PDA المساعد الشخصي الرقمي

عرض كامل الموضوع : ابنة الشيخ



إبتهال الجنوب
05-06-2015, 17:39
بسم الله الرحمن الرحيم
ابنة الشيخ

حين تجتاح قلبي نسائم الرضى , أجدني و الأيام في حال من العشق , يطوي الزمن طيَّا .. لكأن اللحظات تتسابق و نبض قلبي بين رياض من الهناءات تطرب لها روحي فتشجيني . أتيت إلى قرية في محافظة سوهاج بصعيد مصر في صبيحة يوم ربيعي من عام 1990 م وهكذا قد تم توزيعي فحمدت الله رغم ما عانيته من مرارة العيش في أجواء لم أعتدها .. طقس , عادات , تقاليد , إصباحات و إمسيات كاد ثقلها يُضنيني وأنا القاهري الذي ما برح العائلة و الأصدقاء قط , حتى أنني كدت أتراجع عن تكليفي كطبيب خاسرا ما لا سبيل لتعويضه لولا عزم حباني ربي أياه جعلني أتجلد في صبر جميل . فكم تمطى النهار كصحراء لابر لها ولا حد يُرى .. فإذا ما أنزاحت الشمس نحو الغروب أسلمتني الى صمت ليل أحتلَّ جنبات ذاتي وإن علا صوت التلفاز و ضجيج من الخارج تلفظه مسامعي وتأباه , فهو لا يخصني و لا يعنيني , وإذا بمجامع حسي تتنبه متلهفة .. أنه اسمي .. هناك من يناديني برنة المستغيث يا دكتور عبد الرحمن يا دكتور لكأنه اسمي كان عني تائها و على حين غفلة اليَّ عاد . أنه الشيخ عبد الله فقيه القرية قد عاودته نوبة السعال دون توقف ..
فأسرعت في شبه قفزة كما لو كنت ملقيا بنفسي من طائرة تكاد تهوي إنقاذا لحياتي و بالأحرى إنقاذا لحياة الرجل الذي ما كنت رأيته من قبل , ولم أنس ألملم في حقيبتي أشياء على يقين حاجتي إليها في مثل هذه الحال . و بحمد الله هدأ سعال الرجل واستكان في فراشه كطفل وادع , وهو على حد تقديري قد تجاوز العقد الثامن من العمر , البياض يطغى على صورته وعلى ما سواه في الغرفة وكأنه بقعة مضيئة تشع على كل ما سواها . بشرة بيضاء و لحية كذلك و شيبة ناصعة البياض تعلو رأسه في بهاء متسق و براءة تطل من عينيه تسكن إليها الروح و تستظل في حنايا نعيمها .. جلست إليه على مقعد أقرب ما يكون إلى فراشه في صمت يلفه أُنس أشتاقه وأمان لم أعهده و صحبة أحسبها تغنيني عمن سواه من البشر في جميع عالمي أينما أكون , ليت صحبته تدوم لأبقى في كنفه دوما وقد خرج الجميع رغبة مني في مزيدا من الأكسجين في الغرفة , حتى زوجه الستينية التي تبدو على قامتها انحناءة طفيفة , مكينة النظرات تتحرك في أناة , تتسم بضآلة لم أعهدها إلا في حالات عضال من المرض وما هي بمريضة وذلك ما وشت به ملامح وجهها الدقيقة مع بشرة سمراء لا تمت مطلقا الى الصفاء بشيئ , , وما الصفاء إلا صناعة الروح و وسمها الفريد .. وما غادرت حتى شعرت باستغراقة الشيخ في نوم هادئ .. وما غادرت .. و نمت ليلتي في فراشي و صورته مطبوعة على صفحة عيني أغمضتها أو لم أغمضها , واستحالت القرية البغيضة إلى قرية من نور؛ من جراء تلك البقعة المُشعَّة والهالة النورانية التي تعلو ذلك الشيخ الجليل , وأصبح هو و جهتي التي أحج إليها إذا ما فرغت من عملي كل يوم ناهيك عن يوم الجمعة فجميعه إلا قليلا منه , وما كان مجلسنا إلا خارج الدار على مصطبة مُغطاة بحصيرة رقيقة من البلاستيك و الدار ذاتها من الطوب اللبن دور يعلوه آخر وشرفة رائعة مسورة بخشب مفرغ ذكرني بالأرابيسك و ما هو بذلك , وباب الدار من العتاقة و القدم و الرصانة حتى لتحسبه باب حصن صغير , ومما يزيد الصورة نعيما أشجار الصفصاف التي تنتصب حانية الأغصان ترمي بجميل ظلالها الوارفة من علٍ كرحمة مرسلة من الله ليكتمل مجلسنا بصنوف الرضى و البهاء وكثيرا ما كان يجالسنا آخرون من عائلة الشيخ و مريديه محتلا حديث الشيخ عبد الله جل َّالوقت بصوت بعضا من الأيام عفي رخيم


ينساب الى مسامع القلب بعذوبة تُسكر الروح في إغفاءة روحانية لا يقطعها إلا سلاما من الله ورحمة إجابة على أحد المريدين قادم .. وبعضا من الأيام يأتي صوت الشيخ عبد الله متهدج متقطع يشي بإعتلال في صحته مما يجعلني أتحين الفرصة معتذرا بالانصراف راجيا أياه الراحة في الفراش و كثيرا ما وقف متكئا على يدي متشبسا بها ووجه الى باب الدار موحيا إليَّ بصحبته حتى الفراش و ما هو ببعيد وإنما في صدر البيت غرفة تنم عن نظافة بالغة و ترتيب مريح وما بها إلا مخدع الشيخ باغطيته الناصعة البياض و منضدة صغيرة تجاوره فمقعد وثير وأريكة و خزانة تنتصب في جانب من الغرفة تواجهها في الجانب الآخر أرفف اصتفت عليها مجلدات في وقوف مائل منتظم على مقربة منها مشجب علقت عليه بعضا من ملابسه وفي الوسط يفترش الأرض بساط ( كليم ) باهت الرسم ولكنه أيضا مشهود له بالنظافة و العناية .


و حين مساء أذكره بفحيح أنفاسه الراجفة حاضرا في محيط ذاكرتي واروقتها وكأنه توا كنت فيه , وقد فرغت من دقائق معدودة من تهاتفي وأمي في القاهرة مراضيا لها قدر استطاعتي وهي متهمة أياي بالنسيان و التغافل عنها وأخوتي دونما إتصال مني يُذكر من بعد شكاياتي في الأسبوع الأول من الهواء الفائت عل حد تعبيرها رامية بحصافتها لشيئ ما هنا قد اجتذبني .


يا دكتور عبد الرحمن .. يا دكتور عبد الرحمن النغمة من حدتها أحدثت كأنما جرح في كياني خاصة وأني كنت قبل قليل في رحاب حديث أمي وأمنه الرحيم , فتحركت بثقل لأجد ما روعني حين نظرت من النافذة لأول وهلة نفر من الرجال جميعهم من أبناء أخوة الشيخ عبد الله وهم بمثابة الأبناء له حيث أنه لم يرزق ولدا ذكر , وما أن هبطتُ درج الاستراحة حتى التفوا بي على كلمة واحدة وكأن جميع الاصوات اختصرت في صوت واحد , ماذا فعل بك الشيخ ..لتجعل سيرته علكة في كل فم , لتذهب معنا الآن لقراءة الفاتحة مع الشيخ , فدارت بي الأرض ولم أتبين من الأمر شيئا , إلا حين بدت الدهشة تعتلي و جهي فعلق أحدهم هل تريد دُخلة و نحن لم نعلن بعد عن خطبتك لابنة عمنا .. يالك من قاهري متسرع تتلاعب بعاداتنا و وما ألفنا من قيم , هل تحسبنا بلهاء ؟!! وأخذتني أقدامي في رفقتهم حيث بيت الشيخ عبد الله الذي لقيني بوجه شاحب وصوت خافت مرتعش النبرة فجلست إليه كما أشار بيده المتعبة , و بالأخرى بخروج أبناء أخوته من الغرفة , و بحزن قهرني قال : " فجرا غادر القرية يا بُني قافلا إلى أهلك بلا رجعة إلى هنا أنك لمنزه عما يقولون وأنا أعلم أنك لا علم لك بابنتي ولا معرفة تُذكر , غير أن ابنتي يا ُبني كفيفة البصر طاهرة عفيفة فهي ابنتي وأنا أعرفها وأخرج الآن وإن سألوك قل أننا أتفقنا وأذهب .."


فوجدتني أقفذاهلا حتى أني لم أودع الشيخ بكلمة أو حتى إماءة ..


وخرجت لألتقيهم تاليا ما لقنني الشيخ دون أن أعي كنه سؤالهم ولكنهم لم يعلقوا و تركوني أمضي .


وأنقضت الليلة لا أدريها أكانت طويلة أم قصيرة لم يغمض جفني وأنا أسبح في فراغات أهيم فيها صعودا و هبوطا تائها حائرا إلى أن رُفعأذان الفجر فنزلت من حومتي إلى أرض الواقع في استفاقة جعلتني أنتفض من مخدعي واقفا فصليت وجلست مسترجعا أحداث الأمس فما وجدت منها يترقرق في خلجات صدري إلا كلمات الشيخ عبد الله .. وماذا هو بين أهله بعد أن أذهب أنا و بالأحرى أهرب أنا .. !! ووجدتني أرتدي ملابسي ملقيا بأغلالي عازما التوجه إلى من دعوت ربي أن أبقى في كنفه دوما , و التقيته يجلس إلى سالم ابن أخيه فصافحته و عينه تسألني بعطف اشتملني واحتواني حتى كاد يبكيني


لماذا أنت ما زلت هنا ؟!


فقطعت على كلينا الموقف قائلا : لقد جئت على موعدنا لقراءة الفاتحة- والابتسامة ترتسم بصدق القبول و إنه حقا قبولا من القلب – ولم أدع الشيخ ليرتاب في الأمر فمددت له يدي وقرأنا الفاتحة واعدا بحضور أمي حتى لا نحيد عن الأصول .


وبقي لي مأزقي وأمي .. ماذا وكيف ومتى ولمَ وأين ؟؟؟؟؟ جميعهم عليَّ أن أجيب .. فأقترحت على نفسي ألا اذكر في البداية أنها كفيفة وحين تأتي أمي إلى هنا يكون لنا حديث .


وأخبرت أمي بكلمات مقتضبة هاتفيا وكان ما حسبت وأعانني الله وجاءت أمي وهي في طريقها من المحطة إلى الاستراحة أعادت تلك المجموعة من الأسئلة


ذاتها فاعلا بُعد المسافة و مشقتها فعلها .


و على حين فجأة سألتْ سؤالا جديدا


اعتصرتْ له ذاكرتي عصرا .. أهي جميلة لهذا الحد ؟!! .. لقد قفزت صورة فتاة جميلة المحيا تجلس باكية إلى جانب الشيخ ممسكة بيده في أول ليلة ألتقيه حين نوبة السعال .. خرجتْ مسرعة على أثر حضوري .


أعادت أمي السؤال بصوت متوترغاضب , فانتبهت مجيبا بثقة نعم نعم وتشجعت متابعا حديثي ولكن لديها مشكلة في الرؤية سيوفقني ربي في علاجها إن شاء الله , قلتها وكأنني أحادث ذاتي بصوت متكسر مما أثار شفقة أمي تجاهي فشاع السكون برهة من الزمن , قطعته أمي بقولها عليَّ أن أسترح الآن لنذهب بعد صلاة العشاء إلى بيت الشيخ .


وجلست مبتهجا فرح القلب متوهجا شوقا حتى حان الموعد الذي جُلل بتعلق أمي بالفتاة تعلقي بالشيخ في أول مرةبذات الوصف و المعنى معلنة عن رغبتها في كتب الكتاب و الدخلة معا , في القريب العاجل وذلك لمشقة السفر وطوله


وقد كان بإذن الله , و تربعت فاطمة على عرش أيامي راوية لي ما حاكته أمها له وقصته على أبناء عمومتها زورا و بهتانا آلمهاو والدها أشد الألم رغبة في تزويجها .. وما كانت فاطمة إلا مبصرة القلب إذا ما تكلمت كأن علم و حكمة أبيها


مخزون في تلافيف عقلها , وما هي إلا أشهر معدودة لمجيئنا القاهرة واستقرارنا بها واتصل بي صديق على علم بحالة فاطمة التى لم تولد هكذا ولكن لسوء علاج حدث ما حدث .. أنه قد عرض فحوصاتها في مؤتمر طبي وأقرَّ أحد الأطباء نسبة نجاح عالية لإجراء العملية بإذن الله ..


وكان ما أراده الله لنا من الخير ..


استغرقني الماضي و استهوتني الذكرى وعدت القهقرى نحو عشرين عاما مرَّت على تلك الأحداث أرويها وما شعرت إلا وابنتي تسألني ولذا تزوجت أمي على نفس الاسم و الجمال وزدت عليه ثقافة و رقيَّا بعد تلك السيدة الريفية ؟ إنها هي الجميلة أمك ذاتها ابنة الشيخ الجليل رحمة الله عليه .

بقلم : إبتهال الجنوب

29/5/2015

Ł Ơ Ν Ạ ✿
07-06-2015, 00:47
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته

كيف الحال انستي؟ اتمنى انك بخير.
معذره منك فالموضوع ليس في المكان الصحيح،
لذا ينقل لقسم قصص الاعضاء
فالواجهه للمواضيع النقاشية والالعاب وماشابهها

الصوت الحالم
09-06-2015, 12:04
السلام عليكم و رحمة الله و بركاته

كيف حالكِ عزيزتي ابتهال؟ أرجو أن تكوني في أتم الصحة و العافية

بداية دعيني أهنئكِ على هذه الرائعة
لقد نسجتها بجمال... أجدتِ السرد بما أرفقته فيه من تصاوير جميلة

ربما تفتقر فقط لشيء من الحوار و تجنب التكرار المتمثل في "ما" و "إذا"
<< هذا ما لاحظته لكن واضح أن لديكِ موهبة و ستخرجين بتحفة أدبية في حال استمراركِ بالكتابة

بالتوفيق لكِ و دمتِ بخير

إبتهال الجنوب
12-06-2015, 15:52
بسم الله الرحمن الرحيم

وعليكم السلام و رحمة الله و بركاته

اعتذر فهي المرة الأولى التي تشرفت فيها بالدخول إلى منتداكم الراقي ولذا جهلت أقسامه
شكرا لذوقك
ولك مني أرق تحية

إبتهال الجنوب
13-06-2015, 15:49
بسم الله الرحمن الرحيم

وعليكم السلام و رحمة الله و بركاته

شكرا كثيرا لهذا المرور الكريم
وحسن الملاحظة
وجميل الكلمات
لك تحيتي و تقديري

ديدا.
13-06-2015, 22:57
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته


أتعرفين! لم تكن الفكرة مُبتكرة ولكن أسلوبك جعلها كذلك، وهذه سمة كاتب للحق
أهنئك على هذا، فعلى الرغم من خلوها من الحوار إلا أنني انسجمت وغرقت في
العالم الجميل خاصتك


كل التوفيق يا رب
في أمان الله

إبتهال الجنوب
14-06-2015, 15:11
بسم الله الرحمن الرحيم

وعليكم السلام و رحمة الله و بركاته

شكرا لإطلالتك
وأنه ذوقك هو الأجمل
وإشراقته أسعدنني وإضاءة الكلمات
لك مني أرق تحية
حفظك الله