، إلى أن قررت تلك الأحلام أن تزورني، وتشارك بدورها في مهمة تحويل عُمري رمادًا تأنفه الرياح!
أحلام شاحبة قاتمة سوداء، بدأها حلم مشوّه رأيتُ به أبي يموت، مازال عصيّاً على ذاكرتي لفظه إلى نسيان قريب..
لا أذكر الكثير من تفاصيله، رغم أن كل شيء به كان واقعيًا إلى حدٍ مرير..
ملمس جبين أبي البارد حين لثمته، ذلك البلل في صدري تحت ملابسي الذي خلّفه انهمار دموعي المستمر..
وجه أمي الشبيه بصومعةٍ تقيم بها قبيلة مؤمنة من الأحزان الليل ولا تقعده!
ثم استيقاظي فجأة من النوم مشلولة أبكي مِن كل غيوم السماء!
كان مجرد حلم.. أبي مازال في سفره، وأمي ما زالت تندب حظها الذي أهداها تلك المُصيبة (أنا)..
قلبي ما زال ملقى في أقذر طرقات المدينة تركله أرجل الغرباء!
حسنًا.. مازال كل شيءٍ بخير!



***


لكن الأحلام لم تتوقف..
وكانت تزداد غرابة وسوداوية وواقعية مُنهِكة كل مرة!



***


تقول لي أمي وهي تقلّب صفحات كِتاب ما، وهذه طبعًا واحِدة مِن اللحظات النادرة التي نجتمع بها على أريكة واحدة:
- جاءكِ عريس.
الموضوع المُنفر ذاته..
أسألها في فتور وأنا أتأمل صوري الباهتة في مقبرة هاتفي:
- هل هو مناسب؟
- مناسب.
- اخلعي أبي وتزوجيه إذن!
أغمضت عينيها للحظة مانعة نفسها -بإرادة لا بشريّة- من اقحام الكتاب في عيني وأكملت:
- ستزورنا أمه بعد غدٍ لرؤيتكِ، أرجوكِ حاولي أن تكوني أقل وقاحة.. واثارة للشفقة!
وضعتُ الهاتف من يدي ونظرتُ لها مستنكرة:
- هل تعنين هذا حقًا؟ أنتِ تعرفين رأيي في الزواج في أيامنا السوداء هذه، أمي ماذا لو كان شاذًا، أو مهووسًا، أو داعشيًا.. ها؟
بادلتني الاستنكار باستنكار أكثر حِدّة ومنطقية:
- داعش؟ حقًا؟ حتى لو كان كذلك، أعدكِ أنه سيتوب إلى الله توبة خالصة بعد أن يرى حقيقة شجرة الزقوم التي تزوّجها وأسكنها بيته،
أو ربما سيبخع نفسه على الطريق العام ويعيدكِ لي أرملة تتعفنين هُنا!
- أنا أتعفن منذ الآن..
القت الكتاب من يدها ونهضت قائلة:
-ابن خالتكِ عادل مريض، ارتدي ملابسكِ وسنذهب لزيارة خالتكِ الليلة.
-اذهبي وحدكِ أنا أكرهها.
- ستذهبين من أجلي لا من أجلها..
أجبتها في رقة:
- لن أفعل ذلك من أجل نفسي، ولن يجبرني أحد!
نظرت لي في طيبة وهمست:
- سأحرمكِ من هاتفكِ المحمول اسبوعين إذن!
- أمهليني دقيقة وسأكون جاهزة.. أحبكِ "ماما"
تلك العجوز تستطيع أن تكون مقنعة متى تريد!
ما لم تعرفه أمي أن جدارًا عتيقٌ مِن الحُزنِ كان يسد طريقي لبيتِ خالتي باستمرار، جدارٌ يحمل اسم عادل..
لا أذكر كم كان عمري بالضبط وقتها لكنّي أذكر تمامًا مذاق تلك الحسرة التي زرعها في صدري
وظللتُ أجني مرارتها على امتداد درب حياتي المدروز باللوعات!
رسمتُ على جدار قلبي نافذة ليدخل منها الضوء، فهربت مِنها طفولتي وذاكرة بيضاء من غير سوء ككفِ نبي الله موسى!
كنتُ دائمًا تاجرة خرقاء، تبيع المعاطف في بلدة لا يُعانقها الشتاء!
وكان عادل أول الخسائر في حياتي.. وأول الأوجاع..
أذكر أحلامي السخيفة ليلتها، وكيف نسجتُ لها أجنحة الفراشات لتحملها مباشرة نحو النيران!
أذكر صوت رنين خطواتي المتجهة صوب غرفته -والشبيه برنين أجراس كنيسة عتيقة،
يُبشر بقدوم عامٍ ميلادي/موتيّ جديد- بعد أن انسللتُ مِن جوار أمي..
أذكر جيوش الكلمات التي احتشدت في فمي لتلقي على عينيه السلام..
وحين رأت خيبتي هربت جميعها إلى داخلي بخفيّ أنين مِن شظايا أدمت شفتي وتركت لي لسانًا مبتورًا لا يفارق قبر فمي!
والعجيب أني شعرتُ بخيطٍ مِن الدماء يسيل على ذقني جهلتُ مصدره!
سمعته ليلتها -عادل- يتوسّل امرأة ما على الهاتف كي لا تتركه، يسحق رجولته أمامها باكيًا مُستعطفًا..
دار الأمر بسرعة حادة بعدها.. رآني، صرخ في وجهي يسأل عن سبب وقوفي هنا،
دفعني في صدري بعنفٍ لم يقصده، فأسقطني على ظهري أبكي ذنبًا لم أقترفه!
حسنٌ استمرت الحياة بعدها.. اعتذر عادل كثيرًا وبكى كثيرًا على مدار أيام..
هو رجل حساس ولا أنكر هذا، لكنّه انتهى تمامًا بالنسبة لي.. صار في الحياة شيء كأثداء الرجال.. لا قيمة له!
واليوم وبعد كل هذه الوقت، لا أحد غيري يعرف أن جزء مِني ما زال ملقى على عتبة غرفته هناك، تدوسه أقدام السنوات ولا يموت!



***


بيت خالتي مِن جديد..
الجلسة الكئيبة ذاتها كل مرّة
الجو الخانق ذاته
الأشخاص ذاتهم..
الثرثرة ذاتها والنميمة الباحثة في حياة الآخرين عن حُزنٍ أمين نركن إليه، فنقنع أنفسنا كذبًا أن حياتنا ليست بهذا السوء!
عادل في غرفته تتناوله الأدوية، وتعلكه الحمى، وتبصقه الحياة.. بعد زواج قصير فاشل لم يدُم أكثر من عامٍ ونصف.
غادرتُ مجلسهم وأخذتُ أتجوّل في البيت.. هذه المرة أنا أنثى واثقة لا صبية آملة، وبين هذه وتلك، ضاعت هويّة هذا العمر!
أقف أمام المرآة اتأمل ملامحي الشاحبة، فأرى بها الليلة شيء من جمال غريب.. وشيء من قسوة قديمة نحتتها الأيام بدقة عليها..
روحي سوداء، وأحزاني سوداء، وأفكاري سوداء، وباب غرفة عادل خلفي يُداعب نيّة شيطان بداخلي لم تتوقف عن مراودتي منذ أتيتُ!
ربما حان الوقت لأنتشلني الليلة من سقوطي القديم.. واهداء هذا البيت فاجعة استحقها منذُ ثلاثة عشر عامًا!
أطلق سراح شعري على كتفي، وأبتسم لنفسي ابتسامتي الأثمة التي أحبها، وأدندنُ في خفوت:


التقينا في مدينة.. وفرقتنا ألف مينا
اغفري للريح والموج والسفينة
كانت الرحلة حزينة للأسف..
كانت الرحلة حزينة.. للأسف!

تيرارارا

إڪليل الورد
02-10-2016, 09:27
لا ادري ماذا اقول هذه رواية مشابه ام مطابقة ام هي منقولة ؟!
شكراً لتسليط الضوء عليها
http://bab3atieq.blogspot.com/2015/11/blog-post_28.html

قيس العامري
05-10-2016, 02:13
لا ادري ماذا اقول هذه رواية مشابه ام مطابقة ام هي منقولة ؟!
شكراً لتسليط الضوء عليها
http://bab3atieq.blogspot.com/2015/11/blog-post_28.html


ليست مشابهة ولا مطابقة ولا منقولة، الرواية هي نفسها والمدونة "باب عتيق" مدوّنتي وقد أحببتُ أن أضيفها هُنا لأرى انطباعات الناس بشكل أكثر اتساعًا..
وقد أضفتها في المدوّنة باستثناء الحلقة الأخيرة للحفاظ على الحقوق، وهي قيد النشر الورقيّ الآن بالفعل وسأزيلها هذا الاسبوع بمشيئة الله من هناك.

إڪليل الورد
05-10-2016, 02:46
ليست مشابهة ولا مطابقة ولا منقولة، الرواية هي نفسها والمدونة "باب عتيق" مدوّنتي وقد أحببتُ أن أضيفها هُنا لأرى انطباعات الناس بشكل أكثر اتساعًا..
وقد أضفتها في المدوّنة باستثناء الحلقة الأخيرة للحفاظ على الحقوق، وهي قيد النشر الورقيّ الآن بالفعل وسأزيلها هذا الاسبوع بمشيئة الله من هناك.
كان هناك احتمال بس ما أعطيته فرصة هو ان الرواية قديمة واعدت تنزيلها بطريقة متسلسلة من جديد والسبب لا يهمني ، بس عتبي اني لما جربت أتأكد من الحقوق ووجدت الرواية لها وجود في احد المدونات بتاريخ قديم ولكن الحمدلله ماهي مسروقة في النهاية
اعتذر عن الإزعاج ، ان شاءالله راح اكمل السلسلة حتى النهاية اذا نالت اعجابي وراح أعطي رأيي اكيد في النهاية ^_^

الصوت الحالم
05-10-2016, 20:47
السلام عليكم و رحمة الله و بركاته
أعذرني أخ قيس لم أستطع الانتظار هنا
و منع نفسي من إكمال قراءة الحلقات دفعة واحدة في مدونتك
كنتُ أسأل نفسي بعد كل حلقة: ماذا بعد؟

اسمح لي بالرد هنا... و لبقية القراء تجاوزوا قراءة ردي فقد يحتوي على حرق للأجزاء القادمة

رغم أن فكرة علاقة الحب بين خنساء و جمال لم تجذبني
و لم أتقبل رد فعلها التي تنمي عن ضعف عوضا عن الاعتراف بالذنب و الندم على الخطيئة
إلا أن الرواية تجاوزت نقم خنساء على جمال إلى نقمها على الواقع و المجتمع كما يبدو...
لقد تناولت أكثر من قضية في طيات هذه الرواية و إن كان بشكل عابر

اتقنت تجسيد شخصية خنساء و الإحاطة بأهم التفاصيل عنها لإخراجها في هذا القالب
و صدقاً أشيد بقدرتك في الرصف اللغوي و الوصف الرائع
و لو كنتُ سأقتبس عبارات من روايتك لما اكتفيت باثنين أو ثلاثة
روايتك غزيرة و زاخرة بالعبارات اللافتة
و إذا لم تمانع فاسمح لي بتسجيلها في ضمن قوائم الاقتباسات التي أحفظها في جهازي

غير أنني أتحفظ على بعض منها كقولك:

وسلامٌ عليّ يوم ولدتُ ويوم كُسرتُ ويوم أدفنُ حيا!

بدا لي أن خنساء تعاني من انفصام أو هذا هو الانطباع الذي تكوّن لي عنها

ما زلتُ أتساءل هل انتحرت مايا في النهاية؟؟

بالتوفيق لك و لقلمك المبدع

قيس العامري
06-10-2016, 14:25
السلام عليكم و رحمة الله و بركاته
أعذرني أخ قيس لم أستطع الانتظار هنا
و منع نفسي من إكمال قراءة الحلقات دفعة واحدة في مدونتك
كنتُ أسأل نفسي بعد كل حلقة: ماذا بعد؟

اسمح لي بالرد هنا... و لبقية القراء تجاوزوا قراءة ردي فقد يحتوي على حرق للأجزاء القادمة

رغم أن فكرة علاقة الحب بين خنساء و جمال لم تجذبني
و لم أتقبل رد فعلها التي تنمي عن ضعف عوضا عن الاعتراف بالذنب و الندم على الخطيئة
إلا أن الرواية تجاوزت نقم خنساء على جمال إلى نقمها على الواقع و المجتمع كما يبدو...
لقد تناولت أكثر من قضية في طيات هذه الرواية و إن كان بشكل عابر

اتقنت تجسيد شخصية خنساء و الإحاطة بأهم التفاصيل عنها لإخراجها في هذا القالب
و صدقاً أشيد بقدرتك في الرصف اللغوي و الوصف الرائع
و لو كنتُ سأقتبس عبارات من روايتك لما اكتفيت باثنين أو ثلاثة
روايتك غزيرة و زاخرة بالعبارات اللافتة
و إذا لم تمانع فاسمح لي بتسجيلها في ضمن قوائم الاقتباسات التي أحفظها في جهازي

غير أنني أتحفظ على بعض منها كقولك:


بدا لي أن خنساء تعاني من انفصام أو هذا هو الانطباع الذي تكوّن لي عنها

ما زلتُ أتساءل هل انتحرت مايا في النهاية؟؟

بالتوفيق لك و لقلمك المبدع

وعليكم السلام ورحمة الله..
أهلًا أختي صوت..
في الحقيقة أسعدني جدًا أنكِ صادقتِ خنساء، وأتمنى أنها كانت رفيقة طيّبة لكِ، وأحسنت التسلل إلى داخلك!
أعرف أن فكرة العلاقة بينها وبين جمال مستهلكة، لكنّها لم تكن إلا تفصيل اجباري، أردتُ به منحها نافذة تبث منها تأملاتها وسخطها على المجتمع، بطريقة لا تجعل القارئ يشعر بالتكلّف وعدم المنطقية في سخطها شبه الدائم!
في أحيان كثيرة كنتُ أحاول ايصال أن جمال مجرد معنى، يتلخص به استبداد مجتمعاتنا الذكورية، وأنانيتها.
كذلك حاولتُ جهدي في الرواية أن أجعل من كل صفحة قطعة جديرة بالقراءة، بغض النظر عن القصة نفسها أو الفكرة.
أسعدني ثناءكِ، وشغفكِ بإكمال الحلقات بهذا الانهماك، ويشرّفني بكل تأكيد أن تضاف اقتباسات الرواية إلى مجموعات اقتباساتكِ.
أما بالنسبة للاقتباس الذي لم يشعركِ بالارتياح، فأعتقد أنني أيضًا كذلك، والكثير غيره، وسأحاول أن أعالج الأمر بإذن الله إذا كان به شطط.
ملاحظة صغيرة فقط: لا أعتقد أنني سأضيف باقي الحلقات هُنا، وكنتُ أتحيّن الفرصة لأطلب من الإشراف ازالة الموضوع، لا لشيء سوى أنني فعلًا قليل التفرّغ هذه الأيام، وأعرف أنني لن ألتزم بجدولٍ ثابت، وكذلك لأن الرواية ستُنشر قريبًا بإذن الله وسأقوم بحذفها من المدوّنة!

شكرًا جزيلًا أختي صوت، وسعدتُ بكِ!