white dream
02-07-2012, 01:10
http://www.mexat.com/vb/attachment.php?attachmentid=1754762&stc=1&d=1347904551
http://up13.up-images.com/up/viewimages/0c7e649d11.jpg (http://fashion.azyya.com)
تـك .. تـك .. تـك .. تـك .. تـك ..
قطرات متلاحقة تطرق نافذتي كل ليلة تطربني بألحانها العِذاب ، كم أعشقك يا شتاء وكم انتظرتك يا مطر ..!
أخيرا نام الجميع وسيتسنى لنا الوقت لنمرح معا ..
مشيت بخطوات حثيثة لأفتح نافذة غرفتي والتي تطرقها تلك القطرات الصغيرة في اتزان ، وكأنها تخبرني أنها وصلت أخيرا في هذه الساعة المتأخرة من الليل ، جلست هناك وأرحت رأسي على ذراعَيْ وأنا أراقبها ، قطرة إثر أخرى بوقع تناغم مع تكتكت ساعة معصمي ، تمنيت لو أستطيع إبعاد تلك الكتلة الحجرية أعلى النافذة والتي تعمل كمضلة أو شيء كهذا ، عندها لوصلت إلي وبللتني كل القطرات المتساقطة وليس فقط هذه الحبات القليلة والتي بالكاد تصيبني .
كم أحبك يا مطر ، فرغم برودتك فأنت تشعل قلبي دفئا وبهجة ، ليثني كنت قطرة مطر، أقفز بشجاعة من أعالي غيمة فضية لأسقط متهشمة في الحديقة الترابية ، أو ربما أسقط على تُوَيْجَاتْ زهرة غضة لأنساب ببطء إلى الأرض الندية ، كم سيكون جميلا لو ابتعدت عن هذه الحياة وعن هذا الزمن المتصف بالهمجية ! .
ما أجملك يا مطر نقي ،عذب ورغم مرورك بهذه الدنيا فلا تتلوث بآثامها وتتركها فقط لمن يرضى العيش فيها .
من هنا ... من نافذة غرفتي يبدو كل شيء طينيا ، لقد فقد العالم الشعور بالحياة ، وتخلى عن أبسط صورها الطبيعية ..! فمن لم يكن المال همه الأول و حرص على جمعه بكل الطرق – وإن لم تكن شرعية – جعل من نفسه شاعرا مكلوم الفؤاد يتهادى في زنزانة الماضي ويهدهد لقلبه بألحان الكآبة ، متجرعا كل تلك اللحظات التي أنتجها محاولة فاشلة للحفاظ على مشاعر هدمها الدهر – ربما – لأنها لم تكن قوية ، بل ويضل مصدقا أنه سيبقى جريحا دونما يشفى مادام أنه في صورته الإنسانية، لكن المؤسف في الأمر أنه – عادة – يكون في ربيع حياته وله أن يترك المشاعر الحزينة لمن لم تعطه الحياة فرصة إضافية ، ولكن لا ، بل يتشبث ويصر أن الحياة بكل الألوان صارت في عينيه رمادية ! .
هل حقا يعقل هذا ؟
أحبك يا مطر ، فأنت دائما ما تجعلني أحن إلى الأيام الماضية حيث كان للحياة أسمى من هذه المعاني ، حيث كانت رؤية زهرة كللتها دموع الفجر ، أو سماع ضحكة مستبشرة من طفل صغير يمنح الهدوء لأيامنا ويضفي عليها لمسة من طمأنينة حانية ..
ليثني كنت قطرة مطر ، لا أشهد من هذه الحياة سوى تلك التواني التي توصلني إلى لأرض ، وليتك يا مطر تزيل هذه الأحزان التي تلم بأيامنا كما تزيل حبات التراب من على حجر صفوان ، أو كما تمحي أثار الأقدام من تربة رملية ..! .
لطالما أحببت أن أناشد المطر ، وكم أحببت أن أشاركه هذه الجلسات الهادئة ، فأنا أتخيله يصغي إلي دون أن ترهقه كلماتي فهو يتقاسمها بإنصاف ليكون من نصيب كل قطرة بضع حروف فقط قبل أن تصطدم بحافة النافذة الخشبية .
كم هو جميل أن تصارح شيئا طاهرا كحبات المطر ... تلك القطرات الزجاجية ، وهي تموت بسرعة فلا تخاف أن يكشف سرك أو أن تتناقله الألسن البشرية .
البشرية !! هذه الكلمة وما تثير في نفسي من غضب كل ما تذكرت ملامح هذه " البشرية " ، صراخ ، ضجة ، حوادث .. جميعها عند أولائك الذين يدعون التقدم ويعيشون في تلك المدن التي تبدو حضارية ! ألا يكون الحال أفضل لو عشنا في غابة أو سهل ، تهطل علينا الأمطار وننسى المرض والوقت وكل الأشياء التي تربطنا بعالم مليء بالكراهية ؟.
ألا توافقني يا مطر ؟ ألن يكون ذلك رائعا ؟!.
ولكن الناس نسوا كل ذلك فكل ما يفعلونه هو عد تلك الأسباب الألف للكآبة ، رغم أن لكل ألف منها مئة ألف للسعادة ، لكن لا ... فمن لم تعمي بصيرته الثروة أغلق على نفسه بوابة حديدية يشغله الألم و الانكسار ومتناسيا أنها مشاعر ستزول ولن تلازمه إن هو فك قيدها وتركها تبتعد بحرية .
ليت الجميع يصغون لشدوك يا شتاء ، من هزيم الرعود و رقص الرياح و وقع المطر ، ويرون جمالك حين تعلق بقايا تلك القطرات في الهواء ، وتكسر رغم ضعفها ضوء الشمس لسبعة ألوان سحرية .
ولكنهم عموا عن كل هذا ... فهم لا يرون الحياة سوى ظالمة كئيبة ، بل دائما ما يرمزون لهذه المشاعر بالسوداوية ، فهل الخلل في عيني أنا ؟! لأني لم أرها يوما سوداء ... بل رأيت الكآبة في ألوان إضافية ..!
رأيتها حمراء نزفت من دماء شهداء، ولكنها راحت هباء ، فالظالم لا يزال متأصلا في الأرض تحت نظر الأمة العربية جمعاء ! .
ورأيتها زهرية ، في ألعاب طفلة مهجورة ؛ استغلت صاحبتها بأبشع الطرق المجردة من الإنسانية ، ورأيتها صفراء متمثلة في أساور وخواتم ذهبية ، تزاحمت في يدي عجوز نرجسية ، بينما نام على سور قصرها طفل يتيم جائع لا يملك ما يقيه برد الشتاء ، وهل تصدق يا مطر ، لقد رأيتها خضراء ، في أكوام من نقود ورقية ، مكنوزة لمجموعة من الجهلاء ، لم يخرجوا منها يوما صدقة ولا زكاة .
أليس هذا ظلما ويبعث على الكآبة ؟ ولكني لم أرها سوداوية ، بل رأيت الأسود في أشياء أكثر جمالا ، في السماء ، سوداء تبكي مكفهرة ، ولكن أليس كلما كان الشتاء قاسيا جاء الربيع بهيا ؟ .
يا قطرات ألست توافقينني أن الليل أسود ، وما كان صوتك ليكون بهذا النقاء لولا سكونه ، و فوق هذا أخبريهم كم شاهدت متهجدين يقومونه بالصلاة ، وكم رفع فيه من دعاء ! ، وأنهم يستمتعون بالقمر تحيطه هالة ضياء ، أكان هذا ممكنا لو لم تكن الخلفية سوداء ؟ .
ورغم كل هذا مازالوا يرسمون علامات الكآبة في أوراقهم، لا بل في كل ما تلامسه أنفسهم، تضج عوالمهم بالقبور، بالأطلال .. وبعبارات تنزف الدموع ، لم أكن يوما بهذا اليأس ، فلماذا لا يكون الجميع كذلك ؟ .
كم أنت هادئ ، ولنغماتك أثار سحرية على العقول كما على القلوب ، تثقل رأسي وتجعلني أطيع جفوني وأسمح لها بالانطباق ، إن لك من السلام ما يبعث السهاد في قلوب أكثر المترقبين والحيارى ، أنت تمنحني كل ما أريده هذه الليلة ، الطمأنينة ، السلام ... وحتى الأذن للاستماع إلى كلماتي ، فقط لو أنك تمنحني الجواب على تساؤلاتي ..
لو أني فقط أستطيع حمل عيناي على الانتباه أكثر ، ولكن لا إرادة لي في ذلك فلا أملك إلا أن أتركها تنام على وقع قطراتك المتلاحقة ، تطرق باتزان لتضيف النوتات الناقصة من السيمفونية البديعة لزخاتك على أرض الشارع الإسفلتية .
لم أكن أعرف أني بهذا الضعف ، فما هي سوى بضع لحظات حتى سلمت - كرها - ما تبقى لي من انتباه بعدما أجهدته في عد تلك القطرات القريبة .
تـك .. تـك .. تـك .. تـك ..
هذه الرائحة ، أعرفها جيدا ... رائحة التراب يتشرب المطر بلهفة ، ولكن أنا لم أعد بنفس المكان ، فلسبب ما لم يعد لوزني أي سلطان ، كأني أطير ... لا ، ليست أطير بل أطفو، نعم أطفو كقشة صغيرة على صفحة غدير ، تتحرك باضطراب بسبب قطرات تصطدم بعنف بالماء فتثير نبضات تتراقص في اتساع تحملني معها من دون إرادة ، نعم هذا تماما ما تفعله هذه الزخات الباردة إنها تقودني من غير هدى نحو ضوء لجيني براق يشع وسط الظلام ، لست أمانع الاقتراب ، إن له هالة دافئة كما لو كان نار مدفئة حجرية تستعر في حزمة من الأخشاب العريضة ، فتضفي على أماسي ديسمبر الباردة بهجة حنونة .
حركت قدمي بإيقاع متزن أحاول الاقتراب منه، إنه يشعرني بالأمان ... ولكنه آثر الابتعاد ، لست أعلم ما أصاب عقلي ليجعلني أنادي بأناة " مهلا ... " وكأنه سيجيبني ؟ حاولت الإسراع حتى بدأت ملامح الظلام تتفكك ببطء كأنها قطع آجار مرصوفة تنزع ويحل مكانها أخرى بيضاء، في لحظة صارت الأرض تحتي كرقعة شطرنج رخامية وفي اللحظة الأخرى عم البياض المكان ، هناك كان أحد ما يجلس في وقار .. تابعت الخطوات ليبدو لي شيخ أبيض الشعر مطمئن القسمات ، يجلس محدقا إلى الأرض ولاح في عقلي لحظة أنني صرت فوق السحاب وليس ينظر إلا لعالم البشر كثير الأحزان .
تباطأت خطواتي عندما رفع عيناه نحوي والابتسامة تفيض من محياه ، عرفت الآن أين أكون ، أنا أحلم ولا بد أن نشيد المطر سحبني إلى هذا المكان ، ولكن من يكون هذا الشيخ المتشح بالبياض ، هل يكون عقلي المجنون جسده كحقيقة روح المطر التي أناشدها منذ أيام ؟ .
رفع يده وحرك أصابعه بهدوء يدفعني للاقتراب ، لست أدري لما فعلت وكأن قدمي تملكان عقلا وإرادة أخرى جعلتها تقبل النداء ، وقفت أمامه ولا أعلم ما أصابني جعلني أهم بالجلوس على ركبتاي ، ربما كان ذلك الدفق من الطمأنينة والسكينة التي يشرق بها وجهه ، وجه يدل على كونه قد تجاوز العقد السادس من العمر بعينين ناعسة عبث الشيب بحاجبيها وابتسامة دافئة من شفاه قد أذبلتها السنون ، بقيت مشدودة الانتباه حتى جاء صوته الرخيم ليكسر شرود أفكاري .
" ماذا يعصف في عقلك يا فتاتي ؟ عيناك تقولان أنك تبحثين عن جواب " .
لن أستغرب لو عرف هذا ، حيث أنني صارحته بهذا مرارا ، ولكني أومأت بالإيجاب بعدما خذلتني شفاهي وأبت الكلام ، عاد ينظر إلى الأمام في تلك البقعة المشعة ويتأملها بهدوء وكأنها لوحة زيتية لفنان مرهف الإحساس .
قبل لحظات كنت أعلم أني أحلم أما الآن فقد اختفى هذا الإدراك ، غمغمت بنبرة سؤال " ما الذي يشدك إلى هذه المساحة البيضاء " .
أجابني ولم يرفع عيناه " إني أراقب الحياة .. " .
لست أدري ما أقول ، ربما ... ربما هو محق و أنا هي العمياء ولكن لم أستطيع القبول بتكهني فسألت " ولكنها مجرد منطقة بيضاء خالية .. بيضاء من دون ألوان ! " .
ـ " وهنا يكمن جمالها ، فأنت تستطيعين رؤيتها كما يشاء قلبك " .
حسنا ، أنا أبحث عن جواب وليس عن المزيد من التساؤلات " كما يشاء قلبي ؟ ألسنا نرى الأشياء ونتخيلها بعقولنا ؟ " .
أغمض عيناه بهدوء وملأ رئتيه بالهواء " الجميع يمكنه أن يرى بعينيه ، أن يرسم صورة بعقله ، ولكن قليلون هم من ينظرون بقلوبهم .. إنها مهارة نتقنها بعد أن نتعلم أن نغمض عيوننا " .
أنا لست أفهم شيئا ، لطالما كنت أتخيل لو أننا استخدمنا عقولنا لوصلنا لحال مغاير لما نحن عليه الآن ، فالقلوب لا ترى إلا الأحلام ، ولا تحكم سوى بالمشاعر وحتى إن كانت تنافي الواقع " لماذا نستخدم قلوبنا ، أليس من الأفضل أن نبحث بمنطقية لنصل إلى ما نطمح إليه ، وأن نترك الأحلام الوردية فهي لا تحقق شيئا في زمن كهذا " .
ابتسم الشيخ وهز رأسه برتابة " إن عقولنا هي سبب ما وصلنا إليه فالجميع يفكر بمنطقية ويسعى للبحث عن الأسباب التي تضمن ما توقعه ، ولو أنه نظر بقلبه لوجد معنا أخر في الحياة ، أشياء أكثر جمالا .. أكثر بهجة ، بعيدة عن عالم الرتابة والملل ، والعمل المتكرر بنفس الوتيرة " .
أشياء كثيرة تعصف في عقلي الآن ، ألف سؤال وسؤال جميعهم يتدافعون للخروج.. آملين في أن تحررهم شفتاي ربما عثروا على نصفهم الأخر من هذا الشيخ الذي يتقن العبث بالكلمات ، سألته مرة أخرى ، سؤال متعجل ولا يرتبط بالموضوع بأي شكل من الأشكال وإن كان الهدف منه سماعه يؤكد ما أعرفه مسبقا " أليس الناس صنفان ، صنف يعبد الثروة ، وصنف أخر شاعري يترنح بالكلمات ؟ " .
ـ " وأي الصنفين أنتي ؟ " .
شخصت عيناي في ملامحه الهادئة ، كانت الكلمات تنساب من ثغره بسلاسة ، إنه يثير جنوني ولكن لا يبدو أنه يتعب في انتقاء ما يقول ، وكأنه يدرك ما يضج بعقلي ، ويعرف كيف يجعلني أتخبط مرارا بحيرتي وأنا أحاول أن أفهم ما يقوله ، توقفت عن التفكير ، رغم أني أعرف تماما أني لست من هذين الصنفين ، ولا أتبع هاؤلاء الناس ولكن بطريقته جعلني أعيد التفكير في الأمر ... جعلني أشك بما أقنعت نفسي به طوال سنوات ، سنوات عديدة عندما عرفت معنى البشر عرفت ما يفكرون فيه وما يطمحون إليه ، عندما توقف الجميع من حولي عن الشعور بالحياة الحقيقية ، ولكن كل هذه الثقة في إجابتي المزعومة تخلخلت ببساطة وكأنها عارضة خشبية ثقيلة لم تعد تتحملها المسامير الصدئة التي ثبتتها قبلا .
ورغم استغراقي بالتفكير لم يمل النظر إلى ملامح وجهي ولم تزل تلك الابتسامة عن شفتيه وكأنهما رسمتا من البداية بهذا الشكل ، أجبت بعد أن أيقنت أن ما يجول في خاطري هو حقيقة بعيدة عن الشك " لست من أي النوعين ، ولم أكن يوما أفكر أني سأنضم لأحدهما .. أنا لست أهتم بالمال وأجد من يلهث وراءه مخدوعا و ناسيا لمعنى الحياة ، ولا أصدق تلك الشاعرية الكئيبة التي يتغنون بها طوال حياتهم ، يرسمون لأنفسهم وأفكارهم طريقا واحدا ولا يسمحون بخيار أخر غيره ، وكأن كل أيامهم توقفت عند تلك اللحظة التي تحطمت فيها تجاربهم ومشاعرهم الواهية " .
غمغم بحروف لم أفهمها وكأنه أفلتها بغير إتقان أمام مغارة عميقة متباعدة الجدران فاختلطت بصداها ولم تعد أذني تميزان حروفها ، ولكن عاد صوته ليثبت في نفس الاتزان ، هذا جعلني أفكر أنني أنا من أفلت عقلي فعجزت عن الإنصات ، تكلم مجددا " إذا أفهم أنك تضنين أن حياتنا تكون أفضل من دون عمل سعيا وراء المال ، وتكون أجمل إذا كنا أشبه بحجارة لا نفقه الإحساس " .
أحسست برأسي يثقل و نوبة الجنون العاصف بدأت تتحرر من داخلي ، لماذا يقول هذا الكلام .. إنه ليس ما أعنيه وليس ما أفكر فيه ، ثم ألن يريحني ويعطيني جواب .. جواب واحد فقط يروي فضولي ويهدئ من نفسي ، لماذا يجيب على كل سؤال بسؤال ، وقفت بانفعال من أمامه وأنا أدرك أن ملامحي كانت مشدودة ، ولكن مالا أفهمه لما لا يتوقف عن الابتسام ؟ رفع رأسه ونظر نحوي .. ولكن نضرته تلك بدت وكأنها بثقل الرخام وجهها لعيني فشعرت بركبتي تترنح تحتها ولم أملك خيارا سوى العودة للجلوس كما كنت قبل ثوانْ ، شيء ما في ذلك العجوز ينزع كل مشاعر التوتر .. شيء يجعلني أشعر بالهدوء والسلام ، ربما كان ردائه الأبيض المائل للزرقة وكانه صنع من دفق البرق أو ربما نبرات صوته عظيمة الاتزان .
لا أدري ما هو ولكني توقفت عن التفكير عندما بدأ الكلام " أنصتي يا فتاتي ، فكما أنك لست من أي الصنفان فهناك من هم مثلك ، صنف ثالث ولكنه غارق في طرح الأسئلة حتى أنه نسي كيفية البحث عن الجواب ، إنما العالم واسع والناس متعددوا الأشكال .. كل يبحث عن ما يرضي نفسه وما يقنع به عقله ، وأنت كما أنا صنف من هذه الأصناف" .
ربما يكون كلامه صحيحا ولكن ليس هذا الجواب الذي كنت أنتظره ، في الحقيقة هذه الدقائق برفقته بدلت كل شيء في عقلي ، وكأن كل تلك الساعات في التحدث مع نفسي ، وكل تلك المرات في شكواي للمطر .. باتت خاوية لا تحمل منطقا ولا حتى سؤال معين ، صرت بنفسي أشعر بمدى سطحية الأسئلة الكثيرة في عقلي ، بل أيا منها لم يكن يستحق أن أستفسر له عن جواب ، لست أدري ما أريد أن أقوله حتى ، وفي الحقيقة ما أثار جنوني منذ لحظات اكتشفت لثوي أنه لم يكن الأسئلة التي تضج برأسي ، بل ... بل شيء أخر ولكن لا أجد السبيل لأقوله الآن .
ـ " ما بالك صامتة ؟ وقد خبا بريق عينيك ؟ " .
صوته يؤكد أن كل ما جال في عقلي ما هو إلا أفكار تافهة لا تستحق أن تذكر على مسمع أيا كان ، ولكني تكلمت لأجيب على سؤاله " لست أعلم ، قبل دقائق كان عقلي يضج بالأسئلة ، أما الآن فقد غابت و صارت مجرد ضلال " .
http://up13.up-images.com/up/viewimages/0c7e649d11.jpg (http://fashion.azyya.com)
تـك .. تـك .. تـك .. تـك .. تـك ..
قطرات متلاحقة تطرق نافذتي كل ليلة تطربني بألحانها العِذاب ، كم أعشقك يا شتاء وكم انتظرتك يا مطر ..!
أخيرا نام الجميع وسيتسنى لنا الوقت لنمرح معا ..
مشيت بخطوات حثيثة لأفتح نافذة غرفتي والتي تطرقها تلك القطرات الصغيرة في اتزان ، وكأنها تخبرني أنها وصلت أخيرا في هذه الساعة المتأخرة من الليل ، جلست هناك وأرحت رأسي على ذراعَيْ وأنا أراقبها ، قطرة إثر أخرى بوقع تناغم مع تكتكت ساعة معصمي ، تمنيت لو أستطيع إبعاد تلك الكتلة الحجرية أعلى النافذة والتي تعمل كمضلة أو شيء كهذا ، عندها لوصلت إلي وبللتني كل القطرات المتساقطة وليس فقط هذه الحبات القليلة والتي بالكاد تصيبني .
كم أحبك يا مطر ، فرغم برودتك فأنت تشعل قلبي دفئا وبهجة ، ليثني كنت قطرة مطر، أقفز بشجاعة من أعالي غيمة فضية لأسقط متهشمة في الحديقة الترابية ، أو ربما أسقط على تُوَيْجَاتْ زهرة غضة لأنساب ببطء إلى الأرض الندية ، كم سيكون جميلا لو ابتعدت عن هذه الحياة وعن هذا الزمن المتصف بالهمجية ! .
ما أجملك يا مطر نقي ،عذب ورغم مرورك بهذه الدنيا فلا تتلوث بآثامها وتتركها فقط لمن يرضى العيش فيها .
من هنا ... من نافذة غرفتي يبدو كل شيء طينيا ، لقد فقد العالم الشعور بالحياة ، وتخلى عن أبسط صورها الطبيعية ..! فمن لم يكن المال همه الأول و حرص على جمعه بكل الطرق – وإن لم تكن شرعية – جعل من نفسه شاعرا مكلوم الفؤاد يتهادى في زنزانة الماضي ويهدهد لقلبه بألحان الكآبة ، متجرعا كل تلك اللحظات التي أنتجها محاولة فاشلة للحفاظ على مشاعر هدمها الدهر – ربما – لأنها لم تكن قوية ، بل ويضل مصدقا أنه سيبقى جريحا دونما يشفى مادام أنه في صورته الإنسانية، لكن المؤسف في الأمر أنه – عادة – يكون في ربيع حياته وله أن يترك المشاعر الحزينة لمن لم تعطه الحياة فرصة إضافية ، ولكن لا ، بل يتشبث ويصر أن الحياة بكل الألوان صارت في عينيه رمادية ! .
هل حقا يعقل هذا ؟
أحبك يا مطر ، فأنت دائما ما تجعلني أحن إلى الأيام الماضية حيث كان للحياة أسمى من هذه المعاني ، حيث كانت رؤية زهرة كللتها دموع الفجر ، أو سماع ضحكة مستبشرة من طفل صغير يمنح الهدوء لأيامنا ويضفي عليها لمسة من طمأنينة حانية ..
ليثني كنت قطرة مطر ، لا أشهد من هذه الحياة سوى تلك التواني التي توصلني إلى لأرض ، وليتك يا مطر تزيل هذه الأحزان التي تلم بأيامنا كما تزيل حبات التراب من على حجر صفوان ، أو كما تمحي أثار الأقدام من تربة رملية ..! .
لطالما أحببت أن أناشد المطر ، وكم أحببت أن أشاركه هذه الجلسات الهادئة ، فأنا أتخيله يصغي إلي دون أن ترهقه كلماتي فهو يتقاسمها بإنصاف ليكون من نصيب كل قطرة بضع حروف فقط قبل أن تصطدم بحافة النافذة الخشبية .
كم هو جميل أن تصارح شيئا طاهرا كحبات المطر ... تلك القطرات الزجاجية ، وهي تموت بسرعة فلا تخاف أن يكشف سرك أو أن تتناقله الألسن البشرية .
البشرية !! هذه الكلمة وما تثير في نفسي من غضب كل ما تذكرت ملامح هذه " البشرية " ، صراخ ، ضجة ، حوادث .. جميعها عند أولائك الذين يدعون التقدم ويعيشون في تلك المدن التي تبدو حضارية ! ألا يكون الحال أفضل لو عشنا في غابة أو سهل ، تهطل علينا الأمطار وننسى المرض والوقت وكل الأشياء التي تربطنا بعالم مليء بالكراهية ؟.
ألا توافقني يا مطر ؟ ألن يكون ذلك رائعا ؟!.
ولكن الناس نسوا كل ذلك فكل ما يفعلونه هو عد تلك الأسباب الألف للكآبة ، رغم أن لكل ألف منها مئة ألف للسعادة ، لكن لا ... فمن لم تعمي بصيرته الثروة أغلق على نفسه بوابة حديدية يشغله الألم و الانكسار ومتناسيا أنها مشاعر ستزول ولن تلازمه إن هو فك قيدها وتركها تبتعد بحرية .
ليت الجميع يصغون لشدوك يا شتاء ، من هزيم الرعود و رقص الرياح و وقع المطر ، ويرون جمالك حين تعلق بقايا تلك القطرات في الهواء ، وتكسر رغم ضعفها ضوء الشمس لسبعة ألوان سحرية .
ولكنهم عموا عن كل هذا ... فهم لا يرون الحياة سوى ظالمة كئيبة ، بل دائما ما يرمزون لهذه المشاعر بالسوداوية ، فهل الخلل في عيني أنا ؟! لأني لم أرها يوما سوداء ... بل رأيت الكآبة في ألوان إضافية ..!
رأيتها حمراء نزفت من دماء شهداء، ولكنها راحت هباء ، فالظالم لا يزال متأصلا في الأرض تحت نظر الأمة العربية جمعاء ! .
ورأيتها زهرية ، في ألعاب طفلة مهجورة ؛ استغلت صاحبتها بأبشع الطرق المجردة من الإنسانية ، ورأيتها صفراء متمثلة في أساور وخواتم ذهبية ، تزاحمت في يدي عجوز نرجسية ، بينما نام على سور قصرها طفل يتيم جائع لا يملك ما يقيه برد الشتاء ، وهل تصدق يا مطر ، لقد رأيتها خضراء ، في أكوام من نقود ورقية ، مكنوزة لمجموعة من الجهلاء ، لم يخرجوا منها يوما صدقة ولا زكاة .
أليس هذا ظلما ويبعث على الكآبة ؟ ولكني لم أرها سوداوية ، بل رأيت الأسود في أشياء أكثر جمالا ، في السماء ، سوداء تبكي مكفهرة ، ولكن أليس كلما كان الشتاء قاسيا جاء الربيع بهيا ؟ .
يا قطرات ألست توافقينني أن الليل أسود ، وما كان صوتك ليكون بهذا النقاء لولا سكونه ، و فوق هذا أخبريهم كم شاهدت متهجدين يقومونه بالصلاة ، وكم رفع فيه من دعاء ! ، وأنهم يستمتعون بالقمر تحيطه هالة ضياء ، أكان هذا ممكنا لو لم تكن الخلفية سوداء ؟ .
ورغم كل هذا مازالوا يرسمون علامات الكآبة في أوراقهم، لا بل في كل ما تلامسه أنفسهم، تضج عوالمهم بالقبور، بالأطلال .. وبعبارات تنزف الدموع ، لم أكن يوما بهذا اليأس ، فلماذا لا يكون الجميع كذلك ؟ .
كم أنت هادئ ، ولنغماتك أثار سحرية على العقول كما على القلوب ، تثقل رأسي وتجعلني أطيع جفوني وأسمح لها بالانطباق ، إن لك من السلام ما يبعث السهاد في قلوب أكثر المترقبين والحيارى ، أنت تمنحني كل ما أريده هذه الليلة ، الطمأنينة ، السلام ... وحتى الأذن للاستماع إلى كلماتي ، فقط لو أنك تمنحني الجواب على تساؤلاتي ..
لو أني فقط أستطيع حمل عيناي على الانتباه أكثر ، ولكن لا إرادة لي في ذلك فلا أملك إلا أن أتركها تنام على وقع قطراتك المتلاحقة ، تطرق باتزان لتضيف النوتات الناقصة من السيمفونية البديعة لزخاتك على أرض الشارع الإسفلتية .
لم أكن أعرف أني بهذا الضعف ، فما هي سوى بضع لحظات حتى سلمت - كرها - ما تبقى لي من انتباه بعدما أجهدته في عد تلك القطرات القريبة .
تـك .. تـك .. تـك .. تـك ..
هذه الرائحة ، أعرفها جيدا ... رائحة التراب يتشرب المطر بلهفة ، ولكن أنا لم أعد بنفس المكان ، فلسبب ما لم يعد لوزني أي سلطان ، كأني أطير ... لا ، ليست أطير بل أطفو، نعم أطفو كقشة صغيرة على صفحة غدير ، تتحرك باضطراب بسبب قطرات تصطدم بعنف بالماء فتثير نبضات تتراقص في اتساع تحملني معها من دون إرادة ، نعم هذا تماما ما تفعله هذه الزخات الباردة إنها تقودني من غير هدى نحو ضوء لجيني براق يشع وسط الظلام ، لست أمانع الاقتراب ، إن له هالة دافئة كما لو كان نار مدفئة حجرية تستعر في حزمة من الأخشاب العريضة ، فتضفي على أماسي ديسمبر الباردة بهجة حنونة .
حركت قدمي بإيقاع متزن أحاول الاقتراب منه، إنه يشعرني بالأمان ... ولكنه آثر الابتعاد ، لست أعلم ما أصاب عقلي ليجعلني أنادي بأناة " مهلا ... " وكأنه سيجيبني ؟ حاولت الإسراع حتى بدأت ملامح الظلام تتفكك ببطء كأنها قطع آجار مرصوفة تنزع ويحل مكانها أخرى بيضاء، في لحظة صارت الأرض تحتي كرقعة شطرنج رخامية وفي اللحظة الأخرى عم البياض المكان ، هناك كان أحد ما يجلس في وقار .. تابعت الخطوات ليبدو لي شيخ أبيض الشعر مطمئن القسمات ، يجلس محدقا إلى الأرض ولاح في عقلي لحظة أنني صرت فوق السحاب وليس ينظر إلا لعالم البشر كثير الأحزان .
تباطأت خطواتي عندما رفع عيناه نحوي والابتسامة تفيض من محياه ، عرفت الآن أين أكون ، أنا أحلم ولا بد أن نشيد المطر سحبني إلى هذا المكان ، ولكن من يكون هذا الشيخ المتشح بالبياض ، هل يكون عقلي المجنون جسده كحقيقة روح المطر التي أناشدها منذ أيام ؟ .
رفع يده وحرك أصابعه بهدوء يدفعني للاقتراب ، لست أدري لما فعلت وكأن قدمي تملكان عقلا وإرادة أخرى جعلتها تقبل النداء ، وقفت أمامه ولا أعلم ما أصابني جعلني أهم بالجلوس على ركبتاي ، ربما كان ذلك الدفق من الطمأنينة والسكينة التي يشرق بها وجهه ، وجه يدل على كونه قد تجاوز العقد السادس من العمر بعينين ناعسة عبث الشيب بحاجبيها وابتسامة دافئة من شفاه قد أذبلتها السنون ، بقيت مشدودة الانتباه حتى جاء صوته الرخيم ليكسر شرود أفكاري .
" ماذا يعصف في عقلك يا فتاتي ؟ عيناك تقولان أنك تبحثين عن جواب " .
لن أستغرب لو عرف هذا ، حيث أنني صارحته بهذا مرارا ، ولكني أومأت بالإيجاب بعدما خذلتني شفاهي وأبت الكلام ، عاد ينظر إلى الأمام في تلك البقعة المشعة ويتأملها بهدوء وكأنها لوحة زيتية لفنان مرهف الإحساس .
قبل لحظات كنت أعلم أني أحلم أما الآن فقد اختفى هذا الإدراك ، غمغمت بنبرة سؤال " ما الذي يشدك إلى هذه المساحة البيضاء " .
أجابني ولم يرفع عيناه " إني أراقب الحياة .. " .
لست أدري ما أقول ، ربما ... ربما هو محق و أنا هي العمياء ولكن لم أستطيع القبول بتكهني فسألت " ولكنها مجرد منطقة بيضاء خالية .. بيضاء من دون ألوان ! " .
ـ " وهنا يكمن جمالها ، فأنت تستطيعين رؤيتها كما يشاء قلبك " .
حسنا ، أنا أبحث عن جواب وليس عن المزيد من التساؤلات " كما يشاء قلبي ؟ ألسنا نرى الأشياء ونتخيلها بعقولنا ؟ " .
أغمض عيناه بهدوء وملأ رئتيه بالهواء " الجميع يمكنه أن يرى بعينيه ، أن يرسم صورة بعقله ، ولكن قليلون هم من ينظرون بقلوبهم .. إنها مهارة نتقنها بعد أن نتعلم أن نغمض عيوننا " .
أنا لست أفهم شيئا ، لطالما كنت أتخيل لو أننا استخدمنا عقولنا لوصلنا لحال مغاير لما نحن عليه الآن ، فالقلوب لا ترى إلا الأحلام ، ولا تحكم سوى بالمشاعر وحتى إن كانت تنافي الواقع " لماذا نستخدم قلوبنا ، أليس من الأفضل أن نبحث بمنطقية لنصل إلى ما نطمح إليه ، وأن نترك الأحلام الوردية فهي لا تحقق شيئا في زمن كهذا " .
ابتسم الشيخ وهز رأسه برتابة " إن عقولنا هي سبب ما وصلنا إليه فالجميع يفكر بمنطقية ويسعى للبحث عن الأسباب التي تضمن ما توقعه ، ولو أنه نظر بقلبه لوجد معنا أخر في الحياة ، أشياء أكثر جمالا .. أكثر بهجة ، بعيدة عن عالم الرتابة والملل ، والعمل المتكرر بنفس الوتيرة " .
أشياء كثيرة تعصف في عقلي الآن ، ألف سؤال وسؤال جميعهم يتدافعون للخروج.. آملين في أن تحررهم شفتاي ربما عثروا على نصفهم الأخر من هذا الشيخ الذي يتقن العبث بالكلمات ، سألته مرة أخرى ، سؤال متعجل ولا يرتبط بالموضوع بأي شكل من الأشكال وإن كان الهدف منه سماعه يؤكد ما أعرفه مسبقا " أليس الناس صنفان ، صنف يعبد الثروة ، وصنف أخر شاعري يترنح بالكلمات ؟ " .
ـ " وأي الصنفين أنتي ؟ " .
شخصت عيناي في ملامحه الهادئة ، كانت الكلمات تنساب من ثغره بسلاسة ، إنه يثير جنوني ولكن لا يبدو أنه يتعب في انتقاء ما يقول ، وكأنه يدرك ما يضج بعقلي ، ويعرف كيف يجعلني أتخبط مرارا بحيرتي وأنا أحاول أن أفهم ما يقوله ، توقفت عن التفكير ، رغم أني أعرف تماما أني لست من هذين الصنفين ، ولا أتبع هاؤلاء الناس ولكن بطريقته جعلني أعيد التفكير في الأمر ... جعلني أشك بما أقنعت نفسي به طوال سنوات ، سنوات عديدة عندما عرفت معنى البشر عرفت ما يفكرون فيه وما يطمحون إليه ، عندما توقف الجميع من حولي عن الشعور بالحياة الحقيقية ، ولكن كل هذه الثقة في إجابتي المزعومة تخلخلت ببساطة وكأنها عارضة خشبية ثقيلة لم تعد تتحملها المسامير الصدئة التي ثبتتها قبلا .
ورغم استغراقي بالتفكير لم يمل النظر إلى ملامح وجهي ولم تزل تلك الابتسامة عن شفتيه وكأنهما رسمتا من البداية بهذا الشكل ، أجبت بعد أن أيقنت أن ما يجول في خاطري هو حقيقة بعيدة عن الشك " لست من أي النوعين ، ولم أكن يوما أفكر أني سأنضم لأحدهما .. أنا لست أهتم بالمال وأجد من يلهث وراءه مخدوعا و ناسيا لمعنى الحياة ، ولا أصدق تلك الشاعرية الكئيبة التي يتغنون بها طوال حياتهم ، يرسمون لأنفسهم وأفكارهم طريقا واحدا ولا يسمحون بخيار أخر غيره ، وكأن كل أيامهم توقفت عند تلك اللحظة التي تحطمت فيها تجاربهم ومشاعرهم الواهية " .
غمغم بحروف لم أفهمها وكأنه أفلتها بغير إتقان أمام مغارة عميقة متباعدة الجدران فاختلطت بصداها ولم تعد أذني تميزان حروفها ، ولكن عاد صوته ليثبت في نفس الاتزان ، هذا جعلني أفكر أنني أنا من أفلت عقلي فعجزت عن الإنصات ، تكلم مجددا " إذا أفهم أنك تضنين أن حياتنا تكون أفضل من دون عمل سعيا وراء المال ، وتكون أجمل إذا كنا أشبه بحجارة لا نفقه الإحساس " .
أحسست برأسي يثقل و نوبة الجنون العاصف بدأت تتحرر من داخلي ، لماذا يقول هذا الكلام .. إنه ليس ما أعنيه وليس ما أفكر فيه ، ثم ألن يريحني ويعطيني جواب .. جواب واحد فقط يروي فضولي ويهدئ من نفسي ، لماذا يجيب على كل سؤال بسؤال ، وقفت بانفعال من أمامه وأنا أدرك أن ملامحي كانت مشدودة ، ولكن مالا أفهمه لما لا يتوقف عن الابتسام ؟ رفع رأسه ونظر نحوي .. ولكن نضرته تلك بدت وكأنها بثقل الرخام وجهها لعيني فشعرت بركبتي تترنح تحتها ولم أملك خيارا سوى العودة للجلوس كما كنت قبل ثوانْ ، شيء ما في ذلك العجوز ينزع كل مشاعر التوتر .. شيء يجعلني أشعر بالهدوء والسلام ، ربما كان ردائه الأبيض المائل للزرقة وكانه صنع من دفق البرق أو ربما نبرات صوته عظيمة الاتزان .
لا أدري ما هو ولكني توقفت عن التفكير عندما بدأ الكلام " أنصتي يا فتاتي ، فكما أنك لست من أي الصنفان فهناك من هم مثلك ، صنف ثالث ولكنه غارق في طرح الأسئلة حتى أنه نسي كيفية البحث عن الجواب ، إنما العالم واسع والناس متعددوا الأشكال .. كل يبحث عن ما يرضي نفسه وما يقنع به عقله ، وأنت كما أنا صنف من هذه الأصناف" .
ربما يكون كلامه صحيحا ولكن ليس هذا الجواب الذي كنت أنتظره ، في الحقيقة هذه الدقائق برفقته بدلت كل شيء في عقلي ، وكأن كل تلك الساعات في التحدث مع نفسي ، وكل تلك المرات في شكواي للمطر .. باتت خاوية لا تحمل منطقا ولا حتى سؤال معين ، صرت بنفسي أشعر بمدى سطحية الأسئلة الكثيرة في عقلي ، بل أيا منها لم يكن يستحق أن أستفسر له عن جواب ، لست أدري ما أريد أن أقوله حتى ، وفي الحقيقة ما أثار جنوني منذ لحظات اكتشفت لثوي أنه لم يكن الأسئلة التي تضج برأسي ، بل ... بل شيء أخر ولكن لا أجد السبيل لأقوله الآن .
ـ " ما بالك صامتة ؟ وقد خبا بريق عينيك ؟ " .
صوته يؤكد أن كل ما جال في عقلي ما هو إلا أفكار تافهة لا تستحق أن تذكر على مسمع أيا كان ، ولكني تكلمت لأجيب على سؤاله " لست أعلم ، قبل دقائق كان عقلي يضج بالأسئلة ، أما الآن فقد غابت و صارت مجرد ضلال " .