PDA المساعد الشخصي الرقمي

عرض كامل الموضوع : ارتقاءٌ بلونِ السحَاب



جثمان ابتسامة
27-09-2014, 05:47
مدخ ـــل ~

نبأ رحيلهم أشعل شرارة الألم الأولى في قلبه، ولم تكن الأخيرة
فعلى مر الأيام تبعتها المزيد من الشرارات حتى كبرت وغدت نارا عظيمة التهمت فؤاده الصغير بلا رحمة

×××


مع كل إطلالة لفجر يوم جديد، يمتطي ظهر العزيمة ويسابق الضياء قبل أن يلوح في الأفق، مغادرا لأعلى مرتفع جبلي يُمَكّنه من رؤية القرية كلها .. كان يمكث هناك حتى ترتفع الشمس في كبد السماء، ولا يجبره على الرجوع إلا احتماء الحصى تحت قدميه الحافيتين، ونوبة الحر الشديدة التي تجعله يغتسل بعرقه ..
في طريق عودته إلى المنزل يحدث النقيض تماما، فتراه يمشي بخطى صغيرة محبطة منهكة، وتعابير النشاط التي كانت تستوطن ملامحه فجرا حل مكانها حزن عميق .. العيون التي اعتادت مشاهدته كانت تتألم كلما لمحت التغير الواضح الذي يطرأ عليه بعد عودته ضحى، لكن أيا من أصحابها لم يتجرأ أو بتعبير أدق لم يحتج لسؤاله عن سر ذلك التغير، فهذه القرية تختزل ملايين القصصِ التي تتشابه في الأحداث وتختلف في الأسماء، وماذا سيكون هذا الفتى الصغير سوى ضحية لأحد الأيدي العابثة ؟

×××
بيديه الصغيرتين يدفع الباب الخشبي المتآكل ويدلف لمنزله، ولا يستقبله سوى الصمت المطبق، يدير عيناه يمينا وشمالا وهو يُمنّى نفسه برؤيتهم وسماع أصواتهم .. ورغم جنون الفكرة إلا أنها تحتل كافة أجزاء عقله فينسى تعبه ويهرول للحجرة الوحيدة في الدار، وعندها يفيق من سكرته وعيناه تصطدمان بمرأى الفراغ أمامه، زارت ذكرياتهم مخيلته والدمع ينذر بالهطول في أي لحظة ..
هذه الزاوية احتضنت أجسادهم وقت النوم، وهنا كان أخوه الأكبر يستذكر دروسه، وهناك كانوا جميعا يتحلقون حول وجبة الطعام الوحيدة المكونة من رغيف خبز وحبات قليلة من الزيتون، صحيح أنها مائدة لاتسمن ولا تغني من جوع لكن مجرد تجمعهم كان يكفيهم ويرضيهم ويطرد التسخط من بينهم، يذكر كيف كانت والدته تدفع اللقمة تلو اللقمة إلى فمه وابتسامة حب تفيض من عينيها وهي تراقبه كيف يمضغ الطعام ..
لم يسبق أبدا أن صدرت أي شكاوي أو اعتراضات من إخوته، لكن ذلك التمييز بينه وبينهم لم يكن يعجبه بتاتا .. ولم يفهم لفعل والدته سببا، فصرح لها يوما بضيقه :
- لماذا يا أمي أحظى دائما بنصيب الأسد من الطعام دون إخوتي ؟
ظللت عيناها سحابة حزن داكنة سرعان ما اختفت وحلت مكانها بسمة دافئة :
- أنت الأصغر والأهزل .. يجب أن تتغذى جيدا يا حبيبي
فاجأها حين أجاب :
- تكفيني لقمة رغيف واحدة وابتسامة راضية منك .. حبك يا أمي هو ما سيجعلني أكبر
لم تدرك أن فكر ابنها نضج قبل أوانه إلا تلك اللحظة، شعرت بالفخر والسرور كون هذا الشبل الصغير ولدها وفي ذات الوقت انكسر شيء ما في قلبها جعل دمعة تفلت من عينها لكنها نجحت في مواراتها سريعا قبل أن تبلغ وجنتها، طبعت قبلة حانية على جبينه الصافي قبل أن تهمس :
- حفظك الله من كل مكروه يا صغيري .
عند هذه النقطة تلاشت ذكرياته تحت سطوة النعاس الذي هجم على جفنيه بغتة .. وكان رحمة من الله للصبي الذي ربما كان سيهلكه استحضار المزيد من الذكريات إلى ذهنه .. توسد الأرض وقبل أن يغيب في غياهب النوم انزلقت دمعة ساخنة على خده، وصوت ضعيف يتمتم في داخله " أين أنتم ؟ لقد تأخرتم كثيرًا "

×××

- أيها الصبي
استوقفه نداء صاحب الدكان الصغير، توجه صوبه صامتا .. بثياب ممزقة، وشعر مغبر، وقدمين حافيتين
سأله البائع بنبرة حانية ممتزجة بالشفقة :
- لماذا تقف بعيدا؟ اقترب هنا وأخبرني اسمك يا بني
تقدم بضع خطوات وهو يقول بصوت هادئ :
- اسمي وليد
ابتسم الرجل مشجعا :
- وليد اسم جميل .. هل ترغب بقليل من الحلوى ؟
أومأ رأسه سلبا قبل أن يقول بنبرة عميقة اختزل فيها كل لوعته واشتياقه :
- أشكرك يا عم لكن سعادتي تكمن في رؤية أهلي وليس في تناول قطعة من الحلوى
دون أن يدري غرس كلامه وتد كبير في صدر البائع، تفشى الألم في عروقه كما يتفشى السم الزعاف ..
لم يعقب على ما قاله الصبي وعوضا عن ذلك انفرجت شفتاه عن ابتسامة خفيفة وهو يشغل نفسه بالنظر لبضاعته البسيطة عله يسكت الألم الذي بدأ ينوح داخل قلبه .. فقد الأهل وما أدراك ماهو؟ لقد جربه وما زال يتجرع غصصه المريرة حتى اللحظة، يبدو أن هذا الصغير تذوق نفس معاناته، ما الذي يمكنهم فعله ؟ هذه ضريبة كل حرب
بعد أن تمالك حزنه قليلا، رفع رأسه إلى الصبي وقال بلطف :
- اختر ما ترغب من هنا ( أضاف بسرعة حين لمح الاعتراض في وجه الفتى) اعتبرها هدية يا بني وعربونا للصداقة، وإن شئت تعال إلى الدكان كل يوم وتحدث معي، سأكون مستمعا جيدا
في أعماقه شعر وليد بالخجل ولم يرغب أن يرد كرم الرجل، التقط أول ما وقعت عليه عيناه، وانصرف بعد أن شكر البائع بحرارة

×××

هذه المرة الثانية أو الثالثة التي يذهب فيها إلى الدكان، كان منهكا لأقصى درجة ويود أن يقضي على الوجع الذي يتراكض بطريقة مجنونة بين قلبه وعقله وأحشاءه بحثا له عن مخرج، لكن دون جدوى، ألقى السلام على البائع ثم غرق في صمت عميق .. انتشله صوت البائع من شروده :
- كم تبلغ من العمر يا وليد ؟
كانت محاولة منه لإلهاء الصبي عن حزنه، أكثر من كونه مجرد سؤال فضولي .. أتاه الجواب مفاجئا:
- وجه سؤالك للمُسن النائم في جسدي بعد أن يستيقظ! لكني لا أضمن أن يجيبك يا عماه
حار الرجل في أمره وأحس فعلا وكأنه في مواجهة فيلسوف كبير لا فتى صغير، كان متأكدا أن خلف كلماته الممتزجة بالحكم قصة مأساوية :
- يبدو أن التجارب المؤلمة صبغت لسانك بالحكمة وزادتك بضع سنوات على عمرك الحقيقي
لاحت في ذهن الطفل عبارة والدته المحفورة في أعماقه " لن تتعلم ما لم تتألم يا بني " كان يؤمن بمقولتها لدرجة كبيرة، لقد ذاق من الحروب وويلاتها أصنافا من العذاب، بكى، تكلم، صمت، تأمل، توجع، لكنه في النهاية تعلم الا يشكو إلا لخالقه، تعلم كيف يؤثر نفسه على الآخرين، وكيف يضمد جراحاتهم وإن كان ذلك بدعوة صادقة في جوف الليل الآخر، تعلم أن ينهض بعد أن يسقط، وأن لا ينحني إلا لربه، تعلم كيف ينسج صبره عَلَمًا كبيرا يرفرف فوق رأسه كل حين ، تعلم أن يحسن الظن بالله، فكل أمره خير، والنصر آت لا محالة
حاول البائع مواساته ومواساة نفسه في ذات الوقت :
- أدعُ الله يا صغيري أن يجمع شملك بأحبابك في مستقر رحمته، واعلم أن كل ما يأت من الله خير، لذا لا تحزن
- ونعم بالله .. أسرتي على قيد الحياة, لقد هاجروا لمنطقة أخرى فقط
بلغت دهشة البائع أقصاها :
- وتركوك وحيدا ؟
حدّق في جدران المحل بأحجاره المصفوفة التي يشد بعضها بعضا، من يدري ربما يحاول أن يستمد منها شيئا من التماسك بعد أن سمع سؤال الرجل، هل تركوه وحيدا ؟ هذا السؤال المتعب دار في ذهنه مرارا وتكرارا، ولم يجد له أي إجابة حتى الآن ..
كل ما يتذكره أنه عاد من مدرسته ظهر أحد الأيام، وفوجئ بالمنزل خاويا على عروشه، أخبره جاره أن عائلته سافرت مع إحدى القوافل وسيراهم قريبا بإذن الله..
منذ ذلك اليوم وهو لم يترك عادة الذهاب لأعلى مرتفع في القرية حتى يتمكن من مراقبة جميع القوافل المغادرة والعائدة على وجه الخصوص عله يظفر برؤية أهله فور أن تطأ أقدامهم أرض الوطن، لكنهم لم يظهروا بعد

...

ومثل المرة السابقة لم يدعه البائع ينصرف قبل أن يأخذ معه أي شيء، شكره الصبي، ومضى يجوب طرقات القرية قاصدا التوجه لمنزله، لكن لسبب يجهله قادته قدماه إلى حيث ملاذه الجبلي
فكر وهو يقف من هذا الارتفاع قريبا من حدود السماء، أنها مرته الأولى التي يأتِ فيها إلى هنا في مثل هذا الوقت، والشمس توشك على المغيب، أغمض عيناه مستمتعا بالهواء العليل الذي يداعب وجهه، وانطلق بخياله محلقا إلى أبعد مما خلف هذه الرواسي والسهول، حيث تتواجد عائلته في مكان ما، قطع عليه تأملاته صوت خطوات تقترب منه، تلقائيا باعد بين جفنيه واستدار إلى الوراء، لا أحد .. تقدم قليلا وهو ينظر لجميع الاتجاهات بترقب، وحينها تراءى له الزي العسكري المميز لجنود الاحتلال، لا فرصة له ليختفي من هنا والعسكري يتقدم صوبه بسلاحه المعلق خلف ظهره .. أخيرا ها هو ذا يقف أمام الصبي بوجه كالح، بعد أن ترك مسافة بعيدة - نسبيا - تفصله عن الصغير، سأله بغلظة :
-ما الذي تفعله هنا ؟
على عكس المتوقع، كان آخر ما يشعر به وليد هو الخوف، هذه ليست المواجهة الأولى بينه وبين أحد الجنود, لكن الفرق الوحيد الآن أنه في مكان يخلو من الناس .. نظراته المطمئنة الواثقة استفزت سكون الجندي فزمجر بعنف :
- سألتك ما الذي تفعله هنا ؟
الجندي ينتظر إجابة لسؤاله الذي كرره الصدى بصوت عال، والصبي تجيش في صدره مشاعر مختلطة، حزن وغضب وكره، وغصة مريرة أبت أن تفارق رئيته، يود أن يفتك بهذا العدو الذي عاث في الأرض فسادا، ودمر الحرث والنسل، وأحرق الأخضر واليابس، هل يرميه بحجر، أو يندفع لضربه مباشرة دون سلاح ؟ ضغط على قبضته بشدة وأحس بشيء فيها، نظر إليه وفي أقل من ثانية لمعت في ذهنه فكرة ماكرة .. نزع غطاء الشيء الذي يحمله في كفه اليمنى ورماه بعيدا، قبل أن يمد قبضته لأقصى ارتفاع، مسددا إياها نحو الجندي، أخذ ذهن الأخير ثوان حتى يستوعب الأمر الذي سيقدم عليه الصغير، وخلالها تظاهر الطفل بإلقاء ما في يده صوب المحتل
ارتجفت قدما العسكري، خانته شجاعته المزعومة، وسقط أرضا وهو يغمض عيناه بشدة، سامحا لجيوش الفزع أن تدب في جميع أوصاله، كيف لا وهو يتوقع بل متأكد من سماع صوت انفجار عظيم سيحول جسده لأشلاء متناثرة
الطريقة البائسة التي اتخذها الجندي لحماية نفسه - بتغطية رأسه بكلتا يديه - جعلت الصبي يرمقه بنظرات متشفية مستمتعة، بل والأكثر من ذلك جعلته لأول مرة منذ رحيل عائلته يضج بضحكة صاخبة طويلة، لمّا أنهاها وجد الجندي يحدق به ببلاهة تامة، وشيئا فشيئا أدرك عقله أنه تعرض للخداع من قبل جرثومة صغيرة، زئر بوحشية :
- أيها اللعين
وبعدها مر كل شيء بسرعة .. لملم الجندي بقايا كرامته المتهاوية ونهض والحقد يهدر في شرايينه، سحب بندقيته وبلا تردد صوّب ثلاث طلقات استقرت كلها في صدر وليد الواقف بثبات .. سقط الصغير متخبطا بدمائه، وكان الشموخ مصاحبا له حتى في سقطته على عكس ما كان عليه حال الجندي،
غادر الأخير تاركا خلفه جثة حمراء، تقبض كفها الصغيرة على حبة باذنجان أسود، جثة فاضت روحها لبارئها قبل أن يعرف صاحبها أنه من المحال أن تجيء القافلة التي ظل ينتظر وصولها زمنا طويلا، فقوافل الشهداء لا تعود

×××

فجر وليد بلا وليد .. وطريق اشتاق أن يسمع صوت خطوات حافية كانت تسلكه كل يوم، قاصدة أعلى قمة في القرية
لكن صاحب تلك الخطوات كان بعيدا .. فوق إحدى الجبال، وقريبا من حدود السماء، رأسه الصغير يتوسد التربة السامية، بجفنين مطبقين وملامح ساكنة، وشعر كظلمة الدجى تداعبه النسمات اللطيفة، وتحرك خصلاته الناعمة يمينا وشمالا، دون أن تدرك أن من تلاعبه عبارة عن جسد ميت ومن المستحيل أن يستجيب لها..





مـ خ ـــرج ~

جسد جامد لا يتحرك، لكن أجمل ما فيه الابتسامة المشرقة التي تزين ثغر صاحبه، والسبابة المرتفعة نحو السماء بكل إباء .

جثمان ابتسامة
27-09-2014, 05:57
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته

قصتي المولودة من رحم المعاناة .. أنجبتها بعد صراعات نفسية مريرة
لكنها هنا على كل حال .. أرجو فقط أن لا تنشر الحزن في قلوبكم

* لإسم (وليد) في قلبي حكاية حب لا تحكى
حاولت أن أغيره في هذه القصة وفشلت وبجدارة

اممم العنوان تعرفون قصته المعتادة ..

طبتم وطابت أوقاتكم بذكر الله ..

بعد التعديل .. الحقوق محفوظة لجثمان ومنتدى مكسات فقط

"عبد الله"
27-09-2014, 06:00
سلاااااااااااااااااااااااااااام

شكرا على القصة كانت بداية مؤثرة نوعا ما:e401:

وشكراااااااااااااااااااااااااااااااااااااااااااااا كثيراااااااااااااااااااااااااااااااااااااااا:e409:


و ارجو منكٍ زيارة موضوعي النقاشي
http://www.mexat.com/vb/showthread.php?t=1110699

ريحانةُ العربِ
27-09-2014, 20:19
و تنزلي قصة و ما تقولي لي!
حجز:e40e:

جثمان ابتسامة
30-09-2014, 07:53
سلاااااااااااااااااااااااااااام

شكرا على القصة كانت بداية مؤثرة نوعا ما:e401:

وشكراااااااااااااااااااااااااااااااااااااااااااااا كثيراااااااااااااااااااااااااااااااااااااااا:e409:


و ارجو منكٍ زيارة موضوعي النقاشي
http://www.mexat.com/vb/showthread.php?t=1110699


والشكر موصول لك أيضا ..

الحقيقة قرأت فقرات من موضوعك .. لكن لا حيلة لي لوضع رد

أرجو المعذرة ..

في أمان الله ..

جثمان ابتسامة
30-09-2014, 07:55
و تنزلي قصة و ما تقولي لي!
حجز:e40e:


أعتذر ..

بالواقع لم أدعُ إليها أحدا ..

أهلا بك متى ما عدتِ ..