L I L L I
15-07-2014, 18:40
http://www.mexat.com/vb/attachment.php?attachmentid=2061596&d=1425669739
¶
¶
¶
¶
- لم تمت "زِيزيه" تلك الليلة ، إنما سلمآ ..
قلتها لهم قديماً ، لكنهم لم يصدقوا ..
هذا الجسد ، لم يعد يسع لأحلامي ..
هذا الجسد ، أصبح يعيش لها ..
كأثر تذكاري نُصب أمام المرآة كان جسدي ساكناً .. ثم تسلق بصري لها ، الليل أرخى جدائله حتى خصرها ..
أمام المرآة .. برقت عيناي أو ربما سماء تموز تطلّ منهما وفيها وعيد بالمطر ، وخلف المرآة .. حدّقت بي هي بعينين باهتتين ..
- لقد مللتُ منك "زِيزيه" ، أريد ... أن أعيش ..
اتقدت ، كنار على حطب ، وأشتعلت عيناها ، فاحترفتُ بصوتها كما احترقتُ قبل قليل بعينيها ..
"متّ لأجلك ، إذن عيشي لأجلي ، إنها قضية عادلة .."
- عادلة !!
هربت من انعكاسها لمكتبي بالركن عليّ أكتب لانتزعها من ذاكرتي .. كيف أقتلها دون علمهم ؟
كان سطح مكتبي مليئاً بالذكريات ، أشياء نسيتها وأشياء تناسيتها ..
- "زِيزيه" .. متى ترحلين مني كما رحلتِ عني ؟!
طوقّت أناملي القلم ، وعبثاً تبددت ظنوني .. كان الحزن أكبر من محبرتي ، قلمي يترنح ..
بحبر أسود ، بكى قلمي قبل عيوني ، وخط بضع كلمات رغماً عنه ..
\\ "زِيزيه" ..
كيف انتزعكِ وأنتِ في شعري ، أنفاسي وحتى عيناي ؟!
كيف ترحلين وأنا ألاقيك كل يوم أمام المرآة ؟!
أأستنجد منك بماض مبعثر فوق مكتبي !! \\
صمت قلمي بغتة ، وأبت كلماته أن تخرج بعد ذلك ..
"تباً .. حتى أنت تخذلني !!"
إتكأتُ بالكرسي ، أريح أكتافي المتعبة ، وأشتت بصري لأي شيء لا يجمعني بها ، لكن بين الرغبات أقدار متضادة ..
كانت تنام عند الحافة ، مغبرة بالنسيان ، شيء تناسيته وربما نسيته ..
لم أعرفها ، إلا حينما أخذتها ونظرت ..
وأطلّت سماء تموز من عينيّ المتسعتين ، فنزل المطر ..
كانت فقط صورة ، وذكرى ظننتني طويتها ، لصبية بعمري تقربياً بجدائل اقتطعتها من الليل وعينان تشعان بلون لازوردي ..
كانت تشبهني في السابق .. نفس الشعر ولون العيون ، لكن الفرق .. أنها أطول قليلاً ، بنت عمّتي ورفيقتي حتى الاعدادية "زِيزيه" ..
سألتها أن لما اختارت هذا الاسم وأجابت : ناديني هكذا ..
- ألا يُعجبك اسمكِ الحقيقي ؟
- بلى .. لكن أريد أن تناديني هكذا ، أرجوك ..
- حسنا .. كما تريدين ..
¶¶¶¶
أسفر الصبح مشرقاً رغم سحائب الأمس ، وانتشر الضوء في غرفتي ..
مشطتُ شعري أمام المرآة ، على عجل ..
ولعل "زِيزيه" تأبى أن تعتقني ، أشرقت غرفتي بعينين ملبدتين بغيوم الشك حينما أدرتُ مقبض الباب ..
- كيف أنتِ ، سلمآ ؟
تثرثر السيّدة سناء كثيراً ، عمّتي .. لكنها بعد موت "زِيزيه" أطبقت الصمت على شفتيها ، وحينما كنتُ أذرف حبراً كانت بغرفتها تذرف دمعاً .. فلم تكن نتلاقى إلا عند مائدة ..
لكنها تثرثر الآن ، هل صدقت أنني "زِيزيه" ؟!
- نحمد الله ..
- لقد قلقتُ عليك ..
كلماتها في السابق تسعدني .. لكنّها الآن تتعسني ، لأنني أدركتُ أنها لها ..
- سلمآ ..
تكدّست غيوم الشك بكثرة في عينيها الداكنتين ، أقالت "سلمآ" كاسم آخر لزِيزيه ؟!
- لقد أعددتُ الإفطار كما تحبّين ..
ولعلي لمحتُ على شفتيها ظل ابتسامة ..
سرتُ أتبعها إلى مائدة الصباح بكراسيها الستّة ..
كانت أمي وأبي بطرفي المائدة ، على يمينها أخي ، وعلى يمين والدي انتخبتُ مقعداً ..
تجلس عمّتي قبالتي ليس جنبي ككل مرّة ، وقالت كلمات قليلة تكسر بها الصمت : سيبرد الطعام ..
بيض وشريحة جُبن إضافة لكوب قهوة ، وسقطت مني بسمتي ..
- هذا ....
- إنه طعامك المفضل ..
"بل طعام زِيزيه" أبت الكلمات أن تخرج من شفتيّ ..
أجابت أمي عنها ، بلهجة متوشحة بالحذر : لماذا لا تأكلين ، سلمآ ؟!
- البيض ، أنتم تعلمون أنني لا أطيق رؤيته ..
- بل تفضلينه ..
كانت عمّتي هذه المرّة ، ورغماً عني نطقت الحقيقة :
لستُ "زِيزيه" يا عمتي ، لقد ماتت ..
وغادرتهم وطيف هواء يعبث بمفرش المائدة ..
الذكريات .. نسجت خيوطها حول ثوبي الفضفاض ، لحاف سميك دثرني ..
قالت لي "زِيزيه" ، ذات نيسان وكنّا بغرفتي نحتسي الشاي : إن الحياة شقاء ، لذا سأحرص أن أسعد نفسي وسأدفع عمري لذلك ..
كنتُ أحرك معلقة الشاي .. وأجاب كأس الشاي الثاني : وهؤلاء الذين يضحون لأجلك ، بأي ثمن قيّمتِ انجازاتهم ؟!
التقطت صوتي على مهل تستوعبه ، يبدو أنها توقعت إلا هذا الرد ، فقالت ببرود متهم يمسك بأوراق براءته : لم أجبرهم ، هم اختاروا ذلك لأجل أن أسعد ، وسأسعد نفسي ..
- إنهم إن ضحوا ذلك لأنهم يتوقعون مقابلاً في الغد ..
ولعلها لمست في نبرتي أثراً لا يكاد يحس من الدهشة .. وافاقت ذاتها ، بأنانيتها وكبريائها ، عارية من مبادئها ، وفي نبرتها غنة محببة لقلبي :
سأسعدهم .. إن أمكنني ذلك ، لكن لن أضحي لهم ..
- ولا حتى لأجلي ..
- كلا "سلمآ" ، ولا حتّى لأجلك ..
أنطفأ عود كبريت أملي مع آخر عبارتها ، فتشت حولي ، كان الآخير ..
كانت أنانية ، حتى في موتها ...
نقر على بابي وأعود لعالمي ، كانت أمي .. بشعرها الذهبي الحريريي ...
جلستُ على سريري ، تقول تعتذر : لقد قسوتِ على عمّتك كثيراً ، إنها مضطربة عقلياً ، فقدت زوجها ثم ابنتها ، يجب أن تعذريها ..
تألمت عندما لم أبادرها بشيء ، وتابعت :
أعلم أنه كثير عليك ، كوني فقط قوية ..
أمي .. فتاتك خارت وذبل منها الفرح ، يا أمي أخبريهم أن قلبي ليس من حديد ..
"كوني قوية .."
لعلها أحسّت بقهري خلف خماري الزائف .. كانت تقول أن وراء الكلمات الكثير والكثير من الآلام ، فهل شعرت بألمي ؟
- إنه فقط الماضي ، يأبى أن يعتقني ..
لو أمكنني لصبغتُ جدائلي بجميع درجات البني ..
وغطيتُ عينيّ بعدستين لا تذكرني بتموز المطري ..
أليس بين السابعة عشر والعقود الستّ دهر من السنون ؟! إذن لما شختُ برصاصة !!
¶¶¶¶
في ليل قديم ، يشبه هذا ..
عند ذلك الزقاق الضيق .. عانقتني "زِيزيه" بحنين راحل لن يجد أحباءه بعدها ، عرفت أن ذلك المجرم سيتبعني لأنني شاهدته الوحيدة ..
وقالت ما لم أتوقعه : اعتذر ..
- لا تعتذري ..
- اعتذر ..
زمّت شفتيها واسترسلت : لأنني اختار أن أكون أنانية هذه المرّة أيضاً ..
جاء الموت هزيل في جثمانه يلبس الثلج ، يمازحنا .. هل يمزح الموت ؟!
قدّم أوراقه الثبوتيه ولم استوعب أنها أصبحت لي درعاً حتى سقط جسدها ملطخاً بالدم ..
أحسستُ بألم جراحها لكنني لم أحس بألم الرصاصة التي عبرت جسدها لكتفي ..
- "زِيزيه" ..
أبت كلماتها أن تخرج ..
سماء تموز تومض ويبللنا المطر ، زخاته تغسل أجسادنا وتنقينا ..
لكن ندى قرمزي ، يطلخ أرواحنا والمطر ..
- "زِيزيه" ، لما جئتِ أمامي ؟! كان قدري أن أموت أيضاً ..
جاهدت لتقول : وأحزن لك الدهر !! لا يا سلمآ ، إنني أفضّل السعادة ولو كانت روحي ثمناً لها ..
بحثتُ داخلي عن كلمات أواسي بها ألمها : تحمّلي قليلاً بعد ، واسترخي بعض الوقت ..
كانت تلتقط أنفاسها في مشقة ، ثم جاء صوتها واهناً : سأموت "سلمآ" ، ليت الربّ يسامحني على أنانيتي ..
وقبل أن أضيف شيئاً كانت قد نامت بكتفي ..
- لا تموتي "زِيزيه" ، أردتكِ .. أردتكِ معي إلى أن أفنى ..
لم تسمعني ، كانت قد أسدلت جفنيها ، وسكن جسدها بين يديّ ..
ها نحنُ أمــامك "زِيزيه" .. أمامك صلينا على جثمانكِ ، استدرتُ لألمح والدتها واقفة بلا حراك ، تبدو مصعوقة ..
- أنا آسفة ، عمّتي ..
- وعدتني بحمايتها ..
قبل أن أجيبها كانت قد أضافت : لكنّي لستُ متفاجئة .. يحدث أن يكون الوحش من بيننا بلباس نبيل ..
- أنتِ تظلمين نفسك ، وتظلمينني ..
- لولا إهمالكِ لعاشت ..
¶¶¶¶
جلستُ على عتبات السلم ، غارقة أنا في ذكرياتي حدّ الغرق ..
- أما زلتِ مستيقظة حتى هذا الوقت !!
تلك اللهجة الساخرة ، أنّى أنساها .. فأجبته : يضيق صدري أخي ، كل تموز ..
جلس قربي ساكناً ، وداعبتُ أصابعه شعري .. وقال فيما بعد : ما هو العيب في الشعور بالحزن ؟!
حدّقتُ بعينيه .. بن ، وفي شعره بن .. وواصل حبل الحديث : لولا الآحزان لما كان فرحنا جميل ..
- من الأقوى ؟! أنا أم هي ؟
- أنتِ ؛ لأنك ما زلتِ تعيشين ..
اتكأتُ على كتفه ، وأملي أضاء سماء المساء ..
ظهر صوته من جديد : اذهبي للنوم الآن ، يا طفلة ..
رسمت الانزعاج المصطنع وقلت : هآني ، إنني في السابعة عشر ..
اتسعت عيناه ورنّ صوته ساخراً : أحقاً أنتِ في السابعة عشر ؟! إذن لما أراك تثرثرين كعجوز بستّ عقود تتكئ على عكاز الذكرى ..
قطّبت حاجبيّ ولاح في صوتي غنّة : ليس هذا وقت المرح ..
ابتعد منيّ للوراء ، بخطوتين ، يرسم الضيق على ملامحه وقال يعتذر : متى يحين الوقت إذن ؟
داعبت أصابعه شعري ثانية ، لكن بنحو يثير غيظي ، يتعمد هو أن يمرح بغضبي .. ثم ارتقى العتبات لغرفته على عجل ..
جاءتني "زِيزيه" في لحظة لم أحجزها لها ، أي سحر تشكّل ليجسدها ..
كنتُ ما أزال جالسة ، عند العتبات أنظر لها ثم أشحت البصر ..
هي تسكن تموز .. كما تسكن بقلبي ، هي حاضرة كل الوقت فلا يستطيع نسيان أن يقبرها ، ولا خلافات نيسان ..
قال لي هآني مرّة : "من يُريد نسياناً ، لا يتذكر .."
أبقيتُ عينيّ أرضاً ، أدركتُ أنه لم يكن لي أن أواصل النظر ، وقلتُ لها :
سانتزعكِ منهم ... ومنّي ، سأغيطك بصبغة على شعري والكثير من المكياج ..
مع آخر عباراتي رمت الرياح بطيفها على شبابيك الصالة ، رفعت عيناي .. كانت "زِيزيه" قد غادرت ..
عدتُ لمكتبي بالركن ، كان هادئاً بمحتوياته ، ودوّنت أحزاني قصصاً ..
\\ قبل عامين ..
حدثت مأساتي ، ليلة انتهت فيها حياتها ، وليلة ابتدأت بها حياتي ... \\
بجرّة قلم ، أشطب ما خططته ، وأدوّن مصححة :
\\ ليلة بدأت حياتها في جسدي وروحي ، وليلة تبخرت بها أحلامي ..
رصاصاته قتلت أحلامي وعاشت رغباتها رغماً عني ، أبحث عن نفسي قديماً في المرآة وبين كتاباتي ، ولا أجد إلا وجهها ... بقايا من نفسي في جسد لها ..
قبل عامين ..
والدي "خليل عِمران" وهو الآن عقيد متقاعد ، كانت آخر قضاياه عن مجرم يريق الدماء ثأراً من سوء الحكومة والبلد ، وكان على والدي أن يدركه ..
"أيكون أحد الشرطيون أم من الثائرين ؟!"
سمعتها منه مرّة ، يقولها لزميل له ..
كنّا شقيتين ، نتلصص تارة على والدي .. نقرأ دلائلاً ضدّه .. نطالع جريدة في فضول إليه ..
حتى جاء ذلك اليوم ..
في ذلك الزقاق الضيق ..
ماتت "زِيزيه" وهي غارقة في دمائها ..
جاء الموت وفي خطواته ثقل ، قال كأنه يكتشف شيئاً :
أنتِ هي شاهدتي الآخيرة ، لقد أخطأتُ في قضية تشابه ..
شهر مسدسه على جبيني ، الآن لا يفصلني عن الموت إلا ضغطة أصبعه بالزناد ..
دوّت الرصاصات أربع مرات متتالية ، وبعكس ظني سقط هو ..
ووقع قدمين من خلفي يدقّ في الأرضية المبللة ، حدّقتُ بظله ، كان ...
- أبي !!
- لا بأس الآن ..
صرخت : انقذ "زِيزيه" .. \\
¶¶¶¶
أشرق صباحهم بزيّ الأسود ، وكانوا يتناولون إفطارهم في صمت ..
سأل والدي ، وبصره تسلق حتى وشاح قديم أغطي به شعري :
ما هذا الذي تلبسين ؟!
اعتدلتُ في جلستي وأجبتُ :
سأذهب لأكمل اجراءات عودتي لسوربون ..
سأل الجانب الآخر من المائدة وقد اغرورقت عيناه بالدمع : هل حان الوقت ؟!
لم أجب ، ما كان السؤال إليّ ، هي حتماً تعرف الإجابة ..
- أما كان عليك أن تنتظري حتى تنهي طعامك ثم تضعين الوشاح ؟!
ألقت قولها كتعويذة .. عمّتي ، ونزعتُ الوشاح فانسدل البن بدرجاته ..
عيناها اتسعت في سماء رمادية ثم برقت ، وأصابتني صاعقة كلماتها :
لم يكن لزِيزيه شعر بني ..
وقلت أستدرك : بلى .. لم يكن عند "زِيزيه" شعر بني ، لذا إنها سلمآ أمامك ..
الدهشة .. عقدت ألسنهم ..
مع ذلك أفزعتني أعينهم ، بنظراتهم الملونة ..
مع ذلك لم ابتسم ، رغم انتصاري عليها ..
¶¶¶¶
قريباً سأغادر دمشق ..
وأترك "زِيزيه" خلفي ..
شققتُ الطرقات .. كمن ينظر لدمشق آخر مّرة ، أو كسائح جاء أوّل مرّة ..
طاف بصري ، حطام .. وبقايا أبنية ..
ظهرت "زِيزيه" تلبس بريق النجوم ، وأظلمت بقدومها عالمي ..
وتذكرت حديثاً تركته أمام المرآة ..
"متّ لأجلك ، إذن عيشي لأجلي .."
فجئتُ أودّع نفسي في قبرها .. وأدعو لها :
فلترقدي بسلام "زِيزيه" .. عسى أن على ما يرام هناك ..
- هكذا قضي الربّ ..
رفضتُ أن أصدق أذناي ..
جاءت أمامي ، ونظرت لها عيناي ، الآن صدّقت أنها سيّدة سناء ..
كان حزني ثقيلاً ، حتى بعد تلك السنون ، وخررتُ على قدميّ .. ثم أجبتها :
لم يكن لزِيزيه أن تموت .. لم يكن مقدراً لها ، أي حمقاء تدفع بحياتها لأنها تخشى الحزن ؟!
- كثيرون هم الحمقى أمثالها .. وأمثالنا ..
تكحّلت عيناي بدمع ، وجاء صوتي واهناً :
أصبح قلبي فارغاً بعدها ..
كانت قد سكنت قربي ، رفعت بصري لها .. كانت تغشي جسدها بالسواد أيضاً ، وعيناها تمطران حزناً وألماً ، تحدّق بالقبر ثم أجابت :
لأجلها .. فلتعيشي إذن ، حققي ما كانت ترغب به ..
كانت زِيزيه ذات عقل تحليلي بارع ، لقد عشتُ لها وسأموتُ لها أيضاً .. افنيت عمري ومستقبلي لها ، ودرستُ الهندسة الكهربائية ..
مضغت في صمتها بعض كلام ، بعض ألم ثم تابعت : شعرك ، أصبغيه كما كان كالسابق ..
- لكن سأشبهها ، إنني أراها على وجهي ، كلّ يوم ..
- أريدكِ أن تشبهيها ..
كانت ما تزال تبحث عن ابنتها بين ملامحي ، ولم تكن تدري أنها فيما تقول ذلك كانت تقتل روحي .. لتعيش "زِيزيه" ..
دوماً ..
احتسيتُ السم منها على جرعات ، كل يوم أموت لتحيأ هي ، لكن هذه المرّة كانت الجرعة أكبر ،
مع هذا ، احتسيتها منها بصمت ، لأجلها ..
مع هذا ، لم تقتل جسدي ..
قلتها لهم قديماً ، لكنهم لم يصدقوا :
لم تمت "زِيزيه" تلك الليلة ، إنما سلمآ ..
¶¶¶¶
تمت
¶
¶
¶
¶
- لم تمت "زِيزيه" تلك الليلة ، إنما سلمآ ..
قلتها لهم قديماً ، لكنهم لم يصدقوا ..
هذا الجسد ، لم يعد يسع لأحلامي ..
هذا الجسد ، أصبح يعيش لها ..
كأثر تذكاري نُصب أمام المرآة كان جسدي ساكناً .. ثم تسلق بصري لها ، الليل أرخى جدائله حتى خصرها ..
أمام المرآة .. برقت عيناي أو ربما سماء تموز تطلّ منهما وفيها وعيد بالمطر ، وخلف المرآة .. حدّقت بي هي بعينين باهتتين ..
- لقد مللتُ منك "زِيزيه" ، أريد ... أن أعيش ..
اتقدت ، كنار على حطب ، وأشتعلت عيناها ، فاحترفتُ بصوتها كما احترقتُ قبل قليل بعينيها ..
"متّ لأجلك ، إذن عيشي لأجلي ، إنها قضية عادلة .."
- عادلة !!
هربت من انعكاسها لمكتبي بالركن عليّ أكتب لانتزعها من ذاكرتي .. كيف أقتلها دون علمهم ؟
كان سطح مكتبي مليئاً بالذكريات ، أشياء نسيتها وأشياء تناسيتها ..
- "زِيزيه" .. متى ترحلين مني كما رحلتِ عني ؟!
طوقّت أناملي القلم ، وعبثاً تبددت ظنوني .. كان الحزن أكبر من محبرتي ، قلمي يترنح ..
بحبر أسود ، بكى قلمي قبل عيوني ، وخط بضع كلمات رغماً عنه ..
\\ "زِيزيه" ..
كيف انتزعكِ وأنتِ في شعري ، أنفاسي وحتى عيناي ؟!
كيف ترحلين وأنا ألاقيك كل يوم أمام المرآة ؟!
أأستنجد منك بماض مبعثر فوق مكتبي !! \\
صمت قلمي بغتة ، وأبت كلماته أن تخرج بعد ذلك ..
"تباً .. حتى أنت تخذلني !!"
إتكأتُ بالكرسي ، أريح أكتافي المتعبة ، وأشتت بصري لأي شيء لا يجمعني بها ، لكن بين الرغبات أقدار متضادة ..
كانت تنام عند الحافة ، مغبرة بالنسيان ، شيء تناسيته وربما نسيته ..
لم أعرفها ، إلا حينما أخذتها ونظرت ..
وأطلّت سماء تموز من عينيّ المتسعتين ، فنزل المطر ..
كانت فقط صورة ، وذكرى ظننتني طويتها ، لصبية بعمري تقربياً بجدائل اقتطعتها من الليل وعينان تشعان بلون لازوردي ..
كانت تشبهني في السابق .. نفس الشعر ولون العيون ، لكن الفرق .. أنها أطول قليلاً ، بنت عمّتي ورفيقتي حتى الاعدادية "زِيزيه" ..
سألتها أن لما اختارت هذا الاسم وأجابت : ناديني هكذا ..
- ألا يُعجبك اسمكِ الحقيقي ؟
- بلى .. لكن أريد أن تناديني هكذا ، أرجوك ..
- حسنا .. كما تريدين ..
¶¶¶¶
أسفر الصبح مشرقاً رغم سحائب الأمس ، وانتشر الضوء في غرفتي ..
مشطتُ شعري أمام المرآة ، على عجل ..
ولعل "زِيزيه" تأبى أن تعتقني ، أشرقت غرفتي بعينين ملبدتين بغيوم الشك حينما أدرتُ مقبض الباب ..
- كيف أنتِ ، سلمآ ؟
تثرثر السيّدة سناء كثيراً ، عمّتي .. لكنها بعد موت "زِيزيه" أطبقت الصمت على شفتيها ، وحينما كنتُ أذرف حبراً كانت بغرفتها تذرف دمعاً .. فلم تكن نتلاقى إلا عند مائدة ..
لكنها تثرثر الآن ، هل صدقت أنني "زِيزيه" ؟!
- نحمد الله ..
- لقد قلقتُ عليك ..
كلماتها في السابق تسعدني .. لكنّها الآن تتعسني ، لأنني أدركتُ أنها لها ..
- سلمآ ..
تكدّست غيوم الشك بكثرة في عينيها الداكنتين ، أقالت "سلمآ" كاسم آخر لزِيزيه ؟!
- لقد أعددتُ الإفطار كما تحبّين ..
ولعلي لمحتُ على شفتيها ظل ابتسامة ..
سرتُ أتبعها إلى مائدة الصباح بكراسيها الستّة ..
كانت أمي وأبي بطرفي المائدة ، على يمينها أخي ، وعلى يمين والدي انتخبتُ مقعداً ..
تجلس عمّتي قبالتي ليس جنبي ككل مرّة ، وقالت كلمات قليلة تكسر بها الصمت : سيبرد الطعام ..
بيض وشريحة جُبن إضافة لكوب قهوة ، وسقطت مني بسمتي ..
- هذا ....
- إنه طعامك المفضل ..
"بل طعام زِيزيه" أبت الكلمات أن تخرج من شفتيّ ..
أجابت أمي عنها ، بلهجة متوشحة بالحذر : لماذا لا تأكلين ، سلمآ ؟!
- البيض ، أنتم تعلمون أنني لا أطيق رؤيته ..
- بل تفضلينه ..
كانت عمّتي هذه المرّة ، ورغماً عني نطقت الحقيقة :
لستُ "زِيزيه" يا عمتي ، لقد ماتت ..
وغادرتهم وطيف هواء يعبث بمفرش المائدة ..
الذكريات .. نسجت خيوطها حول ثوبي الفضفاض ، لحاف سميك دثرني ..
قالت لي "زِيزيه" ، ذات نيسان وكنّا بغرفتي نحتسي الشاي : إن الحياة شقاء ، لذا سأحرص أن أسعد نفسي وسأدفع عمري لذلك ..
كنتُ أحرك معلقة الشاي .. وأجاب كأس الشاي الثاني : وهؤلاء الذين يضحون لأجلك ، بأي ثمن قيّمتِ انجازاتهم ؟!
التقطت صوتي على مهل تستوعبه ، يبدو أنها توقعت إلا هذا الرد ، فقالت ببرود متهم يمسك بأوراق براءته : لم أجبرهم ، هم اختاروا ذلك لأجل أن أسعد ، وسأسعد نفسي ..
- إنهم إن ضحوا ذلك لأنهم يتوقعون مقابلاً في الغد ..
ولعلها لمست في نبرتي أثراً لا يكاد يحس من الدهشة .. وافاقت ذاتها ، بأنانيتها وكبريائها ، عارية من مبادئها ، وفي نبرتها غنة محببة لقلبي :
سأسعدهم .. إن أمكنني ذلك ، لكن لن أضحي لهم ..
- ولا حتى لأجلي ..
- كلا "سلمآ" ، ولا حتّى لأجلك ..
أنطفأ عود كبريت أملي مع آخر عبارتها ، فتشت حولي ، كان الآخير ..
كانت أنانية ، حتى في موتها ...
نقر على بابي وأعود لعالمي ، كانت أمي .. بشعرها الذهبي الحريريي ...
جلستُ على سريري ، تقول تعتذر : لقد قسوتِ على عمّتك كثيراً ، إنها مضطربة عقلياً ، فقدت زوجها ثم ابنتها ، يجب أن تعذريها ..
تألمت عندما لم أبادرها بشيء ، وتابعت :
أعلم أنه كثير عليك ، كوني فقط قوية ..
أمي .. فتاتك خارت وذبل منها الفرح ، يا أمي أخبريهم أن قلبي ليس من حديد ..
"كوني قوية .."
لعلها أحسّت بقهري خلف خماري الزائف .. كانت تقول أن وراء الكلمات الكثير والكثير من الآلام ، فهل شعرت بألمي ؟
- إنه فقط الماضي ، يأبى أن يعتقني ..
لو أمكنني لصبغتُ جدائلي بجميع درجات البني ..
وغطيتُ عينيّ بعدستين لا تذكرني بتموز المطري ..
أليس بين السابعة عشر والعقود الستّ دهر من السنون ؟! إذن لما شختُ برصاصة !!
¶¶¶¶
في ليل قديم ، يشبه هذا ..
عند ذلك الزقاق الضيق .. عانقتني "زِيزيه" بحنين راحل لن يجد أحباءه بعدها ، عرفت أن ذلك المجرم سيتبعني لأنني شاهدته الوحيدة ..
وقالت ما لم أتوقعه : اعتذر ..
- لا تعتذري ..
- اعتذر ..
زمّت شفتيها واسترسلت : لأنني اختار أن أكون أنانية هذه المرّة أيضاً ..
جاء الموت هزيل في جثمانه يلبس الثلج ، يمازحنا .. هل يمزح الموت ؟!
قدّم أوراقه الثبوتيه ولم استوعب أنها أصبحت لي درعاً حتى سقط جسدها ملطخاً بالدم ..
أحسستُ بألم جراحها لكنني لم أحس بألم الرصاصة التي عبرت جسدها لكتفي ..
- "زِيزيه" ..
أبت كلماتها أن تخرج ..
سماء تموز تومض ويبللنا المطر ، زخاته تغسل أجسادنا وتنقينا ..
لكن ندى قرمزي ، يطلخ أرواحنا والمطر ..
- "زِيزيه" ، لما جئتِ أمامي ؟! كان قدري أن أموت أيضاً ..
جاهدت لتقول : وأحزن لك الدهر !! لا يا سلمآ ، إنني أفضّل السعادة ولو كانت روحي ثمناً لها ..
بحثتُ داخلي عن كلمات أواسي بها ألمها : تحمّلي قليلاً بعد ، واسترخي بعض الوقت ..
كانت تلتقط أنفاسها في مشقة ، ثم جاء صوتها واهناً : سأموت "سلمآ" ، ليت الربّ يسامحني على أنانيتي ..
وقبل أن أضيف شيئاً كانت قد نامت بكتفي ..
- لا تموتي "زِيزيه" ، أردتكِ .. أردتكِ معي إلى أن أفنى ..
لم تسمعني ، كانت قد أسدلت جفنيها ، وسكن جسدها بين يديّ ..
ها نحنُ أمــامك "زِيزيه" .. أمامك صلينا على جثمانكِ ، استدرتُ لألمح والدتها واقفة بلا حراك ، تبدو مصعوقة ..
- أنا آسفة ، عمّتي ..
- وعدتني بحمايتها ..
قبل أن أجيبها كانت قد أضافت : لكنّي لستُ متفاجئة .. يحدث أن يكون الوحش من بيننا بلباس نبيل ..
- أنتِ تظلمين نفسك ، وتظلمينني ..
- لولا إهمالكِ لعاشت ..
¶¶¶¶
جلستُ على عتبات السلم ، غارقة أنا في ذكرياتي حدّ الغرق ..
- أما زلتِ مستيقظة حتى هذا الوقت !!
تلك اللهجة الساخرة ، أنّى أنساها .. فأجبته : يضيق صدري أخي ، كل تموز ..
جلس قربي ساكناً ، وداعبتُ أصابعه شعري .. وقال فيما بعد : ما هو العيب في الشعور بالحزن ؟!
حدّقتُ بعينيه .. بن ، وفي شعره بن .. وواصل حبل الحديث : لولا الآحزان لما كان فرحنا جميل ..
- من الأقوى ؟! أنا أم هي ؟
- أنتِ ؛ لأنك ما زلتِ تعيشين ..
اتكأتُ على كتفه ، وأملي أضاء سماء المساء ..
ظهر صوته من جديد : اذهبي للنوم الآن ، يا طفلة ..
رسمت الانزعاج المصطنع وقلت : هآني ، إنني في السابعة عشر ..
اتسعت عيناه ورنّ صوته ساخراً : أحقاً أنتِ في السابعة عشر ؟! إذن لما أراك تثرثرين كعجوز بستّ عقود تتكئ على عكاز الذكرى ..
قطّبت حاجبيّ ولاح في صوتي غنّة : ليس هذا وقت المرح ..
ابتعد منيّ للوراء ، بخطوتين ، يرسم الضيق على ملامحه وقال يعتذر : متى يحين الوقت إذن ؟
داعبت أصابعه شعري ثانية ، لكن بنحو يثير غيظي ، يتعمد هو أن يمرح بغضبي .. ثم ارتقى العتبات لغرفته على عجل ..
جاءتني "زِيزيه" في لحظة لم أحجزها لها ، أي سحر تشكّل ليجسدها ..
كنتُ ما أزال جالسة ، عند العتبات أنظر لها ثم أشحت البصر ..
هي تسكن تموز .. كما تسكن بقلبي ، هي حاضرة كل الوقت فلا يستطيع نسيان أن يقبرها ، ولا خلافات نيسان ..
قال لي هآني مرّة : "من يُريد نسياناً ، لا يتذكر .."
أبقيتُ عينيّ أرضاً ، أدركتُ أنه لم يكن لي أن أواصل النظر ، وقلتُ لها :
سانتزعكِ منهم ... ومنّي ، سأغيطك بصبغة على شعري والكثير من المكياج ..
مع آخر عباراتي رمت الرياح بطيفها على شبابيك الصالة ، رفعت عيناي .. كانت "زِيزيه" قد غادرت ..
عدتُ لمكتبي بالركن ، كان هادئاً بمحتوياته ، ودوّنت أحزاني قصصاً ..
\\ قبل عامين ..
حدثت مأساتي ، ليلة انتهت فيها حياتها ، وليلة ابتدأت بها حياتي ... \\
بجرّة قلم ، أشطب ما خططته ، وأدوّن مصححة :
\\ ليلة بدأت حياتها في جسدي وروحي ، وليلة تبخرت بها أحلامي ..
رصاصاته قتلت أحلامي وعاشت رغباتها رغماً عني ، أبحث عن نفسي قديماً في المرآة وبين كتاباتي ، ولا أجد إلا وجهها ... بقايا من نفسي في جسد لها ..
قبل عامين ..
والدي "خليل عِمران" وهو الآن عقيد متقاعد ، كانت آخر قضاياه عن مجرم يريق الدماء ثأراً من سوء الحكومة والبلد ، وكان على والدي أن يدركه ..
"أيكون أحد الشرطيون أم من الثائرين ؟!"
سمعتها منه مرّة ، يقولها لزميل له ..
كنّا شقيتين ، نتلصص تارة على والدي .. نقرأ دلائلاً ضدّه .. نطالع جريدة في فضول إليه ..
حتى جاء ذلك اليوم ..
في ذلك الزقاق الضيق ..
ماتت "زِيزيه" وهي غارقة في دمائها ..
جاء الموت وفي خطواته ثقل ، قال كأنه يكتشف شيئاً :
أنتِ هي شاهدتي الآخيرة ، لقد أخطأتُ في قضية تشابه ..
شهر مسدسه على جبيني ، الآن لا يفصلني عن الموت إلا ضغطة أصبعه بالزناد ..
دوّت الرصاصات أربع مرات متتالية ، وبعكس ظني سقط هو ..
ووقع قدمين من خلفي يدقّ في الأرضية المبللة ، حدّقتُ بظله ، كان ...
- أبي !!
- لا بأس الآن ..
صرخت : انقذ "زِيزيه" .. \\
¶¶¶¶
أشرق صباحهم بزيّ الأسود ، وكانوا يتناولون إفطارهم في صمت ..
سأل والدي ، وبصره تسلق حتى وشاح قديم أغطي به شعري :
ما هذا الذي تلبسين ؟!
اعتدلتُ في جلستي وأجبتُ :
سأذهب لأكمل اجراءات عودتي لسوربون ..
سأل الجانب الآخر من المائدة وقد اغرورقت عيناه بالدمع : هل حان الوقت ؟!
لم أجب ، ما كان السؤال إليّ ، هي حتماً تعرف الإجابة ..
- أما كان عليك أن تنتظري حتى تنهي طعامك ثم تضعين الوشاح ؟!
ألقت قولها كتعويذة .. عمّتي ، ونزعتُ الوشاح فانسدل البن بدرجاته ..
عيناها اتسعت في سماء رمادية ثم برقت ، وأصابتني صاعقة كلماتها :
لم يكن لزِيزيه شعر بني ..
وقلت أستدرك : بلى .. لم يكن عند "زِيزيه" شعر بني ، لذا إنها سلمآ أمامك ..
الدهشة .. عقدت ألسنهم ..
مع ذلك أفزعتني أعينهم ، بنظراتهم الملونة ..
مع ذلك لم ابتسم ، رغم انتصاري عليها ..
¶¶¶¶
قريباً سأغادر دمشق ..
وأترك "زِيزيه" خلفي ..
شققتُ الطرقات .. كمن ينظر لدمشق آخر مّرة ، أو كسائح جاء أوّل مرّة ..
طاف بصري ، حطام .. وبقايا أبنية ..
ظهرت "زِيزيه" تلبس بريق النجوم ، وأظلمت بقدومها عالمي ..
وتذكرت حديثاً تركته أمام المرآة ..
"متّ لأجلك ، إذن عيشي لأجلي .."
فجئتُ أودّع نفسي في قبرها .. وأدعو لها :
فلترقدي بسلام "زِيزيه" .. عسى أن على ما يرام هناك ..
- هكذا قضي الربّ ..
رفضتُ أن أصدق أذناي ..
جاءت أمامي ، ونظرت لها عيناي ، الآن صدّقت أنها سيّدة سناء ..
كان حزني ثقيلاً ، حتى بعد تلك السنون ، وخررتُ على قدميّ .. ثم أجبتها :
لم يكن لزِيزيه أن تموت .. لم يكن مقدراً لها ، أي حمقاء تدفع بحياتها لأنها تخشى الحزن ؟!
- كثيرون هم الحمقى أمثالها .. وأمثالنا ..
تكحّلت عيناي بدمع ، وجاء صوتي واهناً :
أصبح قلبي فارغاً بعدها ..
كانت قد سكنت قربي ، رفعت بصري لها .. كانت تغشي جسدها بالسواد أيضاً ، وعيناها تمطران حزناً وألماً ، تحدّق بالقبر ثم أجابت :
لأجلها .. فلتعيشي إذن ، حققي ما كانت ترغب به ..
كانت زِيزيه ذات عقل تحليلي بارع ، لقد عشتُ لها وسأموتُ لها أيضاً .. افنيت عمري ومستقبلي لها ، ودرستُ الهندسة الكهربائية ..
مضغت في صمتها بعض كلام ، بعض ألم ثم تابعت : شعرك ، أصبغيه كما كان كالسابق ..
- لكن سأشبهها ، إنني أراها على وجهي ، كلّ يوم ..
- أريدكِ أن تشبهيها ..
كانت ما تزال تبحث عن ابنتها بين ملامحي ، ولم تكن تدري أنها فيما تقول ذلك كانت تقتل روحي .. لتعيش "زِيزيه" ..
دوماً ..
احتسيتُ السم منها على جرعات ، كل يوم أموت لتحيأ هي ، لكن هذه المرّة كانت الجرعة أكبر ،
مع هذا ، احتسيتها منها بصمت ، لأجلها ..
مع هذا ، لم تقتل جسدي ..
قلتها لهم قديماً ، لكنهم لم يصدقوا :
لم تمت "زِيزيه" تلك الليلة ، إنما سلمآ ..
¶¶¶¶
تمت